69 و قال ع في سحرة اليوم الذي ضرب فيه
مَلَكَتْنِي عَيْنِي وَ أَنَا جَالِسٌ- فَسَنَحَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ص فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ- مَا ذَا لَقِيتُ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الْأَوَدِ وَ اللَّدَدِ فَقَالَ ادْعُ عَلَيْهِمْ- فَقُلْتُ أَبْدَلَنِيَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ- وَ أَبْدَلَهُمْ بِي شَرّاً لَهُمْ مِنِّي قال الرضي رحمه الله- يعني بالأود الاعوجاج و باللدد الخصام- و هذا من أفصح الكلام قوله ملكتني عيني من فصيح الكلام- يريد غلبني النوم- قوله فسنح لي رسول الله ص يريد مر بي كما تسنح الظباء- و الطير يمر بك و يعترض لك- . و ذا هاهنا بمعنى الذي كقوله تعالى ما ذا تَرى- أي ما الذي ترى يقول- قلت له ما الذي لقيت من أمتك- و ما هاهنا استفهامية كأي- و يقال ذلك فيما يستعظم أمره- كقوله سبحانه الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ- و شرا هاهنا لا يدل على أن فيه شرا- كقوله قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ- لا يدل على أن في النار خيرا
خبر مقتل الإمام علي كرم الله وجهه
و يجب أن نذكر في هذا الموضع مقتله ع- و أصح ما ورد في ذلك- ما ذكره أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني- في كتاب مقاتل الطالبيين- . قال أبو الفرج علي بن الحسين- بعد أسانيد ذكرها مختلفة متفرقة- تجتمع على معنى واحد نحن ذاكروه- إن نفرا من الخوارج اجتمعوا بمكة- فتذاكروا أمر المسلمين- فعابوهم و عابوا أعمالهم عليهم- و ذكروا أهل النهروان فترحموا عليهم- و قال بعضهم لبعض لو أنا شرينا أنفسنا لله عز و جل- فأتينا أئمة الضلال و طلبنا غرتهم- و أرحنا منهم العباد و البلاد- و ثأرنا بإخواننا الشهداء بالنهروان- . فتعاقدوا عند انقضاء الحج- فقال عبد الرحمن بن ملجم أنا أكفيكم عليا- و قال واحد أنا أكفيكم معاوية- و قال الثالث أنا أكفيكم عمرو بن العاص- فتعاقدوا و تواثقوا على الوفاء- و ألا ينكل أحد منهم- عن صاحبه الذي يتوجه إليه و لا عن قتله- و اتعدوا لشهر رمضان- في الليلة التي قتل فيها ابن ملجم عليا- . قال أبو الفرج قال أبو مخنف قال أبو زهير العبسي- الرجلان الآخران البرك بن عبد الله التميمي- و هو صاحب معاوية- و عمرو بن بكر التميمي و هو صاحب عمرو بن العاص- . قال فأما صاحب معاوية فإنه قصده- فلما وقعت عينه عليه ضربه- فوقعت ضربته على أليته- و أخذ فجاء الطبيب إليه فنظر إلى الضربة- فقال إن السيف مسموم- فاختر إما أن أحمي لك حديدة- فأجعلها في الضربة فتبرأ- و إما أن أسقيك دواء فتبرأ و ينقطع نسلك- فقال أما النار فلا أطيقها- و أما النسل ففي يزيد و عبد الله ما تقر عيني و حسبي بهما- . فسقاه الدواء فعوفي و عالج جرحه حتى التأم- و لم يولد له بعد ذلك- .
