google-site-verification: googledc28cebad391242f.html
60-80 خطبه ها شرح ابن میثمخطبه ها شرح ابن میثم بحرانی(متن عربی)

خطبه 62 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ تَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالًا- فَيَكُونَ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً- وَ يَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً- كُلُّ مُسَمًّى

بِالْوَحْدَةِ غَيْرَهُ قَلِيلٌ- وَ كُلُّ عَزِيزٍ غَيْرَهُ ذَلِيلٌ وَ كُلُّ قَوِيٍّ غَيْرَهُ ضَعِيفٌ- وَ كُلُّ مَالِكٍ غَيْرَهُ مَمْلُوكٌ وَ كُلُّ عَالِمٍ غَيْرَهُ مُتَعَلِّمٌ- وَ كُلُّ

قَادِرٍ غَيْرَهُ يَقْدِرُ وَ يَعْجَزُ- وَ كُلُّ سَمِيعٍ غَيْرَهُ يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ الْأَصْوَاتِ- وَ يُصِمُّهُ كَبِيرُهَا وَ يَذْهَبُ عَنْهُ مَا بَعُدَ مِنْهَا- وَ كُلُّ بَصِيرٍ

غَيْرَهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ الْأَلْوَانِ وَ لَطِيفِ الْأَجْسَامِ- وَ كُلُّ ظَاهِرٍ غَيْرَهُ بَاطِنٌ وَ كُلُّ بَاطِنٍ غَيْرَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ- لَمْ يَخْلُقْ مَا خَلَقَهُ

لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ- وَ لَا تَخَوُّفٍ مِنْ عَوَاقِبِ زَمَانٍ- وَ لَا اسْتِعَانَةٍ عَلَى نِدٍّ مُثَاوِرٍ وَ لَا شَرِيكٍ مُكَاثِرٍ وَ لَا ضِدٍّ مُنَافِرٍ- وَ لَكِنْ خَلَائِقُ

مَرْبُوبُونَ وَ عِبَادٌ دَاخِرُونَ- لَمْ يَحْلُلْ فِي الْأَشْيَاءِ فَيُقَالَ هُوَ فِيهَا كَائِنٌ- وَ لَمْ يَنْأَ عَنْهَا فَيُقَالَ هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ- لَمْ يَؤُدْهُ خَلْقُ مَا

ابْتَدَأَ- وَ لَا تَدْبِيرُ مَا ذَرَأَ وَ لَا وَقَفَ بِهِ عَجْزٌ عَمَّا خَلَقَ- وَ لَا وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فِيمَا قَضَى وَ قَدَّرَ- بَلْ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ وَ عِلْمٌ

مُحْكَمٌ- وَ أَمْرٌ مُبْرَمٌ الْمَأْمُولُ مَعَ النِّقَمِ- الْمَرْهُوبُ مَعَ النِّعَمِ

اللغة

أقول: المثاور: المواثب.

و الداخر: الذليل،

و آده الأمر: أثقله.

و ذرء: خلق.

و المبرم: المحكم.

المعنى

و قد اشتملت هذه الخطبة على مباحث لطيفة من العلم إلالهىّ أيضا لا يطّلع عليها إلّا المتبحّرون فيه.

الأوّل: الّذي لم يسبق. إلى قوله: باطنا.

أقول: إنّه لمّا ثبت أنّ السبق و المقارنة و القبليّة و البعديّة امور تلحق الزمان لذاته و تلحق الزمانيّات به، و ثبت أنّه تعالى منزّه عن الزمان إذ كان من لواحق الحركة المتأخّرة عن وجود الجسم المتأخّر عن وجود اللّه سبحانه كما علم ذلك في موضعه لا جرم لم تلحق ذاته المقدّسة و مالها من صفات الكمال و نعوت الجلال شي‏ء من لواحق الزمان. فلم يجز إذن أن يقال مثلا كونه عالما قبل كونه قادر و سابقا عليه، و كونه قادرا قبل كونه عالما، و لا كونه أوّلا للعالم قبل كونه آخرا له قبليّة و سبقا زمانيّا.

