57 و من كلام له ع كلم به الخوارج- :
أَصَابَكُمْ حَاصِبٌ وَ لَا بَقِيَ مِنْكُمْ آبِرٌ- أَ بَعْدَ إِيمَانِي بِاللَّهِ وَ جِهَادِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص- أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِالْكُفْرِ- لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ مَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ- فَأُوبُوا شَرَّ مَآبٍ وَ ارْجِعُوا عَلَى أَثَرِ الْأَعْقَابِ- أَمَا إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي ذُلًّا شَامِلًا وَ سَيْفاً قَاطِعاً- وَ أَثَرَةً يَتَّخِذُهَا الظَّالِمُونَ فِيكُمْ سُنَّةً قال الرضي رحمه الله- قوله ع و لا بقي منكم آبر يروى على ثلاثة أوجه- أحدها أن يكون كما ذكرناه آبر بالراء- من قولهم رجل آبر للذي يأبر النخل أي يصلحه- . و يروى آثر بالثاء بثلاث نقط- يراد به الذي يأثر الحديث- أي يرويه و يحكيه و هو أصح الوجوه عندي- كأنه ع قال لا بقي منكم مخبر- . و يروى آبز بالزاي المعجمة و هو الواثب- و الهالك أيضا يقال له آبزالحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء- و هو صغار الحصى و يقال لها أيضا حصبة- قال لبيد
جرت عليها إذ خوت من أهلها
أذيالها كل عصوف حصبه
فأما التفسيرات التي فسر بها الرضي رحمه الله- تعالى قوله ع آبر فيمكن أن يزاد فيها- فيقال يجوز أن يريد بقوله و لا بقي منكم آبر- أي نمام يفسد ذات البين- و المئبرة النميمة و أبر فلان أي نم- و الآبر أيضا من يبغي القوم الغوائل خفية- مأخوذ من أبرت الكلب إذا أطعمته الإبرة في الخبز- و في الحديث المؤمن كالكلب المأبور – و يجوز أن يكون أصله هابر- أي من يضرب بالسيف فيقطع- و أبدلت الهاء همزة كما قالوا في آل أهل- و إن صحت الرواية الأخرى آثر بالثاء بثلاث نقط- فيمكن أن يريد به ساجي باطن خف البعير- و كانوا يسجون باطن الخف بحديدة ليقتص أثره- رجل آثر و بعير مأثور- . و قوله ع فأوبوا شر مآب أي ارجعوا شر مرجع- و الأعقاب جمع عقب بكسر القاف و هو مؤخر القدم- و هذا كله دعاء عليهم- قال لهم أولا أصابكم حاصب و هذا من دعاء العرب- قال تميم بن أبي مقبل-
فإذا خلت من أهلها و قطينها
فأصابها الحصباء و السفان
ثم قال لهم ثانيا لا بقي منكم مخبر- ثم قال لهم ثالثا ارجعوا شر مرجع- ثم قال لهم رابعا عودوا على أثر الأعقاب- و هو مأخوذ من قوله تعالى- وَ نُرَدُّعَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ- و المراد انعكاس حالهم و عودهم من العز إلى الذل- و من الهداية إلى الضلال- . و قوله ع و أثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة- فالأثرة هاهنا الاستبداد عليهم بالفيء و الغنائم- و اطراح جانبهم- و قال النبي ص للأنصار ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني
أخبار الخوارج و ذكر رجالهم و حروبهم
و اعلم أن الخوارج على أمير المؤمنين ع- كانوا أصحابه و أنصاره في الجمل و صفين قبل التحكيم- و هذه المخاطبة لهم و هذا الدعاء عليهم- و هذا الإخبار عن مستقبل حالهم و قد وقع ذلك- فإن الله تعالى سلط على الخوارج بعده الذل الشامل- و السيف القاطع و الأثرة من السلطان- و ما زالت حالهم تضمحل- حتى أفناهم الله تعالى و أفنى جمهورهم- و لقد كان لهم من سيف المهلب بن أبي صفرة- و بنيه الحتف القاضي و الموت الزؤام- . و نحن نذكر من أخبار الخوارج و حروبهم هاهنا طرفا
عروة بن حدير
فمنهم عروة بن حدير أحد بني ربيعة بن حنظلة من بني تميم- و يعرف بعروة بن أدية و أدية جدة له جاهلية- و كان له أصحاب و و أتباع و شيعة- فقتله زياد في خلافة معاوية صبرا
نجدة بن عويمر الحنفي
