google-site-verification: googledc28cebad391242f.html
40-60 خطبه ها شرح ابن ابی الحدیدخطبه ها شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

خطبه 57 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(قسمت دوم)

عبد ربه الصغير

و منهم عبد ربه الصغير- أحد موالي قيس بن ثعلبة- . لما اختلفت الخوارج على قطري- بايعه منهم جمع كثير- و كان قطري قد عزم على أن يبايع للمقعطر العبدي- و يخلع نفسه فجعله أمير الجيش في الحرب- قبل أن يعهد إليه بالخلافة فكرهه القوم و أبوه- و قال صالح بن مخراق عنهم و عن نفسه- ابغ لنا غير المقعطر فقال لهم قطري- إني أرى طول العهد قد غيركم و أنتم بصدد عدو- فاتقوا الله و أقبلوا على شأنكم و استعدوا للقاء القوم- فقال صالح إن الناس قبلنا قد سألوا عثمان بن عفان- أن يعزل سعيد بن العاصي عنهم ففعل- و يجب على الإمام أن يعفي الرعية مما كرهت- فأبى قطري أن يعزل المقعطر فقال له القوم- فإنا قد خلعناك و بايعنا عبد ربه الصغير- و كان عبد ربه هذا معلم كتاب- و كان عبد ربه الكبير بائع رمان- و كلاهما من موالي قيس بن ثعلبة- فانفصل إلى عبد ربه الصغير أكثر من شطرهم- و جلهم الموالي و العجم- و كان منهم هناك ثمانية آلاف و هم القراء- ثم ندم صالح بن مخراق و قال لقطري- هذه نفخة من نفخات الشيطان فأعفنا من المقعطر- و سر بنا إلى عدونا و عدوك- فأبى قطري إلا للمقعطر- و حمل فتى من الشراة على صالح بن مخراق- فطعنه فأنفذه و أوجره الرمح- . فنشبت الحرب بينهم فتهايجوا- ثم انحاز كل قوم إلى صاحبهم- فلما كان الغد اجتمعوا فاقتتلوا- فأجلت الحرب عن ألفي قتيل- فلما كان الغد عاودوا الحرب- فلم ينتصف النهار حتى أخرجت العجم العرب عن المدينة-

فأقام عبد ربه بها- و صار قطري خارجا من‏ مدينة جيرفت بإزائهم- فقال له عبيدة بن هلال يا أمير المؤمنين- إن أقمت لم آمن هذه العبيد عليك- إلا أن تخندق على نفسك- فخندق على باب المدينة و جعل يناوشهم- و ارتحل المهلب و كان منهم على ليلة- و رسول الحجاج معه يستحثه فقال له أصلح الله الأمير- عاجلهم قبل أن يصطلحوا- فقال المهلب إنهم لن يصطلحوا- و لكن دعهم فإنهم سيصيرون إلى حال لا يفلحون معها- ثم دس رجلا من أصحابه- فقال ائت عسكر قطري- فقل إني لم أزل أرى قطريا يصيب الرأي- حتى نزل منزله هذا فظهر خطؤه- أ يقيم بين المهلب و عبد ربه- يغاديه القتال هذا و يراوحه هذا- فنمي الكلام إلى قطري- فقال صدق تنحوا بنا عن هذا الموضع- فإن اتبعنا المهلب قاتلناه- و إن أقام على عبد ربه رأيتم فيه ما تحبون- . فقال له الصلت بن مرة يا أمير المؤمنين- إن كنت إنما تريد الله فأقدم على القوم- و إن كنت إنما تريد الدنيا- فأعلم أصحابك حتى يستأمنوا ثم قال-

قل للمحلين قد قرت عيونكم
بفرقة القوم و البغضاء و الهرب‏

كنا أناسا على دين فغيرنا
طول الجدال و خلط الجد باللعب‏

ما كان أغنى رجالا قل جيشهم
عن الجدال و أغناهم عن الخطب‏

إني لأهونكم في الأرض مضطربا
ما لي سوى فرسي و الرمح من نشب‏

ثم قال أصبح المهلب يرجو منا ما كنا نطمع منه فيه- . و ارتحل قطري و بلغ ذلك المهلب- فقال لهزيم بن أبي طحمة المجاشعي- إني لا آمن أن يكون كاذبا بترك موضعه- اذهب فتعرف الخبر- فمضى الهزيم في اثني عشر فارسا- فلم ير في المعسكر إلا عبدا و علجا مريضين- فسألهما عن قطري و أصحابه- فقالا مضوا يرتادون غير هذا المنزل- فرجع هزيم إلى المهلب فأخبره- فارتحل حتى نزل خندق قطري- فجعل يقاتل عبد ربه أحيانا بالغداة و أحيانا بالعشي- فقال رجل من سدوس يقال له المعتق و كان فارسا-

ليت الحرائر بالعراق شهدننا
و رأيننا بالسفح ذي الأجبال‏

فنكحن أهل الجد من فرساننا
و الضاربين جماجم الأبطال‏

و وجه المهلب يزيد ابنه إلى الحجاج- يخبره بأنه قد نزل منزل قطري- و أنه مقيم على عبد ربه- و يسأله أن يوجه في أثر قطري رجلا جلدا- فسر بذلك الحجاج سرورا أظهره- ثم كتب إلى المهلب يستحثه لمناجزة القوم مع عبيد بن موهب- . أما بعد فإنك تتراخى عن الحرب- حتى تأتيك رسلي فيرجعون بعذرك- و ذلك أنك تمسك حتى تبرأ الجراح- و تنسى القتلى و تحمل الكال ثم تلقاهم- فتحمل منهم ثقل ما يحتملون منك من وحشة القتل- و ألم الجراح- و لو كنت تلقاهم بذلك الجد- لكان الداء قد حسم و القرن قد قصم- و لعمري ما أنت و القوم سواء- لأن من ورائك رجالا و أمامك أموالا- و ليس للقوم إلا ما نعهد- و لا يدرك الوجيف بالدبيب- و لا الظفر بالتعذير- . فلما ورد عليه الكتاب قال لأصحابه- يا قوم إن الله قد أراحكم من أمور أربعة- قطري بن الفجاءة و صالح بن مخراق- و عبيدة بن هلال و سعد بن الطلائع- و إنما بين أيديكم عبد ربه الصغير في خشار من خشار الشيطان- تقتلونهم إن شاء الله تعالى- .

فكانوا يتغادون القتال و يتراوحون- فتصيبهم الجراح ثم يتحاجزون- فكأنما انصرفوا عن مجلس كانوا يتحدثون فيه- يضحك بعضهم إلى بعض- فقال عبيد بن موهب للمهلب قد بان عذرك- فاكتب فإني مخبر الأمير- . فكتب إلى الحجاج- أما بعد فإني لم أعط رسلك على قول الحق أجرا- و لم أحتج منهم عن المشاهدة إلى تلقين- ذكرت إني أجم القوم- و لا بد من وقت راحة يستريح فيه الغالب- و يحتال فيه المغلوب- و ذكرت أن في الجمام ما ينسي القتلى و تبرأ منه الجراح- هيهات أن ينسى ما بيننا و بينهم- تأبى ذلك قتلى لم تجن- و قروح لم تتقرب و نحن و القوم على حالة- و هم يرقبون منا حالات- إن طمعوا حاربوا و إن ملوا وقفوا- و إن يئسوا انصرفوا و علينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا- و نتحرز إذا وقفوا و نطلب إذا هربوا- فإن تركتني و الرأي كان القرن مقصوما- و الداء بإذن الله محسوما- و إن أعجلتني لم أطعك و لم أعصك- و جعلت وجهي إلى بابك- و أعوذ بالله من سخط الله و مقت الناس- . قال و لما اشتد الحصار على عبد ربه قال لأصحابه- لا تفتقروا إلى من ذهب عنكم من الرجال- فإن المسلم لا يفتقر مع الإسلام إلى غيره- و المسلم إذا صح توحيده عز بربه- و قد أراحكم الله من غلظة قطري- و عجلة صالح بن مخراق و نخوته و اختلاط عبيدة بن هلال- و وكلكم إلى بصائركم- فالقوا عدوكم بصبر و نية و انتقلوا عن منزلكم هذا- فمن قتل منكم قتل شهيدا- و من سلم من القتل فهو المحروم- .

قال- و ورد في ذلك الوقت على المهلب- عبيد بن أبي ربيعة بن أبي الصلت الثقفي من عند الحجاج- يستحثه بالقتال و معه أمينان- فقال للمهلب خالفت وصية الأمير و آثرت المدافعة و المطاولة- فقال له المهلب و الله ما تركت جهدا- . فلما كان العشي خرجت الأزارقة- و قد حملوا حريمهم و أموالهم و خف متاعهم لينتقلوا- فقال المهلب لأصحابه الزموا مصافكم- و أشرعوا رماحكم و دعوهم و الذهاب- فقال له عبيدة بن أبي ربيعة هذا لعمري أيسر عليك- فغضب و قال للناس ردوهم عن وجههم- و قال لبنيه تفرقوا في الناس- و قال لعبيدة بن أبي ربيعة كن مع يزيد- فخذه بالمحاربة أشد الأخذ- و قال لأحد الأمينين كن مع المغيرة- و لا ترخص له في الفتور- . فاقتتلوا قتالا شديدا حتى عقرت الخيل- و صرع الفرسان و قتلت الرجالة- و جعلت الخوارج تقاتل عن القدح يؤخذ منها- و السوط و العلف و الحشيش أشد قتال- . و سقط رمح لرجل من مراد من الخوارج- فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح و القتل- و ذلك مع المغرب و المرادي يرتجز و يقول-

الليل ليل فيه ويل ويل
قد سال بالقوم الشراة السيل‏
إن جاز للأعداء فينا قول‏

فلما عظم الخطب في ذلك الرمح- بعث المهلب إلى المغيرة- خل لهم عن الرمح عليهم لعنة الله- فخلوا لهم عنه و مضت الخوارج- فنزلت على أربعة فراسخ من جيرفت فدخلها المهلب- و أمر بجمع ما كان لهم من متاع و ما خلفوه من دقيق- و جثم عليه و هو و الثقفي و الأمينان- ثم اتبعهم فوجدهم قد نزلوا على ماء و عين- لا يشرب منها أحد إلا قوي- يأتي الرجل بالدلو قد شدها في طرف رمحه فيستقي بها- و هناك قرية فيها أهلها فغاداهم القتال- و ضم الثقفي إلى ابنه يزيد و أحد الأمينين إلى المغيرة- فاقتتل القوم إلى نصف النهار- . و قال المهلب لأبي علقمة العبدي و كان شجاعا- و كان عاتيا هازلا أمددنا يا أبا علقمة بخيل اليحمد- و قل لهم فليعيرونا جماجمهم ساعة- فقال أيها الأمير إن جماجمهم ليست بفخار فتعار- و لا أعناقهم كرادي فتنبت- . و قال لحبيب بن أوس كر على القوم فلم يفعل و قال-

يقول لي الأمير بغير علم
تقدم حين جد به المراس‏

فما لي إن أطعتك من حياة
و ما لي غير هذا الرأس رأس‏

و قال لمعن بن المغيرة بن أبي صفرة احمل فقال- لا إلا أن تزوجني ابنتك أم مالك- فقال قد زوجتك فحمل على الخوارج فكشفهم و طعن فيهم- و قال

ليت من يشتري الحياة بمال
ملكة كان عندنا فيرانا

نصل الكر عند ذاك بطعن
إن للموت عندنا ألوانا

 قوله ملكة أي تزويجا و نكاحا- . قال ثم جال الناس جولة عند حملة حملها عليهم الخوارج- فالتفت المهلب فقال للمغيرة ابنه- ما فعل الأمين الذي كان معك- قال قتل و هرب الثقفي- فقال ليزيد ما فعل عبيد بن أبي ربيعة- قال لم أره منذ كانت الجولة- فقال الأمين الآخر للمغيرة أنت قتلت صاحبي- فلما كان العشي رجع الثقفي- فقال رجل من بني عامر بن صعصعة-

ما زلت يا ثقفي تخطب بيننا
و تغمنا بوصية الحجاج‏

حتى إذا ما الموت أقبل زاخرا
و سقى لنا صرفا بغير مزاج‏

وليت يا ثقفي غير مناظر
تنساب بين أحزة و فجاج‏

ليست مقارعة الكماة لدى الوغى‏
شرب المدامة في إناء زجاج‏

فقال المهلب للأمين الآخر- ينبغي أن تتوجه مع ابني حبيب في ألف رجل- حتى تبيتوا عسكرهم فقال- ما تريد أيها الأمير إلا أن تقتلني كما فعلت بصاحبي- فضحك المهلب و قال ذاك إليك و لم يكن للقوم خنادق- فكان كل حذرا من صاحبه- غير أن الطعام و العدة مع المهلب- و هو في زهاء ثلاثين ألفا- فلما أصبح أشرف على واد- فإذا هو برجل معه رمح مكسور مخضوب بالدم و هو ينشد-

و إني لأعفي ذا الخمار و صنعتي
إذا راح أطواء بني الأصاغر

أخادعهم عنه ليغبق دونهم
و أعلم غير الظن أني مغاور

كأني و أبدان السلاح عشية
يمر بنا في بطن فيحان طائر

 فقال له أ تميمي أنت قال نعم قال أ حنظلي قال نعم- قال أ يربوعي قال نعم قال أ من آل نويرة قال نعم- أنا ولد مالك بن نويرة قال قد عرفتك بالشعر- . قال أبو العباس و ذو الخمار فرس مالك بن نويرة- . قال فمكثوا أياما يتحاربون و دوابهم مسرجة- و لا خنادق لهم حتى ضعف الفريقان- فلما كان الليلة التي قتل في صبيحتها عبد ربه- جمع أصحابه فقال يا معشر المهاجرين- إن قطريا و عبيدة هربا طلبا للبقاء- و لا سبيل إلى البقاء فالقوا عدوكم غدا- فإن غلبوكم على الحياة فلا يغلبنكم على الموت- فتلقوا الرماح بنحوركم و السيوف بوجوهكم- و هبوا أنفسكم لله في الدنيا يهبها لكم في الآخرة- . فلما أصبحوا غادوا المهلب- فاقتتلوا قتالا شديدا أنسى ما كان قبله- و قال رجل من الأزد من أصحاب المهلب- من يبايعني على الموت فبايعه أربعون رجلا من الأزد- فصرع بعضهم و قتل بعضهم و جرح بعضهم- .
و قال عبد الله بن رزام الحارثي للمهلب احملوا- فقال المهلب أعرابي مجنون- و كان من أهل نجران فحمل وحده- فاخترق القوم حتى خرج من ناحية أخرى- ثم كر ثانية ففعل فعلته الأولى و تهايج الناس- فترجلت الخوارج و عقروا دوابهم- فناداهم عمرو القنا- و لم يترجل هو و لا أصحابه و هم زهاء أربعمائة فقال- موتوا على ظهور دوابكم كراما و لا تعقروها فقالوا- إنا إذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار فاقتتلوا- و نادى المهلب بأصحابه الأرض الأرض- و قال لبنيه تفرقوا في الناس ليروا وجوهكم- و نادت الخوارج ألا إن العيال لمن غلب- فصبر بنو المهلب- و قاتل يزيد بين يدي أبيه قتالا شديدا أبلى فيه-

فقال له أبوه يا بني- إني أرى موطنا لا ينجو فيه إلا من صبر- و ما مر بي يوم مثل هذا منذ مارست الحروب- . و كسرت الخوارج أجفان سيوفها و تجاولوا- فأجلت جولتهم عن عبد ربه مقتولا- . فهرب عمرو القنا و أصحابه و استأمن قوم- و أجلت الحرب عن أربعة آلاف- قتيل و جريح من الخوارج و مأسور- و أمر المهلب أن يدفع كل جريح إلى عشيرته- و ظفر بعسكرهم فحوى ما فيه ثم انصرف إلى جيرفت- فقال الحمد لله الذي ردنا إلى الخفض و الدعة- فما كان عيشنا ذلك العيش- . ثم نظر المهلب إلى قوم في عسكره و لم يعرفهم فقال- ما أشد عادة السلاح ناولني درعي فلبسها ثم قال- خذوا هؤلاء فلما صيرهم إليه قال ما أنتم قالوا- جئنا لنطلب غرتك للفتك بك فأمر بهم فقتلوا

