86 و من خطبة له ع
عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَيْهِ عَبْداً- أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ- وَ تَجَلْبَبَ الْخَوْفَ فَزَهَر مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ- وَ أَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ- فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ وَ هَوَّنَ الشَّدِيدَ- نَظَرَ فَأَبْصَرَ وَ ذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ- وَ ارْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ- فَشَرِبَ نَهَلًا وَ سَلَكَ سَبِيلًا جَدَداً- قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ وَ تَخَلَّى عَنِ الْهُمُومِ- إِلَّا هَمّاً وَاحِداً انْفَرَدَ بِهِ فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى- وَ مُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى وَ صَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى- وَ مَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى- قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ وَ سَلَكَ سَبِيلَهُ وَ عَرَفَ مَنَارَهُ- وَ قَطَعَ غِمَارَهُ وَ اسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا- وَ مِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ- قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي أَرْفَعِ الْأُمُورِ- مِنْ إِصْدَارِ كُلِّ وَارِدٍ عَلَيْهِ وَ تَصْيِيرِ كُلِّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلِهِ- مِصْبَاحُ ظُلُمَاتٍ كَشَّافُ عَشَوَاتٍ مِفْتَاحُ مُبْهَمَاتٍ- دَفَّاعِ مُعْضِلَاتٍ دَلِيلُ فَلَوَاتٍ يَقُولُ فَيُفْهِمُ وَ يَسْكُتُ فَيَسْلَمُ- قَدْ أَخْلَصَ لِلَّهِ فَاسْتَخْلَصَهُ- فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ وَ أَوْتَادِ أَرْضِهِ- قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ فَكَانَ أَوَّلُ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ- يَصِفُ الْحَقَّ وَ يَعْمَلُ بِهِ لَا يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلَّا أَمَّهَا- وَ لَا مَظِنَّةً إِلَّا قَصَدَهَا قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ- فَهُوَ قَائِدُهُ وَ إِمَامُهُ يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ- وَ يَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ استشعر الحزن جعله كالشعار- و هو ما يلي الجسد من الثياب- و تجلبب الخوف جعله جلبابا أي ثوبا- .
زهر مصباح الهدى أضاء و أعد القرى ليومه- أي أعد ما قدمه من الطاعات قرى- لضيف الموت النازل به و الفرات العذب- . و قوله فشرب نهلا يجوز أن يكون أراد بقوله نهلا المصدر- من نهل ينهل نهلا أي شرب حتى روي- و يجوز أن يريد بالنهل الشرب الأول خاصة- و يريد أنه اكتفى بما شربه أولا فلم يحتج إلى العلل- .
و طريق جدد لا عثار فيه لقوة أرضه و قطع غماره- يقال بحر غمر أي كثير الماء و بحار غمار- و استمسك من العرى بأوثقها أي من العقود الوثيقة- قال تعالى فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى- . و نصب نفسه لله أي أقامها- . كشاف عشوات جمع عشوة و عشوة و عشوة بالحركات الثلاث- و هي الأمر الملتبس يقال أوطأني عشوة- .
و المعضلات جمع معضلة و هي الشدائد- و الأمور التي لا يهتدي لوجهها- . دليل فلوات- أي يهتدى به كما يهتدي الركب في الفلاة بدليلهم- . أمها قصدها و مظنة الشيء حيث يظن وجوده- و الثقل متاع المسافر و حشمه
فصل في العباد و الزهاد و العارفين و أحوالهم
و اعلم أن هذا الكلام منه- أخذ أصحاب علم الطريقة و الحقيقة علمهم- و هو تصريح بحال العارف و مكانته من الله تعالى- . و العرفان درجة حال رفيعة شريفة جدا مناسبة للنبوة- و يختص الله تعالى بها من يقربه إليه من خلقه- . و الأولياء على طبقات ثلاث- الطبقة الأولى حال العابد و هو صاحب الصلاة الكثيرة- و الصوم الدائم و الحج و الصدقة- . و الطبقة الثانية حال الزاهد- و هو المعرض عن ملاذ الدنيا و طيباتها- تقنعه الكسرة و تستره الخرقة لا مال و لا زوجة و لا ولد- .
و الطبقة الثالثة حال العارف- و هو الواصل إلى الله سبحانه بنفسه لا ببدنه- و البارئ سبحانه متمثل في نفسه- تمثل المعشوق في ذات العاشق- و هو أرفع الطبقات و بعده الزاهد- . و أما العابد فهو أدونها- و ذلك لأن العابد معامل كالتاجر- يعبد ليثاب و يتعب نفسه ليرتاح- فهو يعطي من نفسه شيئا و يطلب ثمنه و عوضه- و قد يكون العابد غنيا موسرا كثير المال و الولد- فليست حاله من أحوال الكمال- .