و قال له البرك بن عبد الله إن لك عندي بشارة- قال و ما هي فأخبره خبر صاحبه- و قال له إن عليا قتل في هذه الليلة فاحتبسني عندك- فإن قتل فأنت ولي ما تراه في أمري- و إن لم يقتل أعطيتك العهود و المواثيق- أن أمضي إليه فأقتله ثم أعود إليك فأضع يدي في يدك- حتى تحكم في بما ترى فحبسه عنده- فلما أتي الخبر أن عليا قتل في تلك الليلة خلى سبيله- . هذه رواية إسماعيل بن راشد- و قال غيره من الرواة بل قتله من وقته- . و أما صاحب عمرو بن العاص- فإنه وافاه في تلك الليلة و قد وجد علة فأخذ دواء- و استخلف رجلا يصلي بالناس- يقال له خارجة بن أبي حبيبة أحد بني عامر بن لؤي- فخرج للصلاة- فشد عمرو بن بكر فضربه بالسيف فأثبته- و أخذ الرجل فأتي به عمرو بن العاص فقتله- و دخل من غد إلى خارجة و هو يجود بنفسه- فقال أما و الله يا أبا عبد الله ما أراد غيرك- قال عمرو و لكن الله أراد خارجة- . و أما ابن ملجم فإنه قتل عليا تلك الليلة- .
قال أبو الفرج و حدثني محمد بن الحسن الأشنانداني و غيره قال أخبرني علي بن المنذر الطريقي قال حدثنا ابن فضيل قال حدثنا فطر عن أبي الطفيل قال جمع علي ع الناس للبيعة- فجاء عبد الرحمن بن ملجم فرده علي مرتين أو ثلاثا- ثم مد يده فبايعه- فقال له علي ما يحبس أشقاها- فو الذي نفسي بيده لتخضبن هذه من هذه- ثم أنشد
اشدد حيازيمك للموت
فإن الموت لاقيكا
و لا تجزع من الموت
إذا حل بواديكا
قال أبو الفرجو قد روي لنا من طرق غير هذه أن عليا أعطى الناس فلما بلغ ابن ملجم أعطاه- و قال له
أريد حياته و يريد قتلي
عذيرك من خليلك من مراد
قال أبو الفرج و حدثني أحمد بن عيسى العجلي بإسناد- ذكره في الكتاب إلى أبي زهير العبسي قال- كان ابن ملجم من مراد و عداده في كندة- فأقبل حتى قدم الكوفة فلقي بها أصحابه و كتمهم أمره- و طوى عنهم ما تعاقد هو و أصحابه عليه بمكة- من قتل أمراء المسلمين مخافة أن ينتشر- و زار رجلا من أصحابه ذات يوم من بني تيم الرباب- فصادف عنده قطام بنت الأخضر من بني تيم الرباب- و كان علي قتل أخاها و أباها بالنهروان- و كانت من أجمل نساء أهل زمانها- فلما رآها شغف بها و اشتد إعجابه فخطبها- فقالت له ما الذي تسمي لي من الصداق- فقال احتكمي ما بدا لك- فقالت أحتكم عليك ثلاثة آلاف درهم و وصيفا و خادما- و أن تقتل علي بن أبي طالب- . فقال لها لك جميع ما سألت- و أما قتل علي فأنى لي بذلك- قالت تلتمس غرته- فإن أنت قتلته شفيت نفسي و هنأك العيش معي- و إن قتلت فما عند الله خير لك من الدنيا- فقال لها أما و الله ما أقدمني هذا المصر- و قد كنت هاربا منه لآمن أهله- إلا ما سألتني من قتل علي- .
قالت له- فأنا طالبة لك بعض من يساعدك على هذا و يقويك- ثم بعثت إلى وردان بن مجالد أحد بني تيم الرباب- فخبرته الخبر و سألته معاونة ابن ملجم- فتحمل لها ذلك و خرج ابن ملجم- فأتى رجلا من أشجع يقال له شبيب بن بجرة- و قال له يا شبيب- هل لك في شرف الدنيا و الآخرة قال و ما ذاك- قال تساعدني على قتل علي- و كان شبيب على رأي الخوارج- فقال له هبلتك الهبول- لقد جئت شيئا إدا- و كيف تقدر ويحك على ذلك- قال ابن ملجم نكمن له في المسجد الأعظم-فإذا خرج لصلاة الفجر فتكنا به- و شفينا أنفسنا منه و أدركنا ثأرنا- فلم يزل به حتى أجابه- . فأقبل به حتى دخلا على قطام- و هي معتكفة في المسجد الأعظم- قد ضربت لها قبة- فقالا لها قد أجمع رأينا على قتل هذا الرجل- قالت لهما فإذا أردتما ذلك- فالقياني في هذا الموضع فانصرفا من عندها- فلبثا أياما ثم أتياها و معهما وردان بن مجالد- الذي كلفته مساعدة ابن ملجم- و ذلك في ليلة الجمعة لتسع عشرة ليلة- خلت من رمضان سنة أربعين- .