طرف من أخبار المهلب و بينه

و وجه كعب بن معدان الأشقري و مرة بن بليد الأزدي- فوردا على الحجاج فلما طلعا عليه تقدم كعب فأنشده-يا حفص إني عداني عنكم السفر فقال الحجاج أ شاعر أم خطيب قال شاعر- فأنشده القصيدة فأقبل عليه الحجاج و قال- خبرني عن بني المهلب قال المغيرة سيدهم و فارسهم- و كفى بيزيد فارسا شجاعا و جوادهم و سخيهم قبيصة- و لا يستحي الشجاع أن يفر من مدرك- و عبد الملك سم ناقع و حبيب موت ذعاف- و محمد ليث غاب و كفاك بالفضل نجدة- فقال له فكيف خلفت جماعة الناس قال خلفتهم بخير- قد أدركوا ما أملوا و أمنوا ما خافوا قال- فكيف كان بنو المهلب فيهم قال- كانوا حماة السرح فإذا أليلوا ففرسان البيات-

قال فأيهم كان أنجد قال كانوا كالحلقة المفرغة- لا يدرى أين طرفاها- قال فكيف كنتم أنتم و عدوكم قال- كنا إذا أخذنا عفونا و إذا أخذوا يئسنا منهم- و إذا اجتهدنا و اجتهدوا طمعنا فيهم- قال الحجاج إن العاقبة للمتقين فكيف أفلتكم قطري- قال كدناه و ظن أن قد كادنا بأن صرنا منه إلى التي نحب- قال فهلا اتبعتموه قال- كان حرب الحاضر آثر عندنا من اتباع الفل- قال فكيف كان المهلب لكم و كنتم له- قال كان لنا منه شفقة الوالد و له منا بر الولد- قال فكيف كان اغتباط الناس به- قال نشأ فيهم الأمن و شملهم النفل- قال أ كنت أعددت لي هذا الجواب قال- لا يعلم الغيب إلا الله قال هكذا و الله تكون الرجال- المهلب كان أعلم بذلك حيث بعثك- . هذه رواية أبي العباس- . و روى أبو الفرج في الأغاني- أن كعبا لما أوفده المهلب إلى الحجاج- أنشده قصيدته التي أولها-

يا حفص إني عداني عنكم السفر
و قد سهرت و آذى عيني السهر

 يذكر فيها حروب المهلب مع الخوارج- و يصف وقائعه فيهم في بلد و هي طويلة و من جملتها-

كنا نهون قبل اليوم شأنهم
حتى تفاقم أمر كان يحتقر

لما وهنا و قد حلوا بساحتنا
و استنفر الناس تارات فما نفروا

نادى امرؤ لا خلاف في عشيرته
عنه و ليس به عن مثله قصر

خبوا كمينهم بالسفح إذ نزلوا
بكازرون فما عزوا و لا نصروا

باتت كتائبنا تردي مسمومة
حول المهلب حتى نور القمر

هناك ولوا خزايا بعد ما هزموا
و حال دونهم الأنهار و الجدر

تأبى علينا حزازات النفوس فما
نبقي عليهم و لا يبقون إن قدروا

فضحك الحجاج و قال إنك لمنصف يا كعب- ثم قال له كيف كانت حالكم مع عدوكم- قال كنا إذا لقيناهم بعفونا و عفوهم يئسنا منهم- و إذا لقيناهم بجدنا وجدهم طمعنا فيهم- قال فكيف كان بنو المهلب قال- حماة الحريم نهارا و فرسان الليل تيقظا- قال فأين السماع من العيان قال السماع دون العيان- قال‏صفهم لي رجلا رجلا قال- المغيرة فارسهم و سيدهم نار ذاكية و صعدة عالية- و كفى بيزيد فارسا شجاعا ليث غاب و بحر جم العباب- و جوادهم قبيصة ليث المغار و حامي الذمار- و لا يستحي الشجاع أن يفر من مدرك و كيف لا يفر من مدرك- و كيف لا يفر من الموت الحاضر و الأسد الخادر- و عبد الملك سم ناقع و سيف قاطع- و حبيب الموت الذعاف طود شامخ و بحر باذح- و أبو عيينة البطل الهمام و السيف الحسام- و كفاك بالمفضل نجدة ليث هدار و بحر مواز- و محمد ليث غاب و حسام ضراب- قال فأيهم أفضل- قال هم كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفاها- قال فكيف جماعة الناس قال- على أحسن حال أرضاهم العدل و أغناهم النفل- قال فكيف رضاهم بالمهلب قال- أحسن رضا لا يعدمون منه إشفاق الوالد- و لا يعدم منهم بر الولد و ذكر تمام الحديث- .

و قال إن الحجاج أمر له بعشرين ألف درهم- و حمله على فرس و أوفده على عبد الملك- فأمر له بعشرين ألفا أخرى- . قال أبو الفرج- و كعب الأشقري من شعراء المهلب و مادحيه- و هو شاعر مجيد- قال عبد الملك بن مروان للشعراء- تشبهونني مرة بالأسد و مرة بالبازي- ألا قلتم كما قال كعب الأشقري للمهلب و ولده-

براك الله حين براك بحرا
و فجر منك أنهارا غزارا

بنوك السابقون إلى المعالي
إذا ما أعظم الناس الخطارا

كأنهم نجوم حول بدر
تكمل إذ تكمل فاستدارا

ملوك ينزلون بكل ثغر
إذا ما الهام يوم الروع طارا

رزان في الخطوب ترى عليهم‏
من الشيخ الشمائل و النجارا

نجوم يهتدى بهم إذا ما
أخو الغمرات في الظلماء حارا

قال أبو الفرج و هذا الشعر من قصيدة لكعب- يمدح بها المهلب و يذكر الخوارج و منها-

سلوا أهل الأباطح من قريش
عن المجد المؤثل أين صارا

لقوم الأزد في الغمرات أمضى
و أوفى ذمة و أعز جارا

هم قادوا الجياد على وجاها
من الأمصار يقذفن المهارا

إلى كرمان يحملن المنايا
بكل ثنية يوقدن نارا

شوازب ما أصبنا الثار حتى‏
رددناها مكلمة مرارا

غداة تركن مصرع عبد رب
نثرن عليه من رهج غبارا

و يوم الزحف بالأهواز ظلنا
نروي منهم الأسل الحرارا

فقرت أعين كانت حزينا
قليلا نومها إلا غرارا

و لو لا الشيخ بالمصرين ينفي‏
عدوهم لقد نزلوا الديارا

و لكن قارع الأبطال حتى
أصابوا الأمن و احتلوا القرارا

إذا وهنوا و حل بهم عظيم
يدق العظم كان لهم جبارا

و مبهمة يحيد الناس عنها
تشب الموت شد لها إزارا

شهاب تنجلي الظلماء عنه
يرى في كل مظلمة منارا

براك الله حين براك بحرا
و فجر منك أنهارا غزارا

 الأبيات المتقدمة- . قال أبو الفرج و حدثني محمد بن خلف وكيع بإسناد ذكره- أن الحجاج لما كتب إلى المهلب- يأمره بمناجزة الخوارج حينئذ و يستبطئه و يضعفه- و يعجزه من تأخيره أمرهم و مطاولته لهم- قال المهلب لرسوله قل له- إنما البلاء أن يكون الأمر لمن يملكه لا لمن يعرفه- فإن كنت نصبتني لحرب هؤلاء القوم- على أن أدبرها كما أرى فإذا أمكنتني فرصة انتهزتها- و إن لم تمكني توقفت فأنا أدبر ذلك بما يصلحه- و إن أردت أن أعمل برأيك و أنا حاضر و أنت غائب- فإن كان صوابا فلك و إن كان خطأ فعلي- فابعث من رأيت مكاني- و كتب من فوره بذلك إلى عبد الملك- فكتب عبد الملك إلى الحجاج- لا تعارض المهلب فيما يراه و لا تعجله و دعه يدبر أمره- . قال و قام كعب الأشقري إلى المهلب- فأنشده بحضرة رسول الحجاج-

إن ابن يوسف غره من أمركم
خفض المقام بجانب الأمصار

لو شهد الصفين حيث تلاقيا
ضاقت عليه رحيبة الأقطار

من أرض سابور الجنود و خيلنا
مثل القداح بريتها بشفار

من كل صنديد يرى بلبانه
وقع الظبات مع القنا الخطار

لرأى معاودة الرباع غنيمة
أزمان كان محالف الإقتار

فدع الحروب لشيبها و شبابها
و عليك كل غريرة معطار

 فبلغت أبياته الحجاج- فكتب إلى المهلب يأمره بإشخاص كعب الأشقري إليه- فأعلم المهلب كعبا بذلك- و أوفده إلى عبد الملك من ليلته- و كتب إليه يستوهبه منه- فقدم كعب على عبد الملك برسالة المهلب- فاستنطقه فأعجبه و أوفده إلى الحجاج- و كتب إليه يقسم عليه أن يصفح- و يعفو عما بلغه من شعره فلما دخل قال إيه يا كعب-

لرأي معاودة الرباع غنيمة

فقال أيها الأمير- و الله لوددت في بعض ما شاهدته من تلك الحروب- و ما أوردناه المهلب من خطرها- أن أنجو منها و أكون حجاما أو حائكا قال أولى لك- لو لا قسم أمير المؤمنين ما نفعك ما تقول- الحق بصاحبك و رده إلى المهلب- . قال أبو العباس و كان كتاب المهلب إلى الحجاج- الذي بشره فيه بالظفر و النصر- بسم الله الرحمن الرحيم- الحمد لله الكافي بالإسلام فقد ما سواه- الحاكم بألا ينقطع المزيد من فضله- حتى ينقطع الشكر من عباده أما بعد-فقد كان من أمرنا ما قد بلغك- و كنا نحن و عدونا على حالين مختلفين- يسرنا منهم أكثر مما يسوءنا- و يسوءهم منا أكثر مما يسرهم على اشتداد شوكتهم- فقد كان علا أمرهم حتى ارتاعت له الفتاة- و نوم به الرضيع- فانتهزت الفرصة منهم في وقت إمكانها- و أدنيت السواد من السواد حتى تعارفت الوجوه- فلم نزل كذلك حتى بلغ الكتاب أجله- فقطع دابر القوم الذين ظلموا- و الحمد لله رب العالمين- .

فكتب إليه الحجاج- أما بعد فقد فعل الله بالمسلمين خيرا- و أراحهم من بأس الجلاد و ثقل الجهاد- و لقد كنت أعلم بما قبلك- فالحمد لله رب العالمين- فإذا ورد عليك كتابي فأقسم في المجاهدين فيئهم- و نفل الناس على قدر بلائهم- و فضل من رأيت تفضيله- و إن كانت بقيت من القوم بقية- فخلف خيلا تقوم بإزائهم- و استعمل على كرمان من رأيت- و ول الخيل شهما من ولدك- و لا ترخص لأحد في اللحاق بمنزلة دون أن تقدم بهم علي- و عجل القدوم إن شاء الله- . فولى المهلب يزيد ابنه كرمان و قال له يا بني- إنك اليوم لست كما كنت- إنما لك من كرمان ما فضل عن الحجاج- و لن تحتمل إلا على ما احتمل عليه أبوك- فأحسن إلى من تبعك- و إن أنكرت من إنسان شيئا فوجه إلي- و تفضل على قومك إن شاء الله- .ثم قدم المهلب على الحجاج فأجلسه إلى جانبه- و أظهر بره و إكرامه و قال يا أهل العراق- أنتم عبيد قن للمهلب- ثم قال أنت و الله كما لقيط-

فقلدوا أمركم لله دركم
رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه‏
هم يكاد حشاه يقصم الضلعا

لا مترفا إن رخاء العيش ساعده
و لا إذا عض مكروه به خشعا

ما زال يحلب هذا الدهر أشطره‏
يكون متبعا طورا و متبعا

حتى استمرت على شرر مريرته
مستحكم الرأي لا قحما و لا ضرعا

 و روى أنه قام إليه رجل فقال أصلح الله الأمير- و الله لكأني أسمع الساعة قطريا و هو يقول لأصحابه- المهلب و الله كما قال لقيط الأيادي ثم أنشد هذا الشعر- فسر الحجاج حتى امتلأ سرورا- فقال المهلب أما و الله ما كنا أشد من عدونا و لا أحد- و لكن دمغ الحق الباطل- و قهرت الجماعة الفتنة و العاقبة للمتقين- و كان ما كرهناه من المطاولة خيرا لنا- مما أحببناه من المعاجلة- .

فقال الحجاج صدقت- اذكر لي القوم الذين أبلوا و صف لي بلاءهم- فأمر الناس فكتبوا ذلك إلى الحجاج- فقال لهم المهلب ما ذخر الله لكم خير لكم- من عاجل الدنيا إن شاء الله- فذكرهم المهلب على مراتبهم في البلاء- و تفاضلهم في الغناء و قدم بنيه- المغيرة و يزيد و مدركا و حبيبا- و قبيصة و المفضل و عبد الملك و محمدا- و قال و الله لو واحد يقدمهم في البلاء لقدمته عليهم- و لو لا أن أظلمهم لآخرتهم- فقال الحجاج صدقت و ما أنت أعلم بهم مني- و إن حضرت و غبت إنهم لسيوف من سيوف الله- ثم ذكر معن بن المغيرة و الرقاد و أشباههما- . فقال الحجاج من الرقاد- فدخل رجل طويل أجنأ- فقال المهلب هذا فارس العرب- فقال الرقاد للحجاج أيها الأمير- إني كنت أقاتل مع غير المهلب فكنت كبعض الناس- فلما صرت مع من يلزمني الصبر- و يجعلني أسوة نفسه و ولده و يجازيني على البلاء- صرت أنا و أصحابي فرسانا- . فأمر الحجاج بتفضيل قوم على قوم على قدر بلائهم- و زاد ولد المهلب ألفين ألفين- و فعل بالرقاد و بجماعة شبيها بذلك- . و قال يزيد بن حبناء من الأزارقة-

دعي اللوم إن العيش ليس بدائم
و لا تعجلي باللوم يا أم عاصم‏

فإن عجلت منك الملامة فاسمعي‏
مقالة معني بحقك عالم‏

و لا تعذلينا في الهدية إنما
تكون الهدايا من فضول المغانم‏

و ليس بمهد من يكون نهاره
جلادا و يمسي ليله غير نائم‏

يريد ثواب الله يوما بطعنه‏
غموس كشدق العنبري بن سالم‏

أبيت و سربالي دلاص حصينة
و مغفرها و السيف فوق الحيازم‏

حلفت برب الواقفين عشية
لدى عرفات حلفة غير آثم‏

لقد كان في القوم الذين لقيتهم
بسابور شغل عن بزوز اللطائم‏

توقد في أيديهم زاعبية
و مرهفة تفري شئون الجماجم‏

و قال المغيرة الحنظلي من أصحاب المهلب-

إني امرؤ كفني ربي و أكرمني
عن الأمور التي في غبها وخم‏

و إنما أنا إنسان أعيش كما
عاشت رجال و عاشت قبلها أمم‏

ما عاقني عن قفول الجند إذ قفلوا
عي بما صنعوا حولي و لا صمم‏

و لو أردت قفولا ما تجهمني‏
إذن الأمير و لا الكتاب إذ رقموا

إن المهلب إن أشتق لرؤيته
أو أمتدحه فإن الناس قد علموا

أنه الأريب الذي ترجى نوافله‏
و المستنير الذي تجلى به الظلم‏

و القائل الفاعل الميمون طائره
أبو سعيد إذا ما عدت النعم‏

أزمان كرمان إذ غص الحديد بهم‏
و إذ تمنى رجال أنهم هزموا

و قال حبيب بن عوف من قواد المهلب-

أبا سعيد جزاك الله صالحة
فقد كفيت و لم تعنف على أحد

داويت بالحلم أهل الجهل فانقمعوا
و كنت كالوالد الحاني على الولد

و قال عبيدة بن هلال الخارجي يذكر رجلا من أصحابه-

يهوي فترفعه الرماح كأنه
شلو تنشب في مخالب ضار

يهوي صريعا و الرماح تنوشه‏
إن الشراة قصيرة الأعمار

شبيب بن يزيد الشيباني

و منهم شبيب بن يزيد الشيباني- و كان في ابتداء أمره يصحب صالح بن مسرح- أحد الخوارج الصفرية- و كان ناسكا مصفر الوجه صاحب عبادة- و له أصحاب يقرئهم القرآن و يفقههم و يقص عليهم- و يقدم الكوفة فيقيم بها الشهر و الشهرين- و كان بأرض الموصل و الجزيرة- و كان إذا فرغ من التحميد و الصلاة على النبي ص- ذكر أبا بكر فأثنى عليه و ثنى بعمر- ثم ذكر عثمان و ما كان من أحداثه- ثم عليا ع و تحكيمه الرجال في دين الله- و يتبرأ من عثمان و علي- ثم‏ يدعو إلى مجاهدة أئمة الضلال و قال- تيسروا يا إخواني للخروج من دار الفناء إلى دار البقاء- و اللحاق بإخواننا المؤمنين- الذين باعوا الدنيا بالآخرة- و لا تجزعوا من القتل في الله- فإن القتل أيسر من الموت و الموت نازل بكم- مفرق بينكم و بين آبائكم و إخوانكم- و أبنائكم و حلائلكم و دنياكم- و إن اشتد لذلك جزعكم- ألا فبيعوا أنفسكم طائعين و أموالكم تدخلوا الجنة- و أشباه هذا من الكلام- .