و أما الزاهد فإنه احتقر الدنيا و عروضها و قيناتها- فخلصت نفسه من دناءة المطامع و صار عزيزا ملكا- لا سلطان عليه لنفسه و لا لغيره- فاستراح من الذل و الهوان- و لم يبق لنفسه شيء تشتاق إليه بعد الموت- فكان أقرب إلى السلامة- و النجاة من العابد الغني الموسر- . و أما العارف فإنه بالحال التي وصفناها- و يستلزم مع وجودها أن يكون زاهدا- لأنه لا يتصور العرفان- مع تعلق النفس بملاذ الدنيا و شهواتها- نعم قد يحصل بعض العرفان لبعض العلماء الفضلاء- مع تعلقهم بشهوات الدنيا- و لكنهم لا يكونون كاملين في أحوالهم-
و إنما تحصل الحالة الكاملة- لمن رفض الدنيا و تخلى عنها- و تستلزم الحالة المذكورة أيضا- أن يكون عابدا عبادة ما- و ليس يشترط في حصول حال العرفان- أن يكون على قدم عظيمة من العبادة- بل الإكثار من العبادة حجاب كما قيل- و لكن لا بد من القيام بالفرائض و شيء يسير من النوافل- .
و اعلم أن العارف هو العارف بالله تعالى- و صفاته و ملائكته و رسله و كتبه- و بالحكمة المودعة في نظام العالم- لا سيما الأفلاك و الكواكب و تركيب طبقات العناصر- و الأحكام و في تركيب الأبدان الإنسانية- . فمن حصل له ذلك فهو العارف- و إن لم يحصل له ذلك فهو ناقص العرفان- و إن انضم إلى ذلك استشعاره جلال الله تعالى و عظمته- و رياضة النفس و المجاهدة و الصبر و الرضا و التوكل- فقد ارتفع طبقة أخرى- فإن حصل له بعد ذلك الحب و الوجد فقد ارتفع طبقة أخرى- فإن حصل له بعد ذلك الإعراض عن كل شيء سوى الله- و أن يصير مسلوبا عن الموجودات كلها- فلا يشعر إلا بنفسه و بالله تعالى- فقد ارتفع طبقة أخرى و هي أرفع طبقات- .
و هناك طبقة أخرى يذكرونها و هي أن يسلب عن نفسه أيضا- فلا يكون له شعور بها أصلا- و إنما يكون شاعرا بالقيوم الأول سبحانه لا غير- و هذه درجة الاتحاد بأن تصير الذاتان ذاتا واحدة- . و هذا قول قوم من الأوائل و من المتأخرين أيضا- و هو مقام صعب لا تثبت العقول لتصوره و اكتناهه- . و اعلم أن هذه الصفات و الشروط و النعوت- التي ذكرها في شرح حال العارف- إنما يعني بها نفسه ع و هو من الكلام الذي له ظاهر و باطن- فظاهره أن يشرح حال العارف المطلق- و باطنه أن يشرح حال عارف معين و هو نفسه ع- و سيأتي في آخر الخطبة ما يدل على ذلك- .
و نحن نذكر الصفات التي أشار ع إليها واحدة واحدة- فأولها أن يكون عبدا أعانه الله على نفسه- و معنى ذلك أن يخصه بألطاف- يختار عندها الحسن و يتجنب القبيح- فكأنه أقام النفس في مقام العدو- و أقام الألطاف مقام المعونة- التي يمده الله سبحانه بها- فيكسر عادية العدو المذكور- و بهذا الاعتبار سمي قوم من المتكلمين اللطف عونا- .
و ثانيها أن يستشعر الحزن- أي يحزن على الأيام الماضية إن لم يكن اكتسب فيها- من موجبات الاختصاص أضعاف ما اكتسبه- . و ثالثها أن يتجلبب الخوف أي يخاف من الإعراض عنه- بأن يصدر عنه ما يمحوه من جريدة المخلصين- . و رابعها أن يعد القرى لضعيف المنية- و ذلك بإقامة وظائف العبادة- .
و خامسها أن يقرب على نفسه البعيد- و ذلك بأن يمثل الموت بين عينيه صباحا و مساء- و ألا يطيل الأمل- . و سادسها- أن يهون عليه الشدائد و ذلك باحتمال كلف المجاهدة- و رياضة النفس على عمل المشاق- . و سابعها- أن يكون قد نظر فأبصر و ذلك بترتيب المقدمات- المطابقة لمتعلقاتها ترتيبا صحيحا- لتنتج العلم اليقيني- . و ثامنها- أن يذكر الله تعالى فيستكثر من ذكره- لأن ذكره سبحانه و الإكثار منه- يقتضي سكون النفس و طمأنينتها كما قال تعالى- أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ- . و تاسعها- أن يرتوي من حب الله تعالى و هو العذب الفرات- الذي سهل موارده على من انتخبه الله- و جعله أهلا للوصول إليه فشرب منه و نهل- و سلك طريقا لا عثار فيه و لا وعث- .