و منهم نجدة بن عويمر الحنفي كان من رؤسائهم- و له مقالة مفردة من مقالة الخوارج و له أتباع و أصحاب- و إليهم أشار الصلتان العبدي بقوله-
أرى أمة شهرت سيفها
و قد زيد في سوطها الأصبحي
بنجدية أو حررية
و أزرق يدعو إلى أزرقي
فملتنا أننا مسلمون
على دين صديقنا و النبي
أشاب الصغير و أفنى
الكبير مر الغداة و كر العشي
إذا ليلة أهرمت يومها
أتى بعد ذلك يوم فتي
نروح و نغدو لحاجاتنا
و حاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته
و تبقى له حاجة ما بقي
و كان نجدة يصلي بمكة بحذاء عبد الله بن الزبير في جمعة [في كل جمعة]- و عبد الله يطلب الخلافة- فيمسكان عن القتال من أجل الحرم- . و قال الراعي يخاطب عبد الملك-
إني حلفت على يمين برة
لا أكذب اليوم الخليفة قيلا
ما إن أتيت أبا خبيب وافدا
يوما أريد لبيعتي تبديلا
و لما أتيت نجيدة بن عويمر
أبغي الهدى فيزيدني تضليلا
من نعمة الرحمن لا من حيلتي
أنى أعد له علي فضولا
و استولى نجدة على اليمامة و عظم أمره- حتى ملك اليمن و الطائف و عمان و البحرين- و وادي تميم و عامر- ثم إن أصحابه نقموا عليه أحكاما أحدثها في مذهبهم- منها قوله إن المخطئ بعد الاجتهاد معذور- و إن الدين أمران معرفة الله و معرفة رسوله- و ما سوى ذلك فالناس معذورون بجهله- إلى أن تقوم عليهم الحجة- فمن استحل محرما من طريق الاجتهاد فهو معذور- حتى أن من تزوج أخته أو أمه مستحلا لذلك بجهالة- فهو معذور و مؤمن- فخلعوه و جعلوا اختيار الإمام إليه- فاختار لهم أبا فديك أحد بني قيس بن ثعلبة- فجعله رئيسهم- ثم إن أبا فديك أنفذ إلى نجدة بعد من قتله- ثم تولاه بعد قتله طوائف من أصحابه بعد أن تفرقوا عليه- و قالوا قتل مظلوما
المستورد بن سعد التميمي
و منهم المستورد بن سعد أحد بني تميم- كان ممن شهد يوم النخيلة- و نجا بنفسه فيمن نجا من سيف علي ع- ثم خرج بعد ذلك بمدة على المغيرة بن شعبة- و هو والي الكوفة لمعاوية بن أبي سفيان- في جماعة من الخوارج- فوجه المغيرة إليه معقل بن قيس الرياحي- فلما تواقفا دعاه المستورد إلى المبارزة- و قال له علام تقتل الناس بيني و بينك- فقال معقل النصف سألت فأقسم عليه أصحابه- فقال ما كنت لآبى عليه فخرج إليه فاختلفا ضربتين- خر كل واحد منهما من ضربة صاحبه قتيلا- . و كان المستورد ناسكا كثير الصلاة- و له آداب و حكم مأثارة
حوثرة الأسدي
و منهم حوثرة الأسدي خرج على معاوية في عام الجماعة في عصابة من الخوارج- فبعث إليه معاوية جيشا من أهل الكوفة- فلما نظر حوثرة إليهم قال لهم يا أعداء الله- أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه- و أنتم اليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه- فلماالتحمت الحرب قتل حوثرة- قتله رجل من طيئ و فضت جموعه
قريب بن مرة و زحاف الطائي
و منهم قريب بن مرة الأزدي و زحاف الطائي- كانا عابدين مجتهدين من أهل البصرة- فخرجا في أيام معاوية في إمارة زياد- و اختلف الناس أيهما كان الرئيس فاعترضا الناس- فلقيا شيخا ناسكا من بني ضبيعة- من ربيعة بن نزار فقتلاه- و كان يقال له رؤبة الضبعي و تنادى الناس- فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد و في يده السيف- فناداه الناس من ظهور البيوت الحرورية أنج بنفسك- فنادوه لسنا حرورية نحن الشرط فوقف فقتلوه- فبلغ أبا بلال مرداس بن أدية خبرهما- فقال قريب لا قربه الله و زحاف لا عفا الله عنه- ركباها عشواء مظلمة يريد اعتراضهما الناس- ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا- حتى مرا على بني علي بن سود من الأزد- و كانوا رماة كان فيهم مائة يجيدون الرمي- فرموهم رميا شديدا- فصاحوا يا بني علي البقيا لا رماء بيننا- فقال رجل من بني علي بن سود-
