90 و من خطبة له ع تعرف بخطبة الأشباح و هي من جلائل خطبة ع
رَوَى مَسْعَدَةُ بْنُ صَدَقَةَ عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ع أَنَّهُ قَالَ: خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْخُطْبَةِ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ- وَ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ- صِفْ لَنَا رَبَّنَا مِثْلَ مَا نَرَاهُ عِيَاناً- لِنَزْدَادَ لَهُ حُبّاً وَ بِهِ مَعْرِفَةً- فَغَضِبَ وَ نَادَى الصَّلَاةَ جَامِعَةً- فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ حَتَّى غَصَّ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ- فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَ هُوَ مُغْضَبٌ مُتَغَيِّرُ اللَّوْنِ- فَحَمِدَ اللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ وَ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ ص- ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَفِرُهُ الْمَنْعُ وَ الْجُمُودُ- وَ لَا يُكْدِيهِ الْإِعْطَاءُ وَ الْجُودُ- إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ وَ كُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلَاهُ- وَ هُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ وَ عَوَائِدِ الْمَزِيدِ وَ الْقِسَمِ- عِيَالُهُ الْخَلَائِقُ ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ- وَ نَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ وَ الطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ- وَ لَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلْ- الْأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ قَبْلَهُ- وَ الآْخِرُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ بَعْدَهُ- وَ الرَّادِعُ أَنَاسِيَّ الْأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ- مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ الْحَالُ- وَ لَا كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ الأشباح الأشخاص و المراد بهم هاهنا الملائكة- لأن الخطبة تتضمن ذكر الملائكة- .
و قوله الصلاة جامعة منصوب بفعل مقدر- أي احضروا الصلاة و أقيموا الصلاة- و جامعة منصوب على الحال من الصلاة- . و غص المسجد بفتح الغين أي امتلأ و المسجد غاص بأهله- و يقال رجل مغضب بفتح الضاد- أي قد أغضب أي فعل به ما يوجب غضبه- . و يفره المنع يزيد في ماله و الموفور التام- وفرت الشيء وفرا و وفر الشيء نفسه وفورا- يتعدى و لا يتعدى و في أمثالهم يوفر و يحمد- هو من قولك وفرته عرضه و وفرته ماله- .
و قوله و لا يكديه الإعطاء أي لا يفقره و لا ينفد خزائنه- يقال كدت الأرض تكد و فهي كادية- إذا أبطأ نباتها و قل خيرها فهذا لازم- فإذا عديته أتيت بالهمزة- فقلت أكديت الأرض أي جعلتها كادية- و تقول أكدى الرجل إذا قل خيره- و قوله تعالى وَ أَعْطى قَلِيلًا وَ أَكْدى أي قطع القليل- يقول إنه سبحانه قادر على المقدورات- و ليس كالملوك من البشر الذين إذا أعطوا- نقصت خزائنهم و إن منعوا زادت- و قد شرح ذلك و قال إذ كل معط منتقص أي منقوص- و يجيء انتقص لازما و متعديا- تقول انتقص الشيء نفسه- و انتقصت الشيء أي نقصته- و كذلك نقص يجيء لازما و متعديا- .
ثم قال و كل مانع مذموم غيره و ذلك لأنه تعالى- إنما يمنع من تقتضي الحكمة و المصلحة منعه- و ليس كما يمنع البشر- و سأل رجل علي بن موسى الرضا عن الجواد- فقال إن لكلامك وجهين فإن كنت تسأل عن المخلوق- فإن الجواد هو الذي يؤدي ما افترض الله عليه- و البخيل هو الذي يبخل بما افترض الله عليه- و إن كنت تعني الخالقفهو الجواد إن أعطى- و هو الجواد إن منع لأنه إن أعطى عبدا أعطاه ما ليس له- و إن منعه منعه ما ليس له- .
قوله و ليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل- فيه معنى لطيف- و ذاك لأن هذا المعنى مما يختص بالبشر- لأنهم يتحركون بالسؤال و تهزهم الطلبات- فيكونون بما سألهم السائل- أجود منهم بما لم يسألهم إياه- و أما البارئ سبحانه فإن جوده ليس على هذا المنهاج- لأن جوده عام في جميع الأحوال- . ثم ذكر أن وجوده تعالى ليس بزماني- فلا يطلق عليه البعدية و القبلية- كما يطلق على الزمانيات- و إنما لم يكن وجوده زمانيا لأنه لا يقبل الحركة- و الزمان من لواحق الحركة- و إنما لم تطلق عليه البعدية و القبلية إذ لم يكن زمانيا- لأن قولنا في الشيء إنه بعد الشيء الفلاني- أي الموجود في زمان- حضر بعد تقضي زمان ذلك الشيء الفلاني- و قولنا في الشيء إنه قبل الشيء الفلاني- أي إنه موجود في زمان حضر- و لم يحضر زمان ذلك الشيء الفلاني بعد- فما ليس في الزمان- ليس يصدق عليه القبل و البعد الزمانيان- فيكون تقدير الكلام على هذا- الأول الذي لا يصدق عليه القبلية الزمانية- ليمكن أن يكون شيء ما قبله- و الآخر الذي لا يصدق عليه البعدية الزمانية- ليمكن أن يكون شيء ما بعده- .
و قد يحمل الكلام على وجه آخر أقرب متناولا من هذا الوجه- و هو أن يكون أراد الذي لم يكن محدثا- أي موجودا قد سبقه عدم- فيقال إنه مسبوق بشيء من الأشياء- إما المؤثر فيه أو الزمان المقدم عليه- و أنه ليس بذات يمكن فناؤها و عدمها فيما لا يزال- فيقال إنه ينقضي و ينصرم و يكون بعده شيء من الأشياء- إما الزمان أو غيره و الوجه الأول أدق و ألطف- و يؤكد كونه مرادا قوله عقيبه- ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال- و ذلك لأن واجب الوجود أعلى من الدهر و الزمان- فنسبة ذاته إلى الدهر و الزمان بجملته- و تفصيل أجزائه نسبة متحدة- .
فإن قلت إذا لم يكن قبل الأشياء بالزمان- و لا بعدها بالزمان فهو معها بالزمان- لأنه لا يبقى بعد نفي القبلية و البعدية إلا المعية- . قلت إنما يلزم ذلك فيما وجوده زماني- و أما ما ليس زمانيا- لا يلزم من نفي القبلية و البعدية إثبات المعية- كما أنه ما لم يكن وجوده مكانيا- لم يلزم من نفي كونه فوق العالم- أو تحت العالم بالمكان أن يكون مع العالم بالمكان- . ثم قال الرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه- الأناسي جمع إنسان و هو المثال الذي يرى في السواد- و هذا اللفظ بظاهره يشعر بمذهب الأشعرية- و هو قولهم إن الله تعالى خلق في الأبصار مانعا عن إدراكه- إلا أن الأدلة العقلية من جانبنا اقتضت تأويل هذا اللفظ- كما تأول شيوخنا قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ- فقالوا إلى جنة ربها فنقول تقديره- الرادع أناسي الأبصار أن تنال أنوار جلالته- .
فإن قلت- أ تثبتون له تعالى أنوارا يمكن أن تدركها الأبصار- و هل هذا إلا قول بالتجسيم- . قلت كلا لا تجسيم في ذلك- فكما أن له عرشا و كرسيا و ليس بجسم- فكذلك أنوار عظيمة فوق العرش و ليس بجسم- فكيف تنكر الأنوار- و قد نطق الكتاب العزيز بها في غير موضع- كقوله وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها- و كقوله مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ: وَ لَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ- وَ ضَحِكْتَ عَنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ مِنْ فِلِزِّ اللُّجَيْنِ وَ الْعِقْيَانِ- وَ نُثَارَةِ الدُّرِّ وَ حَصِيدِ الْمَرْجَانِ مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جُودِهِ- وَ لَا أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ- وَ لَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الْأَنْعَامِ- مَا لَا تُنْفِدُهُ مَطَالِبُ الْأَنَامِ- لِأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لَا يَغِيضُهُ سُؤَالَ السَّائِلِينَ- وَ لَا يُبَخِّلُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ هذاالكلام من تتمة الكلام الأول- و هو قوله لا يفره المنع و لا يكديه الإعطاء و الجود- و تنفست عنه المعادن استعارة- كأنها لما أخرجته و ولدته كانت كالحيوان يتنفس- فيخرج من صدره و رئته الهواء- .
و ضحكت عنه الأصداف أي تفتحت عنه و انشقت- يقال للطلع حين ينشق الضحك بفتح الضاد- و إنما سمي الضاحك ضاحكا لأنه يفتح فاه- و الفلز اسم الأجسام الذائبة- كالذهب و الفضة و الرصاص و نحوها- و اللجين اسم الفضة جاء مصغرا كالكميت و الثريا- و العقيان الذهب الخالص- و يقال هو ما ينبت نباتا و ليس مما يحصل من الحجارة- و نثارة الدر ما تناثر منه كالسقاطة و النخالة- و تأتي فعالة تارة للجيد المختار- و تارة للساقط المتروك- فالأول نحو الخلاصة و الثاني نحو القلامة- . و حصيد المرجان- كأنه أراد المتبدد منه كما يتبدد الحب المحصود- و يجوز أن يعنى به الصلب المحكم من قولهم شيء مستحصد- أي مستحصف مستحكم يعنى أنه ليس برخو و لا هش- و يروى و حصباء المرجان و الحصباء الحصى- و أرض حصبة و محصبة بالفتح ذات حصباء- و المرجان صغار اللؤلؤ و قد قيل إنه هذا الحجر- و استعمله بعض المتأخرين فقال-
أدمى لها المرجان صفحة خده
و بكى عليها اللؤلؤ المكنون
و تنفده تفنيه نفد الشيء أي فني و أنفدته أنا- و مطالب الأنام جمع مطلب- و هو المصدر من طلبت الشيء طلبا و مطلبا- . و يغيضه بفتح حرف المضارعة ينقصه- و يقال غاض الماء فهذا لازم و غاض الله الماء- فهذا متعد و جاء أغاض الله الماء- . و الإلحاح مصدر ألح على الأمر- أي أقام عليه دائما من ألح السحاب إذا دام مطره- و ألح البعير حرن كما تقول خلأت الناقة- و روي و لا يبخله بالتخفيف- تقول أبخلت زيدا أي صادفته بخيلا- و أجبنته وجدته جبانا- .
و في هذا الفصل من حسن الاستعارة- و بديع الصنعة ما لا خفاء به: فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ- فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ- وَ اسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ وَ مَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ- مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ- وَ لَا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ص وَ أَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ- فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ- فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللَّهِ عَلَيْكَ- وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ- عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ- الْإِقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ- فَمَدَحَ اللَّهُ اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ- عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً- وَ سَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ- فِيمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً- فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ- وَ لَا تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ- فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ تقول ائتم فلان بفلان أي جعله إماما و اقتدى به- فكل علمه من وكله إلى كذا وكلا و وكولا- و هذا الأمر موكول إلى رأيك- و الاقتحام الهجوم و الدخول مغالبة- و السدد المضروبة جمع سدة و هي الرتاج- .
و اعلم أن هذا الفصل يمكن أن تتعلق به الحشوية- المانعون من تأويل الآيات الواردة في الصفات- القائلين بالجمود على الظواهر- و يمكن أيضا أن يتعلق به من نفى النظر و حرمه أصلا- و نحن قبل أن نحققه و نتكلم فيه نبدأ بتفسير قوله تعالى- وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ- فنقول إن من الناس من وقف على قوله إِلَّا اللَّهَ- و منهم من لم يقف على ذلك- و هذا القول أقوى من الأول- لأنه إذا كان لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله- لم يكن في إنزاله و مخاطبة المكلفين به فائدة- بل يكون كخطاب العربي بالزنجية- و معلوم أن ذلك عيب قبيح- .فإن قلت فما الذي يكون موضع فَيَقُولُونَ من الإعراب- . قلت يمكن أن يكون نصبا على أنه حال من الراسخين- و يمكن أن يكون كلاما مستأنفا- أي هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به- .
و قد روي عن ابن عباس أنه تأول آية- فقال قائل من الصحابة وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ- فقال ابن عباس وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ- و أنا من جملة الراسخين- . ثم نعود إلى تفسير كلام أمير المؤمنين ع فنقول- إنه غضب و تغير وجهه لقول السائل- صف لنا ربنا مثل ما نراه عيانا- و إذا هذا المعنى ينصرف وصية له- بما أوصاه به من اتباع ما جاء في القرآن و السنة- و ذلك لأن العلم الحاصل من رؤية الشيء عيانا- علم لا يمكن أن يتعلق مثله بالله سبحانه- لأن ذاته تعالى لا يمكن أن تعلم من حيث هي هي- كما تعلم المحسوسات- أ لا ترى أنا إذا علمنا أنه صانع العالم- و أنه قادر عالم حي سميع بصير مريد- و أنه ليس بجسم و لا جوهر و لا عرض- و علمنا جميع الأمور السلبية و الإيجابية المتعلقة به- فإنما علمنا سلوبا و إضافات- و لا شك أن ماهية الموصوف مغايرة لماهية الصفات- و الذوات المحسوسة بخلاف ذلك لأنا إذا رأينا السواد- فقد علمنا نفس حقيقة السواد لا صفة من صفات السواد- و أيضا فإنا لو قدرنا- أن العلم بوجوده و صفاته السلبية و الإيجابية- يستلزم العلم بذاته من حيث هي هي- لم يكن عالما بذاته علما جزئيا- لأنه يمكن أن يصدق هذا العلم على كثيرين على سبيل البدل- و إذا ثبت أنه يستحيل- أن يصدق على كثيرين على سبيل البدل- ثبت أنه يستحيل أن يصدق على كثيرين على سبيل الجمع- و العلم بالمحسوس يستحيل أن يصدق على كثيرين- لا على سبيل الجمع و لا على سبيل البدل- فقد بان أنه يستحيل أن يعلم الله تعالى- كما يعلم الشيء المرئي عيانا- فأمير المؤمنين ع أنكر هذا السؤال- كما أنكره الله تعالى على بني إسرائيل- لما طلبوا الرؤية قال تعالى وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى- لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ- .
ثم قال للسائل بعد غضبه و استحالة لونه- و ظهور أثر الإنكار عليه- ما دلك القرآن عليه من صفته فخذ به- فإن لم تجده في الكتاب- فأطلبه من السنة و من مذاهب أئمة الحق- فإن لم تجد ذلك فاعلم أن الشيطان حينئذ- قد كلفك علم ما لم يكلفك الله علمه و هذا حق- لأن الكتاب و السنة قد نطقا بصفات الله- من كونه عالما قادرا حيا مريدا سميعا بصيرا- و نطقا أيضا بتنزيهه عن سمات الحدوث- كالجسمية و الحلول و الجهة و ما استلزم الجهة كالرؤية- فلا إنكار على من طلب في مدارك العقول وجوها- تعضد ما جاء به القرآن و السنة- و توفق بين بعض الآيات و بعض- و تحمل أحد اللفظين على الآخر إذا تناقضا في الظاهر- صيانة لكلام الحكيم عن التهافت و التعارض- و أما ما لم يأت الكتاب و السنة فيه بشيء- فهو الذي حرم و حظر على المكلفين الفكر فيه- كالكلام في الماهية التي يذهب ضرار المتكلم إليها- و كإثبات صفات زائدة- على الصفات المعقولة لذات البارئ سبحانه- و هي على قسمين- أحدهما ما لم يرد فيه نص- كإثبات طائفة تعرف بالماتريدية صفة- سموها التكوين زائدة على القدرة و الإرادة- .
و الثاني ما ورد فيه لفظ فأخطأ بعض أهل النظر- فأثبت لأجل ذلك اللفظة- صفة غير معقولة للبارئ سبحانه- نحو قول الأشعريين إن اليدين صفة من صفات الله- و الاستواء على العرش صفة من صفات الله- و إن وجه الله صفة من صفاته أيضا- ثم قال إن الراسخين في العلم الذين غنوا بالإقرار- بما عرفوه عن الولوج و التقحم فيما لم يعرفوه- و هؤلاء هم أصحابنا المعتزلة لا شبهة في ذلك- أ لا ترى أنهم يعللون أفعال الله تعالى بالحكم و المصالح- فإذا ضاق عليهم الأمر- في تفصيل بعض المصالح في بعض المواضع- قالوا نعلم على الجملة أن لهذا وجه حكمة و مصلحة- و إن كنا لا نعرف تفصيل تلك المصلحة- كما يقولون في تكليف من يعلم الله تعالى منه أنه يكفر- و كما يقولون في اختصاص الحال- التي حدث فيها العالم بحدوثه دون ما قبلها و ما بعدها- .
و قد تأول القطب الراوندي- كلام أمير المؤمنين في هذا الفصل- فقال إنما أنكر على من يقول- لم تعبد الله المكلفين بإقامة خمس صلوات- و هلا كانت ستا أو أربعا- و لم جعل الظهر أربع ركعات و الصبح ركعتين- و هلا عكس الحال و هذا التأويل غير صحيح- لأنه ع إنما أخرج هذا الكلام مخرج المنكر- على من سأله أن يصف له البارئ سبحانه- و لم يكن السائل قد سأل عن العلة- في أعداد الصلاة و كمية أجزاء العبادات- . ثم إنه ع قد صرح في غضون الكلام بذلك- فقال فانظر أيها السائل- فما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به- و ما لم يدلك عليه فليس عليك أن تخوض فيه- و هذا الكلام تصريح- بأن البحث إنما هو في النظر العقلي في فن الكلام- فلا يجوز أن يحمل على ما هو بمعزل عنه- . و اعلم أننا نتساهل في ألفاظ المتكلمين- فنوردها بعباراتهم كقولهم في المحسوسات- و الصواب المحسات- لأنه لفظ المفعول من أحس الرباعي- لكنا لما رأينا العدول عن ألفاظهم- إذا خضنا في مباحثهم مستهجنا- عبرنا بعبارتهم على علم منا أن العربية لا تسوغها: هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي إِذَا ارْتَمَتِ الْأَوْهَامُ- لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ- وَ حَاوَلَ الْفِكْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطْرِ الْوَسَاوِسِ- أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ- وَ تَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ- وَ غَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ فِي حَيْثُ لَا تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ- لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِهِ رَدَعَهَا- وَ هِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ- فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ مُعْتَرِفَةً- بِأَنَّهُ لَا يُنَالُ بِجَوْرِ الِاعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ- وَ لَا تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلَالِ عِزَّتِهِ
ارتمت الأوهام أي ترامت- يقال ارتمى القوم بالنبل أي تراموا- فشبه جولان الأوهام و الأفكار و تعارضها بالترامي- . و خطر الوساوس بتسكين الطاء مصدر خطر له خاطر- أي عرض في قلبه و روي من خطرات الوساوس- . و تولهت القلوب إليه- اشتد عشقها حتى أصابها الوله و هو الحيرة- . و قوله لتجري في كيفية صفاته- أي لتصادف مجرى و مسلكا في ذلك- و غمضت مداخل العقول أي غمض دخولها- و دق في الأنظار العميقة- التي لا تبلغ الصفات كنهها لدقتها و غموضها- طالبة أن تنال معرفته تعالى- . و لفظة ذات لفظة قد طال فيها كلام كثير من أهل العربية- فأنكر قوم إطلاقها على الله تعالى و إضافتها إليه- أما إطلاقها فلأنها لفظة تأنيث- و البارئ سبحانه منزه عن الأسماء و الصفات المؤنثة- و أما إضافتها فلأنها عين الشيء- و الشيء لا يضاف إلى نفسه- و أجاز آخرون إطلاقها في البارئ تعالى و إضافتها إليه- أما استعمالها فلوجهين- أحدهما أنها قد جاءت في الشعر القديم- قال خبيب الصحابي عند صلبه-
و ذلك في ذات الإله و إن يشأ
يبارك على أوصال شلو موزع
و يروى ممزع و قال النابغة-
محلتهم ذات الإله و دينهم
قديم فما يخشون غير العواقب
و الوجه الثاني أنها لفظة اصطلاحية- فجاز استعمالها لا على أنها مؤنث ذو- بل تستعمل ارتجالا في مسماها- الذي عبر عنه بها أرباب النظر الإلهي- كما استعملوا لفظ الجوهر و العرض و غيرهما- في غير ما كان أهل العربية و اللغة يستعملونها فيه- . و أما منعهم إضافتها إليه تعالى و أنه لا يقال ذاته- لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه- فباطل بقولهم أخذته نفسه و أخذته عينه- فإنه بالاتفاق جائز و فيه إضافة الشيء إلى نفسه- . ثم نعود إلى التفسير- قوله ع ردعها أي كفها- و تجوب أي تقطع و المهاوي المهالك- الواحدة مهواه بالفتح- و هي ما بين جبلين أو حائطين و نحو ذلك- و السدف جمع سدفة و هي القطعة من الليل المظلم- و جبهت أي ردت و أصله من جبهته أي صككت جبهته- و الجور العدول عن الطريق- و الاعتساف قطع المسافة على غير جادة معلومة- .