قال أبو الفرج هكذا في رواية أبي مخنف- و في رواية أبي عبد الرحمن السلمي- أنها كانت ليلة سبع عشرة من شهر رمضان- فقال لها ابن ملجم هذه الليلة هي التي وعدت فيها صاحبي- و وعداني أن يقتل كل واحد منا صاحبه الذي يتوجه إليه- . قلت إنما تواعدوا بمكة- عبد الرحمن و البرك و عمرو على هذه الليلة- لأنهم يعتقدون أن قتل ولاة الجور قربة إلى الله- و أحرى القربات ما تقرب به- في الأوقات الشريفة المباركة- . و لما كانت ليلة الجمعة التاسعة عشرة- من شهر رمضان ليلة شريفة- يرجى أن تكون ليلة القدر- عينوها لفعل ما يعتقدونه قربة إلى الله- فليعجب المتعجب من العقائد- كيف تسري في القلوب و تغلب على العقول- حتى يرتكب الناس عظائم الأمور- و أهوال الخطوب لأجلها- قال أبو الفرج فدعت لهم بحرير فعصبت به صدورهم- و تقلدوا سيوفهم و مضوا- فجلسوا مقابل السدة التي كان- يخرج منها علي ع إلى الصلاة- .
قال أبو الفرج- و قد كان ابن ملجم أتى الأشعث بن قيس في هذه الليلة- فخلا به في بعض نواحي المسجد و مر بهما حجر بن عدي- فسمع الأشعث و هو يقول لابن ملجم- النجاء النجاء بحاجتك فقد فضحك الصبح- قال له حجر قتلته يا أعور و خرج مبادرا إلى علي- و قد سبقه ابن ملجم فضربه- فأقبل حجر و الناس يقولون قتل أمير المؤمنين- .
قال أبو الفرج و للأشعث بن قيس- في انحرافه عن أمير المؤمنين أخبار يطول شرحها-منها حديث حدثنيه محمد بن الحسين الأشنانداني قال حدثني إسماعيل بن موسى قال حدثنا علي بن مسهر عن الأجلح عن موسى بن أبي النعمان قال جاء الأشعث إلى علي يستأذن عليه فرده قنبر- فأدمى الأشعث أنفه- فخرج علي و هو يقول ما لي و لك يا أشعث- أما و الله لو بعبد ثقيف تمرست لاقشعرت شعيراتك- قيل يا أمير المؤمنين و من عبد ثقيف- قال غلام لهم لا يبقي أهل بيت من العرب- إلا أدخلهم ذلا- قيل يا أمير المؤمنين كم يلي أو كم يمكث- قال عشرين إن بلغهاقال أبو الفرج و حدثني محمد بن الحسين أيضا بإسناد ذكره أن الأشعث دخل على علي فكلمه فأغلظ علي له- فعرض له الأشعث أنه سيفتك به- فقال له علي أ بالموت تخوفني أو تهددني- فو الله ما أبالي وقعت على الموت أو وقع الموت علي- .
قال أبو الفرج قال أبو مخنف فحدثني أبي- عن عبد الله بن محمد الأزدي قال- إني لأصلي تلك الليلة في المسجد الأعظم- مع رجال من أهل المصر- كانوا يصلون في ذلك الشهر من أول الليل إلى آخره- إذ نظرت إلى رجال يصلون قريبا من السدة قياما و قعودا- و ركوعا و سجودا ما يسأمون- إذ خرج عليهم علي بن أبي طالب الفجر- فأقبل ينادي الصلاة الصلاة فرأيت بريق السيف- و سمعت قائلا يقول الحكم لله يا علي لا لك-ثم رأيت بريق سيف آخر- و سمعت صوت علي ع يقول لا يفوتنكم الرجل- .