بقى أن يقال: إنّ القبليّة و البعديّة قد تطلق بمعان اخر كالقبليّة بالشرف و الفضيلة و الذات و العليّة، و قد بيّنا في الخطبة الاولى أنّ كلّ ما يلحق ذاته المقدّسة من الصفات فاعتبارات ذهنيّة تحدثها العقول عند مقايسته إلى مخلوقاته، و شي‏ء من تلك الاعتبارات لا تتفاوت أيضا بالقبليّة و البعديّة بأحد المعاني المذكورة بالنظر إلى ذاته المقدّسة فلا يقال مثلا هو المستحقّ لهذا الاعتبار قبل هذا الاعتبار أو بعده و إلّا لكان كمال ذاته قابلا للزيادة و النقصان، بل استحقاقه بالنظر إلى ذاته لمّا يصحّ أن يعبّر لها استحقاق واحد لجميعها دائما فلا حال يفرض إلّا و هو يستحقّ فيه أن يعتبر له الأوّليّة و الآخريّة معا استحقاقا أوّليا ذاتيّا لا على وجه الترتّب‏ و إن تفاوتت الاعتبارات بالنظر إلى اعتبارنا، و هذا بخلاف غيره من الامور الزمانيّه فإنّ الجوهر مثلا يصدق عليه كونه أوّلا من العرض و لا يصدق عليه مع ذلك أنّه آخر له حتّى لو فرضنا عدم جميع الأعراض و بقاء الجوهر بعدها لم يكن استحقاقه للاعتبارين معا بل استحقاقه لاعتبار الأوّليّة متقدّم إذ كانت بعض أحواله سابقة على بعض، و لا استحقاقه لهما لذاته بل بحسب بقاء أسبابه. و لا العرض لما صدق عليه أنّه بعد الجوهر يصدق عليه أنّه قبله باعتبار ما، و خلاف المختلفين في أيّ الصفات أقدم مبنىّ على سوء تصوّرهم لصانعهم سبحانه و تعالى عمّا يقولون علوّا كبيرا.

إذا عرفت ذلك فنقول: أوّليّته هو اعتبار كونه مبدء لكلّ موجود، و آخريّته هو كونه غاية لكلّ ممكن، و قد سبق معنى كونه ظاهرا و باطنا في الخطبة الّتي أوّلها: الحمد للّه الّذي بطن خفيّات الامور.

الثاني: كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل.

مقصود هذه الكلمة أنّه تعالى لا يوصف بالقلّة و إن كان واحدا، و تقرير ذلك أنّ الواحد يقال بمعان و المشهور منها المتعارف بين الخلق كون الشي‏ء مبدءا لكثرة يكون عادّا لها و مكيالا و هو الّذي تلحقه القلّة و الكثرة الإضافيّتان فإنّ كلّ واحد بهذا هو قليل بالنسبة إلى الكثرة الّتي يصلح أن يكون مبدءا لها و المتصوّر لأكثر أهل العالم صدق هذا الاعتبار على اللّه بل ربّما لا يتصوّر بعضهم كونه تعالى واحدا إلّا بهذا الوجه، و لمّا كان تعالى منزّها عن الوصف بالقلّة و الكثرة لما يستلزمانه من الحاجة و النقصان اللازمين لطبيعة الإمكان أثبت القلّة لكلّ ما سواه فاستلزم إثباتها لغيره في معرض المدح له و نفيهما عنه. و استلزم ذلك تنزيهه تعالى عن الواحديّة بالمعنى المذكور. إذ سلب اللازم يستلزم سلب ملزومه، و ليس إذا بطل كونه واحدا بهذا المعنى بطل كونه واحدا. فإنّا بيّنا صدق الواحد عليه بمعان اخر في الخطبة الاولى، و قد يفهم من هذا أنّه لمّا نفى عنه القلّة استلزم ذلك أن يثبت له الكثرة، و هو من سوء الفهم و قلّة العلم فإنّ عدم القلّة إنّما يستلزم ثبوت الكثرة عند تعاقبها على محلّ من شأنه قبولهما. و ربّما قيل: إنّ المراد بالقليل هنا الحقير، و هو غير مناسب لذكر الوحدة و إنّما قال عليه السّلام: كلّ‏ مسمّى بالوحدة، و لم يقل كلّ واحد ليشعر بأنّ قول الوحدة على واحديّته تعالى و على واحديّة غيره قول بحسب اشتراك الاسم.