و عاشرها أن يخلع سرابيل الشهوات- لأن الشهوات تصدئ مرآة العقل- فلا تنطبع المعقولات فيها كما ينبغي و كذلك الغضب- . و حادي عشرها أن يتخلى من الهموم كلها- لأنها تزيدات و قواطع عن المطلوب- إلا هما واحدا و هو همه بمولاه- الذي لذته و سروره الاهتمام به- و التفرد بمناجاته و مطالعة أنوار عزته- فحينئذ يخرج عن صفة أهل العمى و من مشاركة أهل الهوى- لأنه قد امتاز عنهم بهذه المرتبة و الخاصية- التي حصلت له فصار مفتاحا لباب الهدى- و مغلاقا لباب الضلال و الردى- قد أبصر طريق الهدى و سلك سبيله- و عرف مناره و قطع غماره- .
و ثاني عشرها أن ينصب نفسه لله في أرفع الأمور- و هو الخلوة به و مقابلة أنوار جلاله بمرآة فكره- حتى تتكيف نفسه بتلك الكيفية العظيمة الإشراق- فهذا أرفع الأمور و أجلها و أعظمها- و قد رمز في هذا الفصل- و مزجه بكلام خرج به إلى أمر آخر- و هو فقه النفس في الدين- و الأمور الشرعية النافعة للناس في دنياهم و أخراهم- أما في دنياهم فلردع المفسد و كف الظالم- و أما في أخراهم فللفوز بالسعادة باعتبار امتثال الأوامر الإلهية- فقال في إصدار كل وارد عليه- أي في فتيا كل مستفت له و هداية كل مسترشد له في الدين- ثم قال و تصيير كل فرع إلى أصله- و يمكن أن يحتج بهذا من قال بالقياس- و يمكن أن يقال إنه لم يرد ذلك- بل أراد تخريج الفروع العقلية و ردها إلى أصولها- كما يتكلف أصحابنا القول في بيان حكمة القديم تعالى- في الآلام و ذبح الحيوانات ردا له إلى أصل العدل- و هو كونه تعالى لا يفعل القبيح- .
و ثالث عشرها أن يكون مصباحا لظلمات الضلال- كشافا لعشوات الشبه- مفتاحا لمبهمات الشكوك المستغلقة- دفاعا لمعضلات الاحتجاجات العقلية الدقيقة الغامضة- دليلا في فلوات الأنظار الصعبة المشتبهة- و لم يكن في أصحاب محمد ص أحد بهذه الصفة إلا هو- . و رابع عشرها أن يقول مخاطبا لغيره فيفهمه ما خاطبه به- و أن يسكت فيسلم و ذلك لأنه ليس كل قائل مفهما- و لا كل ساكت سالما- . و خامش عشرها أن يكون قد أخلص لله فاستخلصه الله- و الإخلاص لله مقام عظيم جدا و هو ينزه الأفعال عن الرياء- و ألا يمازج العبادة أمر لا يكون لله سبحانه- و لهذا كان بعض الصالحين- يصبح من طول العبادة نصبا قشفا- فيكتحل و يدهن ليذهب بذلك أثر العبادة عنه- .
و قوله فهو من معادن دينه و أوتاد أرضه- معادن دينه الذين يقتبس الدين منهم- كمعادن الذهب و الفضة- و هي الأرضون التي يلتقط ذلك منها- و أوتاد أرضه هم الذين لولاهم- لمادت الأرض و ارتجت بأهلها- و هذا من باب الاستعارة الفصيحة- و أهل هذا العلم يقولون- أوتاد الأرض جماعة من الصالحين- و لهم في الأوتاد و الأبدال و الأقطاب كلام مشهور في كتبهم- . و سادس عشرها أن يكون قد ألزم نفسه العدل- و العدالة ملكه تصدر بها عن النفس- الأفعال الفاضلة خلقا لا تخلقا- . و أقسام العدالة ثلاثة- هي الأصول و ما عداها من الفضائل فروع عليها- الأولى الشجاعة- و يدخل فيها السخاء لأنه شجاعة و تهوين للمال- كما أن الشجاعة الأصلية تهوين للنفس- فالشجاع في الحرب جواد بنفسه- و الجواد بالمال شجاع في إنفاقه- و لهذا قال الطائي-
أيقنت أن من السماح شجاعة
تدمي و أن من الشجاعة جودا
و الثانية الفقه- و يدخل فيها القناعة و الزهد و العزلة- . و الثالثة الحكمة و هي أشرفها- . و لم تحصل العدالة الكاملة لأحد من البشر- بعد رسول الله ص إلا لهذا الرجل و من أنصف علم صحة ذلك- فإن شجاعته و جوده- و عفته و قناعته و زهده يضرب بها الأمثال- . و أما الحكمة و البحث في الأمور الإلهية- فلم يكن من فن أحد من العرب- و لا نقل في جهاد أكابرهم و أصاغرهم شيء من ذلك أصلا- و هذا فن كانت اليونان و أوائل الحكماء- و أساطين الحكمة ينفردون به- و أول من خاض فيه من العرب علي ع- و لهذا تجد المباحث الدقيقة في التوحيد و العدل- مبثوثة عنه في فرش كلامه و خطبه- و لا تجد في كلام أحد من الصحابة و التابعين- كلمة واحدة من ذلك و لا يتصورونه- و لو فهموه لم يفهموه و أنى للعرب ذلك- .