قال أبو الفرج فأما بريق السيف الأول- فإنه كان شبيب بن بجرة ضربه فأخطأه- و وقعت ضربته في الطاق و أما بريق السيف الثاني- فإنه ابن ملجم ضربه فأثبت الضربة في وسط رأسه- و شد الناس عليهما من كل ناحية حتى أخذوهما- . قال أبو مخنف فهمدان تذكر أن رجلا منهم- يكنى أبا أدماء أخذ ابن ملجم- . و قال غيرهم بل أخذه المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب- طرح عليه قطيفة ثم صرعه- و أخذ السيف من يده و جاء به- .
قال و أما شبيب بن بجرة فإنه خرج هاربا- فأخذه رجل فصرعه و جلس على صدره- و أخذ السيف من يده ليقتله فرأى الناس يقصدون نحوه- فخشي أن يعجلوا عليه فوثب عن صدره- و خلاه و طرح السيف عن يده- و أما شبيب بن بجرة ففاته- فخرج هاربا حتى دخل منزله- فدخل عليه ابن عم له فرآه يحل الحرير عن صدره- فقال له ما هذا لعلك قتلت أمير المؤمنين- فأراد أن يقول لا فقال نعم- فمضى ابن عمه فاشتمل على سيفه- ثم دخل عليه فضربه حتى قتله- .
قال أبو مخنف فحدثني أبي عن عبد الله بن محمد الأزدي قال أدخل ابن ملجم على علي ع- و دخلت عليه فيمن دخل فسمعت عليا يقول- النفس بالنفس إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني- و إن سلمت رأيت فيه رأيي- فقال ابن ملجم و لقد اشتريته بألف يعني السيف- و سممته بألف فإن خانني فأبعده الله- قال فنادته أم كلثوم يا عدو الله قتلت أمير المؤمنين- قال إنما قتلت أباك قالت يا عدو الله- إني لأرجوألا يكون عليه بأس- قال فأراك إنما تبكين عليا إذا و الله لقد ضربته ضربة- لو قسمت بين أهل الأرض لأهلكتهم- . قال أبو الفرج و أخرج ابن ملجم من بين يديه و هو يقول-
نحن ضربنا يا بنة الخير إذ طغى
أبا حسن مأمومة فتفطرا
و نحن حللنا ملكه من نظامه
بضربة سيف إذ علا و تجبرا
و نحن كرام في الصباح أعزة
إذا المرء بالموت ارتدى و تأزرا
قال و انصرف الناس من صلاة الصبح فأحدقوا بابن ملجم- ينهشون لحمه بأسنانهم كأنهم السباع- و يقولون يا عدو الله ما ذا صنعت أهلكت أمة محمد- و قتلت خير الناس و إنه لصامت ما ينطق- .
قال أبو الفرج و روى أبو مخنف عن أبي الطفيل أن صعصعة بن صوحان استأذن على علي ع- و قد أتاه عائدا لما ضربه ابن ملجم فلم يكن عليه إذن- فقال صعصعة للآذن قل له- يرحمك الله يا أمير المؤمنين حيا و ميتا- فلقد كان الله في صدرك عظما- و لقد كنت بذات الله عليما- فأبلغه الآذن مقالته- فقال قل له و أنت يرحمك الله- فلقد كنت خفيف المئونة كثير المعونة- .