الثالث: و كلّ عزيز غيره ذليل.

أقول: رسّم العزيز بأنّه الخطير الّذي يقلّ وجود مثله و تشتدّ الحاجة إليه و يصعب الوصول إليه. ثمّ في كلّ واحد من هذه القيود الثلاثة كمال و نقصان فالكمال في قلّة الوجود أن يرجع إلى واحد و يستحيل أن يوجد مثله و ليس ذلك إلّا اللّه سبحانه، و الكمال في النفاسة و شدّة الحاجة أن يحتاج كلّ شي‏ء في كلّ شي‏ء، و ليس ذلك على الكمال إلّا اللّه تعالى، و الكمال في صعوبة المنال أن لا يوصل إلى حقيقته على معنى الإحاطة بها، و ليس ذلك على كمال إلّا اللّه تعالى فهو إذن العزيز المطلق الّذي كلّ موجود سواه ففى ذلّ الحاجة إليه و حقارة العبوديّة بالنسبة إلى كمال عزّه. فأمّا العزيز من الخلق فهو الّذي توجد له تلك الاعتبارات لكن لا مطلقا بل بقياسه إلى من هو دونه في الاعتبارات المذكورة فهو إذن و إن صدق عليه أنّه عزيز بذلك الاعتبار إلّا أنّه في ذلّ الحاجة إلى من هو أعلى رتبة منه و أكمل في تلك الاعتبارات، و كذلك من هو أعلى منه إلى أن ينتهى إلى العزيز المطلق الّذي لا يلحقه ذلّ باعتبار ما. فلذلك أثبت عليه السّلام الذلّ لكلّ عزيز سواه.

الرابع: و كلّ قوىّ غيره ضعيف.

القوّة تعودن إلى تمام القدرة، و يقابلها الضعف، و لمّا كان استناد جميع الموجودات إلى تمام قدرته علمت أنّه لا أتمّ من قدرته فكلّ قوّة وصف بها غيره فبالنسبة إلى ضعف يقابلها لمن هو دونه و إذا قيس بالنسبة إلى من هو فوقه كان ضعيفا بالنسبة إليه، و كذلك من هو فوقه إلى أن ينتهى إلى تمام قدرة اللّه فهو القوىّ الّذي لا يلحقه ضعف بالقياس إلى أحد غيره و كذلك قوله: و كلّ مالك غيره مملوك. فإنّ معنى المالك يعود إلى القادر على الشي‏ء الّذي تنفذ مشيّته فيه باستحقاق دون غيره، و غيره بإذنه. و لمّا ثبت أنّ كلّ موجود سواه فهو في تصريف قدرته و مشيّته إذ هما مستند وجوده ثبت أنّه هو المالك المطلق الّذي لست له مملوكيّة بالقياس إلى شي‏ء آخر و أنّ كلّ ما سواه فهو مملوك له و إن صدق عليه‏ بالعرف أنّه مالك بالقياس إلى هو دونه. ثمّ لا يخفى عليك ممّا سلف أنّ قول القوّى و المالك عليه و على غيره قول بحسب اشتراك الاسم أيضا.

الخامس: و كلّ عالم غيره متعلّم.  

لمّا ثبت أنّ علمه تعالى بالأشياء على ما مرّ من التفصيل إنّما هو لذاته، و لم يكن شي‏ء منه بمستفاد من أمر آخر، و كان علم من سواه إنّما هو مستفاد بالتعلّم من الغير ثمّ الغير. من الغير إلى أن ينتهى إلى علمه تعالى الفايض بالخيرات لا جرم كان كلّ عالم سواه متعلّما و إن سمّى عالما بحصول العلم له، و كان هو العالم المطلق الّذي لا حاجة به في تحصيل العلم إلى أمر آخر.

