و من خطبة له عليه السّلام
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ وَ الْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ- الَّذِي لَمْ يَزَلْ قَائِماً دَائِماً إِذْ لَا سَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ- وَ لَا حُجُبٌ ذَاتُ إِرْتَاجٍ وَ لَا لَيْلٌ دَاجٍ وَ لَا بَحْرٌ سَاجٍ- وَ لَا جَبَلٌ ذُو فِجَاجٍ وَ لَا فَجٌّ ذُو اعْوِجَاجٍ- وَ لَا أَرْضٌ ذَاتُ مِهَادٍ وَ لَا خَلْقٌ ذُو اعْتِمَادٍ- ذَلِكَ مُبْتَدِعُ الْخَلْقِ وَ وَارِثُهُ وَ إِلَهُ الْخَلْقِ وَ رَازِقُهُ- وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ دَائِبَانِ فِي مَرْضَاتِهِ- يُبْلِيَانِ كُلَّ جَدِيدٍ وَ يُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعِيدٍ قَسَمَ أَرْزَاقَهُمْ وَ أَحْصَى آثَارَهُمْ وَ أَعْمَالَهُمْ- وَ عَدَدَ أَنْفُسِهِمْ وَ خَائِنَةَ أَعْيُنِهِمْ- وَ مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ مِنَ الضَّمِيرِ- وَ مُسْتَقَرَّهُمْ وَ مُسْتَوْدَعَهُمْ مِنَ الْأَرْحَامِ وَ الظُّهُورِ- إِلَى أَنْ تَتَنَاهَى بِهِمُ الْغَايَاتُ هُوَ الَّذِي اشْتَدَّتْ نِقْمَتُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ- وَ اتَّسَعَتْ رَحْمَتُهُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي شِدَّةِ نِقْمَتِهِ- قَاهِرُ مَنْ عَازَّهُ وَ مُدَمِّرُ مَنْ شَاقَّهُ وَ مُذِلُّ مَنْ نَاوَاهُ- وَ غَالِبُ مَنْ عَادَاهُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ وَ مَنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ- وَ مَنْ أَقْرَضَهُ قَضَاهُ وَ مَنْ شَكَرَهُ جَزَاهُ- عِبَادَ اللَّهِ زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا- وَ حَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا- وَ تَنَفَّسُوا قَبْلَ ضِيقِ الْخِنَاقِ وَ انْقَادُوا قَبْلَ عُنْفِ السِّيَاقِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ- حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وَ زَاجِرٌ- لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا لَا زَاجِرٌ وَ لَا وَاعِظٌ
اللغة
أقول: الأرتاج: الأغلاق. و الساجى: الساكن. و الفجاج: الاتّساع. و الفجّ: الواسع. و دائبان: مجدّان في سيرهما. و عازّه: غالبه. و المناواة: المعاداة.
المعنى
و قد صدر هذا الفصل باعتبارات إضافيّة للحقّ سبحانه في معرض تمجيده:
فالأوّل: كونه تعالى معروفا من غير رؤية
و قد سبق معنى معرفته تعالى و مراتبها و بيان كونه منزّها عن الرؤية بحاسّة البصر.
الثاني: كونه تعالى خالقا من غير رويّة
و قد سبق أيضا بيانه في قوله في الخطبة الاولى: بلا رويّة أجالها.
الثالث: كونه لم يزل دائما
و ذلك لكون وجوب وجوده مستلزما لاستحالة عدمه أزلا و أبدا.
الرابع: كونه قائما.
يجوز أن يريد به معنى الدائم الباقى، و يجوز أن يريد به القائم بامور العالم، و للمفسّرين فيه على هذا الوجه أقوال: الأوّل: عن ابن عبّاس- رضى اللّه عنه- كونه عالما بالخلق أينما كانوا و ضابطا لأحوالهم.
الثاني: قيامه توكيله الحفظة عليهم و هو المشار إليه بقوله تعالى أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ.
الثالث: القائم على الشيء هو الحافظ له و المدبّر لأمره.
الرابع: هو المجازى بالأعمال.
