80 و من كلام له ع
أَيُّهَا النَّاسُ الزَّهَادَةُ قِصَرُ الْأَمَلِ- وَ الشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ وَ التَّوَرُّعُ عِنْدَ الْمَحَارِمِ- فَإِنْ عَزَبَ ذَلِكَ عَنْكُمْ فَلَا يَغْلِبِ الْحَرَامُ صَبْرَكُمْ- وَ لَا تَنْسَوْا عِنْدَ النِّعَمِ شُكْرَكُمْ- فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ بِحُجَجٍ مُسْفِرَةٍ ظَاهِرَةٍ- وَ كُتُبٍ بَارِزَةِ الْعُذْرِ وَاضِحَةٍ فسر ع لفظ الزهادة- و هي الزهد بثلاثة أمور- و هي قصر الأمل- و شكر النعمة و الورع عن المحارم- فقال لا يسمى الزاهد زاهدا حتى يستكمل هذه الأمور الثلاثة- ثم قال فإن عزب ذلك عنكم أي بعد- فأمران من الثلاثة لا بد منهما و هما الورع و شكر النعم- جعلهما آكد و أهم من قصر الأمل- . و اعلم أن الزهد في العرف المشهور- هو الإعراض عن متاع الدنيا و طيباتها- لكنه لما كانت الأمور الثلاثة طريقا موطئة إلى ذلك- أطلق ع لفظ الزهد عليها على وجه المجاز- . و قوله فقد أعذر الله إليكم أي بالغ- يقال أعذر فلان في الأمر أي بالغ فيه- و يقال ضرب فلان فأعذر أي أشرف على الهلاك- و أصل اللفظة من العذر- يريد أنه قد أوضح لكم بالحجج النيرة المشرقة- ما يجب اجتنابه و ما يجب فعله- فإن خالفتم استوجبتم العقوبة- فكان له في تعذيبكم العذر
الآثار و الأخبار الواردة في الزهد
و الآثار الواردة في الزهد كثيرة-قال رسول الله ص أفلح الزاهد في الدنيا- حظي بعز العاجلة و بثواب الآخرةو قال ص من أصبحت الدنيا همه و سدمه- نزع الله الغنى من قلبه و صير الفقر بين عينيه- و لم يأته من الدنيا إلا ما كتب له- و من أصبحت الآخرة همه و سدمه نزع الله الفقر عن قلبه- و صير الغنى بين عينيه و أتته الدنيا و هي راغمةو قال ع للضحاك بن سفيان ما طعامك- قال اللحم و اللبن- قال ثم يصير إلى ما ذا قال إلى ما علمت- قال فإن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا- .
و كان الفضيل بن عياض يقول لأصحابه إذا فرغ من حديثه- انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيجيء بهم إلى المزبلة- فيقول انظروا إلى عنبهم و سمنهم و دجاجهم و بطهم- صار إلى ما ترون- .و من الكلام المنسوب إلى المسيح ع الدنيا قنطرة فاعبروها و لا تعمروهاسئل رسول الله ص عن قوله سبحانه- فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ- فقال إذا دخل النور القلب انفسح فذلك شرح الصدر- فقيل أ فلذلك علامة يعرف بها قال نعم- الإنابة إلى دار الخلود و التجافي عن دار الغرور- و الاستعداد للموت قبل نزوله قالوا أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء- اتخذ الدنيا ظئرا و اتخذ الآخرة أما- . الشعبي ما أعلم لنا و للدنيا مثلا إلا قول كثير-
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا و لا مقلية إن تقلت
بعض الصالحين المستغني عن الدنيا بالدنيا- كالمطفئ النار بالتبن- . و في بعض الكتب القديمة الإلهية- قال الله للدنيا من خدمني فاخدميه- و من خدمك فاستخدميه- . دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم- و عليه مدرعة من صوف فقال ما هذه- فسكت فأعاد عليه السؤال- فقال أكره أن أقول زهدا فأزكي نفسي أو فقرا فأشكو ربي- . قيل في صفة الدنيا و الآخرة- هما كضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى- .