و لهذا انتسب المتكلمون- الذين لججوا في بحار المعقولات إليه خاصة دون غيره- و سموه أستاذهم و رئيسهم- و اجتذبته كل فرقة من الفرق إلى نفسها- أ لا ترى أن أصحابنا ينتمون إلى واصل بن عطاء- و واصل تلميذ أبي هاشم بن محمد بن الحنفية- و أبو هاشم تلميذ أبيه محمد و محمد تلميذ أبيه علي ع- . فأما الشيعة من الإمامية و الزيدية و الكيسانية- فانتماؤهم إليه ظاهر- . و أما الأشعرية فإنهم بأخرة ينتمون إليه أيضا- لأن أبا الحسن الأشعري- تلميذ شيخنا أبي علي رحمه الله تعالى- و أبو علي تلميذ أبي يعقوب الشحام- و أبو يعقوب تلميذ أبي الهذيل- و أبو الهذيل تلميذ أبي عثمان الطويل- و أبو عثمان الطويل تلميذ واصل بن عطاء- فعاد الأمر إلى انتهاء الأشعرية إلى علي ع- .
و أما الكرامية فإن ابن الهيصم ذكر في كتاب المقالات- أن أصل مقالتهم و عقيدتهم تنتهي إلى علي ع من طريقين- أحدهما بأنهم يسندون اعتقادهم عن شيخ بعد شيخ- إلى أن ينتهي إلى سفيان الثوري- ثم قال و سفيان الثوري من الزيدية- ثم سأل نفسه فقال إذا كان شيخكم الأكبر- الذي تنتمون إليه كان زيديا- فما بالكم لا تكونون زيدية- و أجاب بأن سفيان الثوري رحمه الله تعالى- و أن أشهر عنه الزيدية إلا أن تزيده إنما كان عبارة عن موالاة أهل البيت- و إنكار ما كان بنو أمية عليه من الظلم- و إجلال زيد بن علي و تعظيمه و تصوينه في أحكامه و أحواله- و لم ينقل عن سفيان الثوري أنه طعن في أحد من الصحابة- .
الطريق الثاني أنه عد مشايخهم واحدا فواحدا- حتى انتهى إلى علماء الكوفة من أصحاب علي- كسلمة بن كهيل و حبة العرني و سالم بن الجعد- و الفضل بن دكين و شعبة و الأعمش و علقمة و هبيرة ابن مريم- و أبي إسحاق الشعبي و غيرهم- ثم قال و هؤلاء أخذوا العلم من علي بن أبي طالب ع- فهو رئيس الجماعة يعنى أصحابه- و أقوالهم منقولة عنه و مأخوذة منه- . و أما الخوارج فانتماؤهم إليه ظاهر أيضا مع طعنهم فيه- لأنهم كانوا أصحابه و عنه مرقوا- بعد أن تعلموا عنه و اقتبسوا منه- و هم شيعته و أنصاره بالجمل و صفين- و لكن الشيطان ران على قلوبهم و أعمى بصائرهم- .
ثم إنه ع ذكر حال هذا العارف العادل- فقال أول عدله نفي الهوى عن نفسه- و ذلك لأن من يأمر و لا يأتمر و ينهى و لا ينتهي- لا تؤثر عظته و لا ينفع إرشاده- ثم شرح ذلك فقال يصف الحق و يعمل به- ثم قال لا يدع للخير غاية إلا أمها و لا مظنة إلا قصدها- و ذلك لأن الخير لذته و سروره و راحته- فمتى وجد إليه طريقا سلكها- ثم قال قد أمكن الكتاب يعني القرآن من زمامه- أي قد أطاع الأوامر الإلهية فالقرآن قائده و إمامه- يحل حيث حل و ينزل حيث نزل وَ آخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً وَ لَيْسَ بِهِ- فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وَ أَضَالِيلَ مِنْ ضُلَّالٍ- وَ نَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وَ قَوْلِ زُورٍ- قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ- وَ عَطَفَ الْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِهِ- يُؤَمِّنُ النَّاسَ مِنَ الْعَظَائِمِ وَ يُهَوِّنُ كَبِيرَ الْجَرَائِمِ- يَقُولُ أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وَ فِيهَا وَقَعَ- وَ يَقُولُ أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ وَ بَيْنَهَا اضْطَجَعَ- فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ وَ الْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ- لَا يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ- وَ لَا بَابَ الْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْهُ وَ ذَلِكَ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ- فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ وَ أَنَّى تُؤْفَكُونَ- وَ الْأَعْلَامُ قَائِمَةٌ وَ الآْيَاتُ وَاضِحَةٌ وَ الْمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ- فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ وَ كَيْفَ تَعْمَهُونَ وَ بَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ- وَ هُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ وَ أَعْلَامُ الدِّينِ وَ أَلْسِنَةُ الصِّدْقِ- فَأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ الْقُرْآنِ- وَ رِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ- أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوهَا عَنْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ص- إِنَّهُ يَمُوتُ مِنْ مَاتَ مِنَّا وَ لَيْسَ بِمَيِّتٍ- وَ يَبْلَى مَنْ بَلِيَ مِنَّا وَ لَيْسَ بِبَالٍ- فَلَا تَقُولُوا بِمَا لَا تَعْرِفُونَ- فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحَقِّ فِيمَا تُنْكِرُونَ- وَ أَعْذِرُوا مَنْ لَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ وَ هُوَ أَنَا- أَ لَمْ أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ الْأَكْبَرِ- وَ أَتْرُكْ فِيكُمُ الثَّقَلَ الْأَصْغَرَ- قَدْ رَكَزْتُ فِيكُمْ رَايَةَ الْإِيمَانِ- وَ وَقَفْتُكُمْ عَلَى حُدُودِ الْحَلَالِ وَ الْحَرَامِ- وَ أَلْبَسْتُكُمُ الْعَافِيَةَ مِنْ عَدْلِي- وَ فَرَشْتُكُمُ الْمَعْرُوفَ مِنْ قَوْلِي وَ فِعْلِي- وَ أَرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ الْأَخْلَاقِ مِنْ نَفْسِي- فَلَا تَسْتَعْمِلُوا الرَّأْيَ فِيمَا لَا يُدْرِكُ قَعْرَهُ الْبَصَرُ- وَ لَا تَتَغَلْغَلُ إِلَيْهِ الْفِكَرُ الجهائل جمع جهالة كما قالوا علاقة و علائق- و الأضاليل الضلال جمع لا واحد له من لفظه- . و قوله و قد حمل الكتاب على آرائه- يعني قد فسر الكتاب و تأوله على مقتضى هواه- و قد أوضح ذلك بقوله و عطف الحق على أهوائه- .
و قوله يؤمن الناس من العظائم- فيه تأكيد لمذهب أصحابنا في الوعيد- و تضعيف لمذهب المرجئة- الذين يؤمنون الناس من عظائم الذنوب- و يمنونهم العفو مع الإصرار و ترك التوبة-و جاء في الخبر المرفوع المشهور الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت- و الأحمق من أتبع نفسه هواها و تمنى على الله- .
و قوله يقول أقف عند الشبهات- يعني أن هذا المدعي للعلم يقول لنفسه و للناس- أنا واقف عند أدنى شبهة تحرجا و تورعا-كما قال ص دع ما يريبك إلى ما لا يريبك- . ثم قال و في الشبهات وقع أي بجهله- لأن من لا يعلم الشبهة ما هي- كيف يقف عندها و يتخرج من الورطة فيها- و هو لا يأمن من كونها غير شبهة على الحقيقة- . و قوله أعتزل البدع و بينها اضطجع- إشارة إلى تضعيف مذاهب العامة- و لحشوية- الذين رفضوا النظر العقلي و قالوا نعتزل البدع- . و قوله فالصورة صورة إنسان و ما بعده- فمراده بالحيوان هاهنا- الحيوان الأخرس الحمار و الثور- و ليس يريد العموم لأن الإنسان داخل في الحيوان- و هذا مثل قوله تعالى إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا- . و قال الشاعر-
و كائن ترى من صامت لك معجب
زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف و نصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم و الدم
قوله و ذلك ميت الأحياء كلمة فصيحة- و قد أخذها شاعر فقال-
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
إلا أن أمير المؤمنين ع أراد لجهله و الشاعر أراد لبؤسه- . و تؤفكون تقلبون و تصرفون- . و الأعلام المعجزات هاهنا جمع علم- و أصله الجبل أو الراية و المنارة- تنصب في الفلاة ليهتدى بها- . و قوله فأين يتاه بكم أي أين يذهب بكم في التيه- و يقال أرض تيهاء يتحير سالكها- و تعمهون تتحيرون و تضلون- . و عترة رسول الله ص أهله الأدنون و نسله- و ليس بصحيح قول من قال إنهم رهطه و إن بعدوا- و إنما قال أبو بكر يوم السقيفة أو بعده- نحن عترة رسول الله ص و بيضته التي فقئت عنه- على طريق المجاز- لأنهم بالنسبة إلى الأمصار عترة له لا في الحقيقة- أ لا ترى أن العدناني يفاخر القحطاني- فيقول له أنا ابن عم رسول الله ص- ليس يعني أنه ابن عمه على الحقيقة- بل هو بالإضافة إلى القحطاني كأنه ابن عمه- و إنما استعمل ذلك و نطق به مجازا- فإن قدر مقدر أنه على طريق حذف المضافات- أي ابن ابن عم أب الأب إلى عدد كثير في البنين و الآباء- فكذلك أراد أبو بكر أنهم عترة أجداده- على طريق حذف المضاف- و قد بين رسول الله ص عترته من هي-لما قال إني تارك فيكم الثقلينفقال عترتي أهل بيتي- و بين في مقام آخر من أهل بيته حيث طرح عليهم كساء- و قال حين نزلت- إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُلِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب الرجس عنهم- .
