89 و من خطبة له ع
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ وَ الْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ- الَّذِي لَمْ يَزَلْ قَائِماً دَائِماً إِذْ لَا سَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ- وَ لَا حُجُبٌ ذَاتُ إِرْتَاجٍ وَ لَا لَيْلٌ دَاجٍ وَ لَا بَحْرٌ سَاجٍ- وَ لَا جَبَلٌ ذُو فِجَاجٍ وَ لَا فَجٌّ ذُو اعْوِجَاجٍ- وَ لَا أَرْضٌ ذَاتُ مِهَادٍ وَ لَا خَلْقٌ ذُو اعْتِمَادٍ- وَ ذَلِكَ مُبْتَدِعُ الْخَلْقِ وَ وَارِثُهُ وَ إِلَهُ الْخَلْقِ وَ رَازِقُهُ- وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ دَائِبَانِ فِي مَرْضَاتِهِ- يُبْلِيَانِ كُلَّ جَدِيدٍ وَ يُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعِيدٍ الروية الفكرة و أصلها الهمز روأت في الأمر- و قد جاء مثلها كلمات يسيرة شاذة- نحو البرية من برأ أي خلق- و الذرية من ذرأ أي خلق أيضا- و الدرية و هي ما يستتر به الصائد- أصله من درأت أي دفعت و فلان بري أصله بريء- وصف الله تعالى بأنه يعرف- من غير أن تتعلق الأبصار بذاته- و يخلق من غير تفكر و ترو فيما يخلقه- . لم يزل قائما القائم و القيوم بمعنى- و هو الثابت الذي لا يزول- و يعبر عنه في الاصطلاح النظري بالواجب الوجود- و قد يفسر القائم على معنى قولهم فلان قائم بأمر كذا- أي وال و ممسك له أن يضطرب- . ثم قال هو موصوف بأنه قائم دائم من قبل أن يخلق العالم- و هذا يؤكد التفسير
الأول- لأنه إذا لم يكن العالم مخلوقا- بعد لم يصدق عليه أنه قائم بأمره إلا بالقوة لا بالفعل- كما يصدق عليه أنه سميع بصير في الأزل- أي إذا وجدت المسموعات و المبصرات سمعها و أبصرها- و لو سمي قبل خلق الكلام متكلما- على هذا التفسير لم أستبعده و إن كان أصحابنا يأبونه- . و الأبراج الأركان في اللغة العربية- . فإن قلت- فهل يطابق هذا التفسير ما يعتقده أصحاب الهيئة- و كثير من الحكماء و المتكلمين- أن السماء كرة لا زاوية فيها و لا ضلع- .
قلت نعم لا منافاة بين القولين- لأن الفلك و إن كان كرة لكن فيه من المتممات- ما يجري مجرى أركان الحصن أو السور- فصح إطلاق لفظه الأبراج عليه- و المتممات أجسام في حشو الفلك تخف في موضع- و الناس كلهم أثبتوها- . فإن قلت فهل يجوز أن يحمل لفظ الأبراج- على ما يعتقده المنجمون و أهل الهيئة- و كثير من الحكماء و المتكلمين- من كون الفلك مقسوما باثني عشر قسما- كل قسم منها يسمى برجا- .
قلت لا مانع من ذلك- لأن هذا المسمى كان معلوما متصورا قبل نزول القرآن- و كان أهل الاصطلاح قد وضعوا هذا اللفظ بإزائه- فجاز أن ينزل القرآن بموجبه- قال تعالى وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ- و أخذها علي ع منه فقال إذ لا سماء ذات أبراج- و ارتفع سماء لأنه مبتدأ و خبره محذوف- و تقديره في الوجود- .
ثم قال و لا حجب ذات إرتاج- و الإرتاج مصدر أرتج أي أغلق أي ذات إغلاق- و من رواه ذات رتاج على فعال فالرتاج الباب المغلق- و يبعد رواية من رواه ذات أرتاج- لأن فعالا قل أن يجمع على أفعال- و يعني بالحجب ذات الإرتاج- حجب النور المضروبة بين عرشه العظيم و بين ملائكته- و يجوز أن يريد بالحجب السموات أنفسها- لأنها حجبت الشياطين عن أن تعلم ما الملائكة فيه- . و الليل الداجي المظلم- و البحر الساجي الساكن و الفجاج جمع فج- و هو الطريق الواسع بين جبلين و المهاد الفراش- .
قوله و لا خلق ذو اعتماد- أي و لا مخلوق يسعى برجلين فيعتمد عليهما- أو يطير بجناحيه فيعتمد عليهما- و يجوز أن يريد بالاعتماد هنا البطش و التصرف- مبتدع الخلق مخرجه من العدم المحض- كقوله تعالى بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ- و دائبان تثنية دائب و هو الجاد المجتهد المتعب- دأب في عمله أي جد و تعب دأبا- و دءوبا فهو دءيب و دأبته أنا- و سمى الشمس و القمر دائبين- لتعاقبهما على حال واحدة دائما لا يفتران و لا يسكنان-
و روي دائبين بالنصب على الحال- و يكون خبر المبتدأ يبليان و هذه من الألفاظ القرآنية: قَسَمَ أَرْزَاقَهُمْ وَ أَحْصَى آثَارَهُمْ وَ أَعْمَالَهُمْ- وَ عَدَدَ أَنْفُسِهِمْ وَ خَائِنَةَ أَعْيُنِهِمْ- وَ مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ مِنَ الضَّمِيرِ- وَ مُسْتَقَرَّهُمْ وَ مُسْتَوْدَعَهُمْ مِنَ الْأَرْحَامِ وَ الظُّهُورِ- إِلَى أَنْ تَتَنَاهَى بِهِمُ الْغَايَاتُ آثارهم يمكن أن يعنى به آثار وطئهم في الأرض إيذانا- بأنه تعالى عالم بكل معلومكما آذن قوله سبحانه- وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها بذلك- و يمكن أن يعنى به حركاتهم و تصرفاتهم- .