قيل لمحمد بن واسع إنك لترضى بالدون- قال إنما رضي بالدون من رضي بالدنيا- . خطب أعرابي كان عاملا لجعفر بن سليمان- على ضرية يوم جمعة خطبة- لم يسمع أوجز منها و لا أفصح- فقال إن الدنيا دار بلاغ و إن الآخرة دار قرار- فخذوا من ممركم لمستقركم- و لا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم- و أخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم- ففيها جئتم و لغيرها خلقتم- إن المرء إذا هلك قال الناس ما ترك- و قالت الملائكة ما قدم- فلله آثاركم قدموا بعضا يكن لكم-و لا تؤخروا كلا فيكون عليكم أقول قولي هذا- و أستغفر الله و المدعو له الخليفة ثم الأمير جعفر و نزل- . أبو حازم الأعرج الدنيا كلها غموم- فما كان فيها سرورا فهو ربح- . محمد بن الحنفية من عزت عليه نفسه هانت عليه الدنيا- .
قيل لعلي بن الحسين ع من أعظم الناس خطرا- قال من لم ير الدنيا لنفسه خطراقال المسيح ع لأصحابه حب الدنيا رأس كل خطيئة- و اقتناء المال فيها داء عظيم- قالوا له كيف ذلك- قال لا يسلم صاحبه من البغي و الكبر قيل فإن سلم منهما- قال يشغله إصلاحه عن ذكر اللهأشرف أبو الدرداء على أهل دمشق- فقال يا أهل دمشق تبنون ما لا تسكنون- و تجمعون ما لا تأكلون و تأملون ما لا تدركون- أين من كان قبلكم بنوا شديدا- و أملوا بعيدا و جمعوا كثيرا- فأصبحت مساكنهم قبورا و جمعهم بورا و أملهم غرورا- . قال المأمون لو سئلت الدنيا عن نفسها- لم تسطع أن تصف نفسها بأحسن من قول الشاعر-
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
و قال رجل يا رسول الله كيف لي أن أعلم أمري- قال إذا أردت شيئا من أمور الدنيا فعسر عليك فاعلم أنك بخير- و إذا أردت شيئا من أمر الدنيا فيسر لك- فاعلم أنه شر لكقال رجل ليونس بن عبيد- إن فلانا يعمل بعمل الحسن البصري- فقال و الله ما أعرف أحدا يقول بقوله- فكيف يعمل بعمله قيل فصفه لنا- قال كان إذا أقبل فكأنه أقبل من دفن حبيب- و إذا جلس فكأنه أسير أجلس لضرب عنقه- و إذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له- .
و قال بعض الصالحين لرجل يا فلان- هل أنت على حال أنت فيها مستعد للموت قال لا- قال فهل أنت عالم بأنك تنتقل إلى حال ترضى به قال لا- قال أ فتعلم بعد الموت دارا فيها مستعتب قال لا- قال أ فتأمن الموت أن يأتيك صباحا أو مساء قال لا- قال أ فيرضى بهذه الحال عاقل- و قال أبو الدرداء أضحكتني ثلاث و أبكتني ثلاث- أضحكني مؤمل الدنيا و الموت يطلبه- و غافل و ليس بمغفول عنه- و ضاحك ملء فيه لا يدرى أ راض عنه الله أم ساخط- و أبكاني فراق محمد و حزبه و أبكاني هول الموت- و أبكاني هول الموقف يوم تبدو السرائر- حين لا أدري أ يؤخذ بي إلى جنة أم إلى نار- . و كان عبد الله بن صغير يقول- أ تضحك و لعل أكفانك قد خرجت من عند القصار- و كان يقال من أتى الذنب ضاحكا دخل النار باكيا- . و كان مالك بن دينار يقول- وددت أن رزقي في حصاة أمصها حتى أبول- فلقد اختلفت إلى الخلاء حتى استحييت من ربي- .
و قال رسول الله ص لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين- حتى يدع ما ليس به بأس حذرا عما به البأس و قال المسيح ع بحق أقول لكم إن من طلب الفردوس فخبز الشعير- و النوم على المزابل مع الكلاب له كثير- . و أوصى ابن محرز رجلا- فقال إن استطعت أن تعرف و لا تعرف و تسأل و لا تسأل- و تمشي و لا يمشى إليك فافعل- .
و قال علي ع طوبى لمن عرف الناس و لم يعرفوه تعجلت له منيته- و قل تراثه و فقد باكياته – . و كان يقال في الجوع ثلاث خصال- حياة للقلب و مذلة للنفس- و يورث العقل الدقيق من المعاني- . و قال رجل لإبراهيم بن أدهم أريد أن تقبل مني دراهم- قال إن كنت غنيا قبلتها منك- و إن كنت فقيرا لم أقبلها- قال فإني غني قال كم تملك قال ألفي درهم- قال أ فيسرك أن تكون أربعة آلاف قال نعم- قال لست بغني و دراهمك لا أقبلها- . و كان أبو حازم الأعرج إذا نظر إلى الفاكهة في السوق- قال موعدك الجنة إن شاء الله تعالى- . و مر أبو حازم بالقصابين- فقال له رجل منهم يا أبا حازم هذا سمين فاشتر منه- قال ليس عندي دراهم قال أنا أنظرك- قال فأفكر ساعة ثم قال أنا أنظر نفسي- .
