61 و من كلام له ع لما خوف من الغيلة
وَ إِنَّ عَلَيَّ مِنَ اللَّهِ جُنَّةً حَصِينَةً- فَإِذَا جَاءَ يَوْمِي انْفَرَجَتْ عَنِّي وَ أَسْلَمَتْنِي- فَحِينَئِذٍ لَا يَطِيشُ السَّهْمُ وَ لَا يَبْرَأُ الْكَلْمُ الغيلة القتل على غير علم و لا شعور- و الجنة الدرع و ما يجن به- أي يستتر من ترس و غيره- و طاش السهم إذا صدف عن الغرض- و الكلم الجرح و يعني بالجنة هاهنا الأجل- و على هذا المعنى الشعر المنسوب إليه ع-
من أي يومي من الموت أفر
أ يوم لم يقدر أم يوم قدر
فيوم لا يقدر لا أرهبه
و يوم قد قدر لا يغني الحذر
و منه قول صاحب الزنج-
و إذا تنازعني أقول لها قري
موت يريحك أو صعود المنبر
ما قد قضى سيكون فاصطبري له
و لك الأمان من الذي لم يقدر
و مثله
قد علم المستأخرون في الوهل
أن الفرار لا يزيد في الأجل
و الأصل في هذا كله قوله تعالى- وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا-و قوله تعالى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ- لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ- . و قوله سبحانه تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ- و في القرآن العزيز كثير من ذلك
اختلاف الناس في الآجال
و اختلف الناس في الآجال- فقالت الفلاسفة و الأطباء- لا أجل مضروب لأحد من الحيوان كله- من البشر و لا من غيرهم- و الموت عندهم على ضربين قسري و طبيعي- . فالقسري الموت بعارض إما من خارج الجسد- كالمتردي و الغريق و المقتول و نحو ذلك- أو من داخل الجسد كما يعرض من الأمراض القاتلة- مثل السل و الاستسقاء و السرسام و نحو ذلك- . و الموت الطبيعي ما يكون بوقوف القوة الغاذية- التي تورد على البدن عوض ما يتحلل منه- و هذه القوة المستخدمة للقوى الأربع- الجاذبة و الدافعة و الماسكة و الهاضمة- و البدن لا يزال في التحلل دائما- من الحركات الخارجية و من الأفكار و الهموم- و ملاقاة الشمس و الريح و العوارض الطارئة- و من الجوع و العطش- و القوة الغاذية تورد على البدن- عوض الأجزاء المتحللة- فتصرفها في الغذاء المتناول- و استخدام القوى الأربع المذكورة- .
و منتهى بقاء هذه القوة في الأعم الأغلب للإنسان- مائة و عشرون سنة- و قد رأيت في كتب بعض الحكماء- أنها تبقى مائة و ستين سنة- و لا يصدق هؤلاء بما يروى من بقاء المعمرين- فأما أهل الملل فيصدقون بذلك- .
و اختلف المتكلمون في الآجال- فقالت المعتزلة- ينبغي أولا أن نحقق مفهوم قولنا أجل- ليكون البحث في التصديق بعد تحقق التصور- فالأجل عندنا هو الوقت الذي يعلم الله- أن حياة ذلك الإنسان أو الحيوان تبطل فيه- كما أن أجل الدين هو الوقت الذي يحل فيه- فإذا سألنا سائل فقال هل للناس آجال مضروبة- قلنا له ما تعني بذلك- أ تريد هل يعلم الله تعالى الأوقات- التي تبطل فيها حياة الناس- أم تريد بذلك- أنه هل يراد بطلان حياة كل حي- في الوقت الذي بطلت حياته فيه- .
فإن قال عنيت الأول- قيل له نعم للناس آجال مضروبة بمعنى معلومة- فإن الله تعالى عالم بكل شيء- . و إن قال عنيت الثاني- قيل لا يجوز عندنا إطلاق القول بذلك- لأنه قد تبطل حياة نبي أو ولي بقتل ظالم- و البارئ تعالى لا يريد عندنا ذلك- . فإن قيل فهل تقولون- إن كل حيوان يموت و تبطل حياته بأجله- قيل نعم لأن الله قد علم الوقت الذي تبطل حياته فيه- فليس تبطل حياته إلا في ذلك الوقت- لا لأن العلم ساق إلى ذلك- بل إنما تبطل حياته بالأمر الذي اقتضى بطلانه- و البارئ تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه- فإن بطلت حياته بقتل ظالم فذلك ظلم و جور- و إن بطلت حياته من قبل الله تعالى فذلك حكمة و صواب- و قد يكون ذلك لطفا لبعض المكلفين- .