و خلاصة هذا الفصل أن العقول إذا حاولت أن تدرك- متى ينقطع اقتداره على المقدرات نكصت عن ذلك- لأنه قادر أبدا دائما على ما لا يتناهى- و إذا حاول الفكر الذي قد صفا- و خلا عن الوساوس و العوائق- أن يدرك مغيبات علمه تعالى كل و حسر و رجع ناقصا أيضا- و إذا اشتد عشق النفوس له- و تولهت نحوه لتسلك مسلكا- تقف منه على كيفية صفاته عجزت عن ذلك- و إذا تغلغلت العقول- و غمضت مداخلها في دقائق العلوم النظرية الإلهية- التي لا توصف لدقتها طالبة أن تعلم حقيقة ذاته تعالى- انقطعت و أعيت و ردها سبحانه و تعالى و هي تجول- و تقطع ظلمات الغيب لتخلص إليه- فارتدت حيث جبهها و ردعها- مقرة معترفة بأن إدراكه و معرفته- لا تنال باعتساف المسافات التي بينها و بينه- و إن أرباب الأفكار و الرويات يتعذر عليهم- أن يخطر لهم خاطر يطابق ما في الخارج من تقدير جلال عزته- و لا بد من أخذ هذا القيد في الكلام- لأن أرباب الأنظار لا بد- أن تخطر لهم الخواطر في تقدير جلال عزته- و لكن تلك الخواطر لا تكون مطابقة لها في الخارج- لأنها خواطر مستندها الوهم لا العقل الصريح- و ذلك لأن الوهم قد ألف الحسيات و المحسوسات- فهو يعقل خواطر بحسب ما ألفه من ذلك- و جلال واجب الوجود أعلى و أعظم من أن يتطرق الوهم نحوه- لأنه بريء من المحسوسات سبحانه- و أما العقل الصريح فلا يدرك خصوصية ذاته لما تقدم- .
و اعلم أن قوله تعالى فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ- ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ- يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ- فيه إشارة إلى هذا المعنى- و كذلك قوله يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ- وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ: الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ- وَ لَا مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْهِ مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ- وَ أَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ- وَ عَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ- وَ اعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ- مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ- فَظَهَرَتْ فِي الْبَدَائِعِ- الَّتِي أَحْدَثَهَا آثَارُ صَنَعْتِهِ وَ أَعْلَامُ حِكْمَتِهِ- فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَ دَلِيلًا عَلَيْهِ- وَ إِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ- وَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ
االمساك بكسر الميم ما يمسك و يعصم به- . و قوله ابتدع الخلق على غير مثال امتثله يحتمل وجهين- أحدهما أن يريد بامتثله مثله- كما تقول صنعت و اصطنعت بمعنى- فيكون التقدير أنه لم يمثل لنفسه مثالا- قبل شروعه في خلق العالم ثم احتذى ذلك المثال- و ركب العالم على حسب ترتيبه- كالصانع الذي يصوغ حلقة من رصاص مثالا- ثم يصوغ حلقة من ذهب عليها- و كالبناء يقدر و يفرض رسوما- و تقديرات في الأرض و خطوطا ثم يبنى بحسبها- .
و الوجه الثاني- أنه يريد بامتثله احتذاه و تقبله و اتبعه- و الأصل فيه امتثال الأمر في القول- فنقل إلى احتذاء الترتيب العقلي- فيكون التقدير أنه لم يمثل له فاعل آخر قبله مثالا- اتبعه و احتذاه و فعل نظيره- كما يفعل التلميذ في الصباغة و النجارة شيئا- قد مثل له أستاذه صورته و هيئته- . و اعلم أن هذا أحد الأسئلة- التي يذكرها أصحابنا في باب كونه عالما- لأنهم لما استدلوا على كونه تعالى عالما- بطريق إحكام العلم و إتقانه سألوا أنفسهم- فقالوا لم لا يجوز أن يكون القديم سبحانه- أحدث العالم محتذيا لمثال مثله و هيئة اقتضاها- و المحتذي لا يجب كونه عالما بما يفعله- أ لا ترى أن من لا يحسن الكتابة قد يحتذي خطا مخصوصا- فيكتب قريبا منه- و كذلك من يطبع الشمع بالخاتم ثم يطبع فيه مثال الخاتم- فهو فعل الطابع و لا يجب كونه عالما- .
و أجاب أصحابنا عن ذلك فقالوا إن أول فعل محكم وقع منه- ثم احتذى عليه يكفي في ثبوت كونه عالما- و أيضا فإن المحتذي ليست العالمية بمسلوبة عنه- بل موصوف بهاأ لا ترى أنه متصور صورة ما يحتذيه- ثم يوقع الفعل مشابها له فالمحتذي عالم في الجملة- و لكن علمه يحدث شيئا فشيئا- . فأما معنى الفصل فظاهر- يقول ع إنه ابتدع الخلق على غير مثال قدمه لنفسه- و لا قدم له غيره ليحتذى عليه- و أرانا من عجائب صنعته- و من اعتراف الموجودات كلها- بأنها فقيرة محتاجة إلى أن يمسكها بقوته- ما دلنا على معرفته ضرورة- و في هذا إشارة إلى أن كل ممكن مفتقر إلى المؤثر- و لما كانت الموجودات كلها غيره سبحانه ممكنة- لم تكن غنية عنه سبحانه بل كانت فقيرة إليه- لأنها لولاه ما بقيت فهو سبحانه غني عن كل شيء- و لا شيء من الأشياء مطلقا بغني عنه سبحانه- و هذه من خصوصية الإلهية- و أجل ما تدركه العقول من الأنظار المتعلقة بها- .
فإن قلت في هذا الكلام إشعار بمذهب شيخكم أبي عثمان- في أن معرفته تعالى ضرورية- . قلت يكاد أن يكون الكلام مشعرا بذلك- إلا أنه غير دال عليه- لأنه لم يقل ما دلنا على معرفته باضطرار- و لكن قال ما دلنا باضطرار قيام الحجة له على معرفته- فالاضطرار راجع إلى قيام الحجة لا إلى المعرفة- . ثم قال ع و ظهرت آثار صنعته و دلائل حكمته في مخلوقاته- فكانت و هي صامتة في الصورة- ناطقة في المعنى بوجوده و ربوبيته سبحانه- و إلى هذا المعنى نظر الشاعر فقال-
فو عجبا كيف يعصى الإله
أم كيف يجحده الجاحد
و في كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
و قال في تفسير قوله تعالى وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ- وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إنه عبارة عن هذا المعنى: فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ- وَ تَلَاحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ- لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ- وَ لَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لَا نِدَّ لَكَ- وَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤُ التَّابِعِينَ عَنِ الْمَتْبُوعِينَ- إِذْ يَقُولُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ- إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ- كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ- وَ نَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ- وَ جَزَّءُوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ- وَ قَدَّرُوكَ عَلَى الْخِلْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ ساَوَاكَ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ- وَ الْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ- وَ نَطَقَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ- وَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ- فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً- وَ لَا فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا مَحْدُوداً مُصَرَّفاً حقاق المفاصل جمع حقة- و جاء في جمعها حقاق و حقق و حق- و لما قال بتباين أعضاء خلقك و تلاحم حقاق مفاصلهم- فأوقع التلاحم في مقابلة التباين صناعة و بديعا-
و رويالمحتجة فمن قال المحتجة- أراد أنها بما فيها من لطيف الصنعة كالمحتجة- المستدلة على التدبير الحكمي من لدنه سبحانه- و من قال المحتجبة أراد المستترة- لأن تركيبها الباطن خفي محجوب- . و الند المثل و العادلون بك- الذين جعلوا لك عديلا و نظيرا- و نحلوك أعطوك و هي النحلة- و روي لم يعقد على ما لم يسم فاعله- . و غيب ضميره بالرفع و القرائح جمع قريحة- و هي القوة التي تستنبط بها المعقولات- و أصله من قريحة البئر و هو أول مائها- .
و معنى هذا الفصل أنه ع شهد بأن المجسم كافر- و أنه لا يعرف الله- و أن من شبه الله بالمخلوقين ذوي الأعضاء المتباينة- و المفاصل المتلاحمة لم يعرفه و لم يباشر قلبه اليقين- فإنه لا ند له و لا مثل- ثم أكد ذلك بآيات من كتاب الله تعالى- و هي قوله تعالى فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ- وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ- تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ- إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ- حكى سبحانه حكاية قول الكفار في النار و هم التابعون- للذين أغووهم من الشياطين و هم المتبوعون- لقد كنا ضالين إذ سويناكم بالله تعالى و جعلناكم مثله- و وجه الحجة أنه تعالى حكى ذلك حكاية منكر- على من زعم أن شيئا من الأشياء- يجوز تسويته بالباري سبحانه- فلو كان الباري سبحانه جسما مصورا- لكان مشابها لسائر الأجسام المصورة- فلم يكن لإنكاره على من سواه بالمخلوقات معنى- .
ثم زاد ع في تأكيد هذا المعنى- فقال كذب العادلون بك المثبتون لك نظيرا و شبيها- يعنى المشبهة و المجسمة إذ قالوا إنك على صورة آدم- فشبهوك بالأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها- و أعطوك حلية المخلوقين لما اقتضت أوهامهم ذلك- من حيث لم يألفوا- أن يكون القادر الفاعل العالم إلا جسما- و جعلوك مركبا و متجزئا كما تتجزأ الأجسام- و قدروك على هذه الخلقة- يعني خلقة البشر المختلفة القوى- لأنها مركبة من عناصر مختلفة الطبائع- ثم كرر الشهادة فقال أشهد أن من ساواك بغيرك- و أثبت أنك جوهر أو جسم فهو عادل بك كافر- و قالت تلك الخارجية للحجاج أشهد أنك قاسط عادل- فلم يفهم أهل الشام حوله ما قالت حتى فسره لهم- قال ع فمن يذهب إلى هذا المذهب فهو كافر بالكتاب- و بما دلت عليه حجج العقول ثم قال و إنك أنت الله- أي و أشهد أنك أنت الله الذي لم تحط العقول بك- كإحاطتها بالأشياء المتناهية فتكون ذا كيفية- .
و قوله في مهب فكرها استعارة حسنة- ثم قال و لا في رويات خواطرها أي في أفكارها محدودا- ذا حد مصرفا أي قابلا للحركة و التغير- . و قد استدل بعض المتكلمين- على نفي كون البارئ سبحانه جسما- بما هو مأخوذ من هذا الكلام- فقال لو جاز أن يكون البارئ جسما- لجاز أن يكون القمر هو إله للعالم- لكن لا يجوز أن يكون القمر إله العالم- فلا يجوز أن يكون البارئ جسما- بيان الملازمة أنه لو جاز أن يكون البارئ سبحانه جسما- لما كان بين الإلهية و بين الجسمية منافاة عقلية- و إذا لم يكن بينهما منافاة عقلية أمكن اجتماعهما- و إذا أمكن اجتماعهما جاز أن يكون القمر هو إله العالم- لأنه لا مانع من كونه إله العالم إلا كونه جسما- يجوز عليه الحركة و الأفول- و نقصان ضوئه تارة و امتلاؤه أخرى- فإذا لم يكن ذلك منافيا للإلهية- جاز أن يكون القمر إله العالم و بيان الثاني- إجماع المسلمين على كفر من أجاز كون القمر إله العالم- و إذا ثبتت الملازمة- و ثبتت المقدمة الثانية فقد تمت الدلالة: وَ مِنْهَا- قَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ وَ دَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِيرَهُ- وَ وَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ- وَ لَمْ يَقْصُرْ دُونَ الِانْتِهَاءِ إِلَى غَايَتِهِ- وَ لَمْ يَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ- فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا صَدَرَتِ الْأُمُورُ عَنْ مَشِيئَتِهِ- الْمُنْشِئُ أَصْنَافَ الْأَشْيَاءِ بِلَا رَوِيَّةِ فِكْرٍ آلَ إِلَيْهَا- وَ لَا قَرِيحَةِ غَرِيزَةٍ أَضْمَرَ عَلَيْهَا- وَ لَا تَجْرِبَةٍ أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ- وَ لَا شَرِيكٍ أَعَانَهُ عَلَى ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الْأُمُورِ- فَتَمَّ خَلْقَهُ بِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ وَ أَجَابَ إِلَى دَعْوَتِهِ- لَمْ يَعْتَرِضْ دُونَهُ رَيْثُ الْمُبْطِئِ وَ لَا أَنَاةُ الْمُتَلَكِّئِ- فَأَقَامَ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوَدَهَا وَ نَهَجَ حُدُودَهَا- وَ لَاءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضَادِّهَا- وَ وَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا وَ فَرَّقَهَا أَجْنَاساً- مُخْتَلِفَاتٍ فِي الْحُدُودِ وَ الْأَقْدَارِ وَ الْغَرَائِزِ وَ الْهَيْئَاتِ- بَدَايَا خَلَائِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا وَ فَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وَ ابْتَدَعَهَا الوجهة بالكسر الجهة التي يتوجه نحوها- قال تعالى وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها- .
و الريث البطء و المتلكئ المتأخر- و الأود الاعوجاج و لاءم بين كذا و كذا أي جمع- و القرائن هنا الأنفس واحدتها قرونة و قرينة- يقال سمحت قرينته و قرونته أي أطاعته نفسه و ذلت- و تابعته على الأمر و بدايا هاهنا جمع بدية-و هي الحالة العجيبة أبدأ الرجل إذا جاء بالأمر البديء- أي المعجب و البدية أيضا الحالة المبتدأة المبتكرة- و منه قولهم فعله بادئ ذي بديء على وزن فعيل- أي أول كل شيء- و يمكن أن يحمل كلامه أيضا على هذا الوجه- .
و أما خلائق فيجوز أن يكون أضاف بدايا إليها- و يجوز إلا يكون أضافه إليها- بل جعلها بدلا من أجناسا- و يروى برايا جمع برية- يقول ع إنه تعالى قدر الأشياء التي خلقها- فخلقها محكمة على حسب ما قدر- و ألطف تدبيرها أي جعله لطيفا- و أمضى الأمور إلى غاياتها و حدودها المقدرة لها- فهيأ الصقرة للاصطياد و الخيل للركوب و الطراد- و السيف للقطع و القلم للكتابة- و الفلك للدوران و نحو ذلك- و في هذا إشارة إلىقول النبي ص كل ميسر لما خلق له- فلم تتعد هذه المخلوقات حدود منزلتها- التي جعلت غايتها و لا قصرت دون الانتهاء إليها- يقول لم تقف على الغاية و لا تجاوزتها- ثم قال و لا استصعبت و امتنعت- إذا أمرها بالمضي إلى تلك الغاية- بمقتضى الإرادة الإلهية و هذا كله من باب المجاز- كقوله تعالى فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً- قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ- . و خلاصة ذلك الإبانة عن نفوذ إرادته و مشيئته- .
ثم علل نفي الاستصعاب- فقال و كيف يستصعب و إنما صدرت عن مشيئته- يقول إذا كانت مشيئته هي- المقتضية لوجود هذه المخلوقات- فكيف يستصعب عليه بلوغها إلى غاياتها- التي جعلت لأجلها و أصل وجودها إنما هو مشيئته- فإذا كان أصل وجودها بمشيئته- فكيف يستصعب عليه توجيهها لوجهتها- و هو فرع من فروع وجودها و تابع له- .
ثم أعاد معاني القول الأول- فقال إنه أنشأ الأشياء بغير روية و لا فكرة و لا غريزة- أضمر عليها خلق ما خلق عليها و لا تجربة أفادها- أي استفادها من حوادث مرت عليه من قبل- كما تكسب التجارب علوما لم تكن- و لا بمساعدة شريك أعانه عليها فتم خلقه بأمره- إشارة إلى قوله و لم يستصعب إذ أمر بالمضي- فلما أثبت هناك كونها أمرت أعاد لفظ الأمر هاهنا- و الكل مجاز و معناه نفوذ إرادته- و أنه إذا شاء أمرا استحال ألا يقع- و هذا المجاز هو المجاز المستعمل في قوله تعالى- إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ- تعبيرا بهذا اللفظ عن سرعة مواتاة الأمور له- و انقيادها تحت قدرته- .
ثم قال ليس كالواحد منا يعترض دون مراده ريث و بطء- و تأخير و التواء ثم قال و أقام العوج و أوضح الطريق- و جمع بين الأمور المتضادة- أ لا ترى أنه جمع في بدن الحيوانات و النبات- بين الكيفيات المتباينة المتنافرة- من الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة- و وصل أسباب أنفسها بتعديل أمزجتها- لأن اعتدال المزاج أو القرب من الاعتدال- سبب بقاء الروح- و فرقها أجناسا مختلفات الحدود و الأقدار- و الخلق و الأخلاق و الأشكال- أمور عجيبة بديعة مبتكرة الصنعة- غير محتذ بها حذو صانع سابق بل مخلوقة على غير مثال- قد أحكم سبحانه صنعها و خلقها على موجب ما أراد- و أخرجها من العدم المحض إلى الوجود- و هو معنى الابتداع- فإن الخلق في الاصطلاح النظري على قسمين- أحدهما صورة تخلق في مادة و الثاني ما لا مادة له- بل يكون وجود الثاني من الأول فقط من غير توسط المادة- فالأول يسمى التكوين و الثاني يسمى الإبداع- و مرتبة الإبداع أعلى من مرتبة التكوين
: وَ مِنْهَا فِي صِفَةِ السَّمَاءِ- وَ نَظَمَ بِلَا تَعْلِيقٍ رَهَوَاتِ فُرَجِهَا- وَ لَاحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا وَ وَشَّجَ بَيْنَهَا وَ بَيْنَ أَزْوَاجِهَا- وَ ذَلَّلَ لِلْهَابِطِينَ بِأَمْرِهِ- وَ الصَّاعِدِينَ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ حُزُونَةَ مِعْرَاجِهَا- وَ نَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ فَالْتَحَمَتْ عُرَى أَشْرَاجِهَا- وَ فَتَقَ بَعْدَ الِارْتِتَاقِ صَوَامِتَ أَبْوَابِهَا- وَ أَقَامَ رَصَداً مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ عَلَى نِقَابِهَا- وَ أَمْسَكَهَا مِنْ أَنْ تُمُورَ فِي خَرْقِ الْهَوَاءِ بِأَيْدِهِ- وَ أَمْرَهَا أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلِمَةً لِأَمْرِهِ- وَ جَعَلَ شَمْسَهَا آيَةً مُبْصِرَةً لِنَهَارِهَا- وَ قَمَرَهَا آيَةً مَمْحُوَّةً مِنْ لَيْلِهَا- وَ أَجْرَاهُمَا فِي مَنَاقِلِ مَجْرَاهُمَا- وَ قَدَّرَ سَيْرَهُمَا فِي مَدَارِجِ دَرَجِهِمَا- لِيُمَيِّزَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ بِهِمَا- وَ لِيُعْلَمَ عَدَدُ السِّنِينَ وَ الْحِسَابِ بِمَقَادِيرِهِمَا- ثُمَّ عَلَّقَ فِي جَوِّهَا فَلَكَهَا وَ نَاطَ بِهَا زِينَتَهَا- مِنْ خَفِيَّاتِ دَرَارِيِّهَا وَ مَصَابِيحِ كَوَاكِبِهَا- وَ رَمَى مُسْتَرِقِي السَّمْعِ بِثَوَاقِبِ شُهُبِهَا- وَ أَجْرَاهَا عَلَى أَذْلَالِ تَسْخِيرِهَا مِنْ ثَبَاتِ ثَابِتِهَا- وَ مَسِيرِ سَائِرِهَا وَ هُبُوطِهَا وَ صُعُودِهَا وَ نُحُوسِهَا وَ سُعُودِهَا الرهوات جمع رهوة- و هي المكان المرتفع و المنخفض أيضا- يجتمع فيه ماء المطر و هو من الأضداد- و الفرج جمع فرجة و هي المكان الخالي و لاحم ألصق- و الصدع الشق و وشج بالتشديد أي شبك- و وشجت العروق و الأغصان بالتخفيف اشتبكت- و بيننا رحم واشجة أي مشتبكة- .