الخامس: هوالقاهرلعباده المقتدر عليهم
و قوله: إذ لا سماء. إلى قوله: ذو اعتماد إشارة إلى جهة اعتبار أزليّة قيامه بذاته و سبقه لكلّ ممكن و دوامه تقريرا لقول الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: كان اللّه و لا شيء. فأمّا الحجب ذات الأرتاج فيحتمل أن يريد بها السماوات على ظاهر الشريعة و أنّه تعالى في السماء فأشبهت الحجب له فأطاق له لفظها عليها، و كونها ذات أرتاج كناية عن عدم التمكّن من فتحها و الدخول فيها كناية بالمستعار، و قال بعض الفضلاء: أراد بها الهيئات البدنيّة و محبّة الدنيا و الظلمات الحاصلة للنفس الحاجبة لها عن مشاهدة أنوار جلال اللّه حتّى كأنّها أقفال عليها كما قال تعالى أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها و قوله: و لا خلق ذو اعتماد: أى ذو قوّة و بطش.
السادس: كونه مبتدع الخلق
أي مخترعه على غير مثال سبق.
السابع: كونه وارثه:
أى كما أنّه مبدأه فهو مآله و مرجعه، و ذلك إشارة إلى كونه دائما قائما لم يزل و لا يزال.
الثامن: كونه إله الخلق
و هو اعتبار يلحقه بالقياس إلى ايجاده لهم و استعباده إيّاهم.
التاسع: كونه رازقهم
و هو اعتبار له بالقياس إلى إفاضة ساير نعمه عليهم.
أحدها: كون الشمس و القمر دائبين في مرضاته: أي على وفق إرادته للخير المطلق و النظام الكلّى، و ذكرهما في معرض تمجيده لكونهما من أعظم آيات ملكه، و قوله: يبليان كلّ جديد. نسب الإبلاء إليهما لكون حركاتهما من الأسباب لحدوث الحوادث في هذا العالم و تغيّراته، و كذلك قوله: و يقرّبان كلّ بعيد، و فيه جذب إلى ذكر المعاد و العمل له فكونهما يبليان كلّ جديد منبّه على عدم الثقة و الاعتماد على ما يروق و يعجب من حسن الأبدان وجدتها، و كذلك ما يحدث و يتجدّد من قينات الدنيا و لذّاتها لوجوب دخولها فيما يبلى و كونهما يقرّبان البعيد تنبيه مع ذلك على الحذر ممّا يستبعده أهل الغفلة من الموت و الفناء في صحّة أبدانهم و سلامتهم في حياتهم الدنيا.
العاشر: كونه تعالى قسم أرزاقهم
كقوله نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا«» أي وهب لكلّ من الخلق ما كتب له في اللوح المحفوظ.
الحادي عشر: كونه أحصى آثارهم.
إلى قوله: من الأرحام و الظهور: أى أحصى كلّ ذلك منهم بقلم القضاء الإلهى في الألواح المحفوظة و إليه الإشارة بقوله تعالى وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ و قوله وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ«» و قوله يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ«» و قوله وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ«» و قوله: إلى أن تتناهى بهم الغايات: أى يعلم كلّ أحوالهم من حين ابتدائهم إلى أن يقف كلّ عند غايته المكتوبة له من خير أو شرّ.
الثاني عشر: هو الّذي اشتدّت نقمته على أعدائه في سعة رحمته و اتّسعت رحمته لأوليائه في شدّة نقمته
و أشار بذلك إلى كمال ذاته بالنسبة إلى ملوك الدنيا مثلا فإنّ أحدهم في حالة غضبه على عدوّه لا يتّسع لرحمته و لا رحمة غيره، و كذلك في حال رحمته لأوليائه لا يجتمع معها غضبه عليهم، و لمّا ثبت أنّه تعالى هو الغنيّ المطلق المنزّه عن صفات المخلوقين و أنّه المعطى لكلّ قابل ما يستحقّه من غير توقّف في وجوده على أمر من ذاته و كان أعداء اللّه مستعدّون ببعدهم عنه لقبول سخطه و شدّة نقمته في الآخرة لا جرم أولاهم ذلك و إن كانوا في الدنيا في سعة رحمته و شمول نعمته، و كذلك أولياؤه لمّا استعدّوا لقبول رحمته و شمول نعمته أفاضها عليهم فهم في حضرة قدسه على غاية من البهجة و السعادة و ضروب الكرامة و إن كانوا بأجسادهم في ضروب من العذاب و شقاوة الفقر و الضنك في الدنيا، و ذلك لا يملكه إلّا حليم لا يشغله غضب عن رحمته، عدل حكيم لا تمنعه رحمته عن إنزال عقوبته سبحانه ليس إلّا هو.