و اختلف الناس لو لم يقتل القاتل المقتول- هل كان يجوز أن يبقيه الله تعالى- فقطع الشيخ أبو الهذيل على موته- لو لم يقتله القاتل- و إليه ذهب الكرامية- قال محمد بن الهيصم- مذهبنا أن الله تعالى قد أجل لكل نفس أجلا- لن ينقضي عمره دون بلوغه و لا يتأخر عنه- و معنى الأجل هو الوقت الذي علم الله- أن الإنسان يموت فيه- و كتب ذلك في اللوح المحفوظ- و ليس يجوز أن يكون الله تعالى قد أجل له أجلا- ثم يقتل قبل بلوغه أو يخترم دونه- و لا أن يتأخر عما أجل له- ليس على معنى أن القاتل مضطر إلى قتله- حتى لا يمكنه الامتناع منه- بل هو قادر على أن يمتنع من قتله- و لكنه لا يمتنع منه- إذ كان المعلوم أنه يقتله لأجله بعينه- و كتب ذلك عليه- .و لو توهمنا في التقدير أنه يمتنع من قتله- لكان الإنسان يموت لأجل ذلك- لأنهما أمران مؤجلان بأجل واحد- فأحدهما قتل القاتل إياه- و الثاني تصرم مدة عمره و حلول الموت به- فلو قدرنا امتناع القاتل من قتله- لكان لا يجب بذلك ألا يقع المؤجل الثاني- الذي هو حلول الموت به- بل كان يجب أن يموت بأجله- . قال و بيان ذلك من كتاب الله- توبيخه المنافقين على قولهم- لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا- فقال تعالى لهم قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ- إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- فدل على أنهم لو تجنبوا مصارع القتل- لم يكونوا ليدرءوا بذلك الموت عن أنفسهم- .
و قالت الأشعرية و الجهمية و الجبرية كافة- إنها آجال مضروبة محدودة- و إذا أجل الأجل و كان في المعلوم أن بعض الناس يقتله- وجب وقوع القتل منه لا محالة- و ليس يقدر القاتل على الامتناع من قتله- و تقدير انتفاء القتل ليقال- كيف كانت تكون الحال تقدير أمر محال- كتقدير عدم القديم و إثبات الشريك- و تقدير الأمور المستحيلة لغو و خلف من القول- . و قال قوم من أصحابنا البغداديين رحمهم الله- بالقطع على حياته لو لم يقتله القاتل- و هذا عكس مذهب أبي الهذيل و من وافقه- و قالوا لو كان المقتول يموت في ذلك الوقت- لو لم يقتله القاتل لما كان القاتل مسيئا إليه- إذ لم يفوت عليه حياة لو لم يبطلها لبقيت- و لما استحق القود- و لكان ذابح الشاة بغير إذن مالكها- قد أحسن إلى مالكها- لأنه لو لم يذبحها لماتت فلم يكن ينتفع بلحمها- . قالوا و الذي احتج به من كونهما مؤجلين بأجل واحد- فلو قدرنا انتفاء أحد الأمرين في ذلك الوقت- لم يجب انتفاء الآخر- ليس بشيء- لأن أحدهما علة الآخر- فإذا قدرنا انتفاء العلة- وجب أن ينتفي في ذلك التقدير انتفاء المعلول- فالعلة قتل القاتل و المعلول بطلان الحياة- و إنما كان يستمر و يصلح ما ذكروه- لو لم يكن بين الأمرين علية العلية و المعلولية- .
قالوا و الآية التي تعلقوا فيها لا تدل على قولهم- لأنه تعالى لم ينكر ذلك القول إنكار حاكم- بأنهم لو لم يقتلوا لماتوا- بل قال كل حي ميت أي لا بد من الموت- إما معجلا و إما مؤجلا- . قالوا فإذا قال لنا قائل- إذا قلتم إنه يبقى لو لم يقتله القاتل- أ لستم تكونون قد قلتم إن القاتل قد قطع عليه أجله- . قلنا له إنما يكون قاطعا عليه أجله- لو قتله قبل الوقت الذي علم الله تعالى- أن حياته تبطل فيه و ليس الأمر كذلك- لأن الوقت الذي علم الله تعالى أن حياته تبطل فيه- هو الوقت الذي قتله فيه القاتل- و لم يقتله القاتل قبل ذلك- فيكون قد قطع عليه أجله- . قالوا فإذا قال لنا- فهل تقولون إنه قطع عليه عمره- . قلنا له إن الزمان الذي كان يعيش فيه- لو لم يقتله القاتل لا يسمى عمرا- إلا على طريق المجاز باعتبار التقدير- و لسنا نطلق ذلك إلا مقيدا لئلا يوهم- و إنما قلنا إنا نقطع على أنه لو لم يقتل لم يمت- و لا نطلق غير ذلك- .