و أزواجها أقرانها و أشباهها- قال تعالى وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً أي أصنافا ثلاثة- .و الحزونة ضد السهولة و أشراجها جمع شرج- و هو عرا العيبة و أشرجت العيبة أي أقفلت أشراجها- و تسمى مجرة السماء شرجا تشبيها بشرج العيبة- و أشراج الوادي ما انفسح منه و اتسع- . و الارتتاق الارتتاج و النقاب جمع نقب- و هو الطريق في الجبل و تمور تتحرك و تذهب و تجيء- قال تعالى يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً- و الأيد القوة و ناط بها علق- و الدراري الكواكب المضيئة نسبت إلى الدر لبياضها- واحدها دري و يجوز كسر الدال مثل بحر لجي و لجي- . و الثواقب المضيئات- و تقول افعل ما أمرتك على أذلاله أي على وجهه- و دعه في أذلاله أي على حاله- و أمور الله جارية على أذلالها أي على مجاريها و طرقها- .
يقول ع كانت السماء أول ما خلقت غير منتظمة الأجزاء- بل بعضها أرفع و بعضها أخفض فنظمها سبحانه- فجعلها بسيطا واحدا نظما اقتضته القدرة الإلهية- من غير تعليق أي لا كما ينظم الإنسان ثوبا مع ثوب- أو عقدا مع عقد بالتعليق و الخياطة- و ألصق تلك الفروج و الشقوق فجعلها جسما متصلا- و سطحا أملس لا نتوات فيه و لا فرج و لا صدوع- بل جعل كل جزء منها ملتصقا بمثله- و ذلل للملائكة الهابطين بأمره- و الصاعدين بأعمال خلقه لأنهم الكتبة الحافظون لها- حزونة العروج إليها و هو الصعود- . ثم قال و ناداها بعد إذ هي روي بإضافة بعد إلى إذ- و روي بضم بعد أي و ناداها بعد ذلك إذ هي دخان- و الأول أحسن و أصوب لأنها على الضم- تكون دخانا بعد نظمه رهوات فروجها و ملاحمة صدوعها- و الحال تقتضي أن دخانها قبل ذلك لا بعده- .
فإن قلت ما هذا النداء- قلت هو قوله ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً- فهو أمر في اللفظ و نداء في المعنى- و هو على الحقيقة كناية عن سرعة الإبداع- ثم قال و فتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها- هذا صريح في أن للسماء أبوابا- و كذلك قوله على نقابها- و هو مطابق لقوله سبحانه و تعالى- لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ- و القرآن العظيم و كلام هذا الإمام المعظم- أولى بالاتباع من كلام الفلاسفة- الذين أحالوا الخرق على الفلك- و أما إقامة الرصد من الشهب الثواقب- فهو نص القرآن العزيز وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها- مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً- وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ- فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً- و القول بإحراق الشهب للشياطين- اتباعا لنص الكتاب أولى من قول الفلاسفة- الذين أحالوا الانقضاض على الكواكب- .
ثم قال و أمسكها على الحركة بقوته- و أمرها بالوقوف فاستمسكت و وقفت- ثم ذكره الشمس و القمر تذكرة مأخوذ من قول الله تعالى- وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ- فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً- . ثم ذكر الحكم في جريان الشمس و القمر في مجراهما- تذكرة مأخوذ من قوله تعالى- وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها- و قوله وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ- و قوله وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ- .
ثم قال ثم علق في جوها فلكها- و هذا يقتضي أن الفلك غير السماء- و هو خلاف قول الجمهور و قد قال به قائلون- و يمكن أن نفسر ذلك إذا أردنا موافقة قول الجمهور- بأنه أراد بالفلك دائرة معدل النهار- فإنها الدائرة العظمى في الفلك الأعظم- و هي في الاصطلاح النظري تسمى فلكا- . ثم ذكر أنه زين السماء الدنيا بالكواكب- و أنها رجوم لمسترقي السمع- و هو مأخوذ من قوله تعالى- إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ- وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ- لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ- دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ- .
ثم شرح حال الدنيا فقال من ثبات ثابتها- يعني الكواكب التي في كرة البروج و مسير سائرها- يعني الخمسة و النيرين لأنها سائرة دائما- . ثم قال و صعودها و هبوطها- و ذلك أن للكواكب السيارة صعودا في الأوج- و هبوطا في الحضيض- فالأول هو البعد الأبعد عن المركز و الثاني البعد الأقرب- . فإن قلت ما باله ع قال و نحوسها و سعودها- و هو القائل لمن أشار عليه ألا يحارب في يوم مخصوص- المنجم كالكاهن و الكاهن كالساحر- و الساحر كالكافر و الكافر في النار- . قلت إنه ع إنما أنكر في ذلك القول على من يزعم- أن النجوم مؤثرة في الأمور الجزئية- كالذين يحكمون لأرباب المواليد و عليهم- و كمن يحكم في حرب أو سلم أو سفر أو مقام- بأنه للسعد أو النحس و أنه لم ينكر على من قال- إن النجوم تؤثر سعودا و نحوسا في الأمور الكلية- نحو أن تقتضي حرا أو بردا- أو تدل على مرض عام أو قحط عام أو مطر دائم- و نحو ذلك من الأمور التي لا تخص إنسانا بعينه- و قد قدمنا في ذلك الفصل- ما يدل على تصويب هذا الرأي و إفساد ما عداه: وَ مِنْهَا فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ- ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لِإِسْكَانِ سَمَاوَاتِهِ- وَ عِمَارَةِ الصَّفِيحِ الْأَعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ- خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلَائِكَتِهِ- وَ مَلَأَ بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا وَ حَشَى بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا- وَ بَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ- مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ- وَ سُتُرَاتِ الْحُجُبِ وَ سُرَادِقَاتِ الْمَجْدِ- وَ وَرَاءَ ذَلِكَ الرَّجِيجِ الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْهُ الْأَسْمَاعُ- سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الْأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا- فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَى حُدُودِهَا- .
وَ أَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ وَ أَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ- أُولِي أَجْنِحَةٍ تُسَبِّحُ جَلَالَ عِزَّتِهِ- لَا يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ- وَ لَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ- بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ- جَعَلَهُمُ اللَّهُ فِيمَا هُنَالِكَ أَهْلَ الْأَمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ- وَ حَمَّلَهُمْ إِلَى الْمُرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَ نَهْيِهِ- وَ عَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ- فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ- وَ أَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ الْمَعُونَةِ- وَ أَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ السَّكِينَةِ- وَ فَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُلًا إِلَى تَمَاجِيدِهِ- وَ نَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَةً عَلَى أَعْلَامِ تَوْحِيدِهِ- لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُؤْصِرَاتُ الآْثَامِ- وَ لَمْ تَرْتَحِلْهُمْ عُقَبُ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامِ- وَ لَمْ تَرْمِ الشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا عَزِيمَةَ إِيمَانِهِمْ- وَ لَمْ تَعْتَرِكِ الظُّنُونُ عَلَى مَعَاقِدِ يَقِينِهِمْ- وَ لَا قَدَحَتْ قَادِحَةُ الْإِحَنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ- وَ لَا سَلَبَتْهُمُ الْحَيْرَةُ مَا لَاقَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمَائِرِهِمْ- وَ مَا سَكَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَ هَيْبَةِ جَلَالِهِ فِي أَثْنَاءِ صُدُورِهِمْ- وَ لَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَيْنِهَا عَلَى فِكْرِهِمْ- وَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي خَلْقِ الْغَمَامِ الدُّلَّحِ- وَ فِي عِظَمِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ وَ فِي قَتْرَةِ الظَّلَامِ الْأَيْهَمِ- وَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الْأَرْضِ السُّفْلَى- فَهِيَ كَرَايَاتٍ بِيضٍ قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ الْهَوَاءِ- وَ تَحْتَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ- تَحْبِسُهَا عَلَى حَيْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِيَةِ- قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ- وَ وَصَّلَتْ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ- وَ قَطَعَهُمُ الْإِيقَانُ بِهِ إِلَى الْوَلَهِ إِلَيْهِ- وَ لَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ- قَدْ ذَاقُوا حَلَاوَةَ مَعْرِفَتِهِ- وَ شَرِبُوا بِالْكَأْسِ الرَّوِيَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِ- وَ تَمَكَّنَتْ مِنْ سُوَيْدَاوَاتِ قُلُوبِهِمْ وَشِيجَةُ خِيفَتِهِ- فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَةِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهِمْ- وَ لَمْ يُنْفِدْ طُولُ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ- وَ لَا أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِيمُ الزُّلْفَةِ رِبَقَ خُشُوعِهِمْ- وَ لَمْ يَتَوَلَّهُمُ الْإِعْجَابُ فَيَسْتَكْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ- وَ لَا تَرَكَتْ لَهُمُ اسْتِكَانَةُ الْإِجْلَالِ- نَصِيباً فِي تَعْظِيمِ حَسَنَاتِهِمْ- وَ لَمْ تَجْرِ الْفَتَرَاتُ فِيهِمْ عَلَى طُولِ دُءُوبِهِمْ- وَ لَمْ تَغِضْ رَغَبَاتُهُمْ فَيُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ- وَ لَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُنَاجَاةِ أَسَلَاتُ أَلْسِنَتِهِمْ- وَ لَا مَلَكَتْهُمُ الْأَشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ الْجُؤَارِ إِلَيْهِ أَصْوَاتُهُمْ- وَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي مَقَاوِمِ الطَّاعَةِ مَنَاكِبُهُمْ- وَ لَمْ يَثْنُوا إِلَى رَاحَةِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ رِقَابَهِمْ- . وَ لَا تَعْدُو عَلَى عَزِيمَةِ جِدِّهِمْ بَلَادَةُ الْغَفَلَاتِ- وَ لَا تَنْتَضِلُ فِي هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ- قَدِ اتَّخَذُوا ذَا الْعَرْشِ ذَخِيرَةً لِيَوْمِ فَاقَتِهِمْ- وَ يَمَّمُوهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ بِرَغْبَتِهِمْ- لَا يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ- وَ لَا يَرْجِعُ بِهِمُ الِاسْتِهْتَارُبِلُزُومِ طَاعَتِهِ- إِلَّا إِلَى مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهِمْ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ مِنْ رَجَائِهِ وَ مَخَافَتِهِ-
لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَةِ مِنْهُمْ فَيَنُوا فِي جِدِّهِمْ- وَ لَمْ تَأْسِرْهُمُ الْأَطْمَاعُ- فَيُؤْثِرُوا وَشِيكَ السَّعْيِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ- لَمْ يَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ- وَ لَوِ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ- وَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهِمْ بِاسْتِحْوَاذِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ- وَ لَمْ يُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ وَ لَا تَوَلَّاهُمْ غِلُّ التَّحَاسُدِ- وَ لَا تَشَعَّبَتْهُمْ مَصَارِفُ الرَّيْبِ- وَ لَا اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْيَافُ الْهِمَمِ- فَهُمْ أُسَرَاءُ إِيمَانٍ لَمْ يَفُكَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَيْغٌ وَ لَا عُدُولٌ- وَ لَا وَنًى وَ لَا فُتُورٌ- وَ لَيْسَ فِي أَطْبَاقِ السَّمَاءِ مَوْضِعُ إِهَابٍ إِلَّا وَ عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ- أَوْ سَاعٍ حَافِدٌ يَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ الطَّاعَةِ بِرَبِّهِمْ عِلْماً- وَ تَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِظَماً هذا موضع المثل إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل- إذا جاء هذا الكلام الرباني و اللفظ القدسي- بطلت فصاحة العرب و كانت نسبة الفصيح من كلامها إليه- نسبة التراب إلى النضار الخالص- و لو فرضنا أن العرب تقدر- على الألفاظ الفصيحة المناسبة- أو المقاربة لهذه الألفاظ- من أين لهم المادة التي عبرت هذه الألفاظ عنها- و من أين تعرف الجاهلية- بل الصحابة المعاصرون لرسول الله ص- هذه المعاني الغامضة السمائية- ليتهيأ لها التعبير عنها- أما الجاهلية فإنهم إنما كانت- تظهر فصاحتهم في صفة بعير أو فرس أو حمار وحش- أو ثور فلاة أو صفة جبال أو فلوات و نحو ذلك-
و أما الصحابة فالمذكورون منهم بفصاحة- إنما كان منتهى فصاحة أحدهم كلمات- لا تتجاوز السطرين أو الثلاثة- أما في موعظة تتضمن ذكر الموت أو ذم الدنيا- أو يتعلق بحرب و قتال من ترغيب أو ترهيب- فأما الكلام في الملائكة و صفاتها و صورها و عباداتها- و تسبيحها و معرفتها بخالقها و حبها له و ولهها إليه- و ما جرى مجرى ذلك مما تضمنه هذا الفصل على طوله- فإنه لم يكن معروفا عندهم على هذا التفصيل- نعم ربما علموه جملة غير مقسمة هذا التقسيم- و لا مرتبة هذا الترتيب- بما سمعوه من ذكر الملائكة في القرآن العظيم- و أما من عنده علم من هذه المادة- كعبد الله بن سلام و أمية بن أبي الصلت و غيرهم- فلم تكن لهم هذه العبارة و لا قدروا على هذه الفصاحة- فثبت أن هذه الأمور الدقيقة- في مثل هذه العبارة الفصيحة لم تحصل إلا لعلي وحده- و أقسم أن هذا الكلام إذا تأمله اللبيب اقشعر جلده- و رجف قلبه و استشعر عظمة الله العظيم في روعه و خلده- و هام نحوه و غلب الوجد عليه- و كاد أن يخرج من مسكه شوقا- و أن يفارق هيكله صبابة و وجدا- .
ثم نعود إلى التفسير- فنقول الصفيح الأعلى سطح الفلك الأعظم- و يقال لوجه كل شيء عريض صفيح و صفحة- . و الفروج الأماكن الخالية و الفجاج جمع فج- و الفج الطريق الواسع بين جبلين أو حائطين- و أجوائها جمع جو و هو ما اتسع من الأودية- و يقال لما بين السماء و الأرض جو- و يروى أجوابها جمع جوبة و هي الفرجة في السحاب و غيره- و يروى أجوازها جمع جوز و هو وسط الشيء- و الفجوات جمع فجوة و هي الفرجة بين الشيئين- تقول منه تفاجى الشيء إذا صار له فجوة و منه الفجاء- و هو تباعد ما بين عرقوبي البعير- . و الزجل الصوت- و حظائر القدس لفظة وردت في كلام رسول الله ص- و أصل الحظيرة ما يعمل شبه البيت- للإبل من الشجر ليقيها البرد- فسمى ع تلك المواطن الشريفة المقدسة العالية- التي فوق الفلك حظائر القدس- و القدس بتسكين الدال و ضمها الطهر- و التقديس التطهير و تقدس تطهر- و الأرض المقدسة المطهرة و بيت المقدس أيضا- و النسبة إليه قدسي و مقدسي و السترات جمع سترة- و الرجيج الزلزلة و الاضطراب و منه ارتج البحر- و تستك الأسماع تنسد قال النابغة-
و نبئت خير الناس أنك لمتني
و تلك التي تستك منها المسامع
سبحات النور بضم السين و الباء- عبارة عن جلالة الله تعالى و عظمته- و تردع الأبصار تكفها و خاسئة أي سادرة- و منه يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ- و خسا بصره خسا و خسوءا أي سدر- . و قوله على حدودها أي تقف حيث تنتهي قوتها- لأن قوتها متناهية فإذا بلغت حدها وقفت- و قوله أولي أجنحة من الألفاظ القرآنية- . و قوله لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه- أي لا يدعون الإلهية لأنفسهم- و إن كان قوم من البشر يدعونها لهم- و قوله لا يدعون أنهم يخلقون شيئا معه مما انفرد به- فيه إشارة إلى مذهب أصحابنا- في أن أفعال العباد مخلوقة لهم لأن فائدة هذا القيد- و هو قوله انفرد به إنما تظهر بذلك- . و أما الآيات المقدسة فالرواية المشهورة مُكْرَمُونَ- و قرئ مكرمون بالتشديد- و قرئ لا يسبقونه بالضم و المشهور القراءة بالكسر- و المعنى أنهم يتبعون قوله و لا يقولون شيئا حتى يقوله- فلا يسبق قولهم قوله و أراد أن يقول لا يسبقونه بقولهم- فحذف الضمير المضاف إليه و أناب اللام منابه- .
ثم قال و هم بأمره يعملون- أي كما أن قولهم تابع لقوله- فعملهم أيضا كذلك فرع على أمره- لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به-و جاء في الخبر المرفوع عن رسول الله ص أنه رأى جبرائيل ليلة المعراج ساقطا- كالحلس من خشية الله- و الحلس الكساء الخفيف- . و الزائغ العادل عن الطريق- و الإخبات التذلل و الاستكانة- و أبوابا ذللا أي سهلة وطيئة و منه دابة ذلول- و تماجيده الثناء عليه بالمجد- و المؤصرات المثقلات و الإصر الثقل- . و تقول ارتحلت البعير أي ركبته- و العقبة النوبة و الجمع عقب- و معنى قوله و لم ترتحلهم عقب الليالي و الأيام- أي لم تؤثر فيهم نوبات الليالي و الأيام و كرورها- كما يؤثر ارتحال الإنسان البعير في ظهره- و نوازعها شهواتها النازعة المحركة- و روي نوازغها بالغين المعجمة من نزع بينهم أي أفسد- .
و لم تعترك الظنون- أي لم تزدحم الظنون على يقينهم الذي عقدوه- . و الإحن جمع إحنة و هي الحقد- يقول لم تقدح قوادح الحقد في ضمائرهم- . و ما لاق أي ما التصق- و أثناء صدورهم جمع ثني و هي التضاعيف- و الرين الدنس و الغلبة- قال تعالى كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ- . و تقترع من الاقتراع بالسهام- بأن يتناوب كل من الوساوس عليها- و يروى فيفترع بالفاء أي تعلو برينها فرعه أي علاه- . و الغمام جمع غمامة و هي السحابة و الدلح الثقال- جاء يدلح بجملة أي جاء مثقلا به- و الجبال الشمخ العالية الشاهقة- . و قوله في قترة الظلام أي سواده- و الأيهم لا يهتدى فيه و منه فلاة يهماء- و التخوم بضم التاء جمع تخم- و هو منتهى الأرض أو القرية مثل فلس و فلوس- و يروى تخوم بفتح التاء على أنها واحد- و الجمع تخم مثل صبور و صبر- . و ريح هفافة أي ساكنة طيبة- يقول كان أقدامهم التي خرقت الهواء إلى حضيض الأرض- رايات بيض تحتها ريح ساكنة ليست مضطربة- فتموج تلك الرايات- بل هي ساكنة تحبسها حيث انتهت-
و جاء في الخبر أن لإسرافيل جناحين- أحدهما في أقصى المشرق و الآخر في أقصى المغرب- و أن العرش على كاهله- و أنه ليتضاءل أحيانا لعظمة الله- حتى يعود مثل الوضع و هو العصفور- .