لا شيء للقوم سوى السهام
مشحوذة في غلس الظلام
فعرد عنهم الخوارج و خافوا الطلب- و اشتقوا مقبرة بني يشكر حتى نفذوا إلى مزينة- ينتظرون من يلحق بهم من مضر و غيرها- فجاءهم ثمانون و خرجت إليهم بنو طاحية من بنو سود- و قبائل من مزينة و غيرها- فاستقتلت الخوارج و حاربت حتى قتلت عن آخرها- و قتل قريب و زحاف- .
أبو بلال مرداس بن أدية
و منهم أبو بلال مرداس بن أدية- و هو أخو عروة بن حدير الذي ذكرناه أولا- خرج في أيام عبيد الله بن زياد- و أنفذ إليه ابن زياد عباس بن أخضر المازني- فقتله و قتل أصحابه و حمل رأسه إلى ابن زياد- و كان أبو بلال عابدا ناسكا شاعرا- و من قدماء أصحابنا من يدعيه- لما كان يذهب إليه من العدل و إنكار المنكر- و من قدماء الشيعة من يدعيه أيضا
نافع بن الأزرق الحنفي
و منهم نافع بن الأزرق الحنفي- و كان شجاعا مقدما في فقه الخوارج- و إليه تنسب الأزارقة- و كان يفتي بأن الدار دار كفر و أنهم جميعا في النار- و كل من فيها كافر إلا من أظهر إيمانه- و لا يحل للمؤمنين أن يجيبوا داعيا منهم إلى الصلاة- و لا أن يأكلوا من ذبائحهم و لا أن يناكحوهم- و لا يتوارث الخارجي و غيره- و هم مثل كفار العرب و عبدة الأوثان- لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف- و القعد بمنزلتهم و التقية لا تحل- لأن الله تعالى يقول إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ- كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً- و قال فيمن كان على خلافهم- يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ- فتفرق عنه جماعة من الخوارج منهم نجدة بن عامر- و احتج نجدة بقول الله تعالى- وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ- فسار نجدة و أصحابه إلى اليمامة- و أضاف نافع إلى مقالته التي قدمناها- استحلاله الغدر بأمانته لمن خالفه فكتب نجدة إليه-
أما بعد فإن عهدي بك و أنت لليتيم كالأب الرحيم- و للضعيف كالأخ البر تعاضد قوى المسلمين- و تصنع للأخرق منهم لا تأخذك في الله لومة لائم و لا ترى معونة ظالم- كذلك كنت أنت و أصحابك- أ و لا تتذكر قولك- لو لا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر رعيته- ما توليت أمر رجلين من المسلمين- فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء مرضاته- و أصبت من الحق فصه و صبرت على مره- تجرد لك الشيطان- و لم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك و من أصحابك- فاستمالك و استهواك و أغواك فغويت- و أكفرت الذين عذرهم الله تعالى في كتابه- من قعدة المسلمين و ضعفتهم- قال الله عز و جل و قوله الحق و وعده الصدق- لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى- وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ- إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ- ثم سماهم تعالى أحسن الأسماء- فقال ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ- ثم استحللت قتل الأطفال- و قد نهى رسول الله ص عن قتلهم-
و قال الله جل ثناؤه وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى- و قال سبحانه في القعدة خيرا- فقال وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً- فتفضيله المجاهدين على القاعدين- لا يدفع منزلة من هو دون المجاهدين- أ و ما سمعت قوله تعالى- لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ- فجعلهم من المؤمنين- و فضل عليهم المجاهدين بأعمالهم- ثم إنك لا تؤدي أمانة إلى من خالفك- و الله تعالى قد أمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها- فاتق الله في نفسك و اتق يوما لا يجزى فيه والد عن ولده- و لا مولود هو جاز عن والده شيئا- فإن الله بالمرصاد و حكمه العدل و قوله الفصل و السلام-