قال أبو الفرج ثم جمع له أطباء الكوفة- فلم يكن منهم أحد- أعلم بجرحه من أثير بن عمرو بن هانئ السكوني- و كان متطببا صاحب كرسي يعالج الجراحات- و كان من الأربعين غلاما- الذين كان خالد بن الوليد أصابهم في عين التمر فسباهم- فلما نظر أثير إلى جرح أمير المؤمنين- دعا برئة شاة حارة فاستخرج منها عرقا- و أدخله في الجرح ثم نفخه ثم استخرجه- و إذا عليه بياض الدماغ- فقال يا أمير المؤمنين اعهد عهدك- فإن عدو الله قد وصلت ضربته إلى أم رأسك- فدعا علي ع عند ذلك بدواة و صحيفة و كتب وصيته-هذا ما أوصى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- أوصى بأنه يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله- أرسله بالهدى و دين الحق- ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون- صلوات الله و بركاته عليه- إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين- لا شريك له و بذلك أمرت و أنا أول المسلمين- أوصيك يا حسن و جميع ولدي و أهل بيتي- و من بلغه كتابي هذا بتقوى الله ربنا و ربكم- و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون- و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا- فإني سمعت رسول الله يقول- صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة و الصيام- و إن المبيرة حالقة الدين إفساد ذات البين- و لا قوة إلا بالله العلي العظيم- انظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوها- يهون الله عليكم الحساب- و الله الله في الأيتام فلا تغيرن أفواههم بجفوتكم- و الله الله في جيرانكم فإنها وصية رسول الله ص- فما زال يوصينا بهم حتى ظننا أنه سيورثهم الله- و الله الله في القرآن فلا يسبقنكم بالعمل به غيركم- و الله الله في الصلاة فإنها عماد دينكم- و الله الله في صيام شهر رمضان فإنه جنة من النار- و الله الله في الجهاد بأموالكم و أنفسكم- و الله الله في زكاة أموالكم- فإنها تطفئ غضب ربكم- و الله الله في أهل بيت نبيكم فلا يظلمن بين أظهركم- و الله الله في أصحاب نبيكم فإن رسول الله ص أوصى بهم- و الله الله في الفقراء و المساكين- فأشركوهم في معايشكم- و الله الله فيما ملكت أيمانكم- فإنه كانت آخر وصية رسول الله ص إذ قال- أوصيكم بالضعيفين فيما ملكت أيمانكم- ثم الصلاة الصلاة- لا تخافوا في الله لومة لائم- يكفكم من بغى عليكم و من أرادكم بسوء- قولوا للناس حسنا كما أمركم الله به- و لا تتركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- فيتولى ذلك غيركم و تدعون فلا يستجاب لكم- عليكم بالتواضع و التباذل و التبار- و إياكم و التقاطع و التفرقو التدابر- تعاونوا على البر و التقوى- و لا تعاونوا على الإثم و العدوان- و اتقوا الله إن الله شديد العقاب- حفظكم الله من أهل بيت و حفظ فيكم نبيه- أستودعكم الله خير مستودع- و عليكم سلام الله و رحمته- .
قلت قوله و الله الله في الأيتام- فلا تغيرن أفواههم بجفوتكم- يحتمل تفسيرين أحدهما لا تجيعوهم- فإن الجائع يخلف فمه و تتغير نكهته- و الثاني لا تحوجوهم إلى تكرار الطلب و السؤال- فإن السائل ينضب ريقه و تنشف لهواته و يتغير ريح فمه- . و قوله حكاية عن رسول الله ص- أوصيكم بالضعيفين فيما ملكت أيمانكم- يعني به الحيوان الناطق و الحيوان الأعجم- .
قال أبو الفرج و حدثني أبو جعفر محمد بن جرير الطبري بإسناد ذكره في الكتاب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال قال لي الحسن بن علي ع خرجت و أبي يصلي في المسجد فقال لي يا بني إني بت الليلة أوقظ أهلي- لأنها ليلة الجمعة صبيحة يوم بدر- لتسع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان- فملكتني عيناي فسنح لي رسول الله ص فقلت- يا رسول الله ما ذا لقيت من أمتك من الأود و اللدد- فقال لي ادع عليهم- فقلت اللهم أبدلني بهم خيرا منهم- و أبدلهم بي من هو شر مني- قال الحسن ع و جاء ابن أبي الساج فأذنه بالصلاة- فخرج فخرجت خلفه فاعتوره الرجلان- فأما أحدهما فوقعت ضربته في الطاق- و أما الآخر فأثبتها في رأسه- .
