85 و من خطبة له ع
قَدْ عَلِمَ السَّرَائِرَ وَ خَبَرَ الضَّمَائِرَ- لَهُ الْإِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ وَ الْغَلَبَةُ لِكُلِّ شَيْءٍ- وَ الْقُوَّةُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ- فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُ مِنْكُمْ فِي أَيَّامِ مَهَلِهِ قَبْلَ إِرْهَاقِ أَجَلِهِ- وَ فِي فَرَاغِهِ قَبْلَ أَوَانِ شُغُلِهِ- وَ فِي مُتَنَفَّسِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ- وَ لْيُمَهِّدْ لِنَفْسِهِ وَ قَدَمِهِ وَ لْيَتَزَوَّدْ مِنْ دَارِ ظَعْنِهِ لِدَارِ إِقَامَتِهِ- فَاللَّهَ اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ فِيمَا اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ- وَ اسْتَوْدَعَكُمْ مِنْ حُقُوقِهِ- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى- وَ لَمْ يَدَعْكُمْ فِي جَهَالَةٍ وَ لَا عَمًي قَدْ سَمَّى آثَارَكُمْ- وَ عَلِمَ أَعْمَالَكُمْ وَ كَتَبَ آجَالَكُمْ- وَ أَنْزَلَ عَلَيْكُمُ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ- وَ عَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيِّهُ أَزْمَاناَ حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ وَ لَكُمْ- فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ دِينَهُ الَّذِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ- وَ أَنْهَى إِلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِهِ مَحَابَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَ مَكَارِهَهُ- وَ نَوَاهِيَهُ وَ أَوَامِرَهُ وَ أَلْقَى إِلَيْكُمُ الْمَعْذِرَةَ- وَ اتَّخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ وَ قَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ- وَ أَنْذَرَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ السرائر جمع سريرة و هو ما يكتم من السر- . و خبر الضمائر بفتح الباء امتحنها و ابتلاها- و من رواه بكسر الباء أراد علم- و الاسم الخبر بضم الخاء و هو العلم و الضمائر جمع ضمير- و هو ما تضمره و تكنه في نفسك- .
و في قوله له الإحاطة بكل شيء- و قد بينها ثلاث مسائل في التوحيد- إحداهن أنه تعالى عالم بكل المعلومات- . و الثانية أنه لا شريك له- و إذا ثبت كونه عالما بكل شيء- كان في ضمن ذلك نفي الشريك لأن الشريك لا يكون مغلوبا- . و الثالثة أنه قادر على كل ما يصح تعلق قادريته تعالى به- .و أدلة هذه المسائل مذكورة في الكتب الكلامية- .
و قوله فليعمل العامل منكم إلى قوله- و ليتزود من دار ظعنه لدار إقامته- مأخوذ من قول رسول الله ص في خطبته المشهورة-و هي أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم- و إن لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم- إن المؤمن بين مخافتين- بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به- و أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه- فليأخذ العبد من نفسه لنفسه و من دنياه لآخرته- و من الشبيبة قبل الهرم و من الحياة قبل الموت- فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب- و ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار- . و المهل المهلة و التؤدة و الإرهاق مصدر أرهق- تقول أرهقه قرنه في الحرب إرهاقا إذا غشيه ليقتله- و زيد مرهق قال الشاعر-
تندى أكفهم و في أبياتهم
ثقة المجاور و المضاف المرهق
و في متنفسه أي في سعة وقته- يقال أنت في نفس من أمرك أي في سعة- .و الكظم بفتحهما مخرج النفس و الجمع أكظام- و يجوز ظعنه و ظعنه بتحريك العين و تسكينها- و قرئ بهما يَوْمَ ظَعْنِكُمْ و ظعنكم- و نصب الله الله على الإغراء- و هو أن تقدر فعلا ينصب المفعول به أي اتقوا الله- و جعل تكرير اللفظ نائبا عن الفعل المقدر و دليلا عليه- . استحفظكم من كتابه جعلكم حفظة له جمع حافظ- . السدى المهمل و يجوز سدى بالفتح- أسديت الإبل أهملتها- و قوله قد سمى آثاركم يفسر بتفسيرين أحدهما- قد بين لكم أعمالكم خيرها و شرها- كقوله تعالى وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ- و الثاني قد أعلى مآثركم- أي رفع منازلكم إن أطعتم- و يكون سمى بمعنى أسمى- كما كان في الوجه الأول بمعنى أبان و أوضح- .