السادس: و كلّ قادر غيره يقدر و يعجز.

أقول: قدرة اللّه تعالى تعود إلى اعتبار كونه مصدرا لآثاره. فأمّا قدرة الغير فقد يراد بها قوّة جسمانيّة منبّثة في الأعضاء محرّكة لها نحو الأفاعيل الاختياريّة. و العجز ما يقابل القدرة بهذا المعنى و هو عدمها عمّا من شأنه أن يقدر كما في حقّ الواحد منّا، و قد يراد بهما اعتباران آخران يتقابلان. إذا عرفت ذلك فنقول: القادر المطلق على كلّ تقدير هو مستند كلّ مخترع و موجود اختراعا ينفرد به و يستغنى فيه عن معاونة غيره و ذلك إنّما يتحققّ في حقّ اللّه سبحانه فأمّا كلّ منسوب إلى القدرة سواه فهو و إن كان بالجملة ذا قدرة إلّا أنّها ناقصة لتناولها بعض الممكنات فقط و قصورها عن البعض الآخر و عدم تناولها له إذا كانت لا تصلح للمخترعات و إن نسب إليه إيجاد شي‏ء فلأنّه فاعل أقرب و واسطة بين القادر الأوّل سبحانه و بين ذلك الأثر لا لذاته استقلالا و تفرّدا به على ما علم في مظانّه. فكلّ قادر سواه فلذاته يستحقّ العجز و عدم القدرة بالنسبة إلى ما يمكن تعلّق قدرته به من سائر المخترعات و الممكنات و إنّما يستحقّ القدرة من وجوده. فهو إذن الفاعل المطلق الّذي لا يعجزه شي‏ء عن شي‏ء و لا يستعصى على قدرته شي‏ء.

السابع: و كلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات، و يصمّه كبيرها، و يذهب عنه ما بعد منها.

أقول: حسّ السمع في الحيوان عبارة عن قوّة تنفذ من الدماغ إلى الاذن في‏ عصبته ثابتة منه إلى الصماخ مبسوطة عليه كجلد الطبل، و هذه العصبة آلة هذه القوّة.
و الصوت هيئة تحصل في الهواء عن تموجّه بحركة شديدة إمّا من قرع يحصل من اصطكاك جسمين صلبين فيضغط الهواء بينهما و ينفلت بشدّة، و إمّا من قلع شديد فيلج الهواء بين الجسمين المنفصلين الصلبين و يحصل عن السببين تموّج الهواء على هيئة مستديرة كما يفعل وقوع الحجر في الماء فإذا انتهى ذلك التموّج إلى الهواه الّذي في الاذن تحرّك ذلك الهواء الراكد حركة مخصوصه بهيئة مخصوصة فتنفعل العصبة المفروشة على الصماخ عن تلك الحركة و تدركها القوّة السامعة هناك فهذا الإدراك يسمّى سماعا.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ إدراك هذه القوّة للصوت يكون على قرب و بعد و حدّ من القوّة و الضعف مخصوص فإنّه إن كان الصوت ضعيفا أو بعيدا جدّا لم يحصل بسببه تموّج الهواء فلم يصل إلى الصماخ فلم يحصل السماع و ذلك معنى قوله: يصمّ عن لطيف الأصوات، و يذهب عليه ما بعد منها. فإن قلت: لم خصّص اللطيف بالصمّ عنه و البعيد بالذهاب عليه.
قلت: يشبه أن يكون لأنّ البعيد في مظنّة أن يسمع و إنّما يفوته بسبب عدم وصول الهواء الحامل له إليه، و أمّا الخفىّ فلمّا فلم يكن من شأنه أن تدركه القوّة السامعة أشبه عجزها عن إدراكه الصمّ فاستعير لفظه له، و أمّا إن كان الصوت في غاية القوّة و القرب فربّما أحدث الصمّ و ذلك لشدّة قرعه للصماخ و تفرّق اتّصال الروح الحامل لقوّة السمع عنه بحيث يبطل استعدادها لتأدية القوّة إلى الصماخ و كلّ ذلك من نقصان الحيوان و ضعفه، و لمّا كان البارى تعالى منزّها عن الجسميّة و توابعها لا جرم كانت هذه اللواحق من الصمم عن لطيف الأصوات، و ذهاب بعيدها، و الصمّ من كبيرها مخصوصة بمن له تلك القوّة المذكورة و السمع المخصوص فكلّ سامع غيره فهو كذلك. و استلزم ذلك في معرض مدحه بتنزيهه سبحانه عنها. و إذ ليس سميعا بالمعنى المذكور و قد نطق القرآن بإثبات هذه الصفة له فهو سميع بمعنى أنّه لا يعزب عن إدراكه مسموع و إن خفى فيسمع السرّ و النجوى بل ما يسمع هو أدّق و أخفى حمد الحامدين و دعاء الداعين، و ذلك هو السميع الّذي لا يتطرّق إليه الحدثان إذ لم يكن بآلة و آذان.