ثم قال قد استفرغتهم أشغال عبادته تعالى- أي جعلتهم فارغين إلا منها- و يروى و وسلت حقائق الإيمان بالسين المشددة- يقال وسل فلان إلى ربه وسيلة و الوسيلة ما يتقرب به- و الجمع وسيل و وسائل- و يقال وسلت إليه و توسلت إليه بمعنى- . و سويداوات القلوب جمع سويداء و هي حبة القلب- و الوشيجة في الأصل عرق الشجرة و هي هنا استعارة- و حنيت ضلعي أي عوجتها و الربق جمع ربقة و هي الحبل- . قوله و لم يتولهم الإعجاب أي لم يستول عليهم- و الدءوب الجد و الاجتهاد و الأسلات جمع أسلة- و هي طرف اللسان و مستدقه- و الجؤار الصوت المرتفع و الهمس الصوت الخفي- يقول ليست لهم أشغال خارجة عن العبادة- فيكون لأجلها أصواتهم المرتفعة خافية ساكنة- لا تعدو من عدا عليه إذا قهره و ظلمه و هو هاهنا استعارة- .
و لا تنتضل الخدائع في هممهم استعارة أيضا من النضال- و هو المراماة بالسهام و ذو العرش هو الله تعالى- و هذه لفظة قرآنية- قال سبحانه إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا- يعني لابتغوا إلى الله تعالى سبيلا- و قال تعالى ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ- و الاستهتار مصدر استهتر فلان بكذا أي لازمه و أولع به- . و قوله فينوا أي فيضعفوا وني يني- و الجد الاجتهاد و الانكماش- . ثم قال إنهم لا يستعظمون عبادتهم- و لو أن أحدا منهم استعظم عبادته لأذهب خوفه رجاءه- الذي يتولد من استعظام تلك العبادة- يصفهم بعظم التقوى- . و الاستحواذ الغلبة و الغل الحقد- و تشعبتهم تقسمتهم و فرقتهم- و منه قيل للمنية شعوب أي مفرقة- و أخياف الهمم أي الهمم المختلفة و أصله من الخيف- و هو كحل إحدى العينين دون الأخرى- و منه المثل الناس أخياف أي مختلفون و الإهاب الجلد- و الحافد المسرع و منه الدعاء- اللهم إليك نسعى و نحفد- .
و اعلم أنه ع إنما كرر و أكد صفاتهم بما وصفهم به- ليكون ذلك مثالا يحتذي عليه أهل العرفان من البشر- فإن أعلى درجات البشر أن يتشبه بالملك- و خلاصة ذلك أمور- . منها العبادة القائمة- . و منها ألا يدعى أحد لنفسه الحول و القوة بل لا حول و لا قوة- . و منها أن يكون متواضعا ذا سكينة و وقار- . و منها أن يكون ذا يقين لا تقدح فيه الشكوك و الشبهات- . و منها ألا يكون في صدره إحنة على أحد من الناس- . و منها شدة التعظيم و الهيبة لخالق الخلق تبارك اسمه- . و منها أن تستفرغه أشغال العبادة له عن غيرها من الأشغال- .
و منها أنه لا تتجاوز رغباته مما عند الله تعالى- إلى ما عند غيره سبحانه- . و منها أن يعقد ضميره و قلبه على محبة الله تعالى- و يشرب بالكأس الروية من حبه- . و منها عظم التقوى بحيث يأمن كل شيء عدا الله- و لا يهاب أحدا إلا الله- . و منها- الخشوع و الخضوع و الإخبت و الذل لجلال عزته سبحانه- . و منها ألا يستكثر الطاعة و العمل و إن جل و عظم- . و منها عظم الرجاء الواقع في مقابلة عظم الخوف- فإن الله تعالى يحب أن يرجى كما يحب أن يخاف
أبحاث تتعلق بالملائكة
و اعلم أنه يجب أن تعلم أبحاث متعددة- تتعلق بالملائكة و يقصد فيها قصد حكاية المذهب خاصة- و نكل الاحتجاج و النظر- إلى ما هو مذكور في كتبنا الكلامية- . البحث الأول في وجود الملائكة- قال قوم من الباطنية السبيل إلى إثبات الملائكة- هو الحس و المشاهدة- و ذلك أن الملائكة عندهم أهل الباطن- . و قالت الفلاسفة هي العقول المفارقة- و هي جواهر مجردة عن المادة- لا تعلق لها بالأجسام تدبيرا- و احترزوا بذلك عن النفوس- لأنها جواهر مفارقة إلا أنها تدبر الأبدان- و زعموا أنهم أثبتوها نظرا- . و قال أصحابنا المتكلمون الطريق إلى إثبات الملائكة- الخبر الصادق المدلول على صدقه- و في المتكلمين من زعم أنه أثبت الملائكة بطريق نظري- و هو أنه لما وجد خلقا من طين- وجب في العقل أن يكون في المخلوقات خلق من الهواء- و خلق من النار فالمخلوق من الهواء هو الملك- و المخلوق من النار الشيطان- .
البحث الثاني في بنية الملائكة و هيئة تركيبهم- قال أصحابنا المتكلمون أن الملائكة أجسام لطاف- و ليسوا من لحم و دم و عظام كما خلق البشر من هذه الأشياء- و قال أبو حفص المعود القرينسي من أصحابنا- إن الملائكة من أجسام من لحم و عظم- إنه لا فرق بينهم و بين البشر- و إنما لم يروا لبعد المسافة بيننا و بينهم- . و قد تبعه على هذا القول جماعة من معتزلة ما وراء النهر- و هي مقالة ضعيفة لأن القرآن يشهد بخلافه في قوله- وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ- و قوله إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ- عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ- فلو كانوا أجساما كثيفة كأجسامنا لرأيناهم- . البحث الثالث في تكليف الملائكة- حكى عن قوم من الحشوية- أنهم يقولون إن الملائكة مضطرون الله جميع أفعالهم- و ليسوا مكلفين- .
و قال جمهور أهل النظر إنهم مكلفون- . و حكى عن أبي إسحاق النظام- إنه قال إن قوما من المعتزلة قالوا- إنهم جبلوا على الطاعة لمخالفة خلقهم خلقة المكلفين- و أنهم قالوا لو كانوا مكلفين- لم يؤمن أن يعصوا فيما أمروا به- و قد قال تعالى لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ- وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ- . و قال قوم إن أكثر الملائكة مكلفون- و إن فيهم من ليس بمكلف بل هو مسخر للملائكة المكلفين- كما أن الحيوانات ما هو غير مكلف- بل هو مسخر للبشر و مخلوق لمصالحهم- . قالوا و لا ننكر أن يكون الملائكة الذين ذكر منهم- أنهم غلظ الأجسام و عظم الخلق و التركيب- بحيث تبلغ أقدامهم إلى قرار الأرض- قد جعلوا عمدا للسموات و الأرض- فهم يحملونها بمنزلة الأساطين- التي تحمل السقوف العالية- و لم يرشحوا لأمر من الأمور سوى ذلك- . البحث الرابع فيما يجوز من الملائكة و ما لا يجوز- قال شيخنا أبو القاسم حكى أبو الحسن الخياط- عن قدماء المعتزلة أنه لا يجوز أن يعصي أحد من الملائكة- و لم يذكر عنهم علة في ذلك- .
و قال قوم إنهم لا يعصون و لا يجوز أن يعصوا- لأنهم غير مطيقين الشهوة و الغضب- فلا داعي لهم إلى المعصية- و الفاعل لا يفعل إلا بداع إلى الفعل- . و قال قوم إنهم لا يعصون- لأنهم يشاهدون من عجائب صنع الله و آثار هيبته- ما يبهرهم عن فعل المعصية و القصد إليها- و كذلك قال تعالى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ- . و قال قوم إنما لم يجز أن يعصوا- لأن الله تعالى أخبر عنهم أنهم لا يعصون- و لا ينكر مع ذلك أن يكون منهم من يتغير حاله- و يتبدل بها حالة أخرى و يعصي- على ما ورد من خبر الملكين ببابل و خبر إبليس- و إنما يسلب عنهم المعصية- ما داموا على حالهم التي هي عليها- .
و قال شيوخنا أصحاب أبي هاشم رحمه الله تعالى- إن المعصية تجوز عليهم كما تجوز علينا- إلا أن الله تعالى علم أن لهم ألطافا- يمتنعون معها من القبيح لفعلها- فامتنعوا من فعل القبيح اختيارا- فكانت حالهم كحال الأنبياء من البشر- يقدرون على المعصية و لا يفعلونها-اختيارا من أنفسهم باعتبار الألطاف المفعولة لهم- و لو كان لإبليس أو فرعون أو نمرود ألطاف- يعلم الله تعالى إذا فعلها فعلوا الواجب- و امتنعوا من فعل القبيح لفعلها بهم- و لكانوا معصومين كالأنبياء و الملائكة- لكنه تعالى علم أنهم لا يؤمنون و لو فعل مهما فعل- فلا لطف في المعلوم و هذا عندهم حكم- عام لجميع المكلفين من الإنس و الجن و الملائكة- .
البحث الخامس في أن أي القبيلين أفضل- الملائكة أو الأنبياء- قال أصحابنا نوع الملائكة أفضل من نوع البشر- و الملائكة المقربون أفضل من نوع الأنبياء- و ليس كل ملك عند الإطلاق أفضل من محمد ص- بل بعض المقربين أفضل منه- و هو ع أفضل من ملائكة أخرى غير الأولين- و المراد بالأفضل الأكثر ثوابا- و كذلك القول في موسى و عيسى و غيرهما من الأنبياء- و الذي يحكيه قوم من أرباب المقالات- أن المعتزلة قالوا إن أدنى ملك في السماء- أفضل من محمد ص ليس بصحيح عنهم- . و قال أهل الحديث و الأشعرية- أن الأنبياء أفضل من الملائكة- . و قال الشيعة الأنبياء أفضل من الملائكة- و الأئمة أفضل من الملائكة- .
و قال قوم منهم و من الحشوية- إن المؤمنين أفضل من الملائكة- . البحث السادس في قدم الملائكة و حدوثهم- أما الفلاسفة القائلون بأنهم العقول المفارقة- فإنهم يذهبون إلى قدم الملائكة- .و قال غيرهم من أهل الملل إنهم محدثون- . و قال قوم من متأخري الحكماء- إن نفوس البشر إذا فارقت الأبدان بالموت- بقيت قائمة بأنفسها غير مدبرة لشيء من الأبدان- فإن كانت خيرة صالحة فهي الملائكة-و إن كانت شريرة رديئة الجوهر فهي الشياطين- فالملائكة عند هؤلاء محدثون- و عندهم أن هذه النفوس تساعد نفوسا أخرى- متعلقة بتدبير الأبدان أما على الخير أو على الشر- فما ينسب في الكتب الإلهية- إلى إغواء الشياطين للناس و إضلالهم- فالمراد به تلك النفوس الشريرة و ما ينسب فيها- إلى إعانة الملائكة لهم على الخير و الصلاح- فالمراد به تلك النفوس الخيرة- . البحث السابع في إبليس أ هو من الملائكة أو ليس منها- قال شيخنا أبو عثمان و جماعة من أصحابنا- إنه من الملائكة و لذلك استثناه الله تعالى- فقال فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ- .
و قال قوم إنه كان من الملائكة بدلالة هذه الآية- لكن الله مسخه حيث خالف الأمر- فهو بعد المسخ خارج عن الملائكة- و قد كان قبل ذلك ملكا- قالوا و معنى قوله كانَ مِنَ الْجِنِّ أي من خزان الجنة- و روي ذلك عن ابن عباس- قالوا و يحمل على معناه أنه صار من الجن- فيكون كان بمعنى صار- كقوله تعالى كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أي من صار- لأنها لو كانت كان على حقيقتها- لوجب إلا يكلم بعضهم بعضا- لأنهم كانوا صبيانا في المهود- . قالوا و معنى صيرورته من الجن صيرورته ضالا- كما أن الجن ضالون لأن الكفار بعضهم من بعض- كما قال تعالى الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ- .
و قال معظم أصحابنا إن إبليس ليس من الملائكة- و لا كان منها و إنما استثناه الله تعالى منهم- لأنه كان مأمورا بالسجود معهم- فهو مستثنى من عموم المأمورين بالسجود- لا من خصوص الملائكة- . البحث الثامن في هاروت و ماروت- هل هما من الملائكة أم لا- قال جمهور أصحابنا إنهما من الملائكة- و إن القرآن العظيم قد صرح بذلك في قوله- وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ- و إن الذي أنزل عليهما هو علم السحر- ابتلاء من الله تعالى للناس- فمن تعلمه منهم و عمل به كان كافرا- و من تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به و لكن ليتوقاه كان مؤمنا- قالوا و ما كان هذان الملكان يعلمان أحدا- حتى ينبهاه و ينهياه و ينصحاه- و يقولا له إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي ابتلاء و اختبار من الله- فَلا تَكْفُرْ و لا تتعلمه معتقدا أنه حق- .
و حكى عن الحسن البصري- أن هاروت و ماروت علجان أقلفان من أهل بابل- كانا يعلمان الناس السحر- و قرأ الحسن على الملكين ببابل بكسر اللام- . و قال قوم كانا من الملائكة- فعصيا الله تعالى بالحيف في الحكومة- و قد كان استقضاهما في الأرض- و ركب فيهما الشهوة و الغضب- على نحو ما ركب في البشر امتحانا لهما- لأنهما قد كانا عيرا البشر بالمعصية- فلما عصيا حبسهما الله تعالى و عاقبهما بعذاب معجل- و ألهمهما كلاما إذا تكلما به سكن بعض ما بهما من الألم- و إن السحرة يستمعون ذلك الكلام فيحفظونه- و يفرقون به بين المرء و زوجه- فإنهما يتقدمان إلى من يحضرهما- عند ما يتكلمان بالزجر عن العمل بذلك الكلام- و يقولان إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ- و هما لم يكفرا و لا دعوا إلى السحر- و إن عذابهما سيقطع و قد جاء في الأخبار ما يوافق هذا- .
و قال قوم من الحشوية إنهما شربا الخمر و قتلا النفس- و زنيا بامرأة اسمها باهيد فمسخت- و هي الزهرة التي في السماء وَ مِنْهَا فِي صِفَةِ الْأَرْضِ وَ دَحْوِهَا عَلَى الْمَاءِ- كَبَسَ الْأَرْضَ عَلَى مَوْرِ أَمْوَاجٍ مُسْتَفْحِلَةٍ- وَ لُجَجِ بِحَارِ زَاخِرَةٍ تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ أَمْوَاجِهَا- وَ تَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِهَا- وَ تَرْغُو زَبَدًا كَالْفُحُولِ عِنْدَ هِيَاجِهَا- فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلَاطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا- وَ سَكَنَ هَيْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ بِكَلْكَلِهَا- وَ ذَلَّ مُسْتَخْذِياً إِذْ تَمَعَّكَتْ عَلَيْهِ بِكَوَاهِلِهَا- فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ سَاجِياً مَقْهُوراً- وَ فِي حَكَمَةِ الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِيراً- وَ سَكَنَتِ الْأَرْضُ مَدْحُوَّةً فِي لُجَّةِ تَيَّارِهِ- وَ رَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأْوِهِ وَ اعْتِلَائِهِ وَ شُمُوخِ أَنْفِهِ وَ سُمُوِّ غُلَوَائِهِ- وَ كَعَمَتْهُ عَلَى كِظَّةِ جَرْيَتِهِ فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ- وَ لَبَدَ بَعْدَ زَيَفَانِ وَثَبَاتِهِ- فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا- وَ حَمَلَ شَوَاهِقَ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ الْبُذَّخِ عَلَى أَكْتَافِهَا- فَجَّرَ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ مِنْ عَرَانِينِ أُنُوفِهَا- وَ فَرَّقَهَا فِي سُهُوبِ بِيدِهَا وَ أَخَادِيدِهَا- وَ عَدَّلَ حَرَكَاتِهَا بِالرَّاسِيَاتِ مِنْ جَلَامِيدِهَا- وَ ذَوَاتِ الشَّنَاخِيبِ الشُّمِّ مِنْ صَيَاخِيدِهَا- فَسَكَنَتْ مِنَ الْمَيَدَانِ لِرُسُوبِ الْجِبَالِ فِي قِطَعِ أَدِيمِهَا- وَ تَغَلْغُلِهَا مُتَسَرِّبَةً فِي جَوْبَاتِ خَيَاشِيمِهَا- وَ رُكُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الْأَرَضِينَ وَ جَرَاثِيمِهَا- وَ فَسَحَبَيْنَ الْجَوِّ وَ بَيْنَهَا وَ أَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاكِنِهَا- وَ أَخْرَجَ إِلَيْهَا أَهْلَهَا عَلَى تَمَامِ مَرَافِقِهَا- ثُمَّ لَمْ يَدَعْ جُرُزَ الْأَرْضِ- الَّتِي تَقْصُرُ مِيَاهُ الْعُيُونِ عَنْ رَوَابِيهَا- وَ لَا تَجِدُ جَدَاوِلُ الْأَنْهَارِ ذَرِيعَةً إِلَى بُلُوغِهَا- حَتَّى أَنْشَأَ لَهَا نَاشِئَةَ سَحَابٍ تُحْيِي مَوَاتَهَا- وَ تَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا- أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِ لُمَعِهِ وَ تَبَايُنِ قَزَعِهِ- حَتَّى إِذَا تَمَخَّضَتْ لُجَّةُ الْمُزْنِ فِيهِ وَ الْتَمَعَ بَرْقُهُ فِي كُفَفِهِ- وَ لَمْ يَنَمْ وَمِيضُهُ فِي كَنَهْوَرِ رَبَابِهِ وَ مُتَرَاكِمِ سَحَابِهِ- أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِكاً قَدْ أَسَفَّ هَيْدَبُهُ- يَمْرِي الْجَنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِيبِهِ وَ دُفَعَ شآبِيبِهِ- .
فَلَمَّا أَلْقَتِ السَّحَابُ بَرْكَ بِوَانَيْهَا- وَ بَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْءِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهَا- أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الْأَرْضِ النَّبَاتَ- وَ مِنْ زُعْرِ الْجِبَالِ الْأَعْشَابَ فَهِيَ تَبْهَجُ بِزِينَةِ رِيَاضِهَا- وَ تَزْدَهِي بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْطِ أَزَاهِيرِهَا- وَ حِلْيَةِ مَا سُمِطَتْ بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا- وَ جَعَلَ ذَلِكَ بَلَاغاً لِلْأَنَامِ وَ رِزْقاً لِلْأَنْعَامِ- وَ خَرَقَ الْفِجَاجَ فِي آفَاقِهَا- وَ أَقَامَ الْمَنَارَ لِلسَّالِكِينَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا كبس الأرض أي أدخلها في الماء بقوة و اعتماد شديد- و يقال لضرب من التمر الكبيس- لأنه يكبس حتى يتراص- و المور مصدر مار أي ذهب و جاء- و مستفحلة هائجة هيجان الفحول- و استفحل الأمر تفاقم و اشتد- و زاخرة زخر الماء أي امتد جدا و ارتفع- . و الأواذي جمع آذي و هو الموج و تصطفق يضرب بعضها بعضا- و الأثباج هاهناأعالي الأمواج- و أصل الثبج ما بين الكاهل إلى الظهر- فنقل إلى هذا الموضع استعارة- .