و روي و عدد أنفاسهم على الإضافة- . و خائنة الأعين ما يومئ به مسارقة و خفية- و مستقرهم أي في الأرحام- و مستودعهم أي في الأصلاب و قد فسر ذلك- فتكون من متعلقة بمستودعهم و مستقرهم- على إرادة تكررها- و يمكن أن يقال أراد مستقرهم و مأواهم على ظهر الأرض- و مستودعهم في بطنها بعد الموت- و تكون من هاهنا بمعنى مذ- أي مذ زمان كونهم في الأرحام و الظهور- إلى أن تتناهى بهم الغايات- أي إلى أن يحشروا في القيامة- و على التأويل الأول يكون تناهي الغايات بهم- عبارة عن كونهم أحياء في الدنيا: هُوَ الَّذِي اشْتَدَّتْ نِقْمَتُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ- وَ اتَّسَعَتْ رَحْمَتُهُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي شِدَّةِ نِقْمَتِهِ- قَاهِرُ مَنْ عَازَّهُ وَ مُدَمِّرُ مَنْ شَاقَّهُ وَ مُذِلُّ مَنْ نَاوَاهُ- وَ غَالِبُ مَنْ عَادَاهُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ وَ مَنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ- وَ مَنْ أَقْرَضَهُ قَضَاهُ وَ مَنْ شَكَرَهُ جَزَاهُ- عِبَادَ اللَّهِ زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا- وَ حَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا- وَ تَنَفَّسُوا قَبْلَ ضِيقِ الْخِنَاقِ وَ انْقَادُوا قَبْلَ عُنْفِ السِّيَاقِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ- حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وَ زَاجِرٌ- لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا لَا زَاجِرٌ وَ لَا وَاعِظٌ
يجوز نقمة و نقمة مثل كلمة و كلمة و لبنة و لبنة- و معنى الكلام أنه مع كونه واسع الرحمة في نفس الأمر- و أنه أرحم الراحمين فإنه شديد النقمة على أعدائه- و مع كونه عظيم النقمة في نفس الأمر- و كونه شديد العقاب فإنه واسع الرحمة لأوليائه- و عازه أي غالبه و عزه أي غلبه و منه وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ- و في المثل من عز بز أي من غلب سلب و المدمر المهلك- دمره و دمر عليه بمعنى أي أهلكه و شاقه عاداه- قيل إن أصله من الشق و هو النصف- لأن المعادي يأخذ في شق و المعادي في شق يقابله- و ناواه أي عاداه و اللفظة مهموزة- و إنما لينها لأجل القرينة السجعية- و أصلها ناوأت الرجل مناوأة و نواء- و يقال في المثل إذا ناوأت الرجل فاصبر- . قوله زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا- من الكلام الفصيح النادر اللطيف- يقول اعتبروا أعمالكم- و أنتم مختارون قادرون على استدراك الفارط- قبل أن يكون هذا الاعتبار فعل غيركم- و أنتم لا تقتدرون على استدراك الفارط- و مثله قوله و حاسبوها من قبل أن تحاسبوا- . ثم قال و تنفسوا قبل ضيق الخناق أي انتهزوا الفرصة- و اعملوا قبل أن يفوتكم الأمر- و يجد بكم الرحيل و يقع الندم قال الشاعر-
اختم و طينك رطب إن قدرت فكم
قد أمكن الختم أقواما فما ختموا
ثم قال و انقادوا قبل عنف السياق- هو العنف بالضم و هو ضد الرفق- يقال عنف عليه و عنف به أيضا- و العنيف الذي لا رفق له بركوب الخيل و الجمع عنف- و اعتنفت الأمر أي أخذته بعنف- يقول انقادوا أنتم من أنفسكم- قبل أن تقادوا و تساقوا بغير اختياركم سوقا عنيفا- ثم قال من لم يعنه الله على نفسه- حتى يجعل له منها واعظا و زاجرا- لم ينفعه الزجر و الوعظ من غيرها- أخذ هذا المعنى شاعر فقال-
و أقصرت عما تعهدين و زاجر
من النفس خير من عتاب العواذل
فإن قلت أ ليس في هذا الكلام إشعار ما بالجبر- . قلت إنه لا خلاف بين أصحابنا- في أن لله تعالى ألطافا يفعلها بعباده- فيقربهم من الواجب و يبعدهم من القبيح- و من يعلم الله تعالى من حاله أنه لا لطف له- لأن كل ما يعرض لطفا له فإنه لا يؤثر في حاله- و لا يزداد به إلا إصرارا على القبيح و الباطل- فهو الذي عناه أمير المؤمنين ع بقوله من لم يعن على نفسه- لأنه ما قبل المعونة و لا انقاد إلى مقتضاها- و قد روي و اعلموا أنه من لم يعن على نفسه بكسر العين- أي من لم يعن الواعظين له و المنذرين على نفسه- و لم يكن معهم إلبا عليها و قاهرا لها- لم ينتفع بالوعظ و الزجر- لأن هوى نفسه يغلب وعظ كل واعظ و زجر كل زاجر
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 6