الثامن: و كل بصير غيره يعمى عن خفىّ الألوان و لطيف الأجسام.

أقول: خفىّ الألوان مثلا كاللون في الظلم، و اللطيف قد يكون بمعنى عديم اللون كما في الهواء، و قد يكون بمعنى رقيق القوام كالجوهر الفرد عند المتكلّمين، و كالذّرة، و اللطيف بالمعنيين غير مدرك للحيوان، و اطلق لفظ. العمى مجازا إذ كان عبارة إمّا عن عدم البصر مطلقا أو عن عدمه عمّا من شأنه أن يبصر و لا واحد من هذين الاعتبارين بموجود للبصير غير اللّه فلم يكن عدم إدراكها عمى حقيقيّا بل لكون العمى من أسباب عدم الرؤية اطلق لفظه عليه إطلاقا لاسم السبب على المسبّب، و هذا الحكم في معرض مدحه إن يستلزم تنزيه بصره عن لاحق العمى و مظنّته إذ كان سبحانه منزّها عن معروض العمى و البصر و متعاليا عن أن يكون إدراكه بحدقة و أجفان و انطباع الصور و الألوان و إن كان يشاهد و يرى حتّى لا يعزب عنه ما تحت الثرى. و إذ ليس بصيرا بالمعنى المذكور فهو البصير باعتبار أنّه مدرك لكمال صفات المبصرات، و ذلك الاعتبار أوضح و أجلى ممّا يفهم من إدراك البصر القاصر على ظواهر المرئيّات.

التاسع: و كلّ ظاهر غيره باطن.

أقول: ظهور الأشياء هو انكشافها للحسّ أو للعقل انكشافا بيّنا، و يقابله بطونها و هو خفاؤها عن أحدهما، و لمّا ثبت أنّه تعالى منزّه عن الجسميّة و لو احقها علم كونه منزّها عن إدراك الحواسّ، و لمّا قام البرهان على أنّه تعالى برى‏ء عن أنحاء التراكيب الخارجيّة و العقليّة وجب تنزّه ذاته المقدّسة عن اطّلاع العقول عليها فعلم من هذا الترتيب أنّه لا يشارك الأشياء في معنى ظهورها و قد وصف نفسه بالظهور فيجب أن يكون ظهوره عبارة عن انكشاف وجوده في جزئيّات آثاره كما قال تعالي سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ«» و إن كانت مشاهدة الحقّ له على مراتب متفاوتة و درجات متصاعدة كما أشار إليه بعض مجرّدى السالكين: ما رأينا اللّه بعده. فلمّا ترقّوا عن تلك المرتبه درجة من المشاهدة و الحضور قالوا: ما رأينا شيئا إلّا و رأينا اللّه فيه. فلمّا ترقّوا قالوا: ما رأينا شيئا إلّا و رأينا اللّه قبله. فلمّا ترقوا قالوا: ما رأينا شيئا سوى اللّه.