و التبيان بكسر التاء مصدر و هو شاذ- لأن المصادر إنما تجيء على التفعال- بفتحها مثل التذكار و التكرار- و لم يأت بالكسر إلا حرفان و هما التبيان و التلقاء- . و قوله حتى أكمل له و لكم دينه- من قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ- وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي- . و قوله الذي رضي لنفسه من قوله تعالى- وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ- لأنه إذا ارتضى لهم فقد ارتضاه لنفسه- أي ارتضى أن ينسب إليه- فيقال هذا دين الحق و أنهى إليكم عرفكم و أعلمكم- . و محابه جمع محبة و مكارهه جمع مكرهة و هي ما تكره- و في هذا دلالة أن الله تعالى يحب الطاعة و يكره المعصية- و هو خلاف قول المجبرة- .
و الأوامر جمع آمر و أنكره قوم و قالوا هاهنا جمع أمر- كالأحاوص جمع أحوص و الأحامر جمع أحمر- يعني الكلام الآمر لهم بالطاعات و هو القرآن- . و النواهي جمع ناهية كالسواري جمع سارية- و الغوادي جمع غادية- يعني الآيات الناهية لهم عن المعاصي- و يضعف أن يكون الأوامر و النواهي جمع أمر و نهي- لأن فعلا لا يجمع على أفاعل و فواعل- و إن كان قال ذلك بعض الشواذ من أهل الأدب- .
و قوله و ألقى إليكم المعذرة كلام فصيح- و هو من قوله تعالى أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ- . و قدم إليكم بالوعيد و أنذركم بين يدي عذاب شديد- أي أمامه و قبله مأخوذ أيضا من القرآن- و معنى قوله بين يدي عذاب شديد أي أمامه و قبله- لأن ما بين يديك متقدم لك: فَاسْتَدْرِكُوا بَقِيَّةَ أَيَّامِكُمْ وَ اصْبِرُوا لَهَا أَنْفُسَكُمْ- فَإِنَّهَا قَلِيلٌ فِي كَثِيرِ الْأَيَّامِ الَّتِي تَكُونُ مِنْكُمْ فِيهَا الْغَفْلَةُ- وَ التَّشَاغُلُ عَنِ الْمَوْعِظَةِ وَ لَا تُرَخِّصُوا لِأَنْفُسِكُمْ- فَتَذْهَبَ بِكُمُ الرُّخَصُ مَذَاهِبَ الظَّلَمَةِ- وَ لَا تُدَاهِنُوا فَيَهْجُمَ بِكُمُ الْإِدْهَانُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ- عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ أَنْصَحَ النَّاسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ- وَ إِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاهُمْ لِرَبِّهِ- وَ الْمَغْبُونُ مَنْ غَبَنَ نَفْسَهُ وَ الْمَغْبُوطُ مَنْ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ- وَ السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ- وَ الشَّقِيُّ مَنِ انْخَدَعَ لِهَوَاهُ وَ غُرُورِهِ-وَ اعْلَمُوا أَنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ- وَ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْهَوَى مَنْسَاةٌ لِلْإِيمَانِ وَ مَحْضَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ- جَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلْإِيمَانِ- الصَّادِقُ عَلَى شَفَا مَنْجَاةٍ وَ كَرَامَةٍ- وَ الْكَاذِبُ عَلَى شَرَفِ مَهْوَاةٍ وَ مَهَانَةٍ- وَ لَا تَحَاسَدُوا- فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْإِيمَانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ- وَ لَا تَبَاغَضُوا فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ الْأَمَلَ يُسْهِي الْعَقْلَ- وَ يُنْسِي الذِّكْرَ فَأَكْذِبُوا الْأَمَلَ- فَإِنَّهُ غَرُورٌ وَ صَاحِبُهُ مَغْرُورٌ قوله فاستدركوا بقية أيامكم- يقال استدركت ما فات و تداركت ما فات- بمعنى و اصبروا لها أنفسكم مأخوذ من قوله تعالى- وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ- يقال صبر فلان نفسه على كذا أي حبسها عليه- يتعدى فينصب قال عنترة-
فصبرت عارفة لذلك حرة
ترسو إذا نفس الجبان تطلع
أي حبست نفسا عارفة-و في الحديث النبوي في رجل أمسك رجلا و قتله الآخر- فقال ع اقتلوا القاتل و اصبروا الصابر- أي احبسوا الذي أمسكه حتى يموت- . و الضمير في فإنها قليل- عائد إلى الأيام التي أمرهم باستدراكها- يقول إن هذه الأيام التي قد بقيت من أعماركم قليلة- بالنسبة و الإضافة إلى الأيام التي تغفلون فيها عن الموعظة- .