فكتب إليه نافع- أما بعد أتاني كتابك تعظني فيه- و تذكرني و تنصح لي و تزجرني- و تصف ما كنت عليه من الحق- و ما كنت أوثره من الصواب- و أنا أسأل الله أن يجعلني من القوم- الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه- . و عبت علي ما دنت به- من إكفار القعدة و قتل الأطفال- و استحلال الأمانة من المخالفين- و سأفسر لك إن شاء الله- . أما هؤلاء القعدة- فليسوا كمن ذكرت ممن كان على عهد رسول الله ص- لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين- لا يجدون إلى الهرب سبيلا- و لا إلى الاتصال بالمسلمين طريقا- و هؤلاء قد تفقهوا في الدين و قرءوا القرآن- و الطريق لهم نهج واضح- و قد عرفت ما قال الله تعالى فيمن كان مثلهم- إذ قالوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ- فقال أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها- و قال سبحانه فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ- وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- و قال وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ- فخبر بتعذيرهم و أنهم كذبوا الله و رسوله- ثم قال سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ- فانظر إلى أسمائهم و سماتهم- . و أما الأطفال فإن نوحا نبي الله كان أعلم بالله مني و منك- و قد قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً- إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ- وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً- فسماهم بالكفر و هم أطفال و قبل أن يولدوا- فكيف كان ذلك في قوم نوح و لا تقوله في قومنا- و الله تعالى يقول- أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ- و هؤلاء كمشركي العرب لا يقبل منهم جزية- و ليس بيننا و بينهم إلا السيف أو الإسلام- .
و أما استحلال أمانات من خالفنا- فإن الله تعالى أحل لنا أموالهم- كما أحل دماءهم لنا فدماؤهم حلال طلق- و أموالهم فيء للمسلمين فاتق الله و راجع نفسك- فإنه لا عذر لك إلا بالتوبة- و لن يسعك خذلاننا- و القعود عنا و ترك ما نهجناه لك من مقالتنا- و السلام على من أقر بالحق و عمل به- . و كتب إلى من بالبصرة من المحكمة- أما بعد فإن الله اصطفى لكم الدين- فلا تموتن إلا و أنتم مسلمون- إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة و الدين واحد- ففيم المقام بين أظهر الكفار ترون الظلم ليلا و نهارا- و قد ندبكم الله عز و جل إلى الجهاد-
فقال وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً- و لم يجعل لكم في التخلف عذرا في حال من الأحوال- فقال انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا- و إنما عذر الضعفاء و المرضى- و الذين لا يجدون ما ينفقون- و من كانت إقامته لعلة- ثم فضل عليهم مع ذلك المجاهدين- فقال لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ- وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- فلا تغتروا و تطمئنوا إلى الدنيا- فإنها غرارة مكارة لذتها نافدة و نعيمها بائد- حفت بالشهوات اغترارا و أظهرت حبرة و أضمرت عبرة- فليس آكل منها أكلة تسره- و لا شارب منها شربة تؤنقه إلا و دنا بها درجة إلى أجله- و تباعد بها مسافة من أمله- و إنما جعلها الله دار المتزود منها- إلى النعيم المقيم و العيش السليم- فليس يرضى بها حازم دارا و لا حكيم قرارا- فاتقوا الله و تزودوا فإن خير الزاد التقوى- و السلام على من اتبع الهدى- .