و كان فيمن يحضره من أهل الكوفة سويد و البطين- فقال يوما لأصحابه ما ذا تنتظرون- ما يزيد أئمة الجور إلا عتوا و علوا- و تباعدا من الحق و جراءة على الرب- فراسلوا إخوانكم حتى يأتوكم- و ننظر في أمورنا ما نحن صانعون- و أي وقت إن خرجنا نحن خارجون- . فبينا هو كذلك- إذ أتاه المحلل بن وائل بكتاب من شبيب بن يزيد- و قد كتب إلى صالح- أما بعد فقد أردت الشخوص- و قد كنت دعوتني إلى أمر أستجيب لك- فإن كان ذلك من شأنك- فإنك شيخ المسلمين- و لم يعدل بك منا أحد- و إن أردت تأخير ذلك أعلمني- فإن الآجال غادية و رائحة- و لا آمن أن تخترمني المنية- و لما أجاهد الظالمين فيا له غبنا و يا له فضلا- جعلنا الله و إياكم ممن يريد الله بعلمه- و رضوانه و النظر إلى وجهه- و مرافقة الصالحين في دار السلام و السلام عليك- .

فأجابه صالح بجواب جميل يقول فيه- إنه لم يمنعني من الخروج- مع ما أنا فيه من الاستعداد إلا انتظارك- فأقدم علينا ثم اخرج بنا- فإنك ممن لا تقضى الأمور دونه و السلام عليك- . فلما ورد كتابه على شبيب- دعا القراء من أصحابه فجمعهم إليه- منهم أخوه مصاد بن يزيد و المحلل بن وائل- و الصقر بن حاتم و إبراهيم بن حجر و جماعة مثلهم- ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرح- و هو بدارات أرض الموصل- فبث صالح رسله و واعدهم بالخروج- في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست و تسعين- . فاجتمع بعضهم إلى بعض- و اجتمعوا عنده تلك الليلة- فحدث فروة بن لقيط قال- إني لمعهم تلك الليلة عند صالح- و كان رأيي استعراض الناس- لما رأيت من المكر و الفساد في الأرض فقمت إليه- فقلت يا أمير المؤمنين كيف ترى السيرة في هؤلاء الظلمة- أ نقتلهم قبل الدعاء أم ندعوهم قبل القتال- فإني أخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني بذلك- إنا نخرج على قوم طاغين- قد تركوا أمر الله أو راضين بذلك- فأرى أن نضع السيف فقال لا بل ندعوهم- و لعمري لا يجيبك إلا من يرى رأيك- و ليقاتلنك من يزري عليك و الدعاء أقطع لحجتهم- و أبلغ في الحجة عليهم لك- فقلت‏ و كيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به- و ما تقول في دمائهم و أموالهم فقال- إن قتلنا و غنمنا فلنا- و إن تجاوزنا و عفونا فموسع علينا- . ثم قال صالح لأصحابه ليلته تلك- اتقوا الله عباد الله- و لا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس- إلا أن يكونوا قوما يريدونكم و ينصبون لكم- فإنكم إنما خرجتم غضبا لله حيث انتهكت محارمه- و عصي في الأرض و سفكت الدماء بغير حقها- و أخذت الأموال غصبا- فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثم تعملونها- فإن كل ما أنتم عاملون أنتم عنه مسئولون- و إن عظمكم رجالة- و هذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرستاق- و ابدءوا بها فاحملوا عليها راجلكم- و تقووا بها على عدوكم- .

ففعلوا ذلك و تحصن منهم أهل دارا- . و بلغ خبرهم محمد بن مروان و هو يومئذ أمير الجزيرة- فاستخف بأمرهم- و بعث إليهم عدي بن عميرة في خمسمائة- و كان صالح في مائة و عشرة- فقال عدي أصلح الله‏ الأمير- تبعثني إلى رأس الخوارج منذ عشرين سنة- و معه رجال سموا لي كانوا يعازوننا- و إن الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة- فقال له إني أزيدك خمسمائة فسر إليهم في ألف فارس- . فسار من حران في ألف رجل و كأنما يساقون إلى الموت- و كان عدي رجلا ناسكا- فلما نزل دوغان نزل بالناس- و أنفذ إلى صالح بن مسرح رجلا دسه إليه فقال- إن عديا بعثني إليك يسألك أن تخرج عن هذا البلد- و تأتي بلدا آخر فتقاتل أهله فإني للقتال كاره- فقال له صالح ارجع إليه فقل له إن كنت ترى رأينا- فأرنا من ذلك ما نعرف ثم نحن مدلجون عنك- و إن كنت على رأي الجبابرة و أئمة السوء رأينا رأينا- فإما بدأنا بك و إلا رحلنا إلى غيرك- .

فانصرف إليه الرسول فأبلغه فقال له عدي- ارجع إليه فقل له إني و الله لا أرى رأيك- و لكني أكره قتالك و قتال غيرك من المسلمين- . فقال صالح لأصحابه اركبوا فركبوا و احتبس الرجل عنده- و مضى بأصحابه حتى أتى عديا في سوق دوغان- و هو قائم يصلي الضحى فلم يشعر إلا بالخيل طالعة عليهم- فلما دنا صالح منهم رآهم على غير تعبئة و قد تنادوا- و بعضهم يجول في بعض- فأمر شبيبا فحمل عليهم في كتيبة- ثم أمر سويدا فحمل في كتيبة فكانت هزيمتهم-و أتى عدي بدابته فركبها و مضى على وجهه- و احتوى صالح على عسكره و ما فيه- و ذهب فل عدي حتى لحقوا بمحمد بن مروان فغضب- ثم دعا بخالد بن جزء السلمي فبعثه في ألف و خمسمائة- و دعا الحارث بن جعونة في ألف و خمسمائة و قال لهما- اخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة- و عجلا الخروج و أغذا السير- فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه- فخرجا و أغذا في السير و جعلا يسألان عن صالح فقيل لهما- توجه نحو آمد فاتبعاه حتى انتهيا إليه بأمد- فنزلا ليلا و خندقا و هما متساندان- كل واحد منهما على حدته- فوجه صالح شبيبا إلى الحارث بن جعونة في شطر أصحابه- و توجه هو نحو خالد السلمي- فاقتتلوا أشد قتال اقتتله قوم- حتى حجز بينهم الليل و قد انتصف بعضهم من بعض- .

فتحدث بعض أصحاب صالح قال- كنا إذا حملنا عليهم استقبلنا رجالهم بالرماح- و نضحنا رماتهم بالنبل- و خيلهم تطاردنا في خلال ذلك- فانصرفنا عند الليل و قد كرهناهم و كرهونا- فلما رجعنا و صلينا و تروحنا و أكلنا من الكسر- دعانا صالح و قال يا أخلائي ما ذا ترون- فقال شبيب إنا إن قاتلنا هؤلاء القوم- و هم معتصمون بخندقهم لم ننل منهم طائلا- و الرأي أن نرحل عنهم- فقال صالح و أنا أرى ذلك- فخرجوا من تحت ليلتهم- حتى قطعوا أرض الجزيرة و أرض الموصل- و مضوا حتى قطعوا أرض الدسكرة- فلما بلغ ذلك الحجاج- سرح عليهم الحارث بن عميرة في ثلاثة آلاف-فسار و خرج صالح نحو جلولاء و خانقين- و اتبعه الحارث حتى انتهى إلى قرية يقال لها المدبج- و صالح يومئذ في تسعين رجلا- فعبى الحارث بن عميرة أصحابه ميمنة و ميسرة- و جعل صالح أصحابه ثلاثة كراديس و هو في كردوس- و شبيب في ميمنة في كردوس- و سويد بن سليم في كردوس في ميسرته- في كل كردوس منهم ثلاثون رجلا- فلما شد عليهم الحارث بن عميرة انكشف سويد بن سليم- و ثبت صالح فقتل و ضارب شبيب حتى صرع عن فرسه- فوقع بين رجاله فجاء حتى انتهى إلى موقف صالح- فوجده قتيلا فنادى إلى يا معشر المسلمين فلاذوا به-

فقال لأصحابه ليجعل كل رجل منكم ظهره إلى ظهر صاحبه- و ليطاعن عدوه إذا قدم عليه- حتى ندخل هذا الحصن و نرى رأينا- . ففعلوا ذلك حتى دخلوا الحصن- و هم سبعون رجلا مع شبيب- و أحاط بهم الحارث بن عميرة ممسيا- و قال لأصحابه أحرقوا الباب فإذا صار جمرا فدعوه- فإنهم لا يقدرون على الخروج حتى نصبح فنقتلهم- ففعلوا ذلك بالباب ثم انصرفوا إلى معسكرهم- . فقال شبيب لأصحابه يا هؤلاء ما تنتظرون- فو الله إن صبحوكم غدوة إنه لهلاككم- فقالوا له مرنا بأمرك فقال لهم إن الليل أخفى للويل- بايعوني إن شئتم أو بايعوا من شئتم منكم- ثم اخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم- فإنهم آمنون منكم و إني أرجو أن ينصركم الله عليهم- قالوا ابسط يدك فبايعوه فلما جاءواإلى الباب- وجدوه جمرا فأتوه باللبود فبلوها بالماء- ثم ألقوها عليه و خرجوا- فلم يشعر الحارث بن عميرة- إلا و شبيب و أصحابه يضربونهم بالسيوف- في جوف عسكرهم- فضارب الحارث حتى صرع و احتمله أصحابه- و انهزموا و خلوا لهم المعسكر و ما فيه- و مضوا حتى نزلوا المدائن- و كان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب

دخول شبيب الكوفة و أمره مع الحجاج

ثم ارتفع في أداني أرض الموصل- ثم ارتفع إلى نحو آذربيجان يجبي الخراج- و كان سفيان بن أبي العالية قد أمر- أن يحارب صاحب طبرستان فأمر بالقفول نحو شبيب- و أن يصالح صاحب طبرستان فصالحه فأقبل في ألف فارس- و قد ورد عليه كتاب من الحجاج- . أما بعد فأقم بالدسكرة فيمن معك- حتى يأتيك جيش الحارث بن عميرة- قاتل صالح بن مسرح ثم سر إلى شبيب حتى تناجزه- . ففعل سفيان ذلك و نزل إلى الدسكرة حتى أتوه- و خرج مرتحلا في طلب شبيب فارتفع شبيب عنهم- كأنه يكره قتالهم و لقاءهم- و قد أكمن لهم أخاه مصادا في خمسين رجلا في هضم من الأرض- فلما رأوا شبيبا جمع أصحابه- و مضى في سفح من الجبل‏مشرقا قالوا- هرب عدو الله و اتبعوه- فقال لهم عدي بن عميرة الشيباني أيها الناس- لا تعجلوا عليهم حتى نضرب في الأرض و نستبرئها- فإن يكونوا أكمنوا كمينا حذرناه- و إلا كان طلبهم بين أيدينا لن يفوتنا- فلم يسمعوا منه فأسرعوا في آثارهم- . فلما رأى شبيب أنهم قد جازوا الكمين عطف عليهم- فحمل من أمامهم و خرج الكمين من ورائهم- فلم يقاتل أحد و إنما كانت الهزيمة- و ثبت سفيان بن أبي العالية في مائتي رجل- فقاتل قتالا شديدا حتى انتصف من شبيب- فقال سويد بن سليم لأصحابه- أ منكم أحد يعرف أمير القوم ابن أبي العالية- فقال له شبيب أنا من أعرف الناس به- أ ما ترى صاحب الفرس الأغر الذي دونه المرامية- فإنه هو فإن كنت تريده فأمهله قليلا- .

ثم قال يا قعنب اخرج في عشرين فأتهم من ورائهم- فخرج قعنب في عشرين فارتفع عليهم- فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم- جعلوا ينتقصون و يتسللون- و حمل سويد بن سليم على سفيان بن أبي العالية يطاعنه- فلم تصنع رماحهما شيئا ثم اضطربا بسيفهما- ثم اعتنق كل واحد منهما صاحبه- فوقعا إلى الأرض يعتركان ثم تحاجزا و حمل عليهم شبيب- فانكشف من كان مع سفيان- و نزل غلام له يقال له غزوان عن برذونه- و قال لسفيان اركب يا مولاي فركب سفيان- و أحاط به أصحاب شبيب- فقاتل دونه غزوان حتى قتل و كان معه رايته- و أقبل سفيان منهزما حتى انتهىإلى بابل مهروذ- فنزل بها و كتب إلى الحجاج- و كان الحجاج أمر سورة بن أبجر أن يلحق بسفيان- فكاتب سورة سفيان و قال له انتظرني- فلم يفعل و عجل نحو الخوارج- فلما عرف الحجاج خبر سفيان و قرأ كتابه- قال للناس من صنع كما صنع هذا- و أبلى كما أبلى فقد أحسن- ثم كتب إليه يعذره و يقول- إذا خف عليك الوجع فأقبل مأجورا إلى أهلك- و كتب إلى سورة بن أبجر- .