قال أبو الفرج قال حدثني أحمد بن عيسى قال- حدثنا الحسين بن نصر قالحدثنا زيد بن المعدل عن يحيى بن شعيب عن أبي مخنف عن فضيل بن خديج- عن الأسود الكندي و الأجلح قالا- توفي علي ع و هو ابن أربع و ستين سنة- في عام أربعين من الهجرة- ليلة لإحدى و عشرين ليلة الأحد مضت من شهر رمضان- و ولي غسله ابنه الحسن و عبد الله بن العباس- و كفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص- و صلى عليه ابنه الحسن فكبر عليه خمس تكبيرات- و دفن بالرحبة مما يلي أبواب كندة عند صلاة الصبح- . هذه رواية أبي مخنف- .
قال أبو الفرج و حدثني أحمد بن سعيد قال حدثنا يحيى بن الحسن العلوي قال حدثنا يعقوب بن زيد عن ابن أبي عمير عن الحسن بن علي الخلال عن جده قال قلت للحسين بن علي ع أين دفنتم أمير المؤمنين ع- قال خرجنا به ليلا من منزله- حتى مررنا به على منزل الأشعث بن قيس- ثم خرجنا به إلى الظهر بجنب الغري- .
قلت و هذه الرواية هي الحق و عليها العمل- و قد قلنا فيما تقدم- إن أبناء الناس أعرف بقبور آبائهم- من غيرهم من الأجانب- و هذا القبر الذي بالغري- هو الذي كان بنو علي يزورونه قديما و حديثا- و يقولون هذا قبر أبينا- لا يشك أحد في ذلك من الشيعة و لا من غيرهم- أعني بني علي من ظهر الحسن و الحسين و غيرهما من سلالته- المتقدمين منهم و المتأخرين- ما زاروا و لا وقفوا إلا على هذا القبر بعينه- .
و قد روى أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي- في تاريخه المعروف بالمنتظم- وفاة أبي الغنائم محمد بن علي بن ميمون النرسي- المعروف بأبي لجوده قراءته قال- توفي أبو الغنائم هذا في سنة عشر و خمسمائة- و كان محدثا من أهل الكوفة ثقة حافظا- و كان من قوام الليل و من أهل السنة- و كان يقول ما بالكوفة من هو على مذهب أهل السنة- و أصحاب الحديث غيري- و كان يقول مات بالكوفة ثلاثمائة صحابي- ليس قبر أحد منهم معروفا إلا قبر أمير المؤمنين- و هو هذا القبر الذي يزوره الناس الآن- جاء جعفر بن محمد ع و أبوه محمد بن علي بن الحسين ع إليه- فزاراه و لم يكن إذ ذاك قبرا معروفا ظاهرا- و إنما كان به سرح عضاه- حتى جاء محمد بن زيد الداعي صاحب الديلم فأظهر القبر- . و سألت بعض من أثق به من عقلاء شيوخ أهل الكوفة- عما ذكره الخطيب أبو بكر في تاريخه أن قوما يقولون- إن هذا القبر الذي تزوره الشيعة إلى جانب الغري- هو قبر المغيرة بن شعبة- فقال غلطوا في ذلك- قبر المغيرة و قبر زياد بالثوية من أرض الكوفة- و نحن نعرفهما و ننقل ذلك عن آبائنا و أجدادنا- و أنشدني قول الشاعر يرثي زيادا- و قد ذكره أبو تمام في الحماسة-
صلى الإله على قبر و طهره
عند الثوية يسفي فوقه المور
زفت إليه قريش نعش سيدها
فالحلم و الجود فيه اليوم مقبور
أبا المغيرة و الدنيا مفجعة
و إن من غرت الدنيا لمغرور
قد كان عندك للمعروف معرفة
و كان عندك للمنكور تنكير
و كنت تغشى و تعطى المال من سعة
فاليوم قبرك أضحى و هو مهجور
و الناس بعدك قد خفت حلومهم
كأنما نفخت فيه الأعاصير
و سألت قطب الدين نقيب الطالبيين- أبا عبد الله الحسين بن الأقساسي- رحمه الله تعالى عن ذلك فقال- صدق من أخبرك نحن و أهلها كافة- نعرف مقابر ثقيف إلى الثوية- و هي إلى اليوم معروفة و قبر المغيرة فيها- إلا أنها لا تعرف و قد ابتلعها السبخ- و زبد الأرض و فورانها فطمست و اختلط بعضها ببعض- . ثم قال إن شئت أن تتحقق أن قبر المغيرة في مقابر ثقيف- فانظر إلى كتاب الأغاني لأبي الفرج علي بن الحسين- و المح ما قاله في ترجمة المغيرة- و أنه مدفون في مقابر ثقيف و يكفيك قول أبي الفرج- فإنه الناقد البصير و الطبيب الخبير- فتصفحت ترجمة المغيرة في الكتاب المذكور- فوجدت الأمر كما قاله النقيب- .