و ترغو تصوت صوت البعير- و الرغاء صوت ذات الخف- و في المثل كفى برغائها مناديا- أي أن رغاء بعير المضيف- يقوم مقام ندائه للضيافة و القرى- و زبدا على هذا منصوب بفعل مقدر- تقديره و ترغو قاذفة زبدا- و الزبد ما يظهر فوق السيل- يقال قد أزبد البحر و السيل- و بحر مزبد أي مالح يقذف بالزبد- و الفحول عند هياجها فحول الإبل إذا هاجت للضراب- . و جماح الماء صعوده و غليانه و أصله من جماح الفرس- و هو أن يعز فارسه و يغلبه- و الجموح من الرجال الذي يركب هواه فلا يمكن رده- و خضع ذل و هيج الماء اضطرابه هاج هيجا و هياجا و هيجانا- و اهتاج و تهيج كله بمعنى أي ثار- و هاجه غيره يتعدى و لا يتعدى- و هيج ارتمائه يعنى تقاذفه و تلاطمه- يقال ارتمى القوم بالسهام و بالحجارة ارتماء- و كلكلها صدرها و جاء كلكل و كلكال- و ربما جاء في ضرورة الشعر مشددا قال-
كأن مهواها على الكلكل
موضع كفي راهب مصلى
و المستخذي الخاضع و قد يهمز- و قيل لأعرابي في مجلس أبي زيد- كيف تقول استخذأت ليتعرف منه الهمزة- فقال العرب لا تستخذئ و همزه و أكثر ما يستعمل ملينا- و أصله من خذا الشيء يخذو و خذوا أي استرخى- و يجوز خذي بكسر الذال- و أذن خذواء بينة الخذاء أي مسترخية- . و تمعكت تمرغت مستعار من تمعك الدابة في الأرض- و قالوا معكت الأديم أي دلكته و كواهلها جمع كاهل- و هو ما بين الكتفين و يسمى الحارك- .
و اصطخاب أمواجه افتعال من الصخب- و هو الصياح و الجلبة يقال صخب الرجل فهو صخبان- و اصطخب افتعل منه قال-إن الضفادع في الغدران تصطخب- . و الساجي الساكن- و الحكمة ما أحاط من اللجام بحنك الدابة- و كانت العرب تتخذها من القد و الأبق- لأن الزينة لم تكن قصدهم قال زهير-
القائد الخيل منكوبا دوابرها
قد أحكمت حكمات القد و الأبقا
و استعار الحكمة هاهنا- فجعل للذل حكمة ينقاد الماء بها و يذل إليها- . و مدحوة مبسوطة قال تعالى وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها- و يجوز أن تكون مدحوة هاهنا بمعنى مقذوفة مرمية- يقال دحوت الحصاة أي قذفتها- و يقال للاعب الجوز ادح و أبعد المدى- و التيار أعظم الموج و لجته أعمقه- و البأو الكبر و الفخر- تقول بأوت على القوم أبأى بأوا قال حاتم-
فما زادنا بأوا على ذي قرابة
غنانا و لا أزرى بأحسابنا الفقر
و هذا الكلام استعارة- يقال كسرت الأرض سورة الماء الجامح- كما تكسر سورة بأو الرجل المتكبر المفتخر- و الاعتلاء التيه و التكبر و الشموخ العلو- مصدر شمخ بأنفه أي تكبر- و الجبال الشوامخ الشاهقة و السمو العلو- و سمو علوائه أي غلوه و تجاوزه الحد- .
و كعمته أي شددت فمه لما هاج- من الكعام و هو شيء يجعل في فم البعير و بعير مكعوم- . و الكظة الجهد و الثقل- الذي يعتري الإنسان عند الامتلاء من الطعام- يقول كعمت الأرض الماء حال كونه مكظوظا- لشدة امتلائه و كثرته و ازدحام أمواجه- فهمد أي سكن همدت النار تهمد بالضم همودا- أي طفئت و ذهبت البتة و الخمود دون الهمود- و النزقات الخفة و الطيش نزق الرجل بالكسر- ينزق نزقا و النزقات الدفعات من ذلك- . و لبد الشيء بالأرض يلبد بالضم لبودا- أي لصق بها ساكنا- و الزيفان التبختر في المشي- زاف البعير يزيف و الزيافة من النوق المختالة- و يروى و لبد بعد زفيان وثباته- و الزفيان شدة هبوب الريح- يقال زفته الريح زفيانا أي طردته- و ناقة زفيان سريعة و قوس زفيان سريعة الإرسال للسهم- و أكنافها جوانبها و كنفا الطائر جناحاه- و يقال صلاء مكنف أي أحيط به من جوانبه- و تكنفه القوم و اكتنفوه أحاطوا به- . و الجبال الشواهق العالية و مثله البذخ- و العرنين أول الأنف تحت مجتمع الحاجبين- و الينابيع جمع ينبوع- و هو ما انفجر من الأرض عن الماء- و السهوب جمع سهب و هو الفلاة- و البيد جمع بيداء و هي الفلاة أيضا- . و الأخاديد جمع أخدود و هو الشق في الأرض- قال تعالى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ- و الراسيات الثقال- و الشناخيب رءوس الجبال- و الشم العالية و الجلاميد الصخور واحدها جلمود- و الصياخيد جمع صيخود و هي الصخرة الصلبة- .
و الميدان التحرك و الاضطراب- و ماد الرجل يميد أي تبختر- و رسوب الجبال نزولها رسب الشيء في الماء أي سفل فيه- و سيف رسوب ينزل في العظام- . و قوله في قطع أديمها جمع قطعة- يريد في أجزائها و أبعاضها- و يروى في قطع أديمها بضم القاف و فتح الطاء- جمع قطعة و هي القطعة مفروزة من الأرض- و حكي أن أعرابيا قال ورثت من أبي قطعة- و يروى في قطع أديمها بسكون الطاء- و القطع طنفسة الرحل فنقل ذلك إلى هذا الموضع استعارة- كأنه جعل الأرض ناقة و جعل لها قطعا- و جعل الجبال ثابتة في ذلك القطع- . و أديم الأرض وجهها و ظاهرها- و تغلغل الماء في الشجر دخوله و تخلله في أصوله- .
و عروقه متسربة أي داخلة- تسرب الثعلب أي دخل السرب- و جوبات جمع جوبة و هي الفرجة في جبل أو غيره- و خياشيمها جمع خيشوم و هو أقصى الأنف- و تقول خشمت الرجل خشما أي كسرت خيشومه- و جراثيمها جمع جرثومة و هي أصل الشجر- . و فسح أوسع و متنسما يعني موضع النسيم- و الأرض الجرز التي لا نبات فيها لانقطاع المطر عنها- و هذه من الألفاظ القرآنية- و الروابي التلاع و ما علا من الأرض- و الجداول الأنهار الصغار جمع جدول و الذريعة الوصلة- . و ناشئة سحاب ما يبتدئ ظهوره- و الموات بفتح الميم القفر من الأرض- و اللمع جمع لمعة و هي القطعة من السحاب أو غيره- و تباين قزعه القزع قطع من السحاب رقيقة واحدها قزعة- قال الشاعر
كأن رعاله قزع الجهام
و في الحديث كأنهم قزع الخريف- و تباينها افتراقها و تمخضت تحركت بقوة- يقال تمخض اللبن إذا تحرك في الممخضة- و تمخض الولد تحرك في بطن الحامل- و الهاء في فيه ترجع إلى المزن- أي تحركت لجة المزن في المزن نفسه- أي تحرك من السحاب وسطه و ثبجه- . و التمع البرق و لمع أي أضاء و كففه جمع كفة- و الكفة كالدارة تكون في السحاب- . و كان الأصمعي يقول كل ما استطال فهو كفة بالضم- نحو كفة الثوب و هي حاشيته و كفة الرمل و الجمع كفاف- و كل ما استدار فهو كفة بالكسر نحو كفة الميزان- و كفة الصائد و هي حبالته و الجمع كفف- و يقال أيضا كفة الميزان بالفتح- و الوميض الضياء و اللمعان- .
و قوله لم ينم أي لم يفتر و لم ينقطع- فاستعار له لفظة النوم و الكنهور العظيم من السحاب- و الرباب الغمام الأبيض- و يقال إنه السحاب الذي تراه كأنه دون السحاب- و قد يكون أبيض و قد يكون أسود و هو جمع- و الواحدة ربابة و به سميت المرأة الرباب- . و المتراكم الذي قد ركب بعضه بعضا- و الميم بدل من الباء و سحا صبا و سحابة سحوح- و تسحسح الماء سال و مطر سحساح أي يسح شديدا- و متداركا يلحق بعضه بعضا من غير انقطاع- و أسف دنا من الأرض و هيدبه ما تهدب منه- أي تدلى كما يتدلى هدب العين على أشفارها- و يمري الجنوب و هو بمعنى يحلب و يستدر- و يروى تمريه الجنوب- . على أن يعدى الفعل إلى المفعولين- كما تقول حلبت الناقة لبنا- و يروى تمتري الجنوب و هو بمعنى تمري- من مريت الفرس و امتريته- إذا استخرجت بالسوط ما عنده من الجري- و إنما خص الجنوب بذلك- لأنها الريح التي يكون عليها المطر- و الدرر جمع درة و هي كثرة اللبن و سيلانه و صبه- و الأهاضيب جمع هضاب و الهضاب جمع هضب- و هي حلبات القطر بعد القطر- و الدفع جمع دفعة بالضم- و هي كالدفقة من المطر بالضم أيضا- و الشآبيب جمع شؤبوب و هي رشة قوية من المطر- تنزل دفعة بشدة و البرك الصدر و بوانيها- تثنية بوان على فعال بكسر الفاء و هو عمود الخيمة- و الجمع بون بالضم قال الشاعر-
أصبر من ذي ضاغط عركرك
ألقى بواني زوره للمبرك
و من روى بوانيها أراد لواصقها- من قولك قوص بانية إذا التصقت بالوتر- . و الرواية الأولى أصح- و بعاع السحاب ثقله بالمطر قال إمرؤ القيس-
و ألقى بصحراء الغبيط بعاعه
نزول اليماني بالعياب المثقل
و العبء الثقل و استقلت ارتفعت و نهضت- و هوامد الأرض هي الأرضون التي لا نبات بها- و زعر الجبال جمع أزعر و المراد به قلة العشب و الخلى- و أصله من الزعر و هو قلة الشعر في الرأس قال-
من يك ذا لمة يرجلها
فإنني غير ضائري زعري
و قد زعر الرجل يزعر قل شعره و تبهج تسر و تفرح- تقول بهجني أمر كذا بالفتح و أبهجني معا أي سرني- و من رواه بضم الهاء أراد يحسن و يملح- من البهجة و هي الحسن يقال بهج الرجل بالضم- بهاجة فهو بهيج أي حسن- قال الله تعالى مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ- و تقول قد أبهجت الأرض بالهمزة أي بهج نباتها و حسن- .
و تزدهي أي تتكبر و هي اللغة التي حكاها ابن دريد- قال تقول زها الرجل يزهو زهوا- أي تكبر و على هذه اللغة تقول ازدهى الرجل يزدهي- كما تقول من علا اعتلى يعتلي و من رمى ارتمى يرتمي- و أما من رواها و تزدهى بما ألبسته على ما لم يسم فاعله- فهي اللغة المشهورة تقول زهي فلان علينا- و للعرب أحرف تتكلم بها على سبيل المفعول به- و إن كانت بمعنى الفاعل كقولهم عني بالأمر- و نتجت الناقة فتقول على هذه اللغة فلان يزدهى بكذا- . و الريط جمع ريطة و هي الملاءة غير ذات لفقين- و الأزاهير النور ذو الألوان- . و سمطت به علق عليها السموط جمع سمط و هو العقد- و من رواه شمطت بالشين المعجمة- أراد ما خالط سواد الرياض من النور الأبيض- كالأقحوان و نحوه فصارت الرياض كالشعر الأشمط- و الناضر ذو النضارة و هي الحسن و الطراوة- . و بلاغا للأنام أي كفاية و الآفاق النواحي و المنار الأعلام
فصول متنوعة تتعلق بالخطبة
و ينبغي أن نتكلم في هذا الموضع في فصول- . الفصل الأول في كيفية ابتداء خلق الأرض- . ظاهر كلام أمير المؤمنين ع أن الماء خلق قبل الأرض- و قد ذكرنا فيما تقدم أنه قول لبعض الحكماء- و أنه موافق لما في التوراة- إلا أن في كلامه ع في هذا الموضع إشكالا- و ذلك أن لقائل أن يقول- كلامه يشعر بأن هيجان الماء و غليانه و موجه-سكن بوضع الأرض عليه- و هذا خلاف ما يشاهد و خلاف ما يقتضيه العقل- لأن الماء الساكن إذا جعل فيه جسم ثقيل- اضطرب و تموج و صعد علوا- فكيف الماء المتموج يسكن بطرح الجسم الثقيل فيه- . و الجواب أن الماء إذا كان تموجه من قبل ريح هائجة- جاز أن يسكن هيجانه بجسم يحول بينه و بين تلك الريح- و لذلك إذا جعلنا في الإناء ماء- و روحناه بمروحة تموجه فإنه يتحرك- فإن جعلنا على سطح الماء جسما يملأ حافات الإناء- و روحنا بالمروحة فإن الماء لا يتحرك- لأن ذلك الجسم قد حال بين الهواء- المجتلب بالمروحة و بين سطح الماء- فمن الجائز أن يكون الماء الأول هائجا لأجل ريح محركة له- فإذا وضعت الأرض عليه- حال بين سطح الماء و بين تلك الريح- و قد مر في كلام أمير المؤمنين في الخطبة الأولى- ذكر هذه الريح فقال ريح اعتقم مهبها- و أدام مربها و أعصف مجراها و أبعد منشأها- فأمرها بتصفيق الماء الزخار و إثارة موج البحار- فمخضت مخض السقاء و عصفت به عصفها بالفضاء- . الفصل الثاني في بيان قوله ع- فلما سكن هيج الماء من تحت أكنافها- و حمل شواهق الجبال البذخ على أكتافها- فجر ينابيع العيون فيها- و عدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها- .
و ذلك لأن العامل في لما- يجب أن يكون أمرا مباينا لما أضيفت إليه- مثاله لما قام زيد قام عمرو- فقام الثانية هي العاملة في لما- فيجوز أن تكون أمرا مباينا لما أضيف لما إليه- و هو قيام زيد و هاهنا قد قال ع- لما حمل الله تعالى شواهق الجبال على الأرض- عدل حركات الأرض بالجبال- و معلوم أن أحد الأمرين هو الآخر- . و الجواب أنه ليس أحد الأمرين هو الآخر بعينه- بل الثاني معلول الأول و موجب عنه- لأن الأول هو حمل الجبال عليها- و الثاني تعديل حركاتها بالجبال المحمول عليها- فكأنه قال حمل عليها الجبال- فاقتضى ذلك الحمل تعديل حركاتها- و معلوم أن هذا الكلام منتظم- .
الفصل الثالث في قوله إن الجبال هي المسكنة للأرض- . فنقول إن هذا القول يخالف قول الحكماء- لأن سكون الأرض عند الحكماء لم يكن لذلك- بل لأنها تطلب المركز و هي حاصلة في حيزها الطبيعي- لكنا و إن كان مخالفا لقول الحكماء- فإنا نعتقده دينا و مذهبا- و نعدل عن قول الحكماء- لأن اتباع قوله ع أولى من اتباع أقوالهم- . الفصل الرابع في ذكر نظائر- لما وصف به المطر و السحاب- . فمن ذلك ما رواه عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه- قال سئل أعرابي عن مطر- فقال استقل سد مع انتشار الطفل فشصا و احزأل- ثم اكفهرت أرجاؤه و احمومت ارحاؤه- و انزعرت فوارقه و تضاحكت بوارقه و استطار وادقه- و أرسعت جوبه و ارتعن هيدبه و حسكت أخلافه- و استقلت أردافه و انتشرت أكنافه- فالرعد يرتجس و البرق يختلس و الماء ينبجس- فأترع الغدر و أنبت الوجر و خلط الأوعال بالآجال- و قرن الصيران بالرئال فللأودية هدير- و للشراج خرير و للتلاع زفير- و حط النبع و العنم من القلل الشم إلى القيعان الصحم- فلم يبق في القلل إلا معصم مجرنثم أو داحض محرجم- و ذلك من فضل رب العالمين على عباده المذنبين- .
قلت السد السحاب الذي يسد الأفق و أصل الجبل- و الطفل اختلاط الظلام و انتشاره حال غروب الشمس- و شصا ارتفع و علا و احزأل انتصب- و اكفهرت أرجاؤه غلظت نواحيه و جوانبه- و تراكمت و احمومت اسودت مع مخالطة حمرة- و أرجاؤه أوساطه و انزعرت تفرقت- و الفوارق قطع من السحاب تتفرق عنه مثل فرق الإبل- و هي النوق إذا أرادت الولادة فارقت الإبل- و بعدت عنها حيث لا ترى- و تضاحكت بوارقه لمعت و استطار انتشر- و الوادق ذو الودق و هو مطر كبار- و أرسعت جوبه أي تلاءمت فرجه و التحمت- و ارتعن استرخى و هيدبه ما تدلى منه- و حسكت أخلافه امتلأت ضروعه و أرادفه مآخره- و أكنافه نواحيه و يرتجس يصوت و الرجس الصوت- و يختلس يستلب البصر و ينبجس ينصب- فأترع الغدر ملأها جمع غدير- و أنبت الوجر حفرها جمع وجار و هو بيت الضبع- و الآجال جمع إجل و هو قطيع البقر و الصيران مثله- جمع صوار و الرئال جمع رأل و هو فرخ النعام- و الهدير الصوت و الشراج جمع شرج- و هو مسيل الماء إلى الحرة و خرير الماء صوته- و زفير التلاع أن تزفر بالماء لفرط امتلائها- و النبع شجر و العنم شجر آخر- و كلاهما لا ينبت إلا في رءوس الجبال- و الشم العالية و الصحم السود التي تضرب إلى الصفرة- و المعصم المعتصم الملتجئ و المجرنثم المتقبض- و الداحض الزالق الواقع و المحرجم المصروع- . و من ذلك ما رواه أبو حاتم عن الأصمعي- قال سألت أعرابيا من بني عامر بن صعصعة- عن مطر أصاب بلادهم- فقال نشأ عارضا فطلع ناهضا ثم ابتسم وامضا- فاعتن في الأقطار فأشجاها و امتد في الآفاق فغطاها- ثم ارتجس فهمهم ثم دوي فأظلم فأرك و دث و بغش و طش- ثم قطقط فأفرط ثم ديم فأغمط ثم ركد فأثجم ثم وبل فسجم- و جاد فأنعم فقمس الربا- و أفرط الزبى سيعا تباعا يريد انقشاعا- حتى إذا ارتوت الحزون و تضحضحت المتون- ساقه ربك إلى حيث يشاء كما جلبه من حيث شاء- .
قلت العارض سحاب يعترض في الأفق- و اعتن اعترض و أشجاها ملأها فكان كالشجى في حلقها- و ارتجس صوت و الهمهمة صوت الرعد و دوي أحدث دويا- فأظلم أعدم الضوء من الأرض بتكاثفه- فأرك أي مطر ركا و الرك المطر الضعيف- و كذلك الدث و البغش و الطش و فوق ذلك القطقط- و ديم صار ديمة و هي المطر أياما لا يقلع- و أغمط أي دام و أثجم أقام و وبل جاء بالوابل- و هو المطر العظيم و سجم صب- و أنعم بالغ و قمس غوص في الماء و أفرط الزبى ملأها- جمع زبية و هي حفيرة تحفر للوحوش في مكان مرتفع- و الحزون جمع حزن و هو ما غلظ من الأرض- و المتون جمع متن و هو الصلب من الأرض- و تضحضحت صار فوقها ضحضاح من الماء و هو الرقيق- . و من ذلك ما رواه أبو حاتم أيضا عن الأصمعي- قال سألت أعرابيا عن مطر أصابهم بعد جدب- فقال ارتاح لنا ربك بعد ما استولى اليأس على الظنون- و خامر القلوب القنوط- فأنشأ بنوء الجبهة قزعة كالقرص من قبل العين- فاحزألت عند ترجل النهار لأدهم السرار- حتى إذا نهضت في الأفق طالعة- أمر مسخرها الجنوب فتبسمت لها- فانتثرت أحضانها و احمومت أركانها و بسق عنانها- و اكفهرت رحاها و انبعجت كلاها- و ذمرت أخراها أولاها ثم استطارت عقائقها- و ارتعجت بوارقها و تعقعقت صواعقها- ثم ارتعبت جوانبها و تداعت سواكبها و درت حوالبها- فكانت للأرض طبقا شج فهضب- و عم فأحسب فعل القيعان و ضحضح الغيطان- و صوح الأضواج و أترع الشراج- فالحمد لله الذي جعل كفاء إساءتنا إحسانا- و جزاء ظلمنا غفرانا- .