فلما أظهر نافع مقالته هذه و انفرد عن الخوارج بها- أقام في أصحابه بالأهواز يستعرض الناس و يقتل الأطفال- و يأخذ الأموال و يجبي الخراج- و فشا عماله بالسواد فارتاع لذلك أهل البصرة- و اجتمع منهم عشرة آلاف إلى الأحنف- و سألوه أن يؤمر عليهم أميرا يحميهم من الخوارج و يجاهد بهم- فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب- و هو المسمى ببة- فسأله أن يؤمر عليهم- و ببة يومئذ أمير البصرة من قبل ابن الزبير- فأمر عليهم مسلم بن عبيس بن كريز و كان دينا شجاعا- فلما خرج بهم من جسر البصرة أقبل عليهم- و قال أيها الناس إني ما خرجت لامتيار ذهب و لا فضة- و إني لأحارب قوما إن ظفرت بهم- فما وراءهم إلا السيوف و الرماح- فمن كان شأنه الجهاد فلينهض- و من أحب الحياة فليرجع- .
فرجع نفر يسير و مضى الباقون معه- فلما صاروا بدولاب خرج إليهم نافع و أصحابه- فاقتتلوا قتالا شديدا حتى تكسرت الرماح- و عقرت الخيل و كثر الجراح و القتل- و تضاربوا بالسيوف و العمد- فقتل ابن عبيس أمير أهل البصرة- و قتل نافع بن الأزرق أمير الخوارج- و ادعى قتله سلامة الباهلي- و كان نافع قد استخلف عبيد الله بن بشير- بن الماحوز السليطي اليربوعي- و استخلف ابن عبيس الربيع- بن عمرو الأجذم الغداني اليربوعي- فكان الرئيسان من بني يربوع- فاقتتلوا بعد قتل ابن عبيس و نافع- قتالا شديدا نيفا و عشرين يوما- حتى قال الربيع لأصحابه إني رأيت البارحة- كأن يدي التي أصيبت بكابل انحطت من السماء- فاستشلتني- فلما كان الغد قاتلهم إلى الليل ثم عاودهم القتال- فقتل فتدافع أهل البصرة الراية- حتى خافوا العطب إذ لم يكن لهم رئيس- ثم أجمعوا على الحجاج بن رباب الحميري فأباها- فقيل له أ لا ترى رؤساء العرب قد اختاروك من بينهم- فقال إنها مشئومة لا يأخذها أحد إلا قتل- ثم أخذها فلم يزل يقاتل القوم بدولاب- – حتى التقى بعمران بن الحارث الراسبي- و ذلك بعد أن اقتتلوا زهاء شهر- فاختلفا ضربتين فخرا ميتين- . و قام حارثة بن بدر الغداني بأمر أهل البصرة بعده- و ثبت بإزاء الخوارج يناوشهم القتال مناوشة خفيفة- و يزجي الأوقات انتظارا- لقدوم أمير من قبل ببة يلي حرب الخوارج- و هذه الحرب تسمى حرب دولاب- و هي من حروب الخوارج المشهورة- انتصف فيها الخوارج من المسلمين- و انتصف المسلمون منهم- فلم يكن فيها غالب و لا مغلوب
عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي
و منهم عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي- قام بأمر الخوارج يوم دولاب بعد قتل نافع بن الأزرق- و قام بأمر أهل البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي- ولاه عبد الله بن الزبير ذلك- و لقيه كتابه بالإمارة و هو يريد الحج- و قد صار إلى بعض الطريق فرجع فأقام بالبصرة- و ولى أخاه عثمان بن عبيد الله بن معمر محاربة الأزارقة- فخرج إليهم في اثني عشر ألفا- فلقيه أهل البصرة الذين كانوا في وجه الأزارقة- و معهم حارثة بن بدر الغداني- يقوم بأمرهم عن غير ولاية- و كان ابن الماحوز حينئذ في سوق الأهواز- فلما عبرعثمان