و قوله فإنها قليل فأخبر عن المؤنث بصيغة المذكر- إنما معناه فإنها شيء قليل بحذف الموصوف- كقوله وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً أي قبيلا رفيقا- . ثم قال و لا ترخصوا نهى عن الأخذ برخص المذاهب- و ذلك لأنه لا يجوز للواحد من العامة- أن يقلد كلا من أئمة الاجتهاد- فيما خف و سهل من الأحكام الشرعية- أو لا تساهلوا أنفسكم في ترك تشديد المعصية- و لا تسامحوها و ترخصوا إليها- في ارتكاب الصغائر و المحقرات من الذنوب- فتهجم بكم على الكبائر- لأن من مرن على أمر تدرج من صغيره إلى كبيره- . و المداهنة النفاق و المصانعة و الادهان مثله- قال تعالى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ- .
قوله إن أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربه- لأنه قد صانها عن العقاب و أوجب لها الثواب- و ذلك غاية ما يمكن من نصيحتها و نفعها- . قوله و إن أغش الناس لنفسه أعصاهم لربه- لأنه ألقاها في الهلاك الدائم- و ذلك أقصى ما يمكن من غشها و الإضرار بها- . ثم قال و المغبون من غبن نفسه- أي أحق الناس أن يسمى مغبونا من غبن نفسه- يقال غبنته في البيع غبنا بالتسكين أي خدعته- و قد غبن فهو مغبون- و غبن الرجل رأيه بالكسر غبنا بالتحريك فهو غبين- أي ضعيف الرأي و فيه غبانة- و لفظ الغبن يدل على أنه من باب غبن البيع و الشراء- لأنه قال و المغبون و لم يقل و الغبين- . و المغبوط الذي يتمنى مثل حاله- و الذي يتمنى زوال حاله و انتقالها هو الحاسد-و الحسد مذموم و الغبطة غير مذمومة- يقال غبطته بما نال أغبطه غبطا و غبطة فاغتبط هو- كقولك منعته فامتنع و حبسته فاحتبس قال الشاعر-
و بينما المرء في الأحياء مغتبط
إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
هكذا أنشدوه بكسر الباء- و قالوا فيه مغتبط أي مغبوط- . قوله و السعيد من وعظ بغيره مثل من الأمثال النبوية- . و قد ذكرنا فيما تقدم- ما جاء في ذم الرياء و تفسير كونه شركا- . و قوله ع منسأة للإيمان- أي داعية إلى نسيان الإيمان و إهماله- و الإيمان الاعتقاد و العمل- . و محضرة للشيطان موضع حضوره- كقولك مسبعة أي موضع السباع و مفعاة أي موضع الأفاعي- .
ثم نهى عن الكذب و قال إنه مجانب للإيمان- و كذا ورد في الخبر المرفوع- . و شفا منجاة أي حرف نجاة و خلاص و شفا الشيء حرفه- قال تعالى وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ- و أشفى على الشيء و أشرف عليه بمعنى- و أكثر ما يقال ذلك في المكروه- يقال أشفى المريض على الموت- و قد استعمله هاهنا في غير المكروه- . و الشرف المكان العالي بفتح الشين- و أشرفت عليه أي اطلعت من فوق- . و المهواة موضع السقوط و المهانة الحقارة- .