أما بعد يا ابن أم سورة- فما كنت خليقا أن تجترئ على ترك عهدي و خذلان جندي- فإذا أتاك كتابي فابعث رجلا ممن معك- صليبا إلى المدائن فلينتخب من جندها خمسمائة رجل- ثم ليقدم بهم عليك ثم سر بهم- حتى تلقى هذه المارقة و احزم أمرك و كد عدوك- فإن أفضل أمر الحروب حسن المكيدة و السلام- . فلما أتى سورة كتاب الحجاج- بعث عدي بن عمير إلى المدائن و كان بها ألف فارس- فانتخب منهم خمسمائة- ثم رحل بهم حتى قدم على سورة ببابل مهروذ-

فخرج بهم في طلب شبيب- و خرج شبيب يجول في جوخى و سورة في طلبه- فجاء شبيب إلى المدائن فتحصن منه أهلها- فانتهب المدائن الأولى و أصاب دواب من دواب الجند- و قتل من ظهر له و لم يدخل البيوت- ثم أتى فقيل له هذا سورة قد أقبل إليك- فخرج في أصحابه حتى انتهى إلى النهروان- فنزلوا به و توضئوا و صلوا- ثم أتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم علي بن أبي طالب- فاستغفروا لهم و تبرءوا من علي و أصحابه- و بكوا فأطالوا البكاء ثم عبروا جسر النهروان- فنزلوا جانبه الشرقي- و جاء سورة حتى نزل بنفطرانا و جاءته عيونه- فأخبروه بمنزل شبيب بالنهروان- فدعا سورة رءوس أصحابه فقال لهم- إن الخوارج قلما يلقون في صحراء أو على ظهر إلا انتصفوا- و قد حدثت أنهم لا يزيدون على مائة رجل- و قد رأيت أن انتخبكم و أسير في ثلاثمائة رجل منكم- من أقويائكم و شجعانكم فأبيتهم- فإنهم آيسون من بياتكم- و إني و الله أرجو أن يصرعهم الله- مصارع إخوانهم في النهروان من قبل- فقالوا اصنع ما أحببت- .

فاستعمل على عسكره حازم بن قدامة- و انتخب ثلاثمائة من شجعان أصحابه- ثم أقبل بهم حتى قرب من النهروان- و بات و قد أذكى الحرس ثم بيتهم- فلما دنا أصحاب سورة منهم نذروا بهم- فاستووا على خيولهم و تعبوا تعبيتهم- فلما انتهى إليهم سورة و أصحابه أصابوهم و قد نذروا- فحمل عليهم سورة فصاح شبيب بأصحابه- فحمل عليهم‏حتى تركوا له العرصة- و حمل شبيب و جعل يضرب و يقول-
من ينك العير ينك نياكا

 فرجع سورة مفلولا قد هزم فرسانه و أهل القوة من أصحابه- و أقبل نحو المدائن و تبعه شبيب- حتى انتهى سورة إلى بيوت المدائن- و انتهى شبيب إليهم و قد دخل الناس البيوت- و خرج ابن أبي عصيفير و هو أمير المدائن يومئذ في جماعة- فلقيهم في شوارع المدائن- و رماهم الناس بالنبل و الحجارة من فوق البيوت- . ثم سار شبيب إلى تكريت- فبينا ذلك الجند بالمدائن إذ أرجف الناس فقالوا- هذا شبيب قد أقبل يريد أن يبيت أهل المدائن- فارتحل عامة الجند فلحقوا بالكوفة- و إن شبيبا بتكريت- فلما أتى الحجاج الخبر قال قبح الله سورة- ضيع العسكر و خرج يبيت الخوارج و الله لأسوءنه- .

ثم دعا الحجاج بالجزل و هو عثمان بن سعيد فقال له- تيسر للخروج إلى هذه المارقة- فإذا لقيتهم فلا تعجل عجلة الخرق النزق- و لا تحجم إحجام الواني الفرق أ فهمت قال نعم- أصلح الله الأمير قد فهمت قال- فاخرج و عسكر بدير عبد الرحمن حتى يخرج الناس إليك- فقال أصلح الله الأمير- لا تبعث معي أحدا من الجند المهزوم المفلول- فإن الرعب قد دخل قلوبهم- و قد خشيت ألا ينفعك و المسلمين منهم أحد- قال ذلك لك و لا أراك إلا قد أحسنت الرأي و وفقت- ثم دعا أصحاب الدواوين فقال- اضربوا على الناس البعث- و أخرجوا أربعة آلاف من الناس و عجلوا- فجمعت العرفاء و جلس أصحاب الدواوين- و ضربوا البعث فأخرجوا أربعة آلاف- فأمرهم باللحاق بالعسكر- ثم نودي فيهم بالرحيل فارتحلوا و نادى منادي الحجاج- أن برئت الذمة من رجل أصبناه من بعث الجزل متخلفا- . فمضى بهم الجزل- و قد قدم بين يديه عياض بن أبي لينة الكندي على مقدمته- فخرج حتى أتى المدائن فأقام بها ثلاثا- ثم خرج و بعث إليه ابن أبي عصيفير بفرس- و برذون و ألفي درهم- و وضع للناس من الحطب و العلف ما كفاهم ثلاثة أيام- و أصاب الناس ما شاءوا من ذلك- .

ثم إن الجزل خرج بالناس أثر شبيب- فطلبه في أرض جوخى فجعل شبيب يريه الهيبة- فيخرج من رستاق إلى رستاق- و من طسوج إلى طسوج و لا يقيم له-يريد بذلك أن يفرق الجزل أصحابه- و يتعجل إليه فيلقاه في عدد يسير على غير تعبئة- فجعل الجزل لا يسير إلا على تعبئة- و لا ينزل إلا خندق على نفسه و أصحابه- فلما طال ذلك على شبيب دعا يوما أصحابه- و هم مائة و ستون رجلا هو في أربعين- و مصاد أخوه في أربعين- و سويد بن سليم في أربعين- و المحلل بن وائل في أربعين- و قد أتته عيونه فأخبرته- أن الجزل بن سعيد قد نزل ببئر سعيد- فقال لأخيه و للأمراء الذين ذكرناهم- إني أريد أن أبيت الليلة هذا العسكر- فأتهم أنت يا مصاد من قبل حلوان- و سآتيهم أنا من أمامهم من قبل الكوفة- و ائتهم أنت يا سويد من قبل المشرق- و ائتهم أنت يا محلل من قبل المغرب- و ليلج كل امرئ منكم على الجانب الذي يحمل عليه- و لا تقلعوا عنهم حتى يأتيكم أمري- .

قال فروة بن لقيط- و كنت أنا في الأربعين الذين كانوا معه- فقال لجماعتنا تيسروا و ليسر كل امرئ منكم مع أميره- و لينظر ما يأمره به أميره فليتبعه- فلما قضمت دوابنا و ذلك أول ما هدأت العيون- خرجنا حتى انتهينا إلى دير الخرارة- فإذا القوم عليهم مسلحة ابن أبي لينة- فما هو إلا أن رآهم مصاد أخو شبيب- حتى حمل عليهم في أربعين رجلا- و كان شبيب أراد أن يرتفع عليهم- حتى يأتيهم من ورائهم كما أمره- .

فلما لقي هؤلاء قاتلهم فصبروا له ساعة و قاتلوه- ثم إنا دفعنا إليهم جميعا فهزمناهم- و أخذوا الطريق الأعظم- و ليس بينهم و بين عسكرهم بدير يزدجرد إلا نحو ميل- فقال لنا شبيب اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم- حتى تدخلوا معهم عسكرهم إن استطعتم- فاتبعناهم ملظين بهم ملحين عليهم- ما نرفه عنهم و هم منهزمون ما لهم همة إلا عسكرهم- .

فمنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم و رشقوهم بالنبل- و كانت لهم عيون قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا- و كان الجزل قد خندق عليهم و تحرز- و وضع هذه المسلحة الذين لقيناهم بدير الخرارة- و وضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان- . فلما اجتمعت المسالح و رشقوهم بالنبل- و منعونا من خندقهم رأى شبيب أنه لا يصل إليهم- فقال لأصحابه سيروا و دعوهم- فلما سار عنهم أخذ على طريق حلوان- حتى كان منهم على سبعة أميال- قال لأصحابه انزلوا فاقضموا دوابكم و قيلوا و تروحوا- فصلوا ركعتين ثم اركبوا ففعلوا ذلك- ثم أقبل بهم راجعا إلى عسكر الكوفة و قال- سيروا على تعبيتكم التي عبأتكم عليها أول الليل- و أطيفوا بعسكرهم كما أمرتكم فأقبلنا معه- و قد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم و أمنوا- فما شعروا حتى سمعوا وقع حوافر الخيل- فانتهينا إليهم قبيل الصبح و أحطنا بعسكرهم- و صحنا بهم من كل ناحية فقاتلونا و رمونا بالنبل- فقال شبيب لأخيه مصاد- و كان يقاتلهم من الجانب‏ الذي يلي الكوفة- خل لهم سبيل [طريق‏]- الكوفة فخلى لهم- و قاتلناهم من تلك الوجوه الثلاثة الأخرى إلى الصبح- ثم سرنا و تركناهم لأنا لم نظفر بهم- فلما سار شبيب سار الجزل في أثره يطلبه- و جعل لا يسير إلا على تعبية و ترتيب- و لا ينزل إلا على خندق- و أما شبيب فضرب في أرض جوخى و ترك الجزل- فطال أمره على الحجاج- فكتب إلى الجزل كتابا قرئ على الناس و هو- أما بعد فإني بعثتك في فرسان أهل المصر و وجوه الناس- و أمرتك باتباع هذه المارقة- و ألا تقلع عنها حتى تقتلها و تفنيها- فجعلت التعريس في القرى- و التخييم في الخنادق أهون عليك من المضي- لمناهضتهم و مناجزتهم و السلام- .

قال فشق كتاب الحجاج على الجزل- و أرجف الناس بأمره و قالوا سيعزله فما لبث الناس- أن بعث الحجاج سعيد بن المجالد أميرا بدله و عهد إليه- إذا لقي المارقة أن يزحف إليهم و لا يناظرهم- و لا يطاولهم و لا يصنع صنع الجزل- و كان الجزل يومئذ قد انتهى في طلب شبيب إلى النهروان- و قد لزم عسكره و خندق عليهم- فجاء سعيد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرا- فقام فيهم خطيبا فحمد الله و أثنى عليه ثم قال- يا أهل الكوفة إنكم قد عجزتم و وهنتم- و أغضبتم عليكم أميركم- أنتم في طلب هذه الأعاريب العجف منذ شهرين- قد أخربوا بلادكم و كسروا خراجكم- و أنتم‏ حذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها- إلا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم- و نزلوا بلدا سوى بلدكم اخرجوا على اسم الله إليهم- .

ثم خرج و خرج الناس معه- فقال له الجزل ما تريد أن تصنع قال- أقدم على شبيب و أصحابه في هذه الخيل- فقال له الجزل أقم أنت في جماعة الناس- فارسهم و راجلهم و لا تفرق أصحابك و دعني أصحر له- فإن ذلك خير لك و شر لهم- . فقال سعيد بل تقف أنت في الصف و أنا أصحر له- فقال الجزل إني بري‏ء من رأيك هذا- سمع الله و من حضر من المسلمين- فقال سعيد هو رأيي إن أصبت فيه فالله وفقني- و إن أخطأت فيه فأنتم برآء- . فوقف الجزل في صف أهل الكوفة و قد أخرجهم من الخندق- و جعل على ميمنتهم عياض بن أبي لينة الكندي- و على ميسرتهم عبد الرحمن بن عوف أبا حميد الراسبي- و وقف الجزل في جماعتهم- و استقدم سعيد بن مجالد فخرج و أخرج الناس معه- و قد أخذ شبيب إلى براز الروز فنزل قطفتا- و أمر دهقانها أن يشوي لهم غنما و يعد لهم غداء ففعل- و أغلق مدينة قطفتا- و لم يفرغ الدهقان من طعامه حتى أحاط بها ابن مجالد- فصعد الدهقان ثم نزل و قد تغير لونه- فقال شبيب ما بالك قال قد جاءك جمع عظيم- قال أ بلغ شواؤك قال لا قال دعه يبلغ- ثم أشرف الدهقان إشرافة أخرى- ثم نزل فقال قد أحاطوا بالجوسق قال هات شواءك- فجعل يأكل غير مكترث بهم و لا فزع- فلما فرغ قال لأصحابه قوموا إلى الصلاة و قام فتوضأ- فصلى بأصحابه صلاة الأولى و لبس درعه و تقلد سيفه- و أخذ عموده الحديد ثم قال أسرجوا لي بغلتي-

فقال أخوه أ في مثل هذا اليوم تركب بغلة- قال نعم أسرجوها فركبها- ثم قال يا فلان أنت على الميمنة- و أنت يا فلان على الميسرة- و أنت يا مصاد يعني أخاه على القلب- و أمر الدهقان ففتح الباب في وجوههم- . فخرج إليهم و هو يحكم و حمل حملة عظيمة- فجعل سعيد و أصحابه يرجعون القهقرى- حتى صار بينهم و بين الدير ميل- و شبيب يصيح أتاكم الموت الزؤام فاثبتوا- و سعيد يصيح يا معشر همدان إلي إلي أنا ابن ذي مران- فقال شبيب لمصاد ويحك استعرضهم استعراضا- فإنهم قد تقطعوا و إني حامل على أميرهم- و أثكلنيك الله إن لم أثكله ولده- ثم حمل على سعيد فعلاه بالعمود- فسقط ميتا و انهزم أصحابه- و لم يقتل يومئذ من الخوارج إلا رجل واحد- .

و انتهى قتل سعيد إلى الجزل فناداهم- أيها الناس إلي إلي و صاح عياض بن أبي لينة- أيها الناس إن يكن أميركم هذا القادم هلك- فهذا أميركم الميمون النقيبة أقبلوا إليه- فمنهم من أقبل إليه و منهم من ركب فرسه منهزما- و قاتل الجزل يومئذ قتالا شديدا حتى صرع- و حامى عنه خالد بن نهيك و عياض بن أبي لينة- حتى استنقذاه مرتثا- و أقبل الناس منهزمين حتى دخلوا الكوفة- و أتي بالجزل جريحا حتى دخل المدائن فكتب إلى الحجاج- أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله- أني خرجت فيمن قبلي من الجند الذي وجهني فيه إلى عدوه- و قد كنت حفظت عهد الأمير إلي فيهم و رأيه- فكنت أخرج إلى المارقين إذا رأيت الفرصة- و أحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة- فلم أزل كذلك أدير الأمر و أرفق في التدبير- و قد أرادني العدو بكل مكيدة- فلم يصب مني غرة حتى قدم علي سعيد بن مجالد- فأمرته بالتؤدة و نهيته عن العجلة- و أمرته ألا يقاتلهم إلا في جماعة الناس عامة- فعصاني و تعجل إليهم في الخيل- فأشهدت الله عليه و أهل المصرين- إني بري‏ء من رأيه الذي رأى- و إني لا أهوى الذي صنع فمضى فقتل تجاوز الله عنه- و دفع الناس إلي فنزلت و دعوتهم إلى نفسي- و رفعت رايتي و قاتلت حتى صرعت- فحملني أصحابي من بين القتلى- فما أفقت إلا و أنا على أيديهم على رأس ميل من المعركة- و أنا اليوم بالمدائن- و في جراحات قد يموت الإنسان من دونها- و قد يعافى من مثلها- فليسأل الأمير أصلحه الله عن نصيحتي له و لجنده- و عن مكايدتي عدوه و عن موقفي يوم البأس- فإنه سيبين له عند ذلك أني صدقته و نصحت له و السلام- .

فكتب إليه الحجاج‏أما بعد- فقد أتاني كتابك و قرأته- و فهمت كل ما ذكرته فيه من أمر سعيد و أمر نفسك- و قد صدقتك في نصيحتك لأميرك و حيطتك على أهل مصرك- و شدتك على عدوك و قد رضيت عجلة سعيد و تؤدتك- فأما عجلته فإنها أفضت به إلى الجنة- و أما تؤدتك فإنها ما لم تدع الفرصة إذا أمكنت حزم- و قد أحسنت و أصبت و أجرت- و أنت عندي من أهل السمع و الطاعة و النصيحة- و قد أشخصت إليك حيان بن أبجر الطبيب ليداويك- و يعالج جراحاتك- و قد بعثت إليك بألفي درهم نفقة تصرفها في حاجتك- و ما ينوبك و السلام- .