قلت نوء الجبهة محمود عندهم للمطر- و القزعة القطعة الصغيرة من السحاب- و القرص الترس و العين ما عن يمين قبلة العراق- و ترجل النهار انبساط الشمس- و الأدهم أحد ليالي السرار و الأحضان النواحي- و احمومت اسودت و بسق علا- و العنان ما يعترض من السحاب في الأفق- و انبعجت انفتقت و ذمرت حضت- و العقائق البروق و ارتعجت اهتزت و ارتعدت- و طبقا أي غطت الأرض- و هضب جاء بالمطر دفعة فدفعة- و أحسب كفى و عل القيعان سقاها مرة بعد أخرى- و الغيطان جمع غائط و هو ما سفل من الأرض- و صوح الأضواج هدم الأجواف- و أترع الشراج ملأ المسيلات- . و من ذلك ما رواه ابن دريد- عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي- قال سمعت أعرابيا من بني عامر يصف مطرا- قال نشأ عند القصر بنوء الغفر حيا عارضا ضاحكا وامضا- فكلا و لا ما كان حتى شجيت به أقطار الهواء- و احتجبت به السماء ثم أطرق فاكفهر- و تراكم فادلهم و بسق فازلأم- ثم حدت به الريح فخر و البرق مرتعج- و الرعد مبتوج و الحدج مبتعج- فأثجم ثلاثا متحيرا هثهاثا أخلافه حاشكة- و دفعه متواشكة و سوامه متعاركة- ثم ودع منجما و أقلع متهما- محمود البلاء مترع النهاء مشكور النعماء- بطول ذي الكبرياء- . قلت القصر العشي و الغفر من نجوم الأسد- و الحيا الداني من الأرض- .
و قوله كلا و لا أي في زمان قصير جدا- و شجيت به الأقطار صار كالشجى لهاو ازلأم انتصب- و المرتعج المتدارك و المبتوج العالي الصوت- و الحدج السحاب أول ما ينشأ و يتبعج يشقق- و أثجم دام متحيرا أي كأنه قد تحير لا وجه له يقصده- و الهثهاث المداخل و أخلافه حاشكة أي ضروعة ممتلئة- و دفعه متواشكة أي مسرعة و سوامه متعاركة- شبه قطع السحاب بسوام الإبل و منجما مقلعا- و متهما يسير نحو تهامة
الفصل الخامس في بيان أنه ع إمام أرباب صناعة البديع
و ذلك لأن هذا الفن لا يوجد منه في كلام غيره ممن تقدمه- إلا ألفاظ يسيرة غير مقصودة- و لكنها واقعة بالاتفاق- كما وقع التجنيس في القرآن العزيز اتفاقا غير مقصود- و ذلك نحو قوله يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ- و كما وقعت المقابلة أيضا غير مقصودة في قوله- وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِيزانَ- على أنها ليست مقابلة في المعنى بل من اللفظ خاصة- و لما تأمل العلماء شعر إمرئ القيس- و وجدوا فيه من الاستعارة بيتا أو بيتين- نحو قوله يصف الليل-
فقلت له لما تمطى بصلبه
و أردف أعجازا و ناء بكلكل
و قوله-
و إن يك قد ساءتك مني خليقة
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
و لم ينشدوا مثل ذلك في أشعار الجاهلية- حكموا له بأنه إمام الشعراء و رئيسهم- . و هذا الفصل من كلام أمير المؤمنين ع- قد اشتمل من الاستعارة العجيبة- و غيرها من أبواب البديع- على ما لو كان موجودا في ديوان شاعر مكثر أو مترسل مكثر-لكان مستحق التقديم بذلك- أ لا تراه كيف وصف الأمواج بأنها مستفحلة- و أنها ترغو رغاء فحول الإبل- ثم جعل الماء جماحا ثم وصفه بالخضوع- و جعل للأرض كلكلا و جعلها واطئة للماء به- و وصف الماء بالذل و الاستخذاء- لما جعل الأرض متمعكة عليه- كما يتمعك الحمار أو الفرس- و جعل لها كواهل و جعل للذل حكمة- و جعل الماء في حكمة الذل منقادا أسيرا و ساجيا مقهورا- و جعل الماء قد كان ذا نخوة و بأو و اعتلاء- فردته الأرض خاضعا مسكينا و طأطأت من شموخ أنفه- و سمو غلوائه و جعلها كاعمة له- و جعل الماء ذا كظة بامتلائه- كما تعتري الكظة المستكثر من الأكل- ثم جعله هامدا بعد أن كانت له نزقات- و لابدا بعد أن كانت له وثبات- ثم جعل للأرض أكتافا و عرانين و أنوفا و خياشيم- ثم نفى النوم عن وميض البرق- و جعل الجنوب مارية درر السحاب- ثم جعل للسحاب صدرا و بوانا- ثم جعل الأرض مبتهجة مسرورة مزدهاة- و جعل لها ريطا من لباس الزهور و سموطا تحلى بها- فيا لله و للعجب من قوم زعموا- أن الكلام إنما يفضل بعضه بعضا- لاشتماله على أمثال هذه الصنعة- فإذا وجدوا في مائه ورقة كلمتين أو ثلاثا منها- أقاموا القيامة و نفخوا في الصور- و ملئوا الصحف بالاستحسان لذلك و الاستظراف- ثم يمرون على هذا الكلام المشحون كله- بهذه الصنعة على ألطف وجه و أرصع وجه و أرشق عبارة- و أدق معنى و أحسن مقصد- ثم يحملهم الهوى و العصبية على السكوت عن تفضيله- إذا أجملوا و أحسنوا- و لم يتعصبوا لتفضيل غيره عليه على أنه لا عجب- فإنه كلام علي ع و حظ الكلام حظ المتكلم- و أشبه امرأ بعض بزه
الجزء السابع
تتمة الخطب و الأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم- الحمد لله الواحد العدل
تتمة خطبة 90
فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ وَ أَنْفَذَ أَمْرَهُ- اخْتَارَ آدَمَ ع خِيَرَةً مِنْ خَلْقِهِ- وَ جَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ وَ أَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ- وَ أَرْغَدَ فِيهَا أُكُلَهُ- وَ أَوْعَزَ إِلَيْهِ فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ- وَ أَعْلَمَهُ أَنَّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ التَّعَرُّضَ لِمَعْصِيَتِهِ- وَ الْمُخَاطَرَةَ بِمَنْزِلَتِهِ- فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ مُوَافَاةً لِسَابِقِ عِلْمِهِ- فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ- لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ- وَ لِيُقِيمَ الْحُجَّةَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ- وَ لَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ- مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ- وَ يَصِلُ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ- بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ- عَلَى أَلْسُنِ الْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ- وَ مُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالَاتِهِ- قَرْناً فَقَرْناً- حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ص حُجَّتُهُ- وَ بَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذُرُهُ وَ نُذُرُهُ مهد أرضه سواها و أصلحها- و منه المهاد و هو الفراش- و مهدت الفراش بالتخفيف مهدا أي بسطته و وطأته- و قوله خيرة من خلقه على فعلة- مثل عنبة الاسم
من قولك اختاره الله- يقال محمد خيرة الله من خلقه- و يجوز خيرة الله بالتسكين- و الاختيار الاصطفاء- . و الجبلة الخلق و منه قوله تعالى- وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ- وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ- و يجوز الجبلة بالضم- و قرأ بها الحسن البصري- و قرئ قوله سبحانه- وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً على وجوه- فقرأ أهل المدينة بالكسر و التشديد- و قرأ أبو عمرو- جبلا كثيرا مثل قفل- و قرأ الكسائي جبلا كثيرا بضم الباء مثل حلم- و قرأ عيسى بن عمر جبلا بكسر الجيم- و قرأ الحسن و ابن أبي إسحاق- جبلا بالضم و التشديد- . قوله و أرغد فيها أكله- أي جعل أكله و هو المأكول- رغدا أي واسعا طيبا قال سبحانه- وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما- و تقرأ رغدا و رغدا بكسر الغين و ضمها- و أرغد القوم أخصبوا- و صاروا في رغد من العيش- .
قوله و أوعز إليه فيما نهاه عنه- أي تقدم إليه بالإنذار- و يجوز و وعز إليه بالتشديد توعيزا- و يجوز التخفيف أيضا وعز إليه وعزا- . و الواو في و أعلمه عاطفة على و أوعز- لا على نهاه- . قوله موافاة لسابق علمه لا يجوز أن ينتصب- لأنه مفعول له- و ذلك لأن المفعول له يكون عذرا و علة للفعل- و لا يجوز أن يكون إقدام آدم على الشجرة- لأجل الموافاة للعلم الإلهي السابق- و لا يستمر ذلك على مذاهبنا- بل يجب أن ينصب موافاة- علىالمصدرية المحضة- كأنه قال فوافى بالمعصية موافاة- و طابق بها سابق العلم مطابقة- . قوله فأهبطه بعد التوبة- قد اختلف الناس في ذلك- فقال قوم بل أهبطه قبل التوبة- ثم تاب عليه و هو في الأرض- و قال قوم تاب قبل الهبوط- و هو قول أمير المؤمنين ع- و يدل عليه قوله تعالى- فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ- فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ- قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً- فأخبر عن أنه أهبطهم- بعد تلقي الكلمات و التوبة- و قال تعالى في موضع آخر- وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ- وَ ناداهُما رَبُّهُما- أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ- وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ- قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا- وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ- قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ- وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ. فبين أن اعترافهما بالمعصية و استغفارهما- كانا قبل أمرهما بالهبوط- و قال في موضع آخر- وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى- ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى- قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً- فجعل الإهباط بعد الاجتباء و التوبة- و احتج الأولون بقوله تعالى- وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ- فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ- وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ- وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ- فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ- فَتابَ عَلَيْهِ- قالوا فأخبر سبحانه عن أمره لهم- بالهبوط عقيب إزلال الشيطان لهما- ثم عقب الهبوط بفاء التعقيب- في قوله فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ- فدل على أن التوبة بعد الهبوط- .
و يمكن أن يجاب عن هذا- فيقال إنه تعالى لم يقل فقلنا اهبطوا بالفاء- بل قال وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بالواو- و الواو لا تقتضي الترتيب- و لو كان عوضها فاء- لكانت صريحة في أن الإهباط كان عقيب الزلة- فأما الواو فلا تدل على ذلك- بل يجوز أن تكون التوبة قبل الإهباط- و يخبر عن الإهباط بالواو- قبل أن يخبر عن التوبة- . قوله ع و ليقيم الحجة على عباده- أي إذا كان أبوهم أخرج من الجنة- بخطيئة واحدة- فأخلق بها- ألا يدخلها ذو خطايا جمة- و هذا يؤكد مذهب أصحابنا في الوعيد- . ثم أخبر ع- أن البارئ سبحانه ما أخلى عباده بعد قبض آدم و توفيه- مما يؤكد عليهم حجج الربوبية- بل أرسل إليهم الرسل قرنا فقرنا بفتح القاف- و هو أهل الزمان الواحد- قال الشاعر
إذا ما مضى القرن الذي أنت فيهم
و خلفت في قرن فأنت غريب
و تعاهدهم بالحجج أي جدد العهد عندهم بها- و يروى بل تعهدهم بالتشديد- و التعهد التحفظ بالشيء- تعهدت فلانا و تعهدت ضيعتي- و هو أفصح من تعاهدت- لأن التفاعل إنما يكون من شيئين- و تقول فلان يتعهده صرع- . قوله و بلغ المقطع عذره و نذره- مقطع الشيء حيث ينقطع- و لا يبقى خلفه شيء منه- أي لم يزل يبعث الأنبياء واحدا بعد واحد- حتى بعث محمدا ص- فتمت به حجته على الخلق أجمعين- و بلغ الأمر مقطعه أي لم يبق بعده رسول ينتظر-و انتهت عذر الله تعالى و نذره- فعذره ما بين للمكلفين من الإعذار- في عقوبته لهم إن عصوه- و نذره ما أنذرهم به من الحوادث- و من أنذرهم على لسانه من الرسل
القول في عصمة الأنبياء
و اعلم أن المتكلمين اختلفوا في عصمة الأنبياء- و نحن نذكر هاهنا طرفا من حكاية المذاهب- في هذه المسألة على سبيل الاقتصاص و نقل الآراء- لا على سبيل الحجاج- و نخص قصة آدم ع و الشجرة بنوع من النظر- إذ كانت هذه القصة مذكورة- في كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل- فنقول اختلف الناس في المعصوم ما هو- فقال قوم المعصوم هو الذي لا يمكنه الإتيان بالمعاصي- و هؤلاء هم الأقلون أهل النظر- و اختلفوا في عدم التمكن كيف هو- فقال قوم منهم المعصوم هو المختص في نفسه- أو بدنه أو فيهما بخاصية تقضي امتناع إقدامه على المعاصي- . و قال قوم منهم- بل المعصوم مساو- في الخواص النفسية و البدنية لغير المعصوم- و إنما العصمة هي القدرة على الطاعة- أو عدم القدرة على المعصية- و هذا قول الأشعري نفسه- و إن كان كثير من أصحابه قد خالفه فيه- . و قال الأكثرون من أهل النظر- بل المعصوم مختار متمكن من المعصية و الطاعة- . و فسروا العصمة بتفسيرين- أحدهما أنها أمور يفعلها الله تعالى بالمكلف- فتقتضي ألا يفعل المعصية- اقتضاءغير بالغ إلى حد الإيجاب-
و فسروا هذه الأمور فقالوا إنها أربعة أشياء- أولها أن يكون لنفس الإنسان ملكة- مانعة من الفجور داعية إلى العفة- و ثانيها العلم بمثالب المعصية و مناقب الطاعة- و ثالثها تأكيد ذلك العلم- بالوحي و البيان من الله تعالى- و رابعها أنه متى صدر عنه خطأ من باب النسيان و السهو- لم يترك مهملا بل يعاقب و ينبه و يضيق عليه العذر- قالوا فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة- كان الشخص معصوما عن المعاصي لا محالة- لأن العفة إذا انضاف إليها العلم- بما في الطاعة من السعادة و ما في المعصية من الشقاوة- ثم أكد ذلك تتابع الوحي إليه و ترادفه- و تظاهر البيان عنده- و تمم ذلك خوفه من العتاب على القدر القليل- حصل من اجتماع هذه الأمور حقيقة العصمة- . و قال أصحابنا العصمة لطف- يمتنع المكلف عند فعله من القبيح اختيارا- و قد يكون ذلك اللطف خارجا عن الأمور الأربعة المعدودة- مثل أن يعلم الله تعالى أنه إن أنشأ سحابا- أو أهب ريحا أو حرك جسما- فإن زيدا يمتنع عن قبيح مخصوص اختيارا- فإنه تعالى يجب عليه فعل ذلك- و يكون هذا اللطف عصمة لزيد- و إن كان الإطلاق المشتهر في العصمة- إنما هو لمجموع ألطاف- يمتنع المكلف بها عن القبيح مدة زمان تكليفه- . و ينبغي أن يقع الكلام بعد هذه المقدمة في ثلاثة فصول
الفصل الأول في حال الأنبياء قبل البعثة و من الذي يجوز أن يرسله الله تعالى إلى العبادفالذي عليه أصحابنا المعتزلة رحمهم الله- أنه يجب أن ينزه النبي قبل البعثة- عما كان فيه تنفير عن الحق الذي يدعو إليه- و عما فيه غضاضة و عيب- .
فالأول نحو أن يكون كافرا أو فاسقا- و ذلك لأنا نجد التائب العائد إلى الصلاح- بعد أن عهد الناس منه السخف و المجون و الفسق- لا يقع أمره بالمعروف و نهيه عن المنكر- عند الناس موقعهما ممن لم يعهدوه- إلا على السداد و الصلاح- . و الثاني نحو أن يكون حجاما أو حائكا- أو محترفا بحرفه يقذرها الناس- و يستخفون بصاحبها- إلا أن يكون المبعوث إليهم- على خلاف ما هو المعهود الآن- بألا يكون من تعاطى ذلك مستهانا به عندهم- . و وافق أصحابنا في هذا القوم جمهور المتكلمين- .
و قال قوم من الخوارج- يجوز أن يبعث الله تعالى من كان كافرا قبل الرسالة- و هو قول ابن فورك من الأشعرية- لكنه زعم أن هذا الجائز لم يقع- . و قال قوم من الحشوية- قد كان محمد ص كافرا قبل البعثة- و احتجوا بقوله تعالى وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى- و قال برغوث المتكلم و هو أحد النجارية- لم يكن النبي ص مؤمنا بالله قبل أن يبعثه- لأنه تعالى قال له- ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ- . و روي عن السدي في قوله تعالى- وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ- قال وزره الشرك- فإنه كان على دين قومه أربعين سنة- .
و قال بعض الكرامية- في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ص-قالَ أَسْلَمْتُ إنه أسلم يومئذ- و لم يكن من قبل ذلك مسلما- و مثل ذلك قال اليمان بن رباب متكلم الخوارج- . و حكى كثير من أرباب المقالات- عن شيخنا أبي الهذيل و أبي علي- جواز أن يبعث الله تعالى- من قد ارتكب كبيرة قبل البعثة- و لم أجد في كتب أصحابنا- حكاية هذا المذهب عن الشيخ أبي الهذيل- و وجدته عن أبي علي- ذكره أبو محمد بن متويه في كتاب الكفاية- فقال منع أهل العدل كلهم- من تجويز بعثة من كان فاسقا قبل النبوة- إلا ما جرى في كلام الشيخ أبي علي رحمه الله تعالى- من ثبوت فصل بين البعثة و قبلها- فأجاز أن يكون قبل البعثة مرتكبا لكبيرة ثم يتوب- فيبعثه الله تعالى حينئذ- و هو مذهب محكي عن عبد الله بن العباس الرامهرمزي- ثم قال الشيخ أبو محمد رحمه الله تعالى- و الصحيح من قول أبي علي رحمه الله تعالى- مثل ما نختاره من التسوية بين حال البعثة و قبلها- في المنع من جواز ذلك- .