ثم نهى عن الحسد و قال- إنه يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب- و قد ورد هذا الكلام في الأخبار المرفوعة- و قد تقدم منا كلام في الحسد و ذكرنا كثيرا مما جاء فيه- .ثم نهى عن المباغضة و قال إنها الحالقة- أي المستأصلة التي تأتي على القوم كالحلق للشعر- . ثم نهى عن الأمل و طوله- و قال إنه يورث العقل سهوا و ينسي الذكر- ثم أمر بإكذاب الأمل و نهى عن الاعتماد عليه- و السكون إليه فإنه من باب الغرور- . و قد ذكرنا في الأمل و طوله نكتا نافعة فيما تقدم- و يجب أن نذكر ما جاء في النهي عن الكذب
فصل في ذم الكذب و حقارة الكذابين
جاء في الخبر عن رسول الله ص إذا كذب العبد كذبة- تباعد الملك منه مسيرة ميل من نتن ما جاء به و عنه ع إياكم و الكذب- فإن الكذب يهدي إلى الفجور و الفجور يهدي إلى النار- و إن الرجل ليكذب و يتحرى الكذب- فيكتب عند الله كاذبا- و عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر- و إن البر ليهدي إلى الجنة- و إن الرجل ليصدق و يتحرى الصدق فيكتب عند الله صادقا
و روي أن رجلا قال للنبي ص أنا يا رسول الله أستسر بخلال أربع- الزنا و شرب الخمر و السرق و الكذب- فأيتهن شئت تركتها لك قال دع الكذب- فلما ولى هم بالزنا- فقال يسألني فإن جحدت نقضت ما جعلت له- و إن أقررت حددت ثم هم بالسرق ثم بشرب الخمر- ففكر في مثل ذلك فرجع إليه- فقال قد أخذت على السبيل كله فقد تركتهن أجمع
قال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله يا بني أنت أفقه مني و أنا أعقل منك-و إن هذا الرجل يدنيك يعني عمر بن الخطاب- فاحفظ عني ثلاثا لا تفشين له سرا و لا تغتابن عنده أحدا- و لا يطلعن منك على كذبة- قال عبد الله فكانت هذه الثلاث- أحب إلي من ثلاث بدرات ياقوتا- قال الواثق لأحمد بن أبي داود رحمه الله تعالى- كان ابن الزيات عندي فذكرك بكل قبيح- قال الحمد لله الذي أحوجه إلى الكذب علي- و نزهني عن الصدق في أمره- .
و كان يقال أمران لا يكاد أحدهما ينفك من الكذب- كثرة المواعيد و شدة الاعتذار- . و من الحكم القديمة- إنما فضل الناطق على الأخرس بالنطق- و زين المنطق الصدق فالكاذب شر من الأخرس- . قال الرشيد للفضل بن الربيع في كلام جرى بينهما كذبت- فقال يا أمير المؤمنين- وجه الكذوب لا يقابلك و لسانه لا يحاورك- .
قيل في تفسير قوله تعالى وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ- هي في الكذابين فالويل لكل كاذب إلى يوم القيامة- . و من كلام بعض الصالحين- لو لم أترك الكذب تأثما لتركته تكرما- . أبو حيان الكذب شعار خلق- و مورد رنق و أدب سيئ و عادة فاحشة- و قل من استرسل معه إلا ألفه و قل من ألفه إلا أتلفه- و الصدق ملبس بهي و منهل غذي و شعاع منبث- و قل من اعتاده و مرن عليه إلا صحبته السكينة- و أيده التوفيق و خدمته القلوب بالمحبة- و لحظته العيون بالمهابة- .
ابن السماك لا أدري- أوجر على ترك الكذب أم لا لأني أتركه أنفة- . يحيى بن خالد رأيت شريب خمر نزع و لصا أقلع- و صاحب فواحش ارتدع و لم أر كاذبا رجع- . قالوا في تفسير هذا- إن المولع بالكذب لا يكاد يصبر عنه- فقد عوتب إنسان عليه- فقال لمعاتبه يا ابن أخي لو تغرغرت به لما صبرت عنه- . و قيل لكاذب معروف بالكذب أ صدقت قط- قال لو لا أني أخاف أن أصدق لقلت لا- .
و جاء في بعض الأخبار المرفوعة قيل له يا رسول الله أ يكون المؤمن جبانا- قال نعم قيل أ فيكون بخيلا قال نعم- قيل أ فيكون كاذبا قال لاو قال ابن عباس الحدث حدثان حدث من فيك و حدث من فرجك- . و قال بعضهم من أسرع إلى الناس بما يكرهون- قالوا فيه ما لا يعلمون أخذه شاعر فقال-
و من دعا الناس إلى ذمه
ذموه بالحق و بالباطل
و كان يقال خذوا عن أهل الشرف فإنهم قلما يكذبون- . و قال بعض الصالحين لو صحبني رجل- فقال لي اشترط علي خصلة واحدة لا تزيد عليها- لقلت لا تكذب- . و كان يقال خصلتان لا يجتمعان الكذب و المروءة- . كان يقال من شرف الصدق أن صاحبه يصدق على عدوه- و من دناءة الكذب أن صاحبه يكذب و إن كان صادقا- .و مثل هذا قولهم من عرف بالصدق جاز كذبه- و من عرف بالكذب لم يجز صدقه- .