فإن قلت- فمن هي العترة التي عناها أمير المؤمنين ع بهذا الكلام- . قلت نفسه و ولداه- و الأصل في الحقيقة نفسه لأن ولديه تابعان له- و نسبتهما إليه مع وجوده كنسبة الكواكب المضيئة- مع طلوع الشمس المشرقة- و قد نبه النبي ص على ذلك بقوله و أبوكما خير منكما
– . و قوله و هم أزمة الحق جمع زمام- كأنه جعل الحق دائرا معهم حيثما داروا- و ذاهبا معهم حيثما ذهبوا كما أن الناقة طوع زمامها- و قد نبه الرسول ص على صدق هذه القضية بقوله و أدر الحق معه حيث دار- .
و قوله و ألسنة الصدق من الألفاظ الشريفة القرآنية- قال الله تعالى وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ- لما كان يصدر عنهم حكم و لا قول إلا و هو موافق للحق- و الصواب جعلهم كأنهم ألسنة صدق- لا يصدر عنها قول كاذب أصلا بل هي كالمطبوعة على الصدق- . و قوله فأنزلوهم منازل القرآن تحته سر عظيم- و ذلك أنه أمر المكلفين- بأن يجروا العترة في إجلالها و إعظامها- و الانقياد لها و الطاعة لأوامرها مجرى القرآن- . فإن قلت فهذا القول منه يشعر بأن العترة معصومة- فما قول أصحابكم في ذلك- . قلت نص أبو محمد بن متويه رحمه الله تعالى- في كتاب الكفاية على أن عليا ع معصوم- و إن لم يكن واجب العصمة و لا العصمة شرط في الإمامة- لكن أدلة النصوص قد دلت على عصمته- و القطع على باطنه و مغيبه- و أن ذلك أمر اختص هو به دون غيره من الصحابة- و الفرق ظاهر بين قولنا زيد معصوم- و بين قولنا زيد واجب العصمة لأنه إمام- و من شرط الإمام أن يكون معصوما- فالاعتبار الأول مذهبنا- و الاعتبار الثاني مذهب الإمامية- .
ثم قال وردوهم ورود الهيم العطاش أي كونوا ذوي حرص- و انكماش على أخذ العلم و الدين منهم- كحرص الهيم الظماء على ورود الماء- . ثم قال أيها الناس خذوها عن خاتم النبيين- إلى قوله و ليس ببال- هذا الموضع يحتاج إلى تلطف في الشرح- لأن لقائل أن يقول ظاهر هذا الكلام متناقض- لأنه قال يموت من مات منا و ليس بميت- و هذا كما تقول يتحرك المتحرك و ليس بمتحرك- و كذلك قوله و يبلى من بلي منا و ليس ببال- أ لا ترى أنه سلب و إيجاب لشيء واحد- فإن قلتم أراد بقاء النفس بعد موت الجسد- كما قاله الأوائل و قوم من المتكلمين- قيل لكم فلا اختصاص للنبي و لا لعلي بذلك- بل هذه قضية عامة في جميع البشر- و الكلام خرج مخرج التمدح و الفخر- . فنقول في الجواب- إن هذا يمكن أن يحمل على وجهين- أحدهما أن يكون النبي ص و علي- و من يتلوهما من أطائب العترة أحياء- بأبدانهم التي كانت في الدنيا بأعيانها- قد رفعهم الله تعالى إلى ملكوت سماواته- و على هذا لو قدرنا أن محتفرا- احتفر تلك الأجداث الطاهرة عقب دفنهم- لم يجد الأبدان في الأرض-
و قد روي في الخبر النبوي ص مثل ذلك و هو قوله إن الأرض لم تسلط علي- و إنها لا تأكل لي لحما و لا تشرب لي دما- نعم يبقى الأشكال في قوله و يبلى من بلي منا و ليس ببال- فإنه إن صح هذا التفسير في الكلام الأول- و هو قوله يموت من مات منا و ليس بميت- فليس يصح في القضية الثانية و هي حديث البلاء- لأنها تقتضي أن الأبدان تبلى و ذاك الإنسان لم يبل- فأحوج هذا الأشكال إلى تقدير فاعل محذوف- فيكون تقدير الكلام- يموت من مات حال موته و ليس بميت- فيما بعد ذلك من الأحوال و الأوقات- و يبلى كفن من بلي منا و ليس هو ببال- فحذف المضاف كقوله وَ إِلى مَدْيَنَ أي و إلى أهل مدين- و لما كان الكفن كالجزء من الميت لاشتماله عليه- عبر بأحدهما عن الآخر للمجاورة و الاشتمال- كما عبروا عن المطر بالسماء- و عن الخارج المخصوص بالغائط و عن الخمر بالكأس- و يجوز أن يحذف الفاعل كقوله تعالى- حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ- و فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ-