و قال قوم من الأشعرية و من أهل الظاهر و أرباب الحديث- إن ذلك جائز واقع- و استدلوا بأحوال إخوة يوسف- و منع المانعون من ذلك من ثبوت نبوة إخوة يوسف- ثم هؤلاء المجوزون- منهم من جوز عليهم فعل الكبائر مطلقا- و منهم من جوز ذلك على سبيل الندرة ثم يتوبون عنه- و يشتهر حالهم بين الخلق بالصلاح- فأما لو فرضنا إصرارهم على الكبائر- بحيث يصيرون مشهورين بالفسق و المعاصي- فإن ذلك لا يجوز- لأنه يفوت الغرض من إرسالهم و نبوتهم- على هذا التقدير- . و قالت الإمامية- لا يجوز أن يبعث الله تعالى نبيا- قد وقع منه قبيح قبل النبوة-لا صغيرا و لا كبيرا لا عمدا و لا خطأ- و لا على سبيل التأويل و الشبهة- و هذا المذهب مما تفردوا به- فإن أصحابنا و غيرهم من المانعين- للكبائر قبل النبوة- لم يمنعوا وقوع الصغائر منهم- إذا لم تكن مسخفة منفرة- . اطردت الإمامية هذا القول في الأئمة- فجعلت حكمهم في ذلك حكم الأنبياء- في وجوب العصمة المطلقة لهم قبل النبوة و بعدها
الفصل الثاني في عصمة الأنبياء في زمن النبوة عن الذنوب في أفعالهم و تروكهم عدا ما يتعلق بتبليغ الوحي و الفتوى في الأحكام
جوز قوم من الحشوية عليهم هذه الكبائر- و هم أنبياء كالزنا و اللواط و غيرهما- و فيهم من جوز ذلك بشرط الاستسرار دون الإعلان- و فيهم من جوز ذلك على الأحوال كلها- . و منع أصحابنا المعتزلة من وقوع الكبائر منهم ع أصلا- و منعوا أيضا من وقوع الصغائر المسخفة منهم- و جوزوا وقوع الصغائر التي ليست بمسخفه منهم- ثم اختلفوا فمنهم من جوز على النبي- الإقدام على المعصية الصغيرة غير المسخفة عمدا- و هو قول شيخنا أبي هاشم رحمه الله تعالى فإنه أجاز ذلك- و قال إنه لا يقدم ع على ذلك إلا على خوف و وجل- و لا يتجرأ على الله سبحانه- . و منهم من منع من تعمد إتيان الصغيرة- و قال إنهم لا يقدمون على الذنوب التي يعلمونها ذنوبا- بل على سبيل التأويل و دخول الشبهة- و هذا قول أبي علي رحمه الله تعالى- .
و حكى عن أبي إسحاق النظام و جعفر بن مبشر- أن ذنوبهم لا تكون إلا على سبيل السهو و النسيان- و أنهم مؤاخذون بذلك- و إن كان موضوعا عن أمتهم- لأن معرفتهم أقوى- و دلائلهم أكثر و أخطارهم أعظم- و يتهيأ لهم من التحفظ ما لا يتهيأ لغيرهم- . و قالت الإمامية لا تجوز عليهم الكبائر و لا الصغائر- لا عمدا و لا خطأ و لا سهوا- و لا على سبيل التأويل و الشبهة- و كذلك قولهم في الأئمة- و الخلاف بيننا و بينهم في الأنبياء يكاد يكون ساقطا- لأن أصحابنا إنما يجوزون عليهم الصغائر- لأنه لا عقاب عليها- و إنما تقتضي نقصان الثواب المستحق- على قاعدتهم في مسألة الإحباط- فقد اعترف إذا أصحابنا- بأنه لا يقع من الأنبياء ما يستحقون به ذما و لا عقابا- و الإمامية إنما تنفي عن الأنبياء الصغائر و الكبائر- من حيث كان كل شيء منها يستحق فاعله به الذم و العقاب- لأن الإحباط باطل عندهم- فإذا كان استحقاق الذم و العقاب يجب أن ينفى عن الأنبياء- وجب أن ينفى عنهم سائر الذنوب- فقد صار الخلاف إذا متعلقا بمسألة الإحباط- و صارت هذه المسألة فرعا من فروعها- .
و اعلم أن القول بجواز الصغائر على الأنبياء بالتأويل و الشبهة- على ما ذهب إليه شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى- إنما اقتضاه تفسيره لآيه آدم و الشجرة- و تكلفه إخراجها عن تعمد آدم للعصيان- فقال إن آدم نهي عن نوع تلك الشجرة لا عن عينها- بقوله تعالى وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ- و أراد سبحانه نوعها المطلق- فظن آدم أنه أراد خصوصية تلك الشجرة بعينها- و قد كان أشير إليها فلم يأكل منها بعينها- و لكنه أكل من شجرة أخرى من نوعها- فأخطأ في التأويل- و أصحاب شيخنا أبي هاشم لا يرضون هذا المذهب- و يقولون إن الإشكال باق بحاله- لأن آدم أخل بالنظر على هذا القول في أن المنهي عنه- هل هو عين الشجرة أو نوعها- مع أنه قد كان مدلولا على ذلك- لأنه لو لم يكن مدلولا على ذلك- لكان تكليف الامتناع عن التناول تكليف ما لا يطاق- و إذا دل على ذلك وجب عليه النظر- و لا وجه يجب النظر لأجله إلا الخوف من تركه- و إذا لم يكن بد من كونه خائفا- فهو عالم إذا بوجوب هذا التأمل و النظر- فإذا أخل به فقد وقعت منه المعصية مع علمه- .
و كما لا يرضى أصحاب شيخنا أبي هاشم هذا المذهب- فكذلك لا يرتضون مذهب النظام و جعفر بن مبشر- و ذلك لأن القول بأن الأنبياء يؤاخذون- على ما يفعلونه سهوا متناقض- لأن السهو يزيل التكليف- و يخرج الفعل من كونه ذنبا مؤاخذا به- و لهذا لا يصح مؤاخذة المجنون و النائم- و السهو في كونه مؤثرا في رفع التكليف- جار مجرى فقد القدر و الآلات و الأدلة- فلو جاز أن يخالف حال الأنبياء حال غيرهم- في صحة تكليفهم مع السهو- جاز أن يخالف حالهم حال غيرهم- في صحة التكليف مع فقد القدر و الآلات- و ذلك باطل- .
و اعلم أن الشريف المرتضى رحمه الله تعالى- قد تكلم في كتابه المسمى بتنزيه الأنبياء و الأئمة على هذه الآية- و انتصر لمذهب الإمامية فيها- و حاول صرفها عن ظاهرها- و تأول اللفظ بتأويل مستكره غير صحيح- و أنا أحكي كلامه هاهنا- و أتكلم عليه نصرة لأصحابنا- و نصرة أيضا لأمير المؤمنين ع- فإنه قد صرح في هذا الفصل بوقوع الذنب من آدم ع- أ لا ترى إلى قوله و المخاطرة بمنزلته- و هل تكون هذه اللفظة إلا في الذنب- و كذلك سياقة الفصل من أوله إلى آخره- إذا تأمله المنصف و اطرح الهوى و التعصب- ثم إنا نذكر- كلام السيد الشريف المرتضى رحمه الله تعالى- قال رحمه الله تعالى-
أما قوله تعالى وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ- فإن المعصية مخالفة للأمر- و الأمر من الحكيم تعالى قد يكون بالواجب و بالندب معا- فلا يمتنع على هذا أن يكون آدم مندوبا- إلى ترك التناول من الشجرة- فيكون بمواقعتها تاركا فرضا و نفلا- و غير فاعل قبيحا- و ليس يمتنع أن يسمى تارك النفل عاصيا- كما يسمى بذلك تارك الواجب- فإن تسمية من خالف ما أمر به- سواء كان واجبا أو نفلا بأنه عاص ظاهر- و لهذا يقولون أمرت فلانا بكذا و كذا من الخير- فعصاني و خالفني- و إن لم يكن ما أمر به واجبا- . يقال له الكلام على هذا التأويل من وجوه- أولها أن ألفاظ الشرع يجب أن تحمل على حقائقها اللغوية- ما لم يكن لها حقائق شرعية- فإذا كان لها حقائق شرعية- وجب أن تحمل على عرف الشرع و اصطلاحه- كالصلاة و الحج و النفاق و الكفر- و نحو ذلك من الألفاظ الشرعية- و هكذا قال السيد المرتضى رحمه الله تعالى- في كتابه في أصول الفقه المعروف بالذريعة- في باب كون الأمر للوجوب- و هو الحق الذي لا مندوحة عنه- و إذا كان لفظ العصيان في الاصطلاح الشرعي- موضوعا لمخالفة الأمر الإيجابي لم يجز العدول عنه- و حمله على مخالفة الندب- .
و معلوم أن لفظ العصيان في العرف الشرعي- لا يطلق إلا على مخالفة الأمر المقتضي للوجوب- فالقول بجواز حملها على مخالفة الأمر الندبي- قول تبطله و تدفعه تلك القاعدة المقررة- التي ثبتت بالاتفاق و بالدليل- على أننا قبل أن نجيب بهذا الوجه- نمنع أصلا أنه يجوز أن يقال لتارك النفل إنه عاص- لا في أصل اللغة و لا في العرف و لا في الشرع- و ذلك لأن حقيقة النفل هو ما يقال فيه للمكلف- الأولى أن تفعل هذا و لك ألا تفعله- و معلوم أن تارك مثل ذلك لا يطلق عليه أنه عاص- و يبين ذلك أن لفظ العصيان في اللغة موضوع للامتناع- و لذلك سميت العصا عصا لأنه يمتنع بها- و منه قولهم قد شق العصا- أي خرج عن الربقة المانعة من الاختلاف و التفرق- و تارك الندب لا يمتنع من أمر- لأن الأمر الندبي لا يقتضي شيئا اقتضاء اللزوم- بل معناه إن فعلت فهو أولى و يجوز ألا تفعل- فأي امتناع حدث- إذا خولف أمر الندب سمي المخالف له عاصيا- و يبين ذلك أيضا أن لفظ عاص اسم ذم- فلا يجوز إطلاقه على تارك الندب- كما لا يسمى فاسقا- و إن كان الفسق في أصل اللغة للخروج- .
ثم يسأل المرتضى رحمه الله تعالى- عما سأل عنه نفسه- فيقال له كيف يجوز أن يكون ترك الندب معصية- أ و ليس هذا يوجب أن يوصف الأنبياء- بأنهم عصاة في كل حال- و أنهم لا ينفكون عن المعصية- لأنهم لا يكادون ينفكون من ترك الندب- . و قد أجاب رحمه الله تعالى عن هذا- فقال وصف تارك الندب بأنه عاص توسع و تجوز- و المجاز لا يقاس عليه و لا يعدي عن موضعه- و لو قيل إنه حقيقة في فاعل القبيح- و تارك الأولى و الأفضل- لم يجز إطلاقه في الأنبياء إلا مع التقييد- لأن استعماله قد كثر في فاعل القبائح- فإطلاقه عن التقييد موهم- .
لكنا نقول إن أردت بوصفهم- بأنهم عصاة أنهم فعلوا القبيح فلا يجوز ذلك- و إن أردت أنهم تركوا ما لو فعلوه لاستحقوا الثواب- و لكان أولى فهم كذلك- . كذلك يقال له- ليس هذا من باب القياس على المجاز- الذي اختلف فيه أرباب أصول الفقه- لأن من قال إذا ترك زيد الندب فإنه يسمى عاصيا- يلزمه أن يقول إن عمرا إذا ترك الندب يسمى عاصيا- و ليس هذا قياسا- كما أن من قال لزيد البليد- هذاحمار قال لعمرو البليد هذا حمار- و القياس على المجاز الذي اختلف الأصوليون في جوازه- خارج عن هذا الموضع- . و مثال المسألة الأصولية المختلف فيها- وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ- هل يجوز أن يقال طأطئ لهما عنق الذل- .
و أما قوله- لو سلمنا أنه حقيقة في تارك الندب- لم يجز إطلاقه في حق الأنبياء- لأنه يوهم العصيان بل يجب أن يقيد- . فيقال له لكن البارئ سبحانه أطلقه- و لم يقيده في قوله وَ عَصى آدَمُ- فيلزمك أن يكون تعالى موهما و فاعلا للقبيح- لأن إيهام القبيح قبيح- . فإن قال الدلالة العقلية على استحالة المعاصي- على الأنبياء تؤمن من الإيهام- . قيل له و تلك الدلالة بعينها تؤمن- من الإيهام في قول القائل- الأنبياء عصاة فهلا أجزت إطلاق ذلك- . و ثانيها أنه تعالى قال- فَغَوى و الغي الضلال- . قال المرتضى رحمه الله تعالى معنى غوى هاهنا خاب- لأنه نعلم أنه لو فعل ما ندب إليه- من ترك التناول من الشجرة لاستحق الثواب العظيم- فإذا خالف الأمر و لم يصر إلى ما ندب إليه- فقد خاب لا محالة من حيث لم يصر إلى الثواب- الذي كان يستحقه بالامتناع- و لا شبهه في أن لفظ غوى يحتمل الخيبة- قال الشاعر
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره
و من يغو لا يعدم على الغي لائما
يقال له أ لست القائل في مصنفاتك الكلامية- إن المندوبات إنما ندب إليها- لأنها كالمسهلات و الميسرات لفعل الواجبات العقلية- و أنها ليست ألطافا في واجب عقلي- و أن ثوابها يسير جدا- بالإضافة إلى ثواب الواجب- فإذا كان آدم ع ما أخل بشيء من الواجبات- و لا فعل شيئا من المقبحات- فقد استحق من الثواب العظيم- ما يستحقر ثواب المندوب بالإضافة إليه- و مثل هذا لا يقال فيه- لمن ترك المندوب إنه قد خاب- أ لا ترى أن من اكتسب مائة ألف قنطار من المال- و ترك بعد ذلك درهما واحدا- كان يمكنه اكتسابه فلم يكتسبه- لا يقال إنه خاب- . و ثالثها أن ظاهر القرآن يخالف ما ذكره- لأنه تعالى أخبر أن آدم منهي عن أكل الشجرة- بقوله وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ- فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ- و قوله أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ- و هذا يوجب أنه قد عصى بأن فعل منهيا عنه- و الشريف المرتضى رحمه الله تعالى يقول- إنه عصى بأن ترك مأمورا به- .
قال المرتضى رحمه الله تعالى مجيبا عن هذا- إن الأمر و النهي- ليسا يختصان عندنا بصيغة ليس فيها احتمال و اشتراك- و قد يؤمر عندنا بلفظ النهي و ينهى بلفظ الأمر- و إنما يكون النهي نهيا بكراهة المنهي عنه- فإذا قال تعالى لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ- و لم يكره قربهما لم يكن في الحقيقة ناهيا- كما أنه تعالى لما قال اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا- و لم يرد ذلك لم يكن أمرا به- و إذا كان قد صحب قوله لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ إرادة ترك التناول- وجب أن يكون هذا القول أمرا- و إنما سماه منهيا و سمىأمره له- بأنه نهي من حيث كان فيه معنى النهي- لأن في النهي ترغيبا في الامتناع من الفعل- و تزهيدا في الفعل نفسه- و لما كان الأمر ترغيبا من فعل المأمور- و تزهيدا في تركه جاز أن يسمى نهيا- . و قد يتداخل هذان الوضعان في الشاهد- فيقول أحدنا قد أمرت فلانا بألا يلقى الأمير- و إنما يريد أنه نهاه عن لقائه- و يقول نهيتك عن هجر زيد- و إنما معناه أمرتك بمواصلته- .
يقال له هذا خلاف الظاهر- فلا يجوز المصير إليه إلا بدلالة قاطعة- تصرف اللفظ عن ظاهره- و يكفي أصحاب أبي هاشم في نصرة قولهم- التمسك بالظاهر- . و اعلم أن بعض أصحابنا تأول هذه الآية- و قال إن ذلك وقع من آدم ع قبل نبوته- لأنه لو كان نبيا قبل إخراجه من الجنة- لكان إما أن يكون مرسلا إلى نفسه و هو باطل- أو إلى حواء و قد كان الخطاب يأتيها بغير واسطة- لقوله تعالى وَ لا تَقْرَبا- أو إلى الملائكة و هذا باطل- لأن الملائكة رسل الله- بدليل قوله جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا- و الرسول لا يحتاج إلى رسول آخر- أو يكون رسولا و ليس هناك من يرسل إليه و هذا محال- فثبت أن هذه الواقعة وقعت له ع- قبل نبوته و إرساله
الفصل الثالث في خطئهم في التبليغ و الفتاوي
قال أصحابنا- إن الأنبياء معصومون من كل خطإ- يتعلق بالأداء و التبليغ- فلا يجوزعليهم الكذب- و لا التغيير و لا التبديل و لا الكتمان- و لا تأخر البيان عن وقت الحاجة- و لا الغلط فيما يؤدونه عن الله تعالى- و لا السهو فيه و لا الإلغاز و لا التعمية- لأن كل ذلك إما أن ينقض دلالة المعجز على صدقه- أو يؤدى إلى تكليف ما لا يطاق- . و قال قوم من الكرامية و الحشوية- يجوز عليهم الخطأ في أقوالهم كما جاز في أفعالهم- قالوا و قد أخطأ رسول الله ص في التبليغ- حيث قال
تلك الغرانيق العلا
و إن شفاعتهن لترتجى
و قال قوم منهم يجوز الغلط على الأنبياء- فيما لم تكن الحجة فيه مجرد خبرهم- لأنه لا يكون في ذلك إبطال حجة الله على خلقه- كما وقع من النبي ص- في هذه الصورة- فإن قوله ذلك ليس بمبطل لحجة العقل- في أن الأصنام لا يجوز تعظيمها- و لا ترجى شفاعتها- فأما ما كان السبيل إليه مجرد السمع- فلو أمكن الغلط فيه لبطلت الحجة بإخبارهم- . و قال قوم منهم- إن الأنبياء يجوز أن يخطئوا في أقوالهم و أفعالهم- إذا لم تجر تلك الأفعال مجرى بيان الوحي- كبيانه ع لنا الشريعة- و لا يجوز عليه الخطأ في حال البيان- و إن كان يجوز عليه ذلك في غير حال البيان- كما روي من خبر ذي اليدين- حين سها النبي ص في الصلاة- و كذلك ما يكون منه من تبليغ وحي- فإنه لا يجوز عليه أن يخطئ فيه- لأنه حجة الله على عباده- فأما في أقواله الخارجة عن التبليغ- فيجوزأن يخطئ- كما روي عنه ص في نهيه- لأهل المدينة عن تأبير النخل- . فأما أصحابنا المعتزلة- فإنهم اختلفوا في الخبر المروي عنه ع في سورة النجم- فمنهم من دفع الخبر أصلا و لم يقبله و طعن في رواته- و منهم من اعترف بكونه قرآنا منزلا- و هم فريقان أحدهما القائلون بأنه كان وصفا للملائكة- فلما ظن المشركون أنه وصف آلهتهم- رفع و نهي عن تلاوته- و ثانيهما القائلون إنه خارج- على وجه الاستفهام بمعنى الإنكار- فتوهم سامعوه أنه بمعنى التحقيق- فنسخه الله تعالى و نهى عن تلاوته- .
و منهم من قال ليس بقرآن منزل- بل هو كلام تكلم به رسول الله ص- من قبل نفسه على طريق الإنكار و الهزء بقريش- فظنوا أنه يريد التحقيق- فنسخه الله بأن بين خطأ ظنهم- و هذا معنى قوله- وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ- إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ- فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ- ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ- قالوا فإلقاء الشيطان هاهنا- هو إلقاء الشبهة في قلوب المشركين- و إنما أضافه إلى أمنيته- و هي تلاوته القرآن- لأن بغرور الشيطان و وسوسته أضاف المشركون- إلى تلاوته ع ما لم يرده بها- . و أنكر أصحابنا الأخبار الواردة- التي تقتضي الطعن علي الرسول ص- قالوا و كيف يجوز أن تصدق هذه الأخبار الآحاد- على من قد قال الله تعالى له كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ- و قال له سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى- و قال عنه وَ لَوْ تَقَوَّلَعَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ- لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ- ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ- و أما خبر ذي اليدين و خبر تأبير النخل-
فقد تكلمنا عليهما في كتبنا المصنفة في أصول الفقهوَ قَدَّرَ الْأَرْزَاقَ فَكَثَّرَهَا وَ قَلَّلَهَا- وَ قَسَّمَهَا عَلَى الضِّيقِ وَ السَّعَةِ- فَعَدَّلَ فِيهَا لِيَبْتَلِيَ- مَنْ أَرَادَ بِمَيْسُورِهَا وَ مَعْسُورِهَا- وَ لِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ الشُّكْرَ وَ الصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَ فَقِيرِهَا- ثُمَّ قَرَنَ بِسَعَتِهَا عَقَابِيلَ فَاقَتِهَا- وَ بِسَلَامَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا- وَ بِفُرَجِ أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاحِهَا- وَ خَلَقَ الآْجَالَ فَأَطَالَهَا وَ قَصَّرَهَا وَ قَدَّمَهَا وَ أَخَّرَهَا- وَ وَصَلَ بِالْمَوْتِ أَسْبَابَهَا- وَ جَعَلَهُ خَالِجاً لِأَشْطَانِهَا- وَ قَاطِعاً لِمَرَائِرِ أَقْرَانِهَا الضيق و الضيق لغتان- فأما المصدر من ضاق فالضيق بالكسر لا غير- و عدل فيها من التعديل و هو التقويم- و روي فعدل بالتخفيف من العدل نقيض الظلم- . و الميسور و المعسور مصدران- و قال سيبويه هما صفتان- و لا يجيء عنده المصدر على وزن مفعول البتة- و يتأول قولهم دعه إلى ميسوره- و يقول كأنه قال دعه إلى أمر يوسر فيه- و كذلك يتأول المعقول أيضا- فيقول كأنه عقل له شيء- أي حبس و أيد و سدد- .