و جاء في الخبر المرفوع أن في المعاريض لمندوحة عن الكذب- .
و قال ابن سيرين الكلام أوسع من أن يكذب ظريف- . و قالوا في قوله تعالى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ لم ينس- و لكنه من معاريض الكلام- و كذلك قالوا في قول إبراهيم إِنِّي سَقِيمٌ- . و قال العتبي إني لأصدق في صغار ما يضرني- فكيف لا أصدق في كبار ما ينفعني- و قال بعض الشعراء-
لا يكذب المرء إلا من مهانته
أو عادة السوء أو من قلة الأدب
لعض جيفة كلب خير رائحة
من كذبة المرء في جد و في لعب
شهد أعرابي عند معاوية بشهادة فقال له كذبت- فقال الكاذب و الله المتزمل في ثيابك- فقال معاوية هذا جزاء من عجل- . و قال معاوية يوما للأحنف و حدثه حديثا أ تكذب- فقال له الأحنف و الله ما كذبت- منذ علمت أن الكذب يشين أهله- . و دخل عبد الله بن الزبير يوما على معاوية- فقال له اسمع أبياتا قلتها و كان واجدا على معاوية- فقال هات فأنشده-
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته
على طرف الهجران إن كان يعقل
و يركب حد السيف من أن تضيمه
إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل
فقال معاوية لقد شعرت بعدنا يا أبا بكر- ثم لم يلبث معاوية أن دخل عليه معن بن أوس المزني- فقال أ قلت بعدنا شيئا قال نعم و أنشده-
لعمرك لا أدري و إني لأوجل
على أينا تعدو المنية أول
حتى صار إلى الأبيات التي أنشدها ابن الزبير- فقال معاوية يا أبا بكر- أ ما ذكرت آنفا أن هذا الشعر لك- فقال أنا أصلحت المعاني و هو ألف الشعر و بعد- فهو ظئري و ما قال من شيء فهو لي- . و كان عبد الله بن الزبير مسترضعا في مزينة- . و روى أبو العباس المبرد في الكامل- أن عمر بن عبد العزيز كتب- في إشخاص إياس بن معاوية المزني- و عدي بن أرطاة الفزاري أمير البصرة و قاضيها إليه- فصار عدي إلى إياس- و قدر أنه يمزنه عند عمر بن عبد العزيز و يثني عليه- فقال له يا أبا وائلة إن لنا حقا و رحما- فقال إياس أ على الكذب تريدني- و الله ما يسرني أن كذبت كذبة يغفرها الله لي- و لا يطلع عليها هذا و أومأ إلى ابنه- و لي ما طلعت عليه الشمس- .
و روى أبو العباس أيضا- أن عمرو بن معديكرب الزبيدي كان معروفا بالكذب- . و قيل لخلف الأحمر- و كان مولى لهم و شديد التعصب لليمن- أ كان عمرو بن معديكرب يكذب- قال يكذب في المقال و يصدق في الفعال- .قال أبو العباس فروي لنا أن أهل الكوفة الأشراف- كانوا يظهرون بالكناسة- فيركبون على دوابهم حتى تطردهم الشمس- فوقف عمرو بن معديكرب الزبيدي- و خالد بن الصقعب النهدي و عمرو لا يعرفه- إنما يسمع باسمه فأقبل عمرو يحدثه- فقال أغرنا مرة على بني نهد- فخرجوا مسترعفين بخالد بن الصقعب فحملت عليه- فطعنته فأذريته ثم ملت عليه بالصمصامة فأخذت رأسه- فقال خالد بن الصقعب حلا أبا ثور- إن قتيلك هو المحدث- فقال عمرو يا هذا إذا حدثت فاستمع- فإنما نتحدث بمثل ما تستمع- لنرهب به هذه المعدية- .
قوله مسترعفين أي مقدمين له- و قوله حلا أبا ثور أي استثن- يقال حلف و لم يتحلل أي لم يستثن- و المعدية مضر و ربيعة و أياد بنو معد بن عدنان- و هم أعداء اليمن في المفاخرة و التكاثر
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 6