و الاولى مرتبة الفكر و الاستدلال عليه، و الثانية مرتبة الحدس، و الثالثة مرتبة المستدلّين به لا عليه، و الرابعة مرتبة الفناء في ساحل عزّته و اعتبار الوحدة المطلقة محذوفا عنها كلّ لاحق. و إذا عرفت معنى ظهوره علمت أنّ شيئا من الممكنات لا يكون له الظهور المذكور فإنّه و إن كان لبعض الأشياء في عقل أو حسّ إلّا أنّه ليس في كلّ عقل و في كل حسّ إذ كلّ مطّلع على شي‏ء فالّذي خفى عته أكثر ممّا اطّلع عليه فكلّ ظاهر غيره فهو باطن بالقياس إليه و هو تعالى الظاهر لكلّ شي‏ء و في كلّ شي‏ء لكونه مبدء كلّ شي‏ء و مرجع كلّ شي‏ء.

العاشر: و كلّ باطن غيره فهو ظاهر [فهو غير ظاهر خ‏].

و قد علمت معنى البطون للممكنات و ظهورها، و علمت أيضا ممّا سبق أنّ كونه باطنا يقال بمعنيين: أحدهما: أنّه الّذي خفى قدس ذاته عن اطّلاع العقول عليه. و الثاني: أنّه الّذي بطن جميع الأشياء خبره و نفذ فيها علمه. ثمّ علمت الظهور المقابل للمعنى الأوّل، و أمّا المقابل للثاني فهو الّذي لم يطّلع إلّا على ظواهر الأشياء لم يكن له اطّلاع على بواطنها يقال فلان ظاهر و ظاهرى.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ كلّ باطن غيره سوا كان المراد بالبطون خفاء المتصوّر أو نفوذ العلم في البواطن. فهو ظاهر بالقياس إليه تعالى ظهورا بالمعنى الّذي يقابله. أمّا الأوّل فلأنّ كلّ ممكن و إن خفى على بعض العالمين لم يخف على غيره و إن خفى على الكلّ فهو ظاهر في علمه تعالى و ممكن الظهور في علم غيره فليس إذن بخفى مطلقا و هو تعالى الباطن الّذي لا أبطن منه و كلّ باطن غيره فهو ظاهر بالقياس إليه. و أمّا الثاني فلأنّ كلّ عالم و إن جلّ قدره فلا إحاطة له ببعض المعلومات و هو قاصر عن بعضها، و بعضها غير ممكن له و هو تعالى الّذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض و لا في السماء و لا أصغر من ذلك و لا أكبر و كلّ ظاهر بالقياس إليه، و في بعض النسخ و كلّ ظاهر غيره غير باطن و كلّ باطن غيره غير ظاهر، و معنى القضيّتين أنّ كلّ ممكن إن كان ظاهرا منكشفا لعقل أو حسّ لم يوصف مع ذلك بأنّه باطن كالشمس مثلا و إن كان باطنا خفيّا عن العقل و الحسّ لم يوصف مع ذلك بأنّه ظاهر، و هو تعالى الموصوف بأنّه الباطن الظاهر معا. و في هذه النسخة نظر. فإنّا إنّما أثبتنا كونه تعالى ظاهرا و باطنا معا باعتبارين‏

و في بعض الممكنات ما هو كذلك كالزمان مثلا فإنّ كلّ عاقل يعلم بالضرورة وجود الزمان و إن خفيت حقيقته على جمهور الحكماء و اضطربت عليه أقوال العلماء و كذلك العلم فليس إذن كلّ ظاهر غيره غير باطن و لا كلّ باطن غيره غير ظاهر. و اللّه أعلم.

الحادى عشر: لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان. إلى قوله: منافر.