و بعث عبد الله بن أبي عصيفير والي المدائن إلى الجزل- بألف درهم و كان يعوده و يتعاهده بالألطاف و الهدايا- . و أما شبيب فأقبل حتى قطع دجلة عند الكرخ- و أخذ بأصحابه نحو الكوفة- و بلغ الحجاج مكانه بحمام أعين- فبعث إليه سويد بن عبد الرحمن السعدي- فجهزه بألفي فارس منتخبين و قال له- اخرج إلى شبيب فالقه و لا تتبعه- فخرج بالناس بالسبخة و بلغه أن شبيبا قد أقبل- فسار نحوه كأنما يساق إلى الموت هو و أصحابه- و أمر الحجاج عثمان بن قطن فعسكر بالناس في السبخة- و نادى ألا برئت الذمة من رجل من هذا الجند- بات الليلة بالكوفة- و لم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة- فبينا سويد بن عبد الرحمن يسير في الألفين الذين معه- و هو يعبيهم و يحرضهم إذ قيل له‏ قد غشيك شبيب- فنزل و نزل معه جل أصحابه و قدم رايته- فأخبر أن شبيبا لما علم بمكانه تركه- و وجد مخاضة فعبر الفرات- يريد الكوفة من غير الوجه الذي سويد بن عبد الرحمن به- ثم قيل أ ما تراهم فنادى في أصحابه فركبوا في آثارهم- فأتى شبيب دار الرزق فنزلها- و قيل له إن أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون- فلما بلغهم مكان شبيب ماج الناس بعضهم إلى بعض- و جالوا و هموا بدخول الكوفة حتى قيل- هذا سويد بن عبد الرحمن في آثارهم قد لحقهم- و هو يقاتلهم في الخيل- و مضى شبيب حتى أخذ على شاطئ الفرات- ثم أخذ على الأنبار ثم دخل دقوقاء- ثم ارتفع إلى أداني آذربيجان- .

و خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة حيث بعد شبيب- و استخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة- فما شعر الناس إلا بكتاب من مادارست- دهقان بابل مهروز إلى عروة بن المغيرة بن شعبة- أن تاجرا من تجار الأنبار من أهل بلادي-أتاني يذكر أن شبيبا يريد- أن يدخل الكوفة في أول هذا الشهر المستقبل- و أحببت إعلامك ذلك لترى رأيك- و إني لم ألبث بعد ذلك إذ جاءني اثنان من جيراني- فحدثاني أن شبيبا قد نزل خانيجار- . فأخذ عروة كتابه فأدرجه- و سرح به إلى الحجاج إلى البصرة- فلما قرأ الحجاج أقبل جادا إلى الكوفة- و أقبل شبيب يسير- حتى انتهى إلى قرية حربى على شاطئ دجلة فعبرها- و قال لأصحابه يا هؤلاء إن الحجاج ليس بالكوفة- و ليس دون أخذها شي‏ء إن شاء الله فسيروا بنا- فخرج يبادر الحجاج إلى الكوفة- و كتب عروة إلى الحجاج- إن شبيبا قد أقبل مسرعا يريد الكوفة فالعجل العجل- . فطوى الحجاج المنازل مسابقا لشبيب إلى الكوفة- فسبقه و نزلها صلاة العصر- و نزل شبيب السبخة صلاة العشاء الآخرة- فأصاب هو و أصحابه من الطعام شيئا يسيرا- ثم ركبوا خيولهم- فدخل شبيب الكوفة في أصحابه حتى انتهى إلى السوق- و شد حتى ضرب باب القصر بعموده- فحدث جماعة أنهم رأوا- أثر ضربة شبيب بالعمود بباب القصر- ثم أقبل حتى وقف عند باب المصطبة و أنشد-

و كأن حافرها بكل ثنية
فرق يكيل به شحيح معدم‏

ثم أقحم هو و أصحابه المسجد الجامع- و لا يفارقه قوم يصلون فيه فقتل منهم جماعة- و مر هو بدار حوشب و كان هو على شرطة الحجاج- فوقف على بابه في جماعة فقالوا- إن الأمير يعنون الحجاج يدعو حوشبا- و قد أخرج ميمون غلامه برذونه ليركب- فكأنه أنكرهم فظنوا أنه قد اتهمهم- فأراد أن يدخل إلى صاحبه فقالوا له- كما أنت حتى يخرج صاحبك إليك- فسمع حوشب الكلام فأنكر القوم- و ذهب لينصرف فعجلوا نحوه فأغلق الباب دونه- فقتلوا غلامه ميمونا و أخذوا برذونه- و مضوا حتى مروا بالجحاف بن نبيط الشيباني- من رهط حوشب فقال له سويد انزل إلينا فقال- ما تصنع بنزولي فقال انزل- إني لم أقضك ثمن البكرة التي ابتعتها منك بالبادية- فقال الجحاف بئس ساعة القضاء هذه- و بئس المكان لقضاء الدين هذا- ويحك أ ما ذكرت أداء أمانتك إلا و الليل مظلم- و أنت على متن فرسك- قبح الله يا سويد دينا لا يصلح- و لا يتم إلا بقتل الأنفس و سفك الدماء- ثم مروا بمسجد بني ذهل- فلقوا ذهل بن الحارث و كان يصلي في مسجد قومه- فيطيل الصلاة إلى الليل- فصادفوه منصرفا إلى منزله فقتلوه- ثم خرجوا متوجهين نحو الردمة- و أمر الحجاج المنادي يا خيل الله اركبي و أبشري- و هو فوق باب القصر و هناك مصباح مع غلام له قائم- .

و كان أول من جاء من الناس عثمان بن قطن- و معه مواليه و ناس من أهله و قال- أعلموا الأمير مكاني أنا عثمان بن قطن فليأمرني بأمره- فناداه الغلام صاحب المصباح- قف مكانك حتى يأتيك أمر الأمير- و جاء الناس من كل جانب و بات عثمان مكانه- فيمن اجتمع إليه من الناس حتى أصبح- .

و قد كان عبد الملك بن مروان بعث- محمد بن موسى بن طلحة على سجستان و كتب له عهده عليها و كتب إلى الحجاج- إذا قدم عليك محمد بن موسى الكوفة- فجهز معه ألفي رجل و عجل سراحه إلى سجستان- . فلما قدم الكوفة جعل يتجهز- فقال له أصحابه و نصحاؤه تعجل أيها الرجل إلى عملك- فإنك لا تدري ما يحدث- و عرض أمر شبيب حينئذ و دخوله الكوفة- فقيل للحجاج إن محمد بن موسى إن سار إلى سجستان- مع نجدته و صهره لأمير المؤمنين عبد الملك- فلجأ إليه أحد ممن تطلبه منعك منه قال فما الحيلة- قالوا أن تذكر له أن شبيبا في طريقه و قد أعياك- و أنك ترجو أن يريح الله منه على يده- فيكون له ذكر ذلك و شهرته- .

فكتب إليه الحجاج إنك عامل على كل بلد مررت به- و هذا شبيب في طريقك تجاهده و من معه- و لك أجره و ذكره و صيته- ثم تمضي إلى عملك فاستجاب له- . و بعث الحجاج بشر بن غالب الأسدي في ألفي رجل- و زياد بن قدامة في ألفين- و أبا الضريس مولى تميم في ألف من الموالي- و أعين صاحب حمام أعين مولى لبشر بن مروان في ألف- و جماعة غيرهم فاجتمعت تلك الأمراء في أسفل الفرات- و ترك شبيب الوجه الذي فيه جماعة هؤلاء القواد- و أخذ نحو القادسية- فوجه الحجاج زحر بن قيس‏ في جريدة خيل نقاوة- عدتها ألف و ثمانمائة فارس و قال له- اتبع شبيبا حتى تواقعه حيثما أدركته- فخرج زحر بن قيس حتى انتهى إلى السيلحين- و بلغ شبيبا مسيره إليه فأقبل نحوه فالتقيا- و قد جعل زحر على ميمنته عبد الله بن كناز و كان شجاعا- و على ميسرته عدي بن عدي بن عميرة الكندي- و جمع شبيب خيله كلها كبكبة واحدة- ثم اعترض بها الصف يوجف وجيفا- حتى انتهى إلى زحر بن قيس فنزل زحر- فقاتل حتى صرع و انهزم أصحابه و ظن أنه قد قتل- .

فلما كان الليل و أصابه البرد قام يمشي حتى دخل قرية- فبات بها و حمل منها إلى الكوفة- و بوجهه أربع عشرة ضربة فمكث أياما- ثم أتى الحجاج و على وجهه و جراحه القطن- فأجلسه معه على السرير- و قال أصحاب شبيب لشبيب-و هم يظنون أنهم قد قتلوا زحرا قد هزمنا جندهم- و قتلنا أميرا من أمرائهم عظيما- فانصرف بنا الآن موفورين فقال لهم- إن قتلكم هذا الرجل و هزيمتكم هذا الجند- قد أرعب هؤلاء الأمراء فاقصدوا بنا قصدهم- فو الله لئن نحن قتلناهم- ما دون قتل الحجاج و أخذ الكوفة شي‏ء- فقالوا له نحن طوع لأمرك و رأيك فانقض بهم جادا- حتى أتى ناحية عين التمر و استخبر عن القوم- فعرف اجتماعهم في روذبار في أسفل الفرات- على رأس أربعة و عشرين فرسخا من الكوفة- . و بلغ الحجاج مسير شبيب إليهم- فبعث إليهم إن جمعكم قتال- فأمير الناس زائدة بن قدامة- .

فانتهى إليهم شبيب و فيهم سبعة أمراء- على جماعتهم زائدة بن قدامة- و قد عبى كل أمير أصحابه على حدة و هو واقف في أصحابه- فأشرف شبيب على الناس و هو على فرس أغر كميت- فنظر إلى تعبيتهم ثم رجع إلى أصحابه- و أقبل في ثلاث كتائب يزحف بها- حتى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد بن سليم- .فوقفت بإزاء ميمنة زائدة بن قدامة- و فيها زياد بن عمرو العتكي- و مضت كتيبة فيها مصاد أخو شبيب- فوقفت بإزاء الميسرة و فيها بشر بن غالب الأسدي- و جاء شبيب في كتيبة حتى وقف مقابل القوم في القلب- فخرج زائدة بن قدامة يسير في الناس- بين الميمنة و الميسرة يحرض الناس و يقول عباد الله- إنكم الطيبون الكثيرون- و قد نزل بكم الخبيثون القليلون- فاصبروا جعلت لكم الفداء- إنما هي حملتان أو ثلاث ثم هو النصر ليس دونه شي‏ء- أ لا ترونهم و الله لا يكونون مائتي رجل- إنما هم أكلة رأس و هم السراق المراق- إنما جاءوكم ليهريقوا دماءكم و يأخذوا فيئكم- فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه- و هم قليل و أنتم كثير و هم أهل فرقة و أنتم أهل جماعة- غضوا الأبصار و استقبلوهم بالأسنة- و لا تحملوا عليهم حتى آمركم- .

ثم انصرف إلى موقفه- فحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو العتكي فكشف صفه- و ثبت زياد قليلا ثم ارتفع سويد عنهم يسيرا- ثم كر عليهم ثانية- . فقال فروة بن لقيط الخارجي اطعنا ذلك اليوم ساعة- فصبروا لنا حتى ظننت أنهم لن يزولوا- و قاتل زياد بن عمرو قتالا شديدا- و لقد رأيت سويد بن سليم يومئذ- و إنه لأشد العرب قتالا و أشجعهم- و هو واقف لا يعرض لهم ثم ارتفعنا عنهم- فإذا هم يتقوضون فقال بعض أصحابنا لبعض- أ لا ترونهم يتقوضون احملوا عليهم فأرسل إلينا شبيب- خلوهم لا تحملوا عليهم حتى يخفوا فتركناهم قليلا- ثم حملنا عليهم الثالثة فانهزموا- فنظرت إلى زياد بن عمرو و إنه ليضرب بالسيوف- و ما من سيف يضرب به‏ إلا نبا عنه- و لقد اعتوره أكثر من عشرين سيفا و هو مجفف- فما ضره شي‏ء منها ثم انهزم- .

و انتهينا إلى محمد بن موسى بن طلحة أمير سجستان- عند المغرب و هو قائم في أصحابه- فقاتلناه قتالا شديدا و صبر لنا- . ثم إن مصادا حمل على بشر بن غالب في الميسرة فصبر- و كرم و أبلى و نزل معه رجال من أهل البصرة نحو خمسين- فضاربوا بأسيافهم حتى قتلوا- ثم انهزم أصحابه فشددنا على أبي الضريس فهزمناه- ثم انتهينا إلى موقف أعين ثم شددنا على أعين- فهزمناهم حتى انتهينا إلى زائدة بن قدامة- فلما انتهوا إليه نزل و نادى يا أهل الإسلام الأرض الأرض- ألا لا يكونون على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم- فقاتلوا عامة الليل إلى السحر- . ثم إن شبيبا شد على زائدة بن قدامة في جماعة من أصحابه- فقتله و قتل ربضة حوله من أهل الحفاظ- و نادى شبيب في أصحابه ارفعوا السيف- و ادعوهم إلى البيعة فدعوهم عند الفجر إلى البيعة- .

قال عبد الرحمن بن جندب- فكنت فيمن تقدم فبايعه بالخلافة- و هو واقف على‏فرس أغر كميت و خيله واقفة دونه- و كل من جاء ليبايعه ينزع سيفه عن عاتقه و يؤخذ سلاحه- ثم يدنو من شبيب فيسلم عليه بإمرة المؤمنين ثم يبايع- فإنا كذلك إذ أضاء الفجر- و محمد بن موسى بن طلحة في أقصى العسكر مع أصحابه- و كان الحجاج قد جعل موقفه آخر الناس- و زائدة بن قدامة بين يديه- و مقام محمد بن موسى مقام الأمير على الجماعة كلها- فأمر محمد مؤذنه فأذن فلما سمع شبيب الأذان قال- ما هذا قيل هذا ابن طلحة لم يبرح- قال ظننت أن حمقه و خيلاءه سيحملانه على هذا- نحوا هؤلاء عنا و انزلوا بنا فلنصل فنزل و أذن هو- ثم استقدم فصلى بأصحابه و قرأ- وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ- و أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ثم سلم و ركب- و أرسل إلى محمد بن موسى بن طلحة- إنك امرؤ مخدوع قد اتقى بك الحجاج المنية- و أنت لي جار بالكوفة- و لك حق فانطلق لما أمرت به و لك الله ألا أسوءك- فأبى محاربته فأعاد عليه الرسول فأبى إلا قتاله-

فقال له شبيب كأني بأصحابك لو التقت- حلقتا البطان قد أسلموك- و صرعت مصرع أمثالك فأطعني و انصرف‏لشأنك- فإني أنفس بك عن القتل- فأبى و خرج بنفسه و دعا إلى البراز فبرز له البطين- ثم قعنب بن سويد و هو يأبى إلا شبيبا- فقالوا لشبيب إنه قد رغب عنا إليك قال- فما ظنكم بمن يرغب عن الأشراف ثم برز له- و قال له أنشدك الله يا محمد في دمك فإن لك جوارا- فأبى إلا قتاله فحمل عليه بعموده الحديد- و كان فيه اثنا عشر رطلا- فهشم رأسه و بيضة كانت عليه فقتله- و نزل إليه فكفنه و دفنه- و تتبع ما غنم الخوارج من عسكره- فبعث به إلى أهله و اعتذر إلى أصحابه و قال- هو جاري بالكوفة و لي أن أهب ما غنمت- فقال له أصحابه ما دون الكوفة الآن أحد يمنعك- فنظر فإذا أصحابه قد فشا فيهم الجراح- فقال ليس عليكم أكثر مما قد فعلتم- .

