و من كلام له عليه السّلام كان يقوله لأصحابه فى بعض أيام صفين
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَشْعِرُوا الْخَشْيَةَ- وَ تَجَلْبَبُوا السَّكِينَةَ وَ عَضُّوا عَلَى النَّوَاجِذِ- فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ وَ أَكْمِلُوا
اللَّأْمَةَ- وَ قَلْقِلُوا السُّيُوفَ فِي أَغْمَادِهَا قَبْلَ سَلِّهَا- وَ الْحَظُوا الْخَزْرَ وَ اطْعُنُوا الشَّزْرَ- وَ نَافِحُوا بِالظُّبَى وَ صِلُوا السُّيُوفَ
بِالْخُطَا- وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللَّهِ وَ مَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ- فَعَاوِدُوا الْكَرَّ وَ اسْتَحْيُوا مِنَ الْفَرِّ- فَإِنَّهُ عَارٌ فِي الْأَعْقَابِ وَ نَارٌ
يَوْمَ الْحِسَابِ- وَ طِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ نَفْساً- وَ امْشُوا إِلَى الْمَوْتِ مَشْياً سُجُحاً- وَ عَلَيْكُمْ بِهَذَا السَّوَادِ الْأَعْظَمِ وَ الرِّوَاقِ
الْمُطَنَّبِ- فَاضْرِبُوا ثَبَجَهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كَامِنٌ فِي كِسْرِهِ- وَ قَدْ قَدَّمَ لِلْوَثْبَةِ يَداً وَ أَخَّرَ لِلنُّكُوصِ رِجْلًا- فَصَمْداً صَمْداً حَتَّى
يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ الْحَقِّ- وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ
أقول: المشهور أنّ هذا الكلام قاله عليه السّلام لأصحابه في اليوم الّذي كان مساؤه ليلة الهرير، و روى أنّه قال في أوّل اللقاء بصفّين و ذلك في صفر سنة سبع و ثلاثين.
اللغة
استشعرت الشيء: اتّخذته شعارا: و هو ما يلي الجسد من الثياب.
و الجلباب: الملحفة.
و السكينة: الثبات و الوقار.
و النواجذ: أقاصى الأضراس.
و نبا السيف: إذا رجع في الضربة و لم يعمل و اللأمة بالهمزة الساكنة: الدرع، و بالمدودة مع تضعيف الميم جميع آلات الحرب و القلقلة: التحريك الخزر بفتح الزاء: ضيق العين و صغرها، و كذلك تضييقها و النظر بمؤخّرها عند الغضب.
و الطعن الشزر بسكون الزاء: الضرب على غير استقامة بل يمينا و شمالا.
و الظبى: جمع ظبّة: و هو طرف السيف و المنافحة: التناول بأطراف السيوف.
و الأعقاب: جمع عقب أو جمع عقب و هو العاقبة.
و سجحا: أى سهلا.
و السواد: العدد الكثير.
و الرواق: بيت كالفسطاط يعمل على عمود واحد.
و ثبجه: وسطه.
و الكسر: جانب الخباء و النكوص: الرجوع.
و الصمد. القصد. و لن يتركم: أى ينقصكم.
و اعلم أنّ هذه الأوامر مشتملة على تعليم الحرب و المقاتلة و هى كيفيّة يستلزم الاستعداد بها إفاضة النصر لا محالة.
فأوّلها: الأمر باستشعار خشية اللّه
كما يلزم الشعار الجسد. و هو استعارة كما سبق.
و فايدة هذا الأمر الصبر على الحرب و امتثال جميع امور الباقية. إذ خشية اللّه مستلزمة لامتثال أوامره و لذلك قدّمه.
الثاني: الأمر باتّخاذ السكينة جلبابا تنزيلا للثياب الشامل للإنسان منزلة الملحفة في شمولها للبدن. و الشمول هو وجه الاستعارة، و فايدة هذا الأمر طرد الفشل و إرهاب العدوّ فإنّ الطيش و الاضطراب يستلزمان الفشل و طمع العدوّ.
الثالث: الأمر بالعضّ على النواجذ و فايدته ما ذكر و هو أن ينبو السيف عن الهامة. و علّته أنّ العضّ على الناجذ يستلزم تصلّب العضلات و الأعصاب المتّصلة بالدماغ فيقاوم ضربة السيف و يكون نكايته فيه أقلّ، و الضمير في قوله: فإنّه. يعود إلى الصدر الّذي دلّ عليه عضوّا كقولك: من أحسن كان خيرا له. و قال بعض الشارحين: عضّ الناجذ كناية عن تسكين القلب و طرد الرعدة و ليس المراد حقيقته. قلت: هذا و إن كان محتملا لو قطع عن التعليل إلّا أنّه غير مراد هنا لأنّه يضيع تعليله بكونه أنبا للسيوف عن الهامّ.