و قول حاتم إذا حشرجت و حذف الفاعل كثير- . و الوجه الثاني- أن أكثر المتكلمين ذهبوا إلى أن للإنسان الحي الفعال- أجزاء أصلية في هذه البنية المشاهدة- و هي أقل ما يمكن أن تأتلف منه البنية- التي معها يصح كون الحي حيا- و جعلوا الخطاب متوجها نحوها- و التكليف واردا عليها و ما عداها من الأجزاء- فهي فاضلة ليست داخلة في حقيقة الإنسان- و إذا صح ذلك جاز أن ينتزع الله تلك الأجزاء الأصلية- من أبدان الأنبياء و الأوصياء- فيرفعها إليه بعد أن يخلق لها من الأجزاء الفاضلة عنها- نظير ما كان لها في الدار الأولى- كما قاله من ذهب إلى قيامة الأنفس و الأبدان معا- فتنعم عنده و تلتذ بضروب اللذات الجسمانية- و يكون هذا مخصوصا بهذه الشجرةالمباركة دون غيرها- و لا عجب فقد ورد في حق الشهداء نحو ذلك في قوله تعالى- وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً- بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ- . و على الوجه الأول- لو أن محتفرا احتفر أجداثهم لوجد الأبدان فيها- و إن لم يعلم أن أصول تلك البنى قد انتزعت منها- و نقلت إلى الرفيق الأعلى- و هذا الوجه لا يحتاج إلى تقدير ما قدرناه أولا من الحذف- لأن الجسد يبلى في القبر إلا قدر ما انتزع منه- و نقل إلى محل القدس- و كذلك أيضا يصدق على الجسد أنه ميت- و إن كان أصل بنيته لم يمت-
و قد ورد في الخبر الصحيح أن أرواح الشهداء من المؤمنين في حواصل طيور خضر- تدور في أفناء الجنان و تأكل من ثمارها- و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش- فإذا جاء هذا في الشهداء- فما ظنك بموالي الشهداء و ساداتهم- . فإن قلت فهل يجوز أن يتأول كلامه- فيقال لعله أراد بقاء الذكر و الصيت- .
قلت إنه لبعيد لأن غيرهم يشركهم في ذلك- و لأنه أخرج الكلام مخرج المستغرب المستعظم له- . فإن قلت فهل يمكن أن يقال- إن الضمير يعود إلى النبي ص- لأنه قد ذكره في قوله خاتم النبيين- فيكون التقدير أنه يموت من مات منا- و النبي ص ليس بميت- و يبلى من بلي منا و النبي ليس ببال- . قلت هذا أبعد من الأول- لأنه لو أراد ذلك لقال إن رسول الله ص لا تبليه الأرض- و أنه الآن حي و لم يأت بهذا الكلام الموهم- و لأنه في سياق تعظيم العترة و تبجيل أمرها- و فخره بنفسه و تمدحه بخصائصه و مزاياه- فلا يجوز أن يدخل في غضون ذلك ما ليس منه- .
فإن قلت فهل هذا الكلام منه أم قاله مرفوعا- قلت بل ذكره مرفوعا- أ لا تراه قال خذوها عن خاتم النبيين- ثم نعود إلى التفسير فنقول إنه لما قال لهم ذلك علم- أنه قال قولا عجيبا و ذكر أمرا غريبا- و علم أنهم ينكرون ذلك و يعجبون منه- فقال لهم فلا تقولوا ما لا تعرفون- أي لا تكذبوا إخباري- و لا تكذبوا إخبار رسول الله لكم بهذا- فتقولون ما لا تعلمون صحته- ثم قال فإن أكثر الحق في الأمور العجيبة- التي تنكرونها كإحياء الموتى في القيامة- و كالصراط و الميزان و النار و الجنة و سائر أحوال الآخرة- هذا إن كان خاطب من لا يعتقد الإسلام- فإن كان الخطاب لمن يعتقد الإسلام فإنه يعني بذلك- أن أكثرهم كانوا مرجئة و مشبهة و مجبرة- و من يعتقد أفضلية غيره عليه- و من يعتقد أنه شرك في دم عثمان- و من يعتقد أن معاوية صاحب حجة في حربه- أو شبهة يمكن أن يتعلق بها متعلق- و من يعتقد أنه أخطأ في التحكيم- إلى غير ذلك من ضروب الخطإ التي كان أكثرهم عليها- .
ثم قال و أعذروا من لا حجة لكم عليه و هو أنا- يقول قد عدلت فيكم- و أحسنت السيرة و أقمتكم على المحجة البيضاء- حتى لم يبق لأحد منكم حجة يحتج بها علي- ثم شرح ذلك فقال عملت فيكم بالثقل الأكبر- يعني الكتاب و خلفت فيكم الأصغر يعني ولديه- لأنهما بقية الثقل الأصغر- فجاز أن يطلق عليهما بعد ذهاب من ذهب منه- أنهما الثقل الأصغر- و إنما سمى النبي ص الكتاب و العترة الثقلين- لأن الثقل في اللغة متاع المسافر و حشمه- فكأنه ص لما شارف الانتقال إلى جوار ربه تعالى- جعل نفسه كالمسافر الذي ينتقل من منزل إلى منزل- و جعل الكتاب و العترة كمتاعه و حشمه- لأنهما أخص الأشياء به- . قوله و ركزت فيكم راية الإيمان أي غرزتها و أثبتها- و هذا من باب الاستعارة- .