نزل الحجاج في يوم حار على بعض المياه و دعا بالغداء- و قال لحاجبه انظر من يتغدى معي- و اجهد ألا يكون من أهل الدنيا- فرأى الحاجب أعرابيا نائما- عليه شملة من شعر فضربه برجله- و قال أجب الأمير فأتاه فدعاه الحجاج إلى الأكل- فقال دعاني من هو خير من الأمير فأجبته قال من هو- قال الله دعاني إلى الصوم فصمت- قال أ في هذا اليوم الحار قال نار جهنم أشد حرا- قال أفطر و تصوم غدا- قال إن ضمنت لي البقاء إلى غد قال ليس ذلك إلي- قال فكيف أدع عاجلا لآجل لا تقدر عليه- قال إنه طعام طيب- قال إنك لم تطيبه و لا الخباز و لكن العافية طيبته لك- .
و قال شبيب كنا سنة في طريق مكة- فجاء أعرابي في يوم صائف شديد الحر-و معه جارية سوداء و صحيفة- فقال أ فيكم كاتب قلنا نعم و حضر غداؤنا- فقلنا له لو دخلت فأصبت من طعامنا قال إني صائم- قلنا الحر و شدته و جفاء البادية- فقال إن الدنيا كانت و لم أكن فيها- و ستكون و لا أكون فيها و ما أحب أن أغبن أمامي- ثم نبذ إلينا الصحيفة- فقال للكاتب اكتب و لا تزد على ما أمليه عليك- هذا ما أعتق عبد الله بن عقيل الكلبي- أعتق جارية له سوداء اسمها لؤلؤة- ابتغاء وجه الله و جواز العقبة- و إنه لا سبيل له عليها إلا سبيل الولاء- و المنة لله علينا و عليها واحدة- .
قال الأصمعي فحدث بذلك الرشيد- فأمر أن يعتق عنه ألف نسمة و يكتب لهم هذا الكتاب- . و قال خالد بن صفوان بت ليلتي هذه أتمنى- فكبست البحر الأخضر بالذهب الأحمر- فإذا الذي يلقاني من ذلك رغيفان و كوزان و طمران- . و رأى رجل رجلا من ولد معاوية يعمل على بعير له- فقال هذا بعد ما كنتم فيه من الدنيا- قال رحمك الله يا ابن أخي ما فقدنا إلا الفضول- . و قال الحسن يا ابن آدم- إنما أنت أيام مجموعة كلما ذهب يوم ذهب بعضك- . قال يونس الكاتب- لو قيل بيت دريد في زاهد كان به جديرا-
قليل التشكي للمصيبات ذاكر
من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
و قال الحسن ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل- . و قال رجل للفضيل بن عياض ما أعجب الأشياء- قال قلب عرف الله ثم عصاه- . قال وكيع ما أحسنت قط إلى أحد و لا أسأت إليه قيل كيف- قال لأن الله تعالى قال- إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهاو قال الحسن لرجل- إن استطعت ألا تسيء إلى أحد ممن تحبه فافعل- قال الرجل يا أبا سعيد أ و يسيء المرء إلى من يحبه- قال نعم نفسك أحب النفوس إليك- فإذا عصيت الله فقد أسأت إليها- . و كان مالك بن دينار إذا منع نفسه شيئا من الشهوات- قال اصبري فو الله ما منعك إلا لكرامتك علي- .قام رسول الله ص الليل حتى تورمت قدماه- فقيل له يا رسول الله أ تفعل هذا- و قد غفر الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر- قال أ فلا أكون عبدا شكورا- .
و قال عبد الله بن مسعود- لا يكونن أحدكم جيفة ليله قطرب نهاره- . و كان يقال من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار- . و كان مالك بن دينار يقول في قصصه- ما أشد فطام الكبر و ينشد-
أ تروض عرسك بعد ما هرمت
و من العناء رياضة الهرم
و قال آخر-
إن كنت تؤمن بالقيامة
و اجترأت على الخطيئة
فلقد هلكت و إنجحدت فذاك أعظم للبلية
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 6