الثالث عشر: قاهر من عازّه.
إنّه تعالى قاهر باعتبار أنّه قاصم ظهور الجبابرة من أعدائه فيقهرهم بالموت و الإذلال كفرعون إذ قال: فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ. و هو الّذي يلحق هذا الاعتبار مطلقا إذ كلّ موجود فهو مسخّر تحت قدرته و قهره عاجز في قبضته.
الرابع عشر: و مدمّر من شاقّه.
الخامس عشر: و مذّل من ناوأه.
السادس عشر: و غالب من عاداه.
فمشاقّة اللّه اتّباع غير سبيله من بعده ما يتبيّن للمنحرف الهدى، و مناوأته الإعراض عن أوامره و اتّباع الشهوات و إذلاله تعالى حينئذ هو إفاضته لصورة الحاجة إلى غيره.
السابع عشر: كافى من توكّل عليه.
الثامن عشر: و معطى من سأله.
التاسع عشر: و قاضى من أقرضه.
العشرون:
و مجازي من شكره. و هذه الاعتبارات تعود إلى حرف واحد و هو أنّ العبد إذا استعدّ بحسن التوكّل و السؤال و الصدقة و الشكر لنعم اللّه وجب في جود اللّه و حكمته إفاضة كفايته فيما توكّل عليه فيه فكفايته من الكمالات إفاضة تمامها عليه، و من رفع النقصانات دفعها عنه ثمّ إعطاؤه ما سأل إذا استعدّ لقبوله ثمّ أداؤه عن قرضه أضعافه ثمّ جزاؤه على شكر زيادة إنعامه، و أطلق لفظ القرض لما يعطى الفقير مجازا كما قال تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً«» أى بريئا من جهات الرياء و السمعة خالصا لوجه اللّه فيضاعفه له أضعافا كثيرة، و وجه المناسبة كون الفقراء أهل اللّه و عياله فكان المعطى هو اللّه تعالى.
و قوله: عباد اللّه. إلى آخره.
شروع في الشصور و الموعظة فقوله: زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا. زنة النفوس في الدنيا اعتبار أعمالها و ضبطها بميزان العدل: أى مراعاة استقامتها على حاقّ الوسط من طرفى الإفراط و التفريط اللذين هما ككفّتى الميزان مهما رجحت إحداهما فالنقصان لازم و الخسران قايم، و أمّا الميزان الاخروى فأمّا على رأى المتكلّمين و ظاهر الشريعة فظاهر و أمّا على رأى محقّقى السالكين من الصوفيّة فما أشار إليه الإمام الغزّاليّ- رضى اللّه عنه- كاف في بيانه قال: إنّ تعلّق النفس بالجسد كالحجاب لها عن حقايق الامور و بالموت ينكشف الغطاء كما قال تعالى فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ«» و ممّا ينكشف له تأثير أعماله فيما يقرّبه إلى اللّه تعالى و يبعّده عنه، و مقادير تلك الآثار و أنّ بعضها أشدّ تأثيرا من بعض، و في قدرة اللّه تعالى أن يجرى شيئا يعرف الخلق به في لحظة واحدة مقادير الأعمال بالإضافة إلى تأثيراتها في التقريب و الإبعاد فحدّ الميزان ما به يتميّز الزيادة و النقصان و إن اختلف مثاله في العالم المحسوس فمنه الميزان المعروف و منه القبّان و الاصطرلاب لحركات الفلك، و المسطرة لمقادير الخطوط، و العروض لمقادير حركات الأصوات فهذه كلّها أمثلة للميزان الحقيقىّ، و هو ما يعرف به الزيادة و النقصان و هو موجود فيها بأسرها، و صورته تكون للحسّ عند التشكيك و للخيال بالتمثيل.
و قوله: و حاسبوه قبل أن تحاسبوا.