و خرج بهم على نفر- ثم خرج بهم نحو بغداد يطلب خانيجار- و بلغ الحجاج أن شبيبا قد أخذ نحو نفر- فظن أنه يريد المدائن و هي باب الكوفة- و من أخذ المدائن كان ما في يديه من أرض الكوفة أكثر- فهال ذلك الحجاج و بعث إلى عثمان بن قطن- فسرحه إلى المدائن- و ولاه منبرها و الصلاة و معونة جوخى كلها و خراج الأستان- فجاء مسرعا حتى نزل المدائن- و عزل الحجاج ابن أبي عصيفير عن المدائن- و كان الجزل مقيما بها يداوي جراحاته- و كان ابن أبي عصيفير يعوده و يكرمه و يلطفه- فلما قدم عثمان بن قطن لم يكن يتعاهده و لا يلطفه بشي‏ء- فكان الجزل يقول- اللهم زد ابن أبي عصيفير فضلا و كرما- و زد عثمان بن قطن ضيقا و بخلا- .ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث- فقال له انتخب الناس- فأخرج ستمائة من قومه من كندة- و أخرج من سائر الناس ستة آلاف- و استحثه الحجاج على الشخوص- فخرج بعسكره بدير عبد الرحمن- فلما استتموا هناك- كتب إليهم الحجاج كتابا قرئ عليهم- .

أما بعد فقد اعتدتم عادة الأذلاء- و وليتم الدبر يوم الزحف دأب الكافرين- و قد صفحت عنكم مرة بعد مرة و تارة بعد أخرى- و إني أقسم بالله قسما صادقا- لئن عدتم لذلك لأوقعن بكم إيقاعا- يكون أشد عليكم من هذا العدو الذي- تنهزمون منه في بطون الأودية و الشعاب- و تستترون منه بأثناء الأنهار و الواد الجبال- فليخف من كان له معقول على نفسه- و لا يجعل عليها سبيلا فقد أعذر من أنذر و السلام- . و ارتحل عبد الرحمن بالناس حتى مر بالمدائن- فنزل بها يوما ليشتري أصحابه منها حوائجهم- ثم نادى في الناس بالرحيل- و أقبل حتى دخل على عثمان بن قطن مودعا- ثم أتى الجزل عائدا- فسأله عن جراحته و حادثه- فقال الجزل يا ابن عم- إنك تسير إلى فرسان العرب- و أبناء الحرب و أحلاس الخيل- و الله لكأنما خلقوا من ضلوعها- ثم ربوا على ظهورها ثم هم أسد الأجم- الفارس منهم أشد من مائة- إن لم يبدأ به بدأ هو و إن هجهج أقدم- و إني قد قاتلتهم و بلوتهم- فإذا أصحرت لهم انتصفوا مني و كان لهم الفضل علي- و إذا خندقت أو قاتلت في مضيق نلت منهم ما أحب- و كانت لي عليهم- فلا تلقهم و أنت تستطيع إلا و أنت في تعبية أو خندق- ثم ودعه و قال له هذه فرسي الفسيفساء خذها فيها لا تجارى- فأخذها ثم خرج بالناس نحو شبيب- فلما دنا منه ارتفع شبيب عنه إلى دقوقاء و شهرزور- فخرج عبد الرحمن في طلبه- حتى إذا كان على تخوم تلك الأرض أقام- و قال إنما هو في أرض الموصل- فليقاتل أمير الموصل و أهلها عن بلادهم أو فليدعوا- .

و بلغ ذلك الحجاج فكتب إليه أما بعد- فاطلب شبيبا و اسلك في أثره أين سلك حتى تدركه- فتقتله أو تنفيه عن الأرض- فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين- و الجند جنده و السلام- . فلما قرأ عبد الرحمن كتاب الحجاج خرج في طلب شبيب- فكان شبيب يدعه- حتى إذا دنا منه ليبيته فيجده قد خندق و حذر- فيمضي و يتركه فيتبعه عبد الرحمن- فإذا بلغ شبيبا أنه قد تحمل و سار يطلبه كر في الخيل نحوه- فإذا انتهى إليه وجده قد صف خيله و رجالته المرامية- فلا يصيب له غرة و لا غفلة فيمضي و يدعه- . و لما رأى شبيب أنه لا يصيب غرته و لا يصل إليه- صار يخرج كلما دنا منه عبد الرحمن- حتى ينزل على مسيرة عشرين فرسخا- ثم يقيم في أرض غليظة وعرة- فيجي‏ء عبد الرحمن في ثقله و خيله- حتى إذا دنا من شبيب ارتحل- فسار عشرين أو خمسة عشر فرسخا فنزل منزلا غليظا خشنا- ثم يقيم حتى يبلغ عبد الرحمن ذلك المنزل ثم يرتحل- فعذب العسكر و شق عليهم و أحفى دوابهم- و لقوا منه كل بلاء- .

فلم يزل عبد الرحمن يتبعه- حتى صار إلى خانقين و جلولاء- ثم أقبل على تامرا فصار إلى البت- و نزل على تخوم الموصل- ليس بينه و بين الكوفة إلا نهر حولايا- و جاء عبد الرحمن حتى نزل بشرقي حولايا- و هم في راذان الأعلى من أرض جوخى و نزل في عواقيل من النهر- و نزلها عبد الرحمن حيث نزلها و هي تعجبه- يرى أنها مثل الخندق الحصين- . فأرسل شبيب إلى عبد الرحمن- أن هذه الأيام أيام عيد لنا و لكم- فإن رأيتم أن توادعونا حتى تمضي هذه الأيام فعلتم- فأجابه عبد الرحمن إلى ذلك- و لم يكن شي‏ء أحب إلى عبد الرحمن- من المطاولة و الموادعة- فكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج- أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله- أن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد حفر جوخى كلها- عليه خندقا واحدا و خلى شبيبا و كسر خراجها- فهو يأكل أهلها و السلام- . فكتب إليه الحجاج- قد فهمت ما ذكرت و قد لعمري فعل عبد الرحمن- فسر إلى الناس فأنت أميرهم- و عاجل المارقة حتى تلقاهم- فإن الله إن شاء ناصرك عليهم و السلام- .

و بعث الحجاج على المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة- و خرج عثمان حتى قدم على‏ عبد الرحمن و من معه- و هم معسكرون على نهر حولايا قريبا من البت- و ذلك يوم التروية عشاء- فنادى في الناس و هو على تلعة- أيها الناس اخرجوا إلى عدوكم فوثبوا إليه و قالوا- ننشدك الله هذا المساء قد غشينا- و الناس لم يوطنوا أنفسهم على القتال- فبت الليلة ثم اخرج على تعبية فجعل يقول- لأناجزنهم الليلة و لتكونن الفرصة لي أو لهم- فأتاه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث- فأخذ بعنان بغلته و ناشده الله لما نزل- و قال له عقيل بن شداد السلوني- إن الذي تريده من مناجزتهم الساعة أنت فاعله غدا- و هو خير لك و للناس- إن هذه ساعة ريح قد اشتدت مساء فانزل ثم أبكر بنا غدوة- .

فنزل و سفت عليه الريح و شق عليه الغبار- فاستدعى صاحب الخراج علوجا فبنوا له قبة- فبات فيها ثم أصبح فخرج بالناس- فاستقبلتهم ريح شديدة و غبرة فصاح الناس إليه- و قالوا ننشدك الله ألا تخرج بنا في هذا اليوم- فإن الريح علينا فأقام ذلك اليوم- . و كان شبيب يخرج إليهم- فلما رآهم لا يخرجون إليه أقام- فلما كان الغد خرج عثمان يعبئ الناس على أرباعهم- و سألهم من كان على ميمنتكم و ميسرتكم فقالوا- خالد بن نهيك بن قيس الكندي على ميسرتنا- و عقيل بن شداد السلوني على ميمنتنا- فدعاهما و قال لهما قفا في مواقفكما التي كنتما بها- فقد وليتكما المجنبتين فاثبتا و لا تفرا- فو الله لا أزول حتى تزول نخيل راذان عن أصولها- فقالا نحن و الله الذي لا إله إلا هو لا نفر حتى نظفر أو نقتل- فقال لهما جزاكما الله خيرا- ثم أقام حتى صلى بالناس الغداة ثم خرج بالخيل- فنزل يمشي في الرجال- و خرج شبيب و معه يومئذ مائة و أحد و ثمانون رجلا- فقطع إليهم النهر و كان هو في ميمنة أصحابه- و جعل على الميسرة سويد بن سليم- و جعل في القلب مصادا أخاه و زحفوا- و كان عثمان بن قطن يقول لأصحابه فيكثر- قل لن‏ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل- و إذا لا تمتعون إلا قليلا- . ثم قال شبيب لأصحابه- إني حامل على ميسرتهم مما يلي النهر- فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم- و لا يبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري- ثم حمل في ميمنة أصحابه مما يلي النهر- على ميسرة عثمان بن قطن فانهزموا- و نزل عقيل بن شداد مع طائفة من أهل الحفاظ- فقاتل حتى قتل و قتلوا معه- .

و دخل شبيب عسكرهم- و حمل سويد بن سليم في ميسرة شبيب- على ميمنة عثمان بن قطن فهزمها- و عليها خالد بن نهيك الكندي فنزل خالد- و قاتل قتالا شديدا فحمل عليه شبيب من ورائه- فلم ينثن حتى علاه بالسيف فقتله و مشى عثمان بن قطن- و قد نزلت معه العرفاء و الفرسان- و أشراف الناس نحو القلب- و فيه أخو شبيب في نحو من ستين رجلا- فلما دنا منهم عثمان شد عليهم في الأشراف و أهل الصبر- فضربهم مصاد و أصحابه حتى فرقوا بينهم- و حمل شبيب من ورائهم بالخيل- فما شعروا إلا و الرماح في أكتافهم تكبهم لوجوههم- و عطف عليهم سويد بن سليم أيضا في خيله- و قاتل عثمان فأحسن القتال- .

ثم إن الخوارج شدوا عليهم فأحاطوا بعثمان- و حمل عليه مصاد أخو شبيب- فضربه ضربة بالسيف فاستدار لها و سقط و قال- و كان أمر الله قدرا مقدورا- فقتل و قتل معه العرفاء و وجوه الناس- و قتل من كندة يومئذ مائة و عشرون رجلا- و قتل من سائر الناس نحو ألف- و وقع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى الأرض- فعرفه‏ابن أبي سبرة فنزل و أركبه و صار رديفا له- و قال له عبد الرحمن ناد في الناس- ألحقوا بدير ابن أبي مريم فنادى بذلك- و انطلقا ذاهبين و أمر شبيب أصحابه- فرفعوا عن الناس السيف و دعاهم إلى البيعة- فأتاه من بقي من الرجال فبايعوه- و بات عبد الرحمن بدير اليعار فأتاه فارسان ليلا- فخلا به أحدهما يناجيه طويلا- و قام الآخر قريبا منهما ثم مضيا و لم يعرفا- فتحدث الناس أن المناجي له كان شبيبا- و أن الذي كان يرقبهما كان مصادا أخاه- و اتهم عبد الرحمن بمكاتبة شبيب من قبل- .

ثم خرج عبد الرحمن آخر الليل- فسار حتى أتى دير ابن أبي مريم- فإذا هو بالناس قبله قد سبقوه- و قد وضع لهم ابن أبي سبرة صبر الشعير و ألقت- كأنها القصور و نحر لهم من الجزور ما شاءوا- و اجتمع الناس إلى عبد الرحمن فقالوا له- إن علم شبيب بمكانك أتاك فكنت له غنيمة- قد تفرق الناس عنك و قتل خيارهم- فالحق أيها الرجل بالكوفة- . فخرج و خرج معه الناس- حتى دخل الكوفة مستترا من الحجاج- إلى أن أخذ له الأمان بعد ذلك- .

ثم إن شبيبا اشتد عليه الحر و على أصحابه- فأتى ماه بهراذان فصيف بها ثلاثة أشهر- و أتاه ناس ممن كان يطلب الدنيا و الغنيمة كثير- و لحق به ناس ممن كان يطلبهم‏ الحجاج بمال و تبعة- فمنهم رجل يقال له الحر بن عبد الله بن عوف- كان قتل دهقانين من أهل نهر درقيط كانا أساءا إليه- و لحق بشبيب حتى شهد معه مواطنه إلى أن هلك- و له مقام عند الحجاج و كلام سلم به من القتل- و هو أن الحجاج بعد هلاك شبيب- أمن كل من خرج إليه ممن كان يطلبهم الحجاج بمال أو تبعة- فخرج إليه الحر فيمن خرج- فجاء أهل الدهقانين يستعدون عليه الحجاج فأحضره- و قال يا عدو الله قتلت رجلين من أهل الخراج فقال- قد كان أصلحك الله مني ما هو أعظم من هذا قال و ما هو- قال خروجي عن الطاعة و فراقي الجماعة- ثم إنك أمنت كل من خرج عليك و هذا أماني و كتابك لي- . فقال الحجاج قد لعمري فعلت- ذلك أولى لك و خلى سبيله- .

ثم لما باخ الحر و سكن عن شبيب- خرج من ماه نهروان في نحو من ثمانمائة رجل- فأقبل نحو المدائن و عليها المطرف بن المغيرة بن شعبة- فجاء حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان- فكتب ماذراسب و هو عظيم بابل مهروذ إلى الحجاج- يخبره خبر شبيب و قدومه إلى قناطر حذيفة- فقام الحجاج في الناس و خطبهم و قال- أيها الناس لتقاتلن عن بلادكم و فيئكم- أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع و أسمع- و أصبر على البلاء منكم- فيقاتلون عدوكم و يأكلون فيئكم يعني جند الشام- .

فقام إليه الناس من كل جانب يقولون بل نحن نقاتلهم- و نغيث الأمير ليندبنا إليهم فإنا حيث يسره- .و قام إليه زهرة بن حوية- و هو يومئذ شيخ كبير لا يستتم قائما حتى يؤخذ بيده فقال- أصلح الله الأمير- إنك إنما تبعث الناس متقطعين- فاستنفر إليهم الناس كافة- و ابعث عليهم رجلا متينا شجاعا مجربا- يرى الفرار هضما و عارا و الصبر مجدا و كرما- فقال الحجاج فأنت ذاك فاخرج- . فقال أصلح الله الأمير- إنما يصلح لهذا الموقف رجل يحمل الرمح و الدرع- و يهز السيف و يثبت على متن الفرس و أنا لا أطيق ذلك- قد ضعفت و ضعف بصرى- و لكن ابعثني مع أمير تعتمده- فأكون في عسكره و أشير عليه برأيي- .

فقال جزاك الله عن الإسلام و الطاعة خيرا- لقد نصحت و صدقت و أنا مخرج الناس كافة- ألا فسيروا أيها الناس- . فانصرف الناس يتجهزون و ينتشرون- و لا يدرون من أميرهم- . و كتب الحجاج إلى عبد الملك- أما بعد فإني أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله- أن شبيبا قد شارف المدائن و إنما يريد الكوفة- و قد عجز أهل العراق عن قتاله في مواطن كثيرة- في كلها تقتل أمراؤهم و يفل خيولهم و أجنادهم- فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إلي جندا من جند الشام- ليقاتلوا عدوهم و يأكلوا بلادهم فعل إن شاء الله- . فلما أتى عبد الملك كتابه- بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف- و بعث إليه حبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج في ألفين- و سرحهم نحوه حين أتاه الكتاب- .

و قد كان الحجاج بعث- إلى عتاب بن ورقاء الرياحي ليأتيه- و كان على خيل الكوفة مع المهلب- و دعا الحجاج أشراف أهل الكوفة- منهم زهرة بن حوية و قبيصة بن والق فقال- من ترون أن أبعث على هذا الجيش قالوا- رأيك أيها الأمير أفضل قال- إني قد بعثت إلى عتاب بن ورقاء- و هو قادم عليكم الليلة فيكون هو الذي يسير بالناس- فقال زهرة بن حوية أصلح الله الأمير رميتهم بحجرهم- لا و الله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل- .

