و من خطبة له عليه السّلام
رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ حُكْماً فَوَعَى- وَ دُعِيَ إِلَى رَشَادٍ فَدَنَا وَ أَخَذَ بِحُجْزَةِ هَادٍ فَنَجَا- رَاقَبَ رَبَّهُ وَ خَافَ ذَنْبَهُ قَدَّمَ خَالِصاً وَ
عَمِلَ صَالِحاً- اكْتَسَبَ مَذْخُوراً وَ اجْتَنَبَ مَحْذُوراً- وَ رَمَى غَرَضاً وَ أَحْرَزَ عِوَضاً كَابَرَ هَوَاهُ وَ كَذَّبَ مُنَاهُ- جَعَلَ الصَّبْرَ مَطِيَّةَ
نَجَاتِهِ وَ التَّقْوَى عُدَّةَ وَفَاتِهِ- رَكِبَ الطَّرِيقَةَ
الْغَرَّاءَ وَ لَزِمَ الْمَحَجَّةَ الْبَيْضَاءَ- اغْتَنَمَ الْمَهَلَ وَ بَادَرَ الْأَجَلَ وَ تَزَوَّدَ مِنَ الْعَمَلِ
اللغة
أقول: الحجزة: معقد الإزار.
و المراقبة: المحافظة.
و ا لغرّاء: البيضاء.
المعنى
و اعلم أنّ هذا الفصل يشتمل على استنزاله عليه السّلام الرحمة لعبد استجمع ما ذكر من الامور، و هى عشرون وصفا:
الأوّل يسمع الحكم فيعيه، و الحكم الحكمة، و دعاؤه لسامعها و واعيها يستلزم أمره بتعلّمها و تعليمها، و هى أعمّ من العلميّة و العمليّة. و وعاها: أى فهمها كما القيت إليه.
الثاني: كونه إذا دعى إلى رشاد دنا من الداعى إليه و أجاب دعاؤه. و الرشاد يعود إلى ما يهديه و يرشده إلى طريق معاشه و معاده من العلوم و الأعمال الّتي وردت بها الشريعة.
الثالث: أن يأخذ بحجزة هاد فينجو به: أى يكون في سلوكه لسبيل اللّه مقتديا باستاد مرشد عالم لتحصل به نجاته، و استعار لفظ الحجزه لأثر الاستاد و سنّته. و وجه المشابهة كون ذهن المقتدى لازما لسنّة شيخه في مضايق طريق اللّه و ظلماتها لينجو به كما يلزم السالك لطريق مظلم لم يسلكه قبل بحجزة آخر قد سلك تلك الطريق و صار دليلا فيها ليهتدى به و ينجو من التيه في ظلماتها. و بين أهل السلوك حلاف أنّه هل يضطرّ المريد إلى الشيخ في سلوكه أم لا. و أكثرهم يرى وجوبه. و يفهم من كلامه عليه السّلام وجوب ذلك و بمثل شهادته يتبجّح الموجبون له إذ كان لسان العارفين و منتهى طبقاتهم. و ظاهر أنّ طريق المريد مع الشيخ أقرب إلى الهداية، و بدونه أطول و أقرب إلى الضلال عنها. فلذلك قال عليه السّلام: فنجا: أى أنّ النجاة معلّقة به، و قد ذكرنا ما احتجّ به الفريقان في كتاب مصباح العارفين.