أقول: إنّه تعالى لا يفعل لغرض و متى كان كذلك كان منزّها عن خصوصيّات هذه الأغراض. أمّا الأوّل فبرهانه أنّه لو فعل لغرض لكان وجود ذلك الغرض و عدمه بالنسبة إليه تعالى إمّا أن يكونا على سواء، أو ليس. و الأوّل باطل و إلّا لكان حصول الغرض له ترجيحا من غير مرجّح، و الثاني باطل لأنّهما إذ الم يستويا كان حصول الغرض أولى به فحينئذ يكون حصول ذلك الغرض معتبرا في كماله فيكون بدونه ناقصا تعالى اللّه عن ذلك.
لا يقال: ليست أولوّية الغرض بالنسبة إلى ذاته بل بالنسبة إلى العبد إذ غرضه الإحسان إلى الغير.
لأنّا نقول: غرض إحسانه إلى الغير و عدمه إن كانا بالنسبة إليه على سواء عاد حديث الرجحان بلا مرجّح، و إن كان أحدهما أولى به عاد حديث الكمال و النقصان. و إذا عرفت أنّه تعالى لا يفعل لغرض، و كلّ ما ذكره عليه السّلام في هذا الفصل من تشديد سلطان و تقويته أو تخوّف عاقبة زمان أو استعانة على ندّ و شريك و ضدّ أغراض علمت صدق قوله: إنّه لم يخلق شيئا من خلقه لشي‏ء من هذه الامور. و هذا تنزيه من طريق نفى الغرض المطلق.

و أمّا تنزيهه تعالى عن خصوصيّات هذه الأغراض فلأنّ تشديد السلطان إنّما يحتاج إليه ذو النقصان في ملكه، و لمّا كان تعالى هو الغنىّ المطلق في كلّ شي‏ء عن كلّ شي‏ء صدق أنّ ذلك بغرض له ممّا خلق، و أمّا التخوّف عن عواقب الزمان فلأنّ التضرّر و الانتفاع و لواحقهما من الخوف و الرجاء و نحوهما إنّما هى من لواحق الممكنات القابلة للنقصان و الكمال و ما هو في معرض التغيّر و الزوال، و لمّا ثبت تنزيهه تعالى عن الانفعال عن شي‏ء لم يتصوّر أن يكون أحد هذه الامور غرضا له، و لذلك الاستعانة على النّدو الضدّ و الشريك فإنّ الاستعانة هى طلب العون من الغير و ذلك من لوازم الضعف‏ و العجز و الخوف و أنّه لا عجز فلا استعانة فلا ندّ و لا شريك و لا ضدّ، و كذلك نقول: لا ندّ و لا شريك و لا ضدّ فلا استعانه و الغرض تنزيهه سبحانه عن صفات المخلوقين و خواصّ المحدثين.

و قوله: و لكن خلايق مربوبون و عباد داخرون.
 أى بل خلايق خلقهم بمحض جوده و هو فيضان الخير عنه على كلّ قابل بقدر ما يقبله من غير بخل و لا منع و تعويق، و بذلك الاعتبار كان كلّ شي‏ء و كلّ عبد ذليل و هو مالكه و مولاه:
 
و قوله: لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن.

إشارة إلى وصفه بسلب كونه ذا محلّ. و للناس في تنزيهه تعالى عن المحلّ كلام طويل. و المعقول من الحلول عند الجمهور قيام موجود بموجود على سبيل التعبية له، و ظاهر أنّ الحلول بهذا المعنى على الواجب الوجود محال لأنّ كونه تبعا للغير يستلزم حاجته إليه و كلّ محتاج ممكن. قال أفضل المتأخّرين نصير الدين الطوسى- أبقاه اللّه- : و الحق أنّ حلول الشي‏ء في الشي‏ء لا يتصوّر إلّا إذا كان الحال بحيث لا يتعيّن إلّا بتوسّط المحل و إذ لا يمكن أن يتعيّن واجب الوجود بغيره فإذن يستحيل حلوله في غيره.
إذا عرفت ذلك فنقول: لمّا كان الكون في المحلّ و النائى عنه و المباينة له امورا إنّما يقال على ما يصحّ حلوله فيه و يحلّه و كان هو تعالى منزّها عن الحلول وجب أن يمتنع عليه إطلاق هذه الامور. فإذ ليس هو بحالّ في الأشياء فليس هو بكائن فيها، و إذ ليس بكائن فيها فليس بنائى عنها و لا مباين لها.