محاسبة النفس ضبط الإنسان على نفسه أعمالها الخيريّة و الشريّة ليزكّيها بما ينبغي لها و يعاقبها على فعل ما لا ينبغي، و هى باب عظيم من أبواب المرابطة في سبيل اللّه فإنّ للعارفين في سلوك سبيل اللّه و مرابطتهم مع أنفسهم مقامات خمسة:
الاولى: المشارطة ثمّ المراقبة ثمّ المحاسبة ثمّ المعاتبة ثمّ المجاهدة و المعاقبة.
و ضربوا لذلك مثالا فقالوا: ينبغي أن يكون حال الإنسان مع نفسه كحاله مع شريكه إذا سلّم إليه ما لا ليتّجر به فالعقل هو التاجر في طريق الآخرة، و مطلبه و ربحه تزكية النفس إذ بذلك فلاحها كما قال تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها«» و إنّما علاجها بالأعمال الصالحة فالعقل يستعين بالنفس في هذه التجارة إذا يستسخرها فيما يزكّيها كما يستعين التاجر بشريكه، و كما أنّ الشريك يصير خصما منازعا يجاذبه في الربح فيحتاج أن يشارطه أوّلا، و يراقبه ثانيا، و يحاسبه ثالثا، و يعاتبه أو يعاقبه رابعا فكذلك العقل يحتاج إلى مشارطة النفس أوّلا فيوظّف عليها الوظايف، و يأمرها بسلوك طريق الحقّ، و يرشدها إليها، و يحرّم عليها سلوك غيرها كما يشترط التاجر على شريكه.
الثانية: أن لا يغفل عن مراقبتها لحظة فلحظة
عند خوضها في الأعمال و يلاحظها بالعين الكالئة و إلى مقام المراقبة الإشارة بقوله تعالى وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ«» و قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: اعبد اللّه كأنّك تراه، و قد سبق بيان حقيقة المراقبة، و لا بدّ منها فإنّ الإنسان لو غفل عن نفسه و أهملها لم ير منها إلّا الخيانة و تضييع رأس المال كالعبد الخائن إذا انفرد بمال سيّده.
الثالثة: ثمّ بعد الفراغ من العمل ينبغي أن يحاسبها و يطالبها بالوفاء بما شرط
فإنّ هذه تجارة ربحها الفردوس الأعلى فتدقيق الحساب في هذا أهمّ من التدقيق في أرباح الدنيا لحقارتها بالنسبة إلى نعيم الآخرة فلا ينبغي أن يهمل من مناقشتها في ذرّة من حركاتها و سكناتها و خطراتها و لحظاتها فإنّ كلّ نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها يمكن أن يشترى بما كنزه من كنوز الآخرة لا يتناهى. قالوا: و ينبغي للإنسان أن يخلو عقيب فريضة كلّ صبح مع نفسه بالوصيّة و يقول: أى نفس ليس لى بضاعة إلّا العمر و مهما فنى فقد فنى رأس مالى، و وقع اليأس من التجارة و طلب الربح، و هذا يوم جديد قد أمهلنى اللّه فيه و هو صاحب البضاعة و ربّها و لو توفّانى لقلت: ربّ ارجعون لعلّى أعمل صالحا فيما تركت: فاحسبى إنّك رددت فإيّاك و تضييع هذا اليوم و الغفلة فيه. و اعلمى أنّ اليوم و الليلة أربع و عشرون ساعة، و قد ورد في الخبر أنّه يفتح للعبد في كلّ يوم و ليلة أربع و عشرون خزانة مصفوفة فيفتح لها فيها خزانة فيراها مملوّة نورا من حسناته الّتى عملها في تلك الساعة فينال من الفرح و الاستبشار بمشاهدة تلك الأنوار ما لو قسّم على أهل النار لأغناهم عن الإحساس بآلامها، و يفتح له خزانة اخرى فيراها سوداء مظلمة يفوح نتنها و يغشاهم ظلامها و هى الساعة الّتى عصا اللّه تعالى فيها فينا له من الهول و الفزع ما لو قسمّ على أهل الجنّة لتغصّ عليهم نعيمها، و يفتح له خزانة اخرى فارغة ليس فيها ما يسرّه و ما يسوءه و هى الساعة الّتى نام فيها أو غفل في شيء من مباحات الدنيا فيتحسّر على خلوّها و يناله من الغبن الفاحش ما ينال من قدر على ربح كثير ثمّ ضيّعه، و إليه الإشارة بقوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ«» و قال بعضهم: هب أنّ المسيئ قد عفى عنه أليس فاته ثواب المحسنين. و هو إشارة إلى الغبن و الحسرة يومئذ، ثمّ يستأنف وصيّته لأعضائه السبعة: و هى العين و الاذن و اللسان و البطن و الفرج و اليد و الرجل، و يسلّمها إليها فإنّها رعايا خادمة لها في التجارة و بها يتمّ أعمال هذه التجارة، و أنّ لجهنّم سبعة أبواب لكلّ باب منهم جزء مقسوم، و إنّما يتعيّن تلك الأبواب لمن عصى اللّه تعالى بهذه الأعضاء، و يوصى كلّ عضو بما ينبغي له و ينهاه عمّا لا ينبغي له، و يرجعه في تفصي تلك الأوامر و النواهى إلى مراسم الشريعة ثمّ يشترط عليها إن خالفت ذلك عاقبها بالمنع من شهواتها، و هذه الوصيّة قد تكون بعد العمل و قد تكون قبله للتحذير كما قال تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ«».