الرابع: أن يراقب ربّه. و أعلم أنّ المراقبة إحدى ثمرات الإيمان و هى رتبة عظيمة من رتب السالكين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: اعبد اللّه كأنّك تراه فإن لم تك تراه فإنّه يراك قال تعالى
أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ«» و قال إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً«» قال الإمام الغزّالىّ: و حقيقتها أنّها حالة للنفس بثمرها نوع من المعرفة، و تثمر أعمالا في الجوارح و القلب: أمّا الحالة فهى مراعاة القلب للرقيب و اشتغاله به، و أمّا العلم المثمر لها فهو العلم بأنّ اللّه تعالى مطّلع على الضمائر و السرائر قائم على كلّ نفس بما كسبت و أنّ سرّ القلوب مكشوف له كظاهر البشرة للخلق بل هو أشدّ فهذه المعرفة إذا استولت على القلب و لم يبق فيها شبهة فلا بدّ أن تجذبه إلى مراعات الرقيب. و الموقنون بهذه المعرفة فمنهم الصدّيقون و مراقبتهم التعظيم و الإجلال و استغراق القلب بملاحظة ذلك الجلال و الانكسار تحت الهيبة و العظمة بحيث لا يبقى فيه متّسع للالتفات إلى الغير أصلا. و هى مراقبة مقصورة على القلب. أمّا الجوارح فإنّها تتعطّل عن التلفّت إلى المباحات فضلا عن المحظورات، و إذا تحرّكت بالطاعة كانت كالمستعمل لها فلا تصلح لغيرها و لا يحتاج إلى تدبير في ضبطها على سنن السداد، و من نال هذه الرتبة فقد يغفل عن الخلق حتّى لا يبصرهم و لا يسمع أقوالهم. و مثّل هذا بمن يحضر في خدمة ملك عظيم فإنّ بعضهم قد لا يحسّ بما يجرى في حضرة الملك من استغراقه بهيبته، و بمن يشغله أمر مهمّ يفكّر فيه.
و روى: أنّ يحيى بن زكريّا عليه السّلام مرّ بامراة فدفعها على وجهها. فقيل له: لم فعلت فقال: ما ظننتها إلّا جدارا. الثانية مراقبة الورعين من أصحاب اليمين و هم قوم غلب بعض اطّلاع اللّه تعالى على قلوبهم و لكن لم تدهشهم ملاحظة الجلال بل بقيت قلوبهم على الاعتدال متّسعة للتلفّت إلى الأقوال و الأعمال إلّا أنّها مع مدارستها للعمل لا تخلو عن المراقبة، و قد غلب الحياء من اللّه على قلوبهم فلا يقدمون و لا يجمحون إلّا عن تثبّت فيمتنعون عن كلّ أمر فاضح في القيامة إذ يرون اللّه تعالى مشاهدا لأعمالهم في الدنيا كما يرونه في القيامة. و من كان في هذه الدرجة فيحتاج أن يراقب جميع حركاته و سكناته و لحظاته و جميع اختياراته و يرصد كلّ خاطر يسنح له فإن كان إلهيّا يعجّل مقتضاه و إن كانت شيطانيّا بادر إلى قمعه استحيا من ربّه و لام نفسه على اتّباع هواه فيه و إن شكّ فيه توقّف إلى أن يظهر له بنور اللّه سبحانه من أىّ جانب هو كما قال عليه السّلام: الهوى شريك
العمى. و من التوفيق التوقّف عند الحيرة و لا يهمل شيئا من أعماله و خواطره و إن قلّ ليسلم من مناقشة الحساب. فقد قال الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الرجل ليسئل عن كحل عينيه و عن فتلة الطين بإصبعه و عن لمسه ثوب أخيه.
الخامس: أن يخاف ذنبه. و اعلم أنّ الخوف ليس ممّا هو ذنب بل من المعاقب على الذنب لكن لمّا كان الذنب سببا موجبا لسخط المعاقب و عقابه نسب الخوف إليه. و قد سبق منّا بيان حقيقتى الخوف و الرجاء.
السادس: أن يقدّم خالصا بأن يكون أحواله كلّها خالصة للّه من قول أو عمل، و خاطره بريئة عن الالتفات إلى غيره فيها. و قد سبق معنى الإخلاص في الخطبة الاولى.
السابع: أن يعمل صالحا. و صلاح العمل الإتيان به كما امر به و هو نوع ممّا تقدّمه.
الثامن: أن يكتسب مذخورا. و هو أمر بساير ما أمرت الشريعة باكتسابه. و نبّه على وجوب السعى فيه بأنّه يبقى ذخرا ليوم الفاقة إليه.
التاسع: أن يجتنب محذورا. و هو أمر باجتناب ما نهت الشريعة عنه، و نبّه على وجوب اجتنابه بكونه محذورا يستلزم العقاب في الآخرة.