فقال قبيصة بن والق- و إني مشير عليك أيها الأمير برأي اجتهدته- نصيحة لك و لأمير المؤمنين و لعامة المسلمين- إن الناس قد تحدثوا أن جيشا قد وصل إليك من الشام- لأن أهل الكوفة قد هزموا- و هان عليهم الفرار و العار من الهزيمة- فكأنما قلوبهم في صدور قوم آخرين- فإن رأيت أن تبعث إلى الجيش الذي- قد أمددت به من أهل الشام فليأخذوا حذرهم- و لا يثبتوا بمنزل إلا و هم يرون أنهم يبيتون فعلت- فإن فعلت فإنك إنما تحارب حولا قلبا محلالا مظعانا- إن شبيبا بينا هو في أرض إذا هو في أخرى- و لا آمن أن يأتيهم و هم غارون- فإن يهلكوا يهلك العراق كله- . فقال الحجاج لله أبوك ما أحسن ما رأيت- و ما أصح ما أشرت به- فبعث إلى الجيش الوارد عليه من الشام كتابا قرءوه- و قد نزلوا هيت و هو- أما بعد فإذا حاذيتم هيت- فدعوا طريق الفرات و الأنبار و خذوا على عين التمر- حتى تقدموا الكوفة إن شاء الله- . فأقبل القوم سراعا- و قدم عتاب بن ورقاء في الليلة التي- قال الحجاج إنه فيها قادم فأمره الحجاج- فخرج بالناس و عسكر بحمام أعين- و أقبل شبيب حتى انتهى‏إلى كلواذا فقطع منها دجلة- و أقبل حتى نزل بهرسير- و صار بينه و بين مطرف بن المغيرة بن شعبة جسر دجلة- فقطع مطرف الجسر و رأى رأيا صالحا كاد به شبيبا- حتى حبسه عن وجهه و ذلك أنه بعث إليه- أن ابعث إلي رجالا من فقهاء أصحابك و قرائهم- و أظهر له أنه يريد أن يدارسهم القرآن-

و ينظر فيما يدعون إليه فإن وجد حقا اتبعه- فبعث إليه شبيب رجالا فيهم قعنب و سويد و المحلل- و وصاهم ألا يدخلوا السفينة حتى يرجع رسوله من عند مطرف- و أرسل إلى مطرف- أن ابعث إلي من أصحابك و وجوه فرسانك بعدة أصحابي- ليكونوا رهنا في يدي حتى ترد على أصحابي- فقال مطرف لرسوله القه و قل له- كيف آمنك الآن على أصحابي إذ أبعثهم إليك- و أنت لا تأمنني على أصحابك- فأبلغه الرسول فقال قل له- قد علمت أنا لا نستحل الغدر في ديننا- و أنتم قوم غدر تستحلون الغدر و تفعلونه- فبعث إليه مطرف جماعة من وجوه أصحابه- فلما صاروا في يد شبيب سرح إليه أصحابه- فعبروا إليه في السفينة فأتوه- فمكثوا أربعة أيام يتناظرون و لم يتفقوا على شي‏ء- فلما تبين لشبيب أن مطرفا كاده و أنه غير متابع له- تعبى للمسير و جمع إليه أصحابه و قال لهم- إن هذا الثقفي قطعني عن رأيي منذ أربعة أيام- و ذلك أني هممت أن أخرج في جريدة من الخيل- حتى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام- و أرجو أن أصادف غرتهم قبل أن يحذروا- و كنت ألقاهم منقطعين عن المصر- ليس عليهم أمير كالحجاج يستندون إليه- و لا لهم مصر كالكوفة يعتصمون به- و قد جاءني عيون أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر- فهم الآن قد شارفوا الكوفة- و جاءني أيضا عيون من نحو عتاب- أنه نزل بحمام أعين بجماعة أهل الكوفة و أهل البصرة- فما أقرب ما بيننا و بينهم- فتيسروا بنا للمسير إلى عتاب- .

و كان عتاب حينئذ قد أخرج معه خمسين ألفا من المقاتلة- و هددهم الحجاج إن هربوا كعادة أهل الكوفة و توعدهم- و عرض شبيب أصحابه بالمدائن- فكانوا ألف رجل فخطبهم و قال يا معشر المسلمين- إن الله عز و جل كان ينصركم و أنتم مائة و مائتان- و اليوم فأنتم مئون و مئون- ألا و إني مصل الظهر ثم سائر بكم إن شاء الله- . فصلى الظهر ثم نادى في الناس فتخلف عنه بعضهم- . قال فروة بن لقيط فلما جاز ساباط و نزلنا معه- قص علينا و ذكرنا بأيام الله- و زهدنا في الدنيا و رغبنا في الآخرة- ثم أذن مؤذنه فصلى بنا العصر- ثم أقبل حتى أشرف على عتاب بن ورقاء- فلما رأى جيش عتاب نزل من ساعته و أمر مؤذنه- فأذن ثم تقدم فصلى بأصحابه صلاة المغرب- و خرج عتاب بالناس كلهم فعبأهم- و كان قد خندق على نفسه مذ يوم نزل- .

و جعل على ميمنته محمد بن عبد الرحمن- بن سعيد بن قيس الهمداني قال له- يا ابن أخي إنك شريف فاصبر و صابر فقال- أما أنا فو الله لأقاتلن ما ثبت معي إنسان- . و قال لقبيصة بن والق التغلبي اكفني الميسرة فقال- أنا شيخ كبير غايتي أن أثبت تحت رايتي- أ ما تراني لا أستطيع القيام إلا أن أقام- و أخي نعيم بن عليم ذو غناء- فابعثه على الميسرة فبعثه عليها- و بعث حنظلة بن الحارث الرياحي ابن عمه- و شيخ‏أهل بيته على الرجالة و بعث معه ثلاثة صفوف- صف فيه الرجالة و معهم السيوف- و صف هم أصحاب الرماح و صف فيه المرامية- . ثم سار عتاب بين الميمنة و الميسرة- يمر بأهل راية راية فيحرض من تحتها على الصبر- و من كلامه يومئذ إن أعظم الناس نصيبا من الجنة الشهداء- و ليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي- أ لا ترون عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه- لا يرى ذلك إلا قربة لهم- فهم شرار أهل الأرض و كلاب أهل النار فلم يجبه أحد- فقال أين القصاص يقصون على الناس و يحرضونهم- فلم يتكلم أحد فقال أين من يروي شعر عنترة- فيحرك الناس فلم يجبه أحد و لا رد عليه كلمة- فقال لا حول و لا قوة إلا بالله- و الله لكأني بكم و قد تفرقتم عن عتاب- و تركتموه تسفي في استه الريح- ثم أقبل حتى جلس في القلب- و معه زهرة بن حوية و عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث- .

و أقبل شبيب في ستمائة- و قد تخلف عنه من الناس أربعمائة فقال- إنه لم يتخلف عني إلا من لا أحب أن أراه معي- فبعث سويد بن سليم في مائتين إلى الميسرة- و بعث المحلل بن وائل في مائتين إلى القلب- و مضى هو في مائتين إلى الميمنة- و ذلك بين المغرب و العشاء الآخرة حين أضاء القمر- فناداهم لمن هذه الرايات قالوا رايات همدان- . فقال رايات طالما نصرت الحق و طالما نصرت الباطل- لها في كل نصيب أنا أبو المدلة اثبتوا إن شئتم- ثم حمل عليهم و هم على مسناة أمام الخندق ففضهم- و ثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق- .

فجاء شبيب فوقف عليه و قال لأصحابه- مثل هذا قوله تعالى- وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ‏ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها- فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ- . ثم حمل على الميسرة ففضها و صمد نحو القلب- و عتاب جالس على طنفسة هو و زهرة بن حوية- فغشيهم شبيب فانفض الناس عن عتاب و تركوه- فقال عتاب يا زهرة- هذا يوم كثر فيه العدد و قل فيه الغناء- لهفي على خمسمائة فارس من وجوه الناس- أ لا صابر لعدوه أ لا مواس بنفسه- فمضى الناس على وجوههم- فلما دنا منه شبيب- وثب إليه في عصابة قليلة صبرت معه- فقال له بعضهم إن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد هرب- و انصفق معه ناس كثير فقال- أما إنه قد فر قبل اليوم- و ما رأيت مثل ذلك الفتى ما يبالي ما صنع- ثم قاتلهم ساعة و هو يقول- ما رأيت كاليوم قط موطنا لم أبل بمثله- أقل ناصرا و لا أكثرها ربا خاذلا- فرآه رجل من بني تغلب من أصحاب شبيب- و كان أصاب دما في قومه و التحق بشبيب فقال- إني لأظن هذا المتكلم عتاب بن ورقاء فحمل عليه فطعنه- فوقع و قتل و وطئت الخيل زهرة بن حوية- فأخذ يذبب بسيفه و هو شيخ كبير لا يستطيع أن ينهض- فجاءه الفضل بن عامر الشيباني فقتله- و انتهى إليه شبيب فوجده صريعا فعرفه فقال- من قتل هذا قال الفضل أنا قتلته- فقال شبيب هذا زهرة بن حوية- أما و الله لئن كنت قتلت على ضلالة- لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك- و عظم فيه غناؤك- و لرب خيل للمشركين هزمتها و سرية لهم ذعرتها- و مدينة لهم فتحتها- ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرا للظالمين- .

و قتل يومئذ وجوه العرب من عسكر العراق في المعركة- و استمكن شبيب من أهل العسكر فقال- ارفعوا عنهم السيف و دعاهم إلى البيعة- فبايعه الناس عامة من ساعتهم- و احتوى على جميع ما في العسكر- و بعث إلى أخيه و هو بالمدائن- فأتاه فأقام بموضع المعركة يومين- و دخل سفيان بن الأبرد الكلبي- و حبيب بن عبد الرحمن فيمن معهما إلى الكوفة- فشدوا ظهر الحجاج و استغنى بهم عن أهل العراق- و وصلته أخبار عتاب و عسكره فصعد المنبر فقال- يا أهل الكوفة لا أعز الله من أراد بكم العز- و لا نصر من أراد منكم النصر- اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا- و الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود و النصارى- و لا يقاتلن معنا إلا من لم يشهد قتال عتاب بن ورقاء- .

و خرج شبيب يريد الكوفة فانتهى إلى سورا فقال لأصحابه- أيكم يأتيني برأس عاملها- فانتدب إليه قطين و قعنب و سويد- و رجلان من أصحاب شبيب فكانوا خمسة- و ساروا حتى انتهوا إلى دار الخراج و العمال فيها- فقالوا أجيبوا الأمير فقال الناس أي أمير- قالوا أمير قد خرج من قبل الحجاج- يريد هذا الفاسق شبيبا- فاغتر بذلك عامل سورا فخرج إليهم- فلما خالطهم شهروا السيوف- و حكموا و خبطوه بها حتى قتلوه- و قبضوا ما وجدوا في دار الخراج من مال و لحقوا بشبيب- . فلما رأى شبيب البدر قال أتيتمونا بفتنة المسلمين- هلم يا غلام الحربة فخرق بها البدر- و أمر أن تنخس الدواب التي كانت البدر عليها- فمرت رائحة و المال يتناثر من البدر- حتى وردت الصراة فقال- إن كان بقي شي‏ء فاقذفوه في الماء- .

و قال سفيان بن الأبرد للحجاج- ابعثني إلى شبيب أستقبله قبل أن يرد الكوفة- فقال لا ما أحب أن نفترق حتى ألقاه في جماعتكم- و الكوفة في ظهرنا و أقبل شبيب حتى نزل حمام أعين- و دعا الحجاج الحارث بن معاوية- بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي- فوجهه في ناس لم يكونوا شهدوا يوم عتاب- فخرج في ألف رجل حتى انتهى إلى شبيب- ليدفعه عن الكوفة- فلما رآه شبيب حمل عليه فقتله و فل أصحابه- فجاءوا حتى دخلواالكوفة- و بعث شبيب البطين في عشرة فوارس- يرتادون له منزلا على شاطئ الفرات في دار الرزق- فوجه الحجاج حوشب بن يزيد في جمع من أهل الكوفة- فأخذوا بأفواه السكك- فقاتلهم البطين فلم يقو عليهم- فبعث إلى شبيب فأمده بفوارس من أصحابه- فعقروا فرس حوشب و هزموه فنجا بنفسه- و مضى البطين إلى دار الرزق في أصحابه- و نزل شبيب بها و لم يوجه إليه الحجاج أحدا- فابتنى مسجدا في أقصى السبخة- و أقام ثلاثا لم يوجه إليه الحجاج أحدا- و لا يخرج إليه من أهل الكوفة و لا من أهل الشام أحد- و كانت امرأته غزالة نذرت- أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين- تقرأ فيهما بالبقرة و آل عمران- .

فجاء شبيب مع امرأته حتى أوفت بنذرها في المسجد- و أشير على الحجاج أن يخرج بنفسه إليه- فقال لقتيبة بن مسلم إني خارج فاخرج أنت- فارتد لي معسكرا فخرج و عاد فقال- وجدت المدى سهلا- فسر أيها الأمير على اسم الله و الطائر الميمون- فخرج الحجاج بنفسه و مر على مكان فيه كناسة و أقذار- فقال ألقوا لي هنا بساطا فقيل له إن الموضع قذر- فقال ما تدعوني إليه أقذر- الأرض تحته طيبة و السماء فوقه طيبة- .

و وقف هناك و أخرج مولى له يعرف بأبي الورد- و عليه تجفاف و أحاط به غلمان كثير- و قيل هذا الحجاج فحمل عليه شبيب فقتله- و قال إن يكن الحجاج فقد أرحت الناس منه- و دلف الحجاج نحوه حينئذ و على ميمنته مطر بن ناجية- و على ميسرته خالد بن عتاب بن ورقاء- و هو في زهاء أربعة آلاف فقيل له- أيها الأمير لا نعرف‏ شبيبا بمكانك فتنكر و أخفى مكانه- و تشبه به مولى آخر للحجاج في هيئته و زيه- فحمل عليه شبيب فضربه بالعمود فقتله- و يقال إنه قال لما سقط أخ بالخاء المعجمة- فقال شبيب قاتل الله ابن أم الحجاج- اتقى الموت بالعبيد- و ذلك أن العرب تقول عند التأوه أح بالحاء المهملة- .

ثم تشبه بالحجاج أعين صاحب حمام أعين و لبس لبسته- فحمل عليه شبيب فقتله- فقال الحجاج علي بالبغل لأركبه فأتي ببغل محجل- و قيل أيها الأمير أصلحك الله- إن الأعاجم كانت تتطير أن تركب مثل هذا البغل- في مثل هذا اليوم فقال أدنوه مني فإنه أغر محجل- و هذا يوم أغر محجل فركبه- ثم سار في الناس يمينا و شمالا ثم قال- اطرحوا لي عباءة فطرحت له فنزل فجلس عليها ثم قال- ائتوني بكرسي فأتي به فقام فجلس عليه- ثم نادى أهل الشام فقال- يا أهل الشام يا أهل السمع و الطاعة- لا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم- غضوا الأبصار و اجثوا على الركب- و استقبلوا القوم بأطراف الأسنة- فجثوا على الركب و كأنهم حرة سوداء- . و منذ هذا الوقت ركدت ريح شبيب- و أذن الله تعالى في إدبار أمره و انقضاء أيامه فأقبل- حتى إذا دنا من أهل الشام عبى أصحابه ثلاثة كراديس- كتيبة معه و كتيبة مع سويد بن سليم- و كتيبة مع المحلل بن وائل- و قال لسويد احمل عليهم في خيلك- فحمل عليهم فثبتوا له حتى إذا غشي أطراف أسنتهم- وثبوا في وجهه فقاتلهم طويلا فصبروا له ثم طاعنوه- قدما قدما حتى ألحقوه بأصحابه- .