و كذلك قوله- و وقفتكم على حدود الحلال و الحرام- من باب الاستعارة أيضا- مأخوذ من حدود الدار- و هي الجهات الفاصلة بينها و بين غيرها- . قوله و ألبستكم العافية من عدلي استعارة فصيحة- و أفصح منها قوله و فرشتكم المعروف من قولي و فعلي- أي جعلته لكم فراشا و فرش هاهنا متعد إلى مفعولين- يقال فرشته كذا أي أوسعته إياه- .
ثم نهاهم أن يستعملوا الرأي فيما ذكره لهم- من خصائص العترة و عجائب ما منحها الله تعالى-فقال إن أمرنا أمر صعب لا تهتدي إليه العقول- و لا تدرك الأبصار قعره و لا تتغلغل الأفكار إليه- و التغلغل الدخول من تغلغل الماء بين الشجر- إذا تخللها و دخل بين أصولها: وَ مِنْهَا حَتَّى يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ الدُّنْيَا مَعْقُولَةٌ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ- تَمْنَحُهُمْ دَرَّهَا وَ تُورِدُهُمْ صَفْوَهَا- وَ لَا يُرْفَعُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَوْطُهَا وَ لَا سَيْفُهَا وَ كَذَبَ الظَّانُّ لِذَلِكَ- بَلْ هِيَ مَجَّةٌ مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ يَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَةً- ثُمَّ يَلْفِظُونَهَا جُمْلَةً معقولة محبوسة بعقال كما تعقل الناقة- و تمنحهم تعطيهم و المنح العطاء منح يمنح بالفتح- و الاسم المنحة بالكسر و استمنحت زيدا طلبت منحته- .
و الدر في الأصل اللبن- جعل الدنيا كناقة معقولة عليهم تمنحهم لبنها- ثم استعمل الدر في كل خير و نفع- فقيل لا در درة أي لا كثر خيره- و يقال في المدح لله درة أي عمله- . و مجة من لذيذ العيش مصدر مج الشراب من فيه- أي رمى به و قذفه- و يقال انمجت نقطة من القلم أي ترششت- و شيخ ماج أي كبير يمج الريق- و لا يستطيع حبسه لكبره- . و يتطعمونها أي يذوقونها- و برهة أي مدة من الزمان فيها طول- و لفظت الشيء من فمي ألفظه لفظا رميته- و ذلك الشيء اللفاظة و اللفاظ- أي يلفظونها كلها لا يبقى منها شيء معهم- . و هذه الخطبة طويلة-
و قد حذف الرضي رحمه الله تعالى منها كثيرا و من جملتها-أما و الذي فلق الحبة و برأ النسمة- لا يرون الذي ينتظرون حتى يهلك المتمنون- و يضمحل المحلون و يتثبت المؤمنون و قليل ما يكون- و الله و الله لا ترون الذي تنتظرون- حتى لا تدعون الله إلا إشارة بأيديكم و إيماضا بحواجبكم- و حتى لا تملكون من الأرض إلا مواضع أقدامكم- و حتى يكون موضع سلاحكم على ظهوركم- فيومئذ لا ينصرني إلا الله بملائكته- و من كتب على قلبه الإيمان- و الذي نفس علي بيده- لا تقوم عصابة تطلب لي أو لغيري حقا- أو تدفع عنا ضيما إلا صرعتهم البلية- حتى تقوم عصابة شهدت مع محمد ص بدرا- لا يودى قتيلهم و لا يداوى جريحهم و لا ينعش صريعهم- قال المفسرون هم الملائكة- .و منها لقد دعوتكم إلى الحق و توليتم- و ضربتكم بالدرة فما استقمتم- و ستليكم بعدي ولاة يعذبونكم بالسياط و الحديد- و سيأتيكم غلاما ثقيف أخفش و جعبوب- يقتلان و يظلمان و قليل ما يمكنان- .
قلت الأخفش الضعيف البصر خلقة- و الجعبوب القصير الذميم- و هما الحجاج و يوسف بن عمر- و في كتاب عبد الملك إلى الحجاج- قاتلك الله أخيفش العينين أصك الجاعرنين- . و من كلام الحسن البصري رحمه الله تعالى- يذكر فيه الحجاج أتانا أعيمش أخيمش- يمد بيد قصيرة البنان ما عرق فيها عنان في سبيل الله- . و كان المثل يضرب بقصر يوسف بن عمر- و كان يغضب إذا قيل له قصير- فصل له الخياط ثوبا فأبقى منه فضلة كثيرة- فقال له ما هذه- قال فضلت من قميص الأمير فضربه مائة سوط- فكان الخياطون بعد ذلك يفصلون له اليسير من الثوب- و يأخذون الباقي لأنفسهم
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 6