الرابع: الأمر بإكمال اللأمة، و إكمال الدرع البيضة و السواعد، و يحتمل أن يريد باللامة جميع آلات الحرب و ما يحتاج إليه فيه و فايدته شدة التحصّن.
الخامس: الأمر بقلقلة السيوف في الأغماد
و فايدته سهولة جذبها حال اٍلٍحاجة إليها فإنّ طول مكثها في الأغماد يوجب صداها و صعوبة مخرجها حال الحاجة
السادس: الأمر بلحظ الخزر
و ذلك من هيئات الغضب فإنّ الإنسان إذا نظر من غضب عليه نظره خزرا، و فائدته امور: أحدها: إحماء الطبع و استثارة الغضب، و الثاني: أنّ النظر بكلّية العين إلى العدوّ أمارة الفشل و من عوارض الطيش و الخوف، و ذلك يوجب طمع العدوّ. الثالث: أنّ النظر بكلّيتها إليه يوجب له التفطّن و الحذر و أخذ الاهبّة و التحرّز، و النظر خززا استغفال له و مظنّة لأخذ عزّته.
السابع: الأمر بالطعن الشرز
و ذلك أنّ الطعن يمينا و شمالا يوسّع المجال على الطاعن و لأن أكثر المناوشة للخصم في الحرب يكون عن يمينه و شماله.
الثامن: الضرب بأطراف السيوف.
و فائدته أنّ مخالطة العدوّ و القرب الكثير منه يشغل عن التمكّن من ضربه.
التاسع: الأمر بوصل السيوف بالخطا.
و له فايدتان: إحداهما أنّ السيف ربّما يكون قصيرا فلا ينال الغرض به فإذا انصاف إليه مدّ اليد و الخطوات بلغ به المراد. و فيه قول الشاعر.
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها خطانا إلى أعدائنا فنضارب
و قول الآخر:
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا يوما و نلحقها إذا لم تلحق
و قيل له عليه السّلام: ما أقصر سيفك فقال: اطوّله بخطوة. الثانية: أنّ الزحف في الحرب إلى العدوّ و التقدّم إليه خطوات في حال المكافحة يكسر توهّمه الضعف في عدوّه و يلقى في قلبه الرعب و يداخله الرهبة، و إليه أشار حميد بن ثور الهذلىّ.
و وصل الخطا بالسيف و السيف بالخطا إذا ظنّ أنّ المرء ذا السيف قاصر
ثمّ لمّا أراد تأكيد تلك الأوامر في قلوبهم و أن يزيدهم أوامر اخرى أردف ذلك بأمرين: أحدهما: أنّ اللّه تعالى يراهم و ينظر كيف يعملون، و ذلك قوله: و اعلموا أنّكم بعين اللّه، و الباء هنا كهى في قولك: أنت منّى بمرأى و مسمع. الثاني: تذكيرهم بكونهم مع ابن عمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم تنبيها لهم على فضيلته، و أنّ طاعة كطاعته رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و حربه كحربه كما هو المنقول عنه: حربك يا علىّ حربى. فيثبتوا على قتال عدوّهم كما ثبتوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم
العاشر: الأمر بمعاودة الكرّ.
و ذلك عند التحرّف للقتال و الانحياز إلى الفئة، و أن يستحيوا من الفرار. ثمّ نبّهم على قبحه بأمرين: أحدهما: أنّه عار في الأعقاب: أى أنّه عار في عاقبة أمركم و سبّة باقية خلفكم، و العرب تستقبح الفرار كثيرا، الثاني: كونه نارا يوم الحساب: أى يوجب استحقاق النار، و هو من كبائر المعاصى، و جعله نارا مجازا تسمية له باسم غايته و هو تذكير لهم بوعيده تعالى وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ.
الحادى عشر قوله: و طيّبوا عن أنفسكم نفسا
و هو تسهيل للموت عليهم الّذي هو غاية ما يلقونه من الشدائد في الحرب بالبشارة بما هو أعظم و أجلّ من الحياة الدنيا المطلوبة بترك القتال و هو ما أعدّ لهم من الثواب الباقى، و هذا كما يقول أحدنا للمنفق ماله مع حبّه له طب نفسا عمّا ذهب منك فإنّ الصدقة مضاعفة لك عند اللّه و تجدها خيرا و أعظم أجرا. و نفسا منصوب على التمييز، و أشار بها إلى النفس المدّبرة لهذا البدن، و بالاولى إلى الشخص الزايل بالقتل.