فلما رأى شبيب صبرهم نادى يا سويد- احمل في خيلك في هذه الرايات الأخرى- لعلك تزيل أهلها فتأتي الحجاج من ورائه- و نحمل نحن عليه من أمامه- فحمل سويد على تلك الرايات و هي بين جدران الكوفة- فرمى بالحجارة من سطوح البيوت- و من أفواه السكك فانصرف و لم يظفروا- .و رماه عروة بن المغيرة بن شعبة بالسهام- و قد كان الحجاج جعله في ثلاثمائة رام من أهل الشام- ردءا له كي لا يؤتى من ورائه فصاح شبيب في أصحابه- . يا أهل الإسلام إنما شريتم لله- و من يكن شراؤه لله لم يضره ما أصابه من ألم و أذى- لله أبوكم الصبر الصبر- شدة كشداتكم الكريمة في مواطنكم المشهورة- . فشدوا شدة عظيمة- فلم يزل أهل الشام عن مراكزهم- فقال شبيب الأرض دبوا دبيبا تحت تراسكم- حتى إذا صارت أسنة أصحاب الحجاج فوقها- فأذلقوها صعدا و ادخلوا تحتها- و اضربوا سوقهم و أقدامهم و هي الهزيمة بإذن الله- فأقبلوا يدبون دبيبا تحت الحجف- صمدا صمدا نحو أصحاب الحجاج- .

فقال خالد بن عتاب بن ورقاء أيها الأمير- أنا موتور و لا أتهم في نصيحتي- فأذن لي حتى آتيهم من ورائهم- فأغير على معسكرهم و ثقلهم فقال افعل ذلك- فخرج في جمع من مواليه و شاكريته و بني عمه- حتى صار من ورائهم فالتقى بمصاد أخي شبيب فقتله- و قتل غزالة امرأة شبيب و ألقى النار في معسكرهم- و التفت شبيب و الحجاج فشاهدا النار- فأما الحجاج فكبر و كبر أصحابه- و أما شبيب فوثب هو- و كل راجل من أصحابه على خيولهم مرعوبين- فقال الحجاج لأصحابه شدوا عليهم- فقد أتاهم ما أرعبهم فشدوا عليهم فهزموهم- و تخلف شبيب في خاصة الناس حتى خرج من الجسر- و تبعه خيل الحجاج و غشيه النعاس- فجعل يخفق برأسه و الخيل تطلبه- .
قال أصغر الخارجي كنت معه ذلك اليوم- فقلت يا أمير المؤمنين التفت‏ فانظر من خلفك- فالتفت غير مكترث و جعل يخفق برأسه- قال و دنوا منا فقلت يا أمير المؤمنين- قد دنا القوم منك- فالتفت و الله ثانية غير مكترث بهم و جعل يخفق برأسه- و بعث الحجاج خيلا تركض تقول- دعوه يذهب في حرق الله فتركوه و انصرفوا عنه- .

و مضى شبيب بأصحابه حتى قطعوا جسر المدائن- فدخلوا ديرا هناك و خالد بن عتاب يقفوهم- فحصرهم في الدير فخرج شبيب إليه- فهزمه و أصحابه نحوا من فرسخين- حتى ألقى خالد نفسه في دجلة هو و أصحابه بخيولهم- فمر به شبيب فرآه في دجلة و لواؤه في يده فقال- قاتله الله فارسا و قاتل فرسه- فرس هذا أشد الناس قوة- و فرسه أقوى فرس في الأرض و انصرف- فقيل له بعد انصرافه- إن الفارس الذي رأيت هو خالد بن عتاب بن ورقاء فقال- معرق في الشجاعة لو علمت لأقحمت خلفه و لو دخل النار- . ثم دخل الحجاج الكوفة بعد هزيمة شبيب فصعد المنبر- و قال و الله ما قوتل شبيب قط قبل اليوم ولى هاربا- و ترك امرأته يكسر في استها القصب- .

ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن- فبعثه في أثره في ثلاثة آلاف من أهل الشام و قال- احذر بياته و حيثما لقيته فنازله- فإن الله تعالى قد فل حده و قصم نابه- فخرج حبيب في أثره حتى نزل الأنبار- و بعث الحجاج إلى العمال أن دسوا إلى أصحاب شبيب- من جاءنا منكم فهو آمن- فكان كل من ليست له بصيرة في دين الخوارج- ممن هزه القتال و كرهه ذلك اليوم يجي‏ء فيؤمن- و قبل ذلك كان الحجاج نادى يوم هزم شبيب- من جاءنا فهو آمن- فتفرق عن شبيب ناس كثير من أصحابه- .

و بلغ شبيبا منزل حبيب بن عبد الرحمن بالأنبار- فأقبل بأصحابه حتى دنا منه- فقال يزيد السكسكي- كنت مع أهل الشام بالأنبار ليلة جاءنا شبيب- فبيتنا فلما أمسينا جمعنا حبيب بن عبد الرحمن- فجعلنا أرباعا و جعل على كل ربع أميرا- و قال لنا ليحم كل ربع منكم جانبه- فإن قتل هذا الربع فلا يعنهم الربع الآخر- فإنه بلغني أن الخوارج منكم قريب- فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون فمقاتلون- قال فما زلنا على تعبيتنا- حتى جاءنا شبيب تلك الليلة فبيتنا- فشد على ربع منا فصابرهم طويلا- فما زالت قدم إنسان منهم- ثم تركهم و أقبل إلى ربع آخر- فقاتلهم طويلا فلم يظفر بشي‏ء- ثم طاف بنا يحمل علينا ربعا ربعا- حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل- و لصق بنا حتى قلنا لا يفارقنا- ثم ترجل فنازلنا راجلا نزالا طويلا هو و أصحابه- فسقطت و الله بيننا و بينهم الأيدي و الأرجل- و فقئت الأعين و كثرت القتلى- فقتلنا منهم نحو ثلاثين و قتلوا منا نحو مائة- و ايم الله لو كانوا أكثر من مائتي رجل لأهلكونا- ثم فارقونا و قد مللناهم و ملونا و كرهناهم و كرهونا- و لقد رأيت الرجل منا يضرب الرجل منهم بالسيف- فما يضره من الإعياء و الضعف- و لقد رأيت الرجل منا يقاتل جالسا- ينفخ بسيفه ما يستطيع أن يقوم من الإعياء و البهر- حتى ركب شبيب و قال لأصحابه الذين نزلوا معه- اركبوا و توجه بهم منصرفا عنا- . فقال فروة بن لقيط الخارجي- و كان شهد معه مواطنه كلها قال لنا ليلتئذ- و قد رأى‏بنا كآبة ظاهرة و جراحات شديدة- ما أشد هذا الذي بنا لو كنا نطلب الدنيا- و ما أيسر هذا في طاعة الله و ثوابه- فقال أصحابه صدقت يا أمير المؤمنين- .

قال فروة بن لقيط- و سمعته تلك الليلة يحدث سويد بن سليم و يقول له- لقد قتلت منهم أمس رجلين من أشجع الناس- خرجت عشية أمس طليعة لكم- فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية- يشترون منها حوائجهم فاشترى أحدهم حاجته- و خرج قبل أصحابه فخرجت معه فقال لي- أراك لم تشتر علفا فقلت إن لي رفقاء قد كفوني ذلك- ثم قلت له أين ترى عدونا هذا نزل فقال- بلغني أنه قد نزل قريبا منا- و ايم الله لوددت أني لقيت شبيبهم هذا- قلت أ فتحب ذلك قال إي و الله- قلت فخذ حذرك فأنا و الله شبيب- و انتضيت السيف فخر و الله ميتا- فقلت له ارتفع ويحك و ذهبت أنظر فإذا هو قد مات- فانصرفت راجعا فاستقبلت الآخر خارجا من القرية فقال- أين تذهب هذه الساعة التي- يرجع فيها الناس إلى معسكرهم- فلم أكلمه و مضيت فنفرت بي فرسي و ذهبت تتمطر- فإذا به في أثري حتى لحقني فعطفت عليه و قلت- ما بالك قال أظنك و الله من عدونا قلت أجل و الله- قال إذا لا تبرح حتى أقتلك أو تقتلني- فحملت عليه و حمل علي فاضطربنا بسيفينا ساعة- فو الله ما فضلته في شدة نفس و لا إقدام- إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه فقتلته- . و بلغ شبيبا أن جند الشام الذي مع حبيب- حملوا معهم حجرا و حلفوا لا يفرون حتى يفر هذا الحجر- فأراد أن يكذبهم فعمد إلى أربعة أفراس- و ربط في أذنابها ترسة
في ذنب كل فرس ترسين- ثم ندب ثمانية نفر من أصحابه- و غلاما له يقال له حيان كان شجاعا فاتكا- و أمره أن يحمل معه إداوة من ماء- ثم سار ليلا حتى أتى ناحية من عسكر أهل الشام-

فأمر أصحابه أن يكونوا في نواحي العسكر الأربع- و أن يكون مع كل رجلين فرس- ثم يلبسوها الحديد حتى تجد حره ثم يخلوها في العسكر- و واعدهم تلعة قريبة من العسكر و قال- من نجا منكم فإن موعده التلعة- فكره أصحابه الإقدام على ما أمرهم- فنزل بنفسه حتى صنع بالخيل ما أمرهم به- حتى دخلت في العسكر و دخل هو يتلوها- و يشد خلفها شدا محكما فتفرقت في نواحي العسكر- و اضطرب الناس فضرب بعضهم بعضا و ماجوا- و نادى حبيب بن عبد الرحمن ويحكم إنها مكيدة- فالزموا الأرض حتى يتبين لكم الأمر ففعلوا- و حصل شبيب بينهم فلزم الأرض معهم حتى رآهم قد سكنوا- و قد أصابته ضربة عمود أوهنته- .

فلما هدأ الناس و رجعوا إلى مراكزهم خرج في غمارهم- حتى أتى التلعة فإذا مولاه حيان فقال- أفرغ ويحك على رأسي من هذه الإداوة- فلما مد رأسه ليصب عليه من الماء هم حيان بضرب عنقه- و قال لنفسه لا أجد مكرمة لي- و لا ذكرا أرفع من هذا في هذه الخلوة- و هو أماني من الحجاج فأخذته الرعدة حين هم بما هم به- فلما أبطأ عليه قال له ويحك ما انتظارك بحلها- ناولنيها و تناول السكين من موزجه فخرقها به- ثم ناوله إياها فأفرغ عليه من الماء- فكان حيان بعد ذلك يقول- لقد هممت فأخذتني الرعدة فجبنت عنه- و ما كنت أعهد نفسي جبانا- . ثم إن الحجاج أخرج الناس إلى شبيب- و قسم فيهم أموالا عظيمة و أعطى الجرحى و كل ذي بلاء- و أمر سفيان بن الأبرد أن يسير بهم- فشق ذلك على حبيب‏ بن عبد الرحمن و قال- تبعث سفيان إلى رجل قد فللته و قتلت فرسانه- و كان شبيب قد أقام بكرمان حتى جبر- و استراش هو و أصحابه فمضى سفيان بالرجال- و استقبله شبيب بدجيل الأهواز و عليه جسر معقود- فعبر إلى سفيان فوجده قد نزل بالرجال- و جعل مهاصر بن صيفي على خيله- و بشر بن حسان الفهري على ميمنته- و عمر بن هبيرة الفزاري على ميسرته- و أقبل شبيب في ثلاثة كراديس هو في كتيبة- و سويد بن سليم في كتيبة و قعنب في كتيبة- و خلف المحلل في عسكره- فلما حمل سويد و هو في ميمنته على ميسرة سفيان- و قعنب و هو في ميسرته على ميمنة سفيان- حمل هو على سفيان ثم اضطربوا مليا- حتى رجعت الخوارج إلى مكانها الذي كانوا فيه- .

فقال يزيد السكسكي و كان من أصحاب سفيان يومئذ- كر علينا شبيب و أصحابه أكثر من ثلاثين كرة- و لا يزول من صفنا أحد- فقال لنا سفيان لا تحملوا عليهم متفرقين- و لكن لتزحف عليهم الرجال زحفا ففعلنا- و ما زلنا نطاعنهم حتى اضطررناهم إلى الجسر- فقاتلونا عليه أشد قتال يكون لقوم قط- ثم نزل شبيب و نزل معه نحو مائة رجل- فما هو إلا أن نزلوا حتى أوقعوا بنا- من الضرب و الطعن شيئا ما رأينا مثله قط و لا ظنناه يكون- فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم و لا يأمن ظفرهم- دعا الرماة فقال ارشقوهم بالنبل و ذلك عند المساء- و كان الالتقاء ذلك اليوم نصف النهار فرشقهم أصحابه- و قد كان سفيان صفهم على حدة و عليهم أمير- فلما رشقوهم شدوا عليهم- فشددنا نحن و شغلناهم عنهم- فلما رأوا ذلك ركب شبيب و أصحابه- و كروا على أصحاب النبل كرة شديدة- صرعوا منهم فيها أكثر من ثلاثين راميا- ثم عطف علينا يطاعننا بالرماح- حتى اختلط الظلام ثم انصرف عنا- فقال سفيان بن الأبرد لأصحابه‏ يا قوم دعوهم لا تتبعوهم- يا قوم دعوهم لا تتبعوهم حتى نصبحهم قال- فكففنا عنهم و ليس شي‏ء أحب إلينا من أن ينصرفوا عنا- . قال فروة بن لقيظ الخارجي- فلما انتهينا إلى الجسر قال شبيب- اعبروا معاشر المسلمين- فإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله تعالى- قال فعبرنا أمامه و تخلف في آخرنا- و أقبل يعبر الجسر و تحته حصان جموح- و بين يديه فرس أنثى ماذيانة- فنزا حصانه عليها و هو على الجسر فاضطربت الماذيانة- و زل حافر فرس شبيب عن حرف السفينة- فسقط في الماء فسمعناه يقول لما سقط- ليقضي الله أمرا كان مفعولا- و اغتمس في الماء ثم ارتفع فقال- ذلك تقدير العزيز العليم- ثم اغتمس في الماء فلم يرتفع- .

هكذا روى أكثر الناس و قال قوم- إنه كان مع شبيب رجال كثير بايعوه في الوقائع التي- كان يهزم الجيش فيها- و كانت بيعتهم إياه على غير بصيرة- و قد كان أصاب عشائرهم و ساداتهم فهم منه موتورون- فلما تخلف في أخريات الناس يومئذ- قال بعضهم لبعض هل لكم أن نقطع به الجسر- فندرك ثارنا الساعة فقالوا هذا هو الرأي- فقطعوا الجسر فمالت به السفينة- ففزع حصانه و نفر فسقط في الماء و غرق- . و الرواية الأولى أشهر- فحدث قوم من أصحاب سفيان قالوا- سمعنا صوت الخوارج يقولون غرق أمير المؤمنين- فعبرنا إلى عسكرهم فإذا هو ليس فيه صافر و لا أثر- فنزلنا فيه و طلبنا شبيبا- حتى استخرجناه من الماء و عليه الدرع- فيزعم الناس أنهم‏شقوا بطنه و أخرجوا قلبه- فكان مجتمعا صلبا كالصخرة- و أنه كان يضرب به الأرض فينبو و يثب قامة الإنسان- . و يحكى أن أم شبيب كانت لا تصدق أحدا نعاه إليها- و قد كان قيل لها مرارا إنه قد قتل فلا تقبل- فلما قيل لها إنه قد غرق بكت- فقيل لها في ذلك فقالت رأيت في المنام حين ولدته- أنه خرج من فرجي نار ملأت الآفاق ثم سقطت في ماء فخمدت- فعلمت أنه لا يهلك إلا بالغرق

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۴

Show More

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.

Back to top button
-+=