و قال قدماء الشيعة الآجال تزيد و تنقص- و معنى الأجل الوقت الذي علم الله تعالى- أن الإنسان يموت فيه إن لم يقتل قبل ذلك- أو لم يفعل فعلا يستحق به الزيادة و النقصان في عمره- . قالوا و ربما يقتل الإنسان- الذي ضرب له من الأجل خمسون سنة- و هو ابن عشرين سنة- و ربما يفعل من الأفعال ما يستحق به الزيادة- فيبلغ مائة سنة- أو يستحق به النقيصة فيموت و هو ابن ثلاثين سنة- . قالوا فمما يقتضي الزيادة صلة الرحم- و مما يقتضي النقيصة الزنا و عقوق الوالدين- و تعلقوا بقوله تعالى- وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ- .و ربما قال قوم منهم- إن الله تعالى يضرب الأجل لزيد خمسين سنة- أو ما يشاء- فيرجع عن ذلك فيما بعد- و يجعله أربعين أو ثلاثين أو ما يشاء- و بنوه على قولهم في البداء- .
و قال أصحابنا هذا يوجب أن يكون الله تعالى- قد أجل الآجال على التخمين دون التحقيق- حيث أجل لزيد خمسين فقتل لعشرين- و أفسدوا أن يعلم الله تعالى الشيء بشرط- و أن يبدو له فيما يقضيه و يقدره- بما هو مشهور في كتبهم- . و قالوا في الآية- إن المراد بها أن ينقص سبحانه بعض الناس- عن مقدار أجل المعمر- بأن يكون انتقص منه عمرا- ليس أنه ينقص من عمر ذلك المعمر- . فأما مشايخنا أبو علي و أبو هاشم فتوقفا في هذه المسألة- و شكا في حياة المقتول و موته- و قالا لا يجوز أن يبقى لو لم يقتل و يجوز أن يموت- قالا لأن حياته و موته مقدوران لله عز و جل- و ليس في العقل ما يدل على قبح واحد منهما- و لا في الشرع ما يدل على حصول واحد منهما- فوجب الشك فيهما إذ لا دليل يدل على واحد منهما- .
قالوا فأما احتجاج القاطعين على موته- فقد ظهر فساده بما حكي من الجواب عنه- . قالوا و مما يدل على بطلانه من الكتاب العزيز- قوله تعالى وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ- فحكم سبحانه بأن إثباته القصاص- مما يزجر القاتل عن القتل- فتدوم حياة المقتول- فلو كان المقتول يموت لو لم يقتله القاتل- ما كان في إثبات القصاص حياة- . قالوا و أما احتجاج البغداديين- على القطع على حياته بما حكي عنهم- فلا حجة فيه- أما إلزام القاتل القود و الغرامة- فلأنا غير قاطعين على موت المقتول لو لم يقتل- بل يجوز أن يبقى و يغلب ذلك على ظنوننا- لأن الظاهر من حال الحيوان الصحيح- ألا يموت في ساعته و لا بعد ساعته و ساعات- فنحن نلزم القاتل القود و الغرامة- لأن الظاهر أنه أبطل ما لو لم يبطله لبقي- .
و أيضا فموت المقتول لو لم يقتله القاتل- لا يخرج القاتل من كونه مسيئا- لأنه هو الذي تولى إبطال الحياة- أ لا ترى أن زيدا لو قتل عمرا- لكان مسيئا إليه- و إن كان المعلوم أنه لو لم يقتله لقتله خالد- في ذلك الوقت- . و أيضا فلو لم يقتل القاتل المقتول- و لم يذبح الشاة حتى ماتا- لكان يستحق المقتول و مالك الشاة- من الأعواض على البارئ سبحانه- أكثر مما يستحقانه على القاتل و الذابح- فقد أساء القاتل و الذابح- حيث فوتا على المقتول و مالك الشاة زيادة الأعواض- . فأما شيخنا أبو الحسين- فاختار الشك أيضا في الأمرين إلا في صورة واحدة- فإنه قطع فيها على دوام الحياة- و هي أن الظالم قد يقتل في الوقت الواحد- الألوف الكثيرة في المكان الواحد- و لم تجر العادة بموت مثلهم- في حالة واحدة في المكان الواحد- و اتفاق ذلك نقض العادة و ذلك لا يجوز- .
قال الشيخ ليس يمتنع أن يقال في مثل هؤلاء- إنه يقطع على أن جميعهم ما كانوا يموتون- في ذلك المكان في ذلك الوقت- لو لم يقتلهم القاتل- إن كان الوقت وقتا لا يجوز انتقاض العادات فيه- و لكن يجوز أن يموت بعضهم دون بعض- لأنه ليس في موت الواحد و الاثنين في وقت واحد- في مكان واحد نقض عادة- و لا يمتنع هذا الفرض من موتهم بأجمعهم- في زمان نبي من الأنبياء- . و قد ذكرت في كتبي المبسوطة في علم الكلام- في هذا الباب ما ليس هذا الشرح موضوعا لاستقصائه
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 5