و معنى قوله ع- ليبتلي من أراد بميسورها و معسورها- هو معنىقول النبي ص إن إعطاء هذا المال فتنة و إمساكه فتنة- .و العقابيل في الأصل الحلأ- و هو قروح صغار تخرج بالشفة من بقايا المرض- و الفاقة الفقر- . و طوارق الآفات متجددات المصائب- و أصل الطروق ما يأتي ليلا- . و الأتراح الغموم الواحد ترح- و ترحه تتريحا أي حزنه- . و خالجا جاذبا و الخلج الجذب- خلجه يخلجه بالكسر و اختلجه- و منه الخليج الحبل لأنه يجتذب به- و سمى خليج البحر خليجا- لأنه يجذب من معظم البحر- . و الأشطان الجبال واحدها شطن- و شطنت الفرس أشطنه- إذا شددته بالشطن- . و القرائن الحبال جمع قرن- و هو من شواذ الجموع قال الشاعر-
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه
أن لدى الباب كالمشدود في قرن
و مرائر القرائن جمع مرير- و هو ما لطف و طال منها و اشتد فتله- و هذا الكلام من باب الاستعارة: عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِينَ- وَ نَجْوَى الْمُتَخَافِتِينَ وَ خَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ- وَ عُقَدِ عَزِيمَاتِ الْيَقِينِ- وَ مَسَارِقِ إِيمَاضِ الْجُفُونِ- وَ مَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَانُ الْقُلُوبِ- وَ غَيَابَاتُ الْغُيُوبِ- وَ مَا أَصْغَتْ لاسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ الْأَسْمَاعِ- وَ مَصَايِفِ الذَّرِّ وَ مَشَاتِي الْهَوَامِّ- وَ رَجْعِ الْحَنِينِ مِنَ الْمُولَهَاتِ وَ هَمْسِ الْأَقْدَامِ- وَ مُنْفَسَحِ الثَّمَرَةِ مِنْ وَلَائِجِ غُلُفِ الْأَكْمَامِ- وَ مُنْقَمَعِ الْوُحُوشِ مِنْ غِيرَانِ الْجِبَالِ وَ أَوْدِيَتِهَا- وَ مُخْتَبَإِ الْبَعُوضِ بَيْنَ سُوقِالْأَشْجَارِ وَ أَلْحِيَتِهَا- وَ مَغْرِزِ الْأَوْرَاقِ مِنَ الْأَفْنَانِ- وَ مَحَطِّ الْأَمْشَاجِ مِنْ مَسَارِبِ الْأَصْلَابِ- وَ نَاشِئَةِ الْغُيُومِ وَ مُتَلَاحِمِهَا- وَ دُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ فِي مُتَرَاكِمِهَا- وَ مَا تَسْفِي الْأَعَاصِيرُ بِذُيُولِهَا وَ تَعْفُو الْأَمْطَارُ بِسُيُولِهَا- وَ عَوْمِ بَنَاتِ الْأَرْضِ فِي كُثْبَانِ الرِّمَالِ- وَ مُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ بِذُرَا شَنَاخِيبِ الْجِبَالِ- وَ تَغْرِيدِ ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ فِي دَيَاجِيرِ الْأَوْكَارِ- وَ مَا أَوْعَبَتْهُ الْأَصْدَافُ- وَ حَضَنَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ- وَ مَا غَشِيَتْهُ سُدْفَةُ لَيْلٍ أَوْ ذَرَّ عَلَيْهِ شَارِقُ نَهَارٍ- وَ مَا اعْتَقَبَتْ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الدَّيَاجِيرِ- وَ سُبُحَاتُ النُّورِ وَ أَثَرِ كُلِّ خَطْوَةٍ- وَ حِسِّ كُلِّ حَرَكَةٍ وَ رَجْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ- وَ تَحْرِيكِ كُلِّ شَفَةٍ وَ مُسْتَقَرِّ كُلِّ نَسَمَةٍ- وَ مِثْقَالِ كُلِّ ذَرَّةٍ وَ هَمَاهِمِ كُلِّ نَفْسٍ هَامَّةٍ- وَ مَا عَلَيْهَا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةٍ أَوْ سَاقِطِ وَرَقَةٍ- أَوْ قَرَارَةِ نُطْفَةٍ أَوْ نُقَاعَةِ دَمٍ وَ مُضْغَةٍ- أَوْ نَاشِئَةِ خَلْقٍ وَ سُلَالَةٍ- لَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ كُلْفَةٌ- وَ لَا اعْتَرَضَتْهُ فِي حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَةٌ- وَ لَا اعْتَوَرَتْهُ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ وَ تَدَابِيرِ الْمَخْلُوقِينَ مَلَالَةٌ وَ لَا فَتْرَةٌ- بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ وَ أَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ- وَ وَسِعَهُمْ عَدْلُهُ وَ غَمَرَهُمْ فَضْلُهُ- مَعَ تَقْصِيرِهِمْ عَنْ كُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ لو سمع النضر بن كنانة هذا الكلام- لقال لقائله ما قاله علي بن العباس بن جريج لإسماعيل بن بلبل-
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم
كلا و لكن لعمري منه شيبان
و كم أب قد علا بابن ذرا شرف
كما علا برسول الله عدنان
إذ كان يفخر به على عدنان و قحطان- بل كان يقر به عين أبيه إبراهيم خليل الرحمن-و يقول له إنه لم يعف ما شيدت من معالم التوحيد- بل أخرج الله تعالى لك من ظهري ولدا- ابتدع من علوم التوحيد في جاهلية العرب- ما لم تبتدعه أنت في جاهلية النبط- بل لو سمع هذا الكلام أرسطوطاليس- القائل بأنه تعالى لا يعلم الجزئيات- لخشع قلبه و قف شعره و اضطرب فكره- أ لا ترى ما عليه من الرواء و المهابة- و العظمة و الفخامة و المتانة و الجزالة- مع ما قد أشرب من الحلاوة و الطلاوة و اللطف و السلاسة- لا أرى كلاما يشبه هذا- إلا أن يكون كلام الخالق سبحانه- فإن هذا الكلام نبعة من تلك الشجرة- و جدول من ذلك البحر و جذوة من تلك النار- و كأنه شرح قوله تعالى- وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ- وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ- وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها- وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ- وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ- .
ثم نعود إلى التفسير- فنقول النجوى المسارة- تقول انتجى القوم و تناجوا أي تساروا- و انتجيت زيدا إذا خصصته بمناجاتك-و منه الحديث أنه ص أطال النجوى مع علي ع- فقال قوم لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه- فبلغه ذلك فقال إني ما انتجيته و لكن الله انتجاه- و يقال للسر نفسه النجو- يقال نجوته نجوا أي ساررته- و كذلك ناجيته مناجاة- و سمي ذلك الأمر المخصوص نجوى- لأنه يستسر به- فأما قوله تعالى وَ إِذْ هُمْ نَجْوى- فجعلهم هم النجوى و إنما النجوى فعلهم- فإنما هو كقولك قوم رضا و إنما الرضا فعلهم- و يقال للذي تساره النجي على فعيل- و جمعه أنجيه- قال الشاعر
إني إذا ما القوم كانوا أنجيه
و قد يكون النجي جماعة مثل الصديق- قال الله تعالى خَلَصُوا نَجِيًّا- و قال الفراء قد يكون النجي و النجوى اسما و مصدرا- . و المتخافتين الذين يسرون المنطق- و هي المخافتة و التخافت و الخفت- قال الشاعر
أخاطب جهرا إذ لهن تخافت
و شتان بين الجهر و المنطق الخفت
و رجم الظنون القول بالظن- قال سبحانه رَجْماً بِالْغَيْبِ- و منه الحديث المرجم بالتشديد- و هو الذي لا يدرى أ حق هو أم باطل- و يقال صار رجما أي لا يوقف على حقيقة أمره- . و عقد عزيمات اليقين- العزائم التي يعقد القلب عليها و تطمئن النفس إليها- . و مسارق إيماض الجفون- ما تسترقه الأبصار حين تومض- يقال أومض البصر و البرق إيماضا إذا لمع لمعا خفيفا- و يجوز ومض بغير همز- يمض ومضا و وميضا و ومضانا- و أكنان القلوب غلفها- و الكن الستر و الجمع أكنان- قال تعالى جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً- و يروى أكنة القلوب و هي الأغطية أيضا- قال تعالى وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً- و الواحد كنان- قال عمر بن أبي ربيعة
تحت عين كناننا
ظل برد مرحل
و يعني بالذي ضمنته أكنان القلوب الضمائر- . و غيابات الغيوب جمع غيابة- و هي قعر البئر في الأصل ثم نقلت إلى كل غامض خفي- مثل غيابة و قد روي غبابات بالباء- . و أصغت تسمعت و مالت نحوه- و لاستراقه لاستماعه في خفيه- قال تعالى إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ- . و مصائخ الأسماع- خروقها التي يصيخ بها أي يتسمع- . و مصايف الذر- المواضع التي يصيف الذر فيها- أي يقيم الصيف يقال- صاف بالمكان و اصطاف بمعنى- و الموضع مصيف و مصطاف- . و الذر جمع ذرة- و هي أصغر النمل- . و مشاتي الهوام- المواضع التي تشتو الهوام بها- يقال شتوت بموضع كذا و تشتيت- أي أقمت به الشتاء- . و الهوام جمع هامة- و لا يقع هذا الاسم- إلا على المخوف من الأحناش- .
و رجع الحنين ترجيعه و ترديده- و المولهات- النوق و النساء اللواتي حيل بينهن و بين أولادهن- . و همس الأقدام- صوت وطئها خفيا جدا- قال تعالى فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً- و منه قول الراجز- .فهن يمشين بنا هميسا- و الأسد الهموس الخفي الوطء- . و منفسح الثمرة أي موضع سعتها من الأكمام- و قد روي متفسخ- بالخاء المعجمة و تشديد السين و بتاء بعد الميم مصدرا من تفسخت الثمرة إذا انقطعت- . و الولائج المواضع الساترة و الواحدة وليجة- و هو كالكهف يستتر فيه المارة من مطر أو غيره- و يقال أيضا في جمعه ولج و أولاج- . و متقمع الوحوش موضع تقمعها و استتارها- و سمي قمعة بن إلياس بن مضر بذلك- لأنه انقمع في بيته كما زعموا- .
و غيران الجبال جمع غار- و هو كالكهف في الجبل- و المغار مثل الغار و المغارة مثله- . و مختبأ البعوض موضع اختبائها و استتارها- و سوق الأشجار جمع ساق- و ألحيتها جمع لحاء و هو القشر- . و مغرز الأوراق موضع غرزها فيها- .و الأفنان جمع فنن و هو الغصن- و الأمشاج ماء الرجل يختلط بماء المرأة و دمها- جمع مشيج كيتيم و أيتام- و محطها إما مصدر أو مكان- . و مسارب الأصلاب- المواضع التي يتسرب المني فيها من الصلب أي يسيل- . و ناشئة الغيوم أول ما ينشأ منها و هو النشيء أيضا- و ناشئة الليل في قوله تعالى- إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً أول ساعاته- و يقال هي ما ينشأ في الليل من الطاعات- و متلاحمها ما يلتصق منها بعضها ببعض و يلتحم- . و درور قطر السحائب مصدر من در يدر أي سال- و ناقة درور أي كثيرة اللبن- و سحاب درور أي كثير المطر- و يقال إن لهذا السحاب لدرة أي صبا- و الجمع درور- و متراكمها المجتمع المتكاثف منها- ركمت الشيء أركمه بالضم- جمعته و ألقيت بعضه على بعض- و رمل ركام و سحاب ركام أي مجتمع- .
و الأعاصير جمع إعصار- و هي ريح تثير الغبار فيرتفع إلى السماء كالعمود- و قال تعالى فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ- . و تسفي من سفت الريح التراب سفيا- إذا أذرته فهو سفي- و ذيولها هاهنا يريد به أطرافها و ما لاحف الأرض منها- . و ما تعفو الأمطار أي ما تدرس- عفت الريح المنزل أي درسته- و عفا المنزل نفسه يعفو درس- يتعدى و لا يتعدى- . و بنات الأرض الهوام و الحشرات- التي تكون في الرمال- و عومها فيها سباحتها- و يقال لسير السفينة و سير الإبل أيضا عوم- عمت في الماء بضم أوله أعوم- .
و كثبان الرمال جمع كثيب- و هو ما انصب من الرمل- و اجتمع في مكان واحد فصار تلا- و كثبت الشيء أكثبه كثبا إذا جمعته- و انكثب الرمل اجتمع- . و شناخيب الجبال رءوسها واحدها شنخوب- و ذراها أعاليها جمع ذروة و ذروة بالكسر و الضم- . و التغريد التطريب بالغناء و التغرد مثله- و كذلك الغرد بفتحهما- و يقال غرد الطائر فهو غرد إذا طرب بصوته- . و ذوات المنطق هاهنا الأطيار- و سمي صوتها منطقا- و إن كان لا يطلق إلا على ألفاظ البشر مجازا- . و دياجير جمع ديجور و هو الظلام- و الأوكار جمع وكر و هو عش الطائر- و يجمع أيضا على وكور- و وكر الطائر يكر وكرا أي دخل وكره- . و قوله و ما أوعبته الأصداف أي من اللؤلؤ- و حضنت عليه أمواج البحار أي ما ضمته- كما تحضن الأنثى من الطير بيضها- و هو ما يكون في لجة- إما من سمك أو خشب أو ما يحمله البحر من العنبر- كالجماجم بين الأمواج و غير ذلك- .
و سدفة الليل ظلمته و جاء بالفتح- و قيل السدفة اختلاط الضوء و الظلمة معا- كوقت ما بين طلوع الفجر إلى الإسفار- . و غشيته غطته و ذر عليه شارق نهار- أي ما طلعت عليه الشمس- و ذرت الشمس تذر بالضم ذرورا طلعت- و ذر البقل إذا طلع من الأرض- . و شرقت الشمس طلعت- و أشرقت بالهمزة إذا أضاءت و صفت- . و اعتقبت تعاقبت- و أطباق الدياجير أطباق الظلم- و أطباقها جمع طبقة أي أغطيتها- أطبقت الشيء أي غطيته- و جعلته مطبقا و قد تطبق هو- و منه قولهم لو تطبقت السماء على الأرض لما فعلت كذا- و سبحات النور عطف على أطباق الدياجير- أي يعلم سبحانه ما تعاقب عليه الظلام و الضياء- و سبحات هاهنا- ليس يعني به ما يعنى بقوله سبحان وجه ربنا- لأنه هناك بمعنى ما يسبح عليه النور أي يجرى- من سبح الفرس و هو جريه و يقال فرس سابح- . و الخطوة ما بين القدمين بالضم- و خطوت خطوة بالفتح لأنه المصدر- .
و رجع كل كلمة- ما ترجع به من الكلام إلى نفسك و تردده في فكرك- . و النسمة الإنسان نفسه و جمعها نسم- و مثقال كل ذرة أي وزن كل ذرة- و مما يخطئ فيه العامة قولهم للدينار- مثقال و إنما المثقال وزن كل شيء- قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ- . و هماهم كل نفس هامة الهماهم جمع همهمة- و هي ترديد الصوت في الصدر- و حمار همهيم يهمهم في صوته- و همهمت المرأة في رأس الصبي- و ذلك إذا نومته بصوت ترققه له- و النفس الهامة ذات الهمة التي تعزم على الأمر- . قوله و ما عليها أي ما على الأرض- فجاء بالضمير و لم يسبق ذكر صاحبه- اعتمادا على فهم المخاطب- كما قال تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ- . و قرارة النطفة ما يستقر فيه الماء من الأماكن- قال الشاعر
و أنتم قرارة كل معدن سوءة
و لكل سائلة تسيل قرار
و النطفة الماء نفسه-و منه قوله ع في الخوارج إن مصارعهم النطفة- أي لا يعبرون النهر- و يجوز أن يريد بالنطفة المني- و يقويه ما ذكره بعده من المضغة- .و النقاعة نقرة يجتمع فيها الدم- و مثله أنقوعة و يقال لوقبة الثريد أنقوعة- . و المضغة قطعة اللحم- و السلالة في الأصل ما استل من الشيء- و سميت النطفة سلالة الإنسان- لأنها استلت منه و كذلك الولد- . و الكلفة المشقة- و اعتورته مثل عرته و نفذهم علمه- تشبيه بنفوذ السهم- و عدي الفعل بنفسه- و إن كان معدى في الأصل بحرف الجر- كقولك اخترت الرجال زيدا أي من الرجال- كأنه جعل علمه تعالى خارقا لهم و نافذا فيهم- و يروى و أحصاهم عده بالتضعيف: اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ- وَ التَّعْدَادِ الْكَثِيرِ- إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ وَ إِنْ تُرْجَ فَخَيْرُ مَرْجُوٍّ- اللَّهُمَّ فَقَدْ بَسَطْتَ لِي فِيمَا لَا أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ- وَ لَا أُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاكَ- وَ لَا أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ الْخَيْبَةِ وَ مَوَاضِعِ الرِّيبَةِ- وَ عَدَلْتَ بِلِسَانِي عَنْ مَدَائِحِ الآْدَمِيِّينَ- وَ الثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ الْمَخْلُوقِينَ- اللَّهُمَّ وَ لِكُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ- أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ- وَ قَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلًا عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ- وَ كُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ- اللَّهُمَّ وَ هَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ- وَ لَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لِهَذِهِ الْمَحَامِدِ وَ الْمَمَادِحِ غَيْرَكَ- وَ بِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لَا يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلَّا فَضْلُكَ- وَ لَا يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلَّا مَنُّكَ وَ جُودُكَ- فَهَبْ لَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ رِضَاكَ- وَ أَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَيْدِي إِلَى سِوَاكَ- إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
التعداد مصدر- و خير خبر مبتدإ محذوف- تقديره فأنت خير مأمول- . و معنى قوله قد بسطت لي- أي قد آتيتني لسنا و فصاحة و سعة منطق- فلا أمدح غيرك و لا أحمد سواك- . و يعني بمعادن الخيبة البشر- لأن مادحهم و مؤملهم يخيب في الأكثر- و جعلهم مواضع الريبة لأنهم لا يوثق بهم في حال- . و معنى قوله ع- و قد رجوتك دليلا على ذخائر الرحمة و كنوز المغفرة- أنه راج منه أن يدله على الأعمال التي ترضيه سبحانه- و يستوجب بها منه الرحمة و المغفرة- و كأنه جعل تلك الأعمال التي يرجو- أن يدل عليها ذخائر للرحمة و كنوزا- . و الفاقة الفقر و كذلك المسكنة- . و ينعش بالفتح يرفع- و الماضي نعش و منه النعش لارتفاعه و المن العطاء و النعمة- و المنان من أسماء الله سبحانه
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 6-7