الثاني عشر: الأمر بالمشى إلى الموت سجحا:
أى مشيا سهلا لا تكلّف فيه و لا تخشّع فإنّ المتكلّف سريع الفرار، و هو أمر لهم بالمشى إلى غاية ما يخافون من القتال ليوطّنوا نفوسهم عليه إو لنفروا بسرعة إلى الحرب إذ من العادة أن يستنفر الشجاع بمثل ذلك فيسارع إلى داعيه لما يتصوّره فيه من جميل الذكر و حسن الاحدوثه، و روى سمحا و المعنى واحد. و قوله: عليكم بهذا السواد الأعظم. إلى قوله: رجلا. أقول لمّا شحذهم بالأوامر المذكورة عيّن مقصدهم، و أشار بالسواد الأعظم إلى أهل الشام مجتمعين، و بالرواق المطنّب إلى مضرب معاوية، و كان معاوية إذن في مضرب عليه قبّة عالية بأطناب عظيمة و حوله من أهل الشام مائة ألف كانوا تعاهدوا أن لا ينفرجوا عنه حتّى يقتلوا. و عيّن لهم وسط الرواق و أغراهم به بقوله: إنّ الشيطان كامن في كسره. و أراد بالشيطان معاوية، و قيل عمرو بن العاص، و ذلك أنّ الشيطان لمّا كان عبارة عن شخص يضلّ الناس عن سبيل اللّه، و كان معاوية في أصحابه كذلك عنده عليه السّلام لا جرم أطلق عليه لفظ الشيطان، و قد سبقت الإشارة إلى معنى الشيطان. و يحتمل أن يريد الشيطان، و لمّا كانت محالّ الفساد هى مظنّة إبليس، و كان المضرب قد ضرب على غير طاعة اللّه كان محلّا للشيطان فلذلك استعار له لفظ الجلوس في كسره و قوله: و قد قدّم للوثبه يدا و أخّر للنكوص رجلا. كناية عن تردّد معاوية و انتطاره لأمرهم إن جبنوا وثب، و إن شجعوا نكص و هرب، أو عن الشيطان على سبيل استعارة الوثبة و النكوص و اليد و الرجل، و يكون تقديم يده للوثبة كناية عن تزيينه لأصحاب معاوية الحرب و المعصية و تأخيره الرجل للنكوص كناية عن تهيّته للفرار إذا التقى الجمعان كما حكى اللّه سبحانه عنه وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ«» الاية.
فإن قلت: فما معنى نكوص الشيطان على رأى من فسرّه بالقوّة الواهمة و نحوها.
قلت: لمّا كانت وسوسته تعود إلقائه إلى النفس صورة ما يحكم بحسنه لها فقط دون أمر آخر كما حكى اللّه تعالى عنه وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ«» الآية كان نكوصه يعود إلى إعراض الوهم عند عضّ الحرب و مشاهدة المكروه عن ذلك الحكم و رجوعه عنه، و هو معنى قوله: إنّى برىء منكم إنّى أرى ما لا ترون، و ذلك أنّ الوهم إذن يحكم بالهرب و الاندفاع من المخوف بعد أن كان قد زيّن الدخول فيه فيكون إذن قوله إنّى أخاف اللّه و اللّه شديد العقاب موافقة لحكم العقل فيما كان يراه من طاعة اللّه بترك المعصية بالحرب. و كلّ ذلك من تمام إغراء أصحابه بأهل الشام و تنبيههم على أنّ باعثهم في الحرب ليس إلّا الشيطان و أنّه لا غرض له إلّا فتنتهم ثمّ الرجوع و الإعراض عنهم.
الثالث عشر: أمرهم بقصد عدوّهم مؤكّدا له بتكريره
أى اصمد و لهم صمدا إلى غاية أن يظهر لكم نور الحقّ بالنصر، و استعار لفظ العمود للحقّ الظاهر عن الصبح للمشاركة بينهما في الوضوح و الجلاء فالصبح للحسّ، و الحقّ للعقل، و لفظ التجلّى ترشيح الاستعارة كنّى به عن ظهوره و وضوحه، و المعنى: الي أن يتّضح لكم أنّ الحقّ معكم يظفركم بعدوّكم و قهره.
إذا الطالب لغير حقّه سريع الانفعال قريب الفرار في المقاومة. و قوله: و أنتم الأعلون. الاية. تسكين لنفوسهم و بشارة بالمطلوب بالحرب، و هو العلوّ و القهر كما بشّر اللّه تعالى به الصحابة في قتال المشركين و تثبيت لهم على المضىّ في طاعته فإنّ حزب اللّه هم الغالبون. و قوله: و لن يتركم أعمالكم. تذكير لهم بجزاء اللّه لهم أعمالهم في الآخرة، و بعث لهم بذلك على لزوم العمل له. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی) ، ج 2 ، صفحهى 179