الرابعة: المجاهدة و المعاقبة،
و هو بعد المحاسبة إذا رأى نفسه قد تاقت معصية فينبغى أن يعاقبها بالصبر عن أمثالها و يضيّق عليها في مواردها و ما يقود إليها من الامور المباحة و إن رآها توانت و كسلت عن شيء من الفضايل و ورد من الأوراد فينبغى أن يؤدّ بها بتثقيل الأوراد عليها و يلزمها فنونا من الطاعات جبرا لما فات. روى: أنّ ابن عمر أخّر صلاة المغرب حتّى طلع كوكبان فأعتق رقبتين.
الخامسة: توبيخ النفس و معاتبتها،
و قد علمت أنّ لك نفسا أمّارة بالسوء ميّالة إلى الشرّ، و قد امرت بتقويمها و قودها [عودها ج] بسلاسل القهر إلى عبادة ربّها و خالقها و بمنعها عن شهواتها و لذّاتها المألوفة فإن أهملتها شردت و جمحت و لم تظفر بها بعد ذلك، و إن لازمتها بالتوبيخ و المعاتبة و اللائمة كانت نفسك هى النفس اللوّامة، و سبيل المعاتبة أن تذكّر النفس عيوبها و ما هى عليه من الجهل و الحمق و ما بين يديها من مغافصة الموت و ما تؤول إليه من الجنّة و النار و ما عليه اتّفاق كلمة أولياء اللّه الّذين هم بتسليمها سادات الخلق و رؤساء العالم من وجوب سلوك سبيل اللّه و مفارقة معاصيه، و تذكيرها بآيات اللّه و أحوال الصالحين من عباده. فهذه محاسبات النفس و مرابطاتها، و أمّا حسابها الاخروىّ فقد سبقت الاشارة إليه.
و قوله و تنفّسوا من قبل ضيق الخناق.
استعار لفظ النفس لتحصيل الراحة و البهجة في الجنّة بالأعمال الصالحة في الدنيا المستلزمة لها كما يستلزم النفس راحة القلب من الكرب، و استعار لفظ الخناق من الحبل المخصوص للموت، و وجه المشابهة ما يستلزمه ضيق الخناق و الموت من عدم التمكّن و التصرّف و العمل: أى انتهزوا الفرصة للعمل قبل تعذّره بزوال وقته و ضيقه.
و قوله: و انقادوا قبل عنف السياق.
أى انقادوا لأوامر اللّه إلى طاعته قبل السوق العنيف و هو سوق ملك الموت بالجذبة المكربة كما سبق.
و قوله: و اعلموا أنّه من لم يعن على نفسه. إلى آخره.
أى من لم يعنه اللّه على نفسه. و إعانته له هو إعداد العناية الإلهيّة لنفسه الناطقة أن تقبل السوانح الخيريّة، و تأييدها بها على النفس الأمّارة بالسوء لتقوى بتلك السوانح على قهرها و على الانزجار عن متابعتها و الانجذاب إلى ما تدعوها إليه من الشهوات فإنّه متى لم يكن لها ذلك الاستعداد و القبول لم ينفعها وعظ غيرها و لم يقبله إذ لا قبول بدون استعداد للمقبول. و في ذلك تنبيه على وجوب الاستعانة باللّه في أحوال النفس و دفع الشيطان عنها. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 315