و قوله: لم يؤده خلق ما ابتدء و لا تدبير ما ذرء
الإعياء إنّما يقال لذى الأعضاء من الحيوان و إذ ليس تعالى بجسم و لا ذى آلة جسمانيّة لم يلحقه بسبب فعله إعياء، و إنّما قال: ما ابتدء. ليكون سلب الإعياء عنه أبلغ إذ ما ابتدء من الأفعال يكون المشقّة فيه أتمّ و تدبيره يعود إلى تصريفه لجميع الذوات و الصفات دائما تصريفا كلّيّا و جزئيّا على وفق حكمته و عنايته، و نحوه قوله تعالى أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ«».

و قوله: و لا وقف به عجز عمّا خلق.
 إشارة إلى كمال قدرته و أنّ العجز عليه محال. و قد سبق بيانه.

و قوله: و لا ولجت عليه شبهة فيما قضى و قدّر.
 إشارة إلى كمال علمه و نفى الشبهة إن تعرض له. و أعلم أنّ الشبهة إنّما تدخل على العقل في الامور المعقولة الصرفة غير الضروريّة. و ذلك أنّك علمت أنّ الوهم لا يصدق حكمه إلّا في المحسوسات فأمّا الامور المعقولة الصرفة فحكمه فيها كاذب فالعقل حال استفصاله وجه الحقّ فيها يكون معارضا بالأحكام الوهميّة فإذا كان المطلوب غامضا فربّما كان في الأحكام الوهميّة ما يشبه بعض أسباب المطلوب فتتصوّره النفس بصورته و تعتقده مبدءا فينتج الباطل في صورة المطلوب و ليس به، و لمّا كان البارى تعالى منزّها عن القوى البدنيّة و كان علمه لذاته لم يجز أن تعرض لقضائه و لا قدره شبهة، أو يدخل عليه فيه شكّ لكونهما من عوارضيها. و قد عرفت معنى القضاء و القدر فيما سبق.

و قوله: بلا قضاء متقن و علم محكم.
 أى برى‏ء من فساد الشبهة و الغلط.

و قوله: و أمر مبرم.
 إشارة إلى قدره الّذي هو تفصيل قضاءه المحكم، و ظاهر أنّ تفضيل المحكم لا يكون إلّا محكما:

و قوله: المأمول مع النقم المرهوب مع النعم [المرجوّ من النعم خ‏].
 أقول: منبع هذين الوصفين هو كمال ذاته و عموم فيضه و أنّه لا غرض له و إنّما الجود المطلق و الهبة لكلّ ما يستحقّه، و لمّا كان العبد حال حلول نقمته به قد يستعدّ بالاستغفار و الشكر لإفاضة الغفران و رفع النقمة فيفيضها عليه مع بقاء كثير من نعمه لديه كان تعالى مظنّة الأمل و الفزع إليه في رفع ما القى فيه و إبقاء ما أبقى حتّى أنّه تعالى هو المفيض لصورة الأمل، و إليه أشار بقوله تعالى وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ و كذلك حال إفاضة نعمته لمّا كان العبد قد يستعدّ بالغفلة للإعراض عن شكرها كان تعالى في تلك الحال أهلا أن يفيض عليه بوادر نقمته بسلبها فكان هو المأمول مع النقم المرهوب مع النعم فهو المستعان به عليه و هو الّذي لا مفرّ منه إلّا إليه، و من عداه مخلوق نقمته غير مجامع لأمل رحمته، و قيام نعمته معاند لشمول رهبته. فلا مأمول و لا مرهوب في كلا الحالين سواه. و باللّه العصمة و التوفيق.
ِ

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی) ، ج 2 ، صفحه‏ى 168

Show More

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.

Back to top button
-+=