العاشر: أن يرمى غرضا: أى يحذف أعراض الدنيا عن درجة الاعتبار، و هو إشارة إلى الزهد و التخلّى عن موانع الرحمة.
الحادى عشر: أن يحرز عوضا: أى يذخر في جوهر نفسه ملكات الخير و يوجّه سرّه إلى مطالعة أنوار كبرياء اللّه و يحرز ما يفاض عليه من الحسنات و يثبتها بتكريرها.
فنعم العوض من متاع الدنيا و أعراضها الفانية.
الثاني عشر: أن يكابر هواه: أى يطوّع نفسه الأمّارة بالسوء بالأعمال الدينيّة و يراقبها في كلّ خاطر يلقيه إلى نفسيه و يقابلها بكسره و قمعه.
الثالث عشر: أن يكذب مناه: أى يقابل ما يلفته إليه الشيطان من الأمانى و يعده به بالتكذيب و القمع له بتجويز عدم نيلها. و يحسم مادّه ذلك بالمراقبة فإنّ الوساوس الشيطانيّة يتبع بعضها بعضا، و من إشاراته عليه السّلام إلى ذلك: إيّاكم و المنى فإنّها بضايع النوكى: أى الحمقى.
الرابع عشر: أن يجعل الصبر مطيّة نجاته. و الصبر هو مقاومة النفس لئلّا تنقاد إلى قبايح اللذّات. و لمّا علمت أنّ الانقياد في مسلكها إلى اللذّات القبيحة هو سبب الهلاك في الآخرة علمت أنّ مقاومتها و دفعها عنها هو سبب النجاة هناك، و قد استعار لفظ المطيّة للصبر، و وجه المشابهة كون لزومه سببا للنجاة كما أنّ ركوب المطيّة و الهرب عليها سبب النجاة من العدوّ.
الخامس عشر: أن يجعل التقوى عدّة وفاته. و لمّا كان التقوى قد يراد به الزهد، و قد يراد به الخوف من اللّه المستلزم للزهد كما علمت و كانت العدّة هو ما استعدّ به الإنسان للقاء الحوادث، و كان الموت أعظم حادث يسبق إلى الإنسان من أحوال الآخرة كان التقوى عدّة للموت. إذ كان المتّقى مشغول السرّ بعظمة اللّه و هيبته عن كلّ حالة تلحقه فلا يكون للموت. عنده كثير وقع و لا عظيم كرب، و قد يراد بالتقوى مطلق الإيمان، و بالوفاة ما بعدها مجازا، و ظاهر كون الإيمان عدّة واقية من عذاب اللّه.
السادس عشر: أن يرتكب الطريقة الغرّاء. و هو أن يسلك إلى اللّه تعالى الطريقة الواضحة المستقيمة و هى سريعة.
السابع عشر: و أن يلزم المحجّة البيضاء. و الفرق بين هذا الأمر و الّذي قبله أنّ الأوّل أمر بركوب الطريقة الغرّاء، و الثاني أمر بلزومها و عدم مفارقتها و أنّها و إن كانت واضحة إلّا أنّها طويلة كثيرة المخاوف و سالكها أبدا محارب للشيطان و هو في معرض أن يستزلّه عنها.
الثامن عشر: أن يغتنم المهل: أى أيّام مهلته و هى حياته الدنيا و اغتنامه العمل فيها قبل يوم الحساب.
التاسع عشر: أن يبادر الأجل: أى يسابقه إلى العمل قبل أن يسبقه فيقتطعه عنه.
العشرون: أن يتزوّد من العمل. و هو الأمر بما يتبادر إليه من اتّخاذ العمل زادا.
و قد سبق وجه استعارة الزاد له. و قد راعى عليه السّلام في كلّ مرتبتين من هذا الكلام السجع المتوازى، و جعل الصدر ثلاثا و الآخر ثلاثا و عطف كلّ قرينة على مشاركتها في الحرف الأخير منها، و حذف حرف العطف من الباقى ليتميّز ما يتناسب منها عن غيره.
و كلّ ذلك بلاغة.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه ى 212