قال أبو الفرج كان مصقلة بن هبيرة الشيباني- قد لاحى المغيرة في شيء كان بينهما منازعة- فضرع له المغيرة و تواضع في كلامه- حتى طمع فيه مصقلة فاستعلى عليه و شتمه- و قال إني لأعرف شبهي في عروة ابنك- فأشهد المغيرة على قوله هذا شهودا- ثم قدمه إلى شريح القاضي فأقام عليه البينة- فضربه شريح الحد- و آلى مصقلة ألا يقيم ببلدة فيها المغيرة- فلم يدخل الكوفة حتى مات المغيرة فدخلها- فتلقاه قومه فسلموا عليه- فما فرغ من السلام حتى سألهم عن مقابر ثقيف- فأرشدوه إليها فجعل قوم من مواليه يلتقطون الحجارة- فقال لهم ما هذا- فقالوا نظن أنك تريد أن ترجم قبر المغيرة- فقال ألقوا ما في أيديكم- فانطلق حتى وقف على قبره- ثم قال و الله لقد كنت ما علمت نافعا لصديقك- ضارا لعدوك و ما مثلك إلا كما قال مهلهل في كليب أخيه-
إن تحت الأحجار حزما و عزما
و خصيما ألد ذا معلاق
حية في الوجار أربد لا ينفع
منه السليم نفثة راق
قال أبو الفرج فأما ابن ملجم- فإن الحسن بن علي بعد دفنه أمير المؤمنين دعا به- و أمر بضرب عنقه- فقال له إن رأيت أن تأخذ علي العهود- أن أرجع إليك حتى أضع يدي في يدك- بعد أن أمضي إلى الشام- فأنظر ما صنع صاحبي بمعاوية- فإن كان قتله و إلا قتلته- ثم عدت إليك حتى تحكم في حكمك فقال هيهات- و الله لا تشرب الماء البارد حتى تلحق روحك بالنار- ثم ضرب عنقه- و استوهبت أم الهيثم بنت الأسود النخعية جثته منه- فوهبها لها فأحرقتها بالنار- . و قال ابن أبي مياس الفزاري و هو من الخوارج-
فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة
كمهر قطام من غني و معدم
ثلاثة آلاف و عبد و قينة
و ضرب علي بالحسام المصمم
فلا مهر أغلى من علي و إن غلا
و لا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
و قال عبد الله بن العباس بن عبد المطلب-
و هز علي بالعراقين لحية
مصيبتها جلت على كل مسلم
و قال سيأتيها من الله نازل
و يخضبها أشقى البرية بالدم
فعاجله بالسيف شلت يمينه
لشؤم قطام عند ذاك ابن ملجم
فيا ضربة من خاسر ضل سعيه
تبوأ منها مقعدا في جهنم
ففاز أمير المؤمنين بحظه
و إن طرقت إحدى الليالي بمعظم
ألا إنما الدنيا بلاء و فتنة
حلاوتها شيبت بصاب و علقم
قال أبو الفرج و أنشدني عمي الحسن بن محمد قال- أنشدني محمد بن سعد لبعض بني عبد المطلب- يرثي عليا و لم يذكر اسمه-
يا قبر سيدنا المجن سماحة
صلى الإله عليك يا قبر
ما ضر قبرا أنت ساكنه
ألا يحل بأرضه القطر
فليندين سماح كفك بالثرى
و ليورقن بجنبك الصخر
و الله لو بك لم أجد أحدا
إلا قتلت لفاتني الوتر
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 6