إليهم دجيلا- نهضت إليه الخوارج- فقال عثمان لحارثه ما الخوارج إلا ما أرى- فقال حارثة حسبك بهؤلاء قال لا جرم- لا أتغدى حتى أناجزهم- فقال حارثة إن هؤلاء القوم لا يقاتلون بالتعسف- فأبق على نفسك و جندك- فقال أبيتم يا أهل العراق إلا جبنا- و أنت يا حارثة ما علمك بالحرب- أنت و الله بغير هذا أعلم يعرض له بالشراب- و كان حارثة بن بدر صاحب شراب فغضب حارثة فاعتزل- و حاربهم عثمان يومه إلى أن غربت الشمس- فأجلت الحرب عنه قتيلا و انهزم الناس- و أخذ حارثة بن بدر الراية و صاح بالناس- أنا حارثة بن بدر فثاب إليه قوم فعبر بهم دجيلا- و بلغ قتل عثمان البصرة- فقال شاعر من بني تميم-
مضى ابن عبيس صابرا غير عاجز
و أعقبنا هذا الحجازي عثمان
فأرعد من قبل اللقاء ابن معمر
و أبرق و البرق اليماني خوان
فضحت قريشا غثها و سمينها
و قيل بنو تيم بن مرة عزلان
فلو لا ابن بدر للعراقين لم يقم
بما قام فيه للعراقين إنسان
إذا قيل من حامي الحقيقة أومأت
إليه معد بالأكف و قحطان
و وصل الخبر إلى عبد الله بن الزبير بمكة- فكتب إلى عمر بن عبيد الله بن معمر بعزله- و ولى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي- المعروف بالقباع البصرة فقدمها- فكتب إليه حارثة بن بدر يسأله الولاية و المدد- فأراد توليته- فقال له رجل من بكر بن وائل- إن حارثة ليس بذلك إنما هو صاحب شراب- و كان حارثة مستهترا بالشراب معاقرا للخمر- و فيه يقول رجل من قومه-
أ لم تر أن حارثة بن بدر
يصلي و هو أكفر من حمار
أ لم تر أن للفتيان حظا
و حظك في البغايا و العقار
فكتب إليه القباع تكفى حربهم إن شاء الله- فأقام حارثة يدافعهم حتى تفرق أصحابه عنه- و بقي في خف منهم- فأقام بنهر تيري فعبرت إليه الخوارج- فهرب من تخلف معه من أصحابه- و خرج يركض حتى أتى دجيلا فجلس في سفينة- و اتبعه جماعة من أصحابه فكانوا معه فيها- و وافاه رجل من بني تميم عليه سلاحه و الخوارج وراءه- و قد توسط حارثة دجيلا- فصاح به يا حارثة ليس مثلي يضيع- فقال للملاح قرب فقرب إلى جرف و لا فرضة هناك- فطفر بسلاحه في السفينة فساخت بالقوم جميعا- و هلك حارثة- .
و روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني الكبير- أن حارثة لما عقدوا له الرئاسة و سلموا إليه الراية- أمرهم بالثبات و قال لهم إذا فتح الله عليكم- فللعرب زيادة فريضتين و للموالي زيادة فريضة- و ندب الناس- فالتقوا و ليس بأحد منهم طرق قد فشت فيهم الجراحات- و ما تطأ الخيل إلا على القتلى فبينا هم كذلك- إذ أقبل جمع من الشراة من جهة اليمامة- يقول المكثر إنهم مائتان و المقلل إنهم أربعون- فاجتمعوا و هم مريحون مع أصحابهم- فصاروا كوكبة واحدة- فلما رآهم حارثة بن بدر ركض برايته منهزما- و قال لأصحابه
كرنبوا و دولبوا
أو حيث شئتم فاذهبوا
و قال
أير الحمار فريضة لعبيدكم
و الخصيتان فريضة الأعراب
قال كرنبوا أي اطلبوا كرنبى- و هي قرية قريبة من الأهواز و دولبوا اطلبوا دولاب- و هي ضيعة بينها و بين الأهواز أربعة فراسخ- . قال فتتابع الناس على أثره منهزمين و تبعتهم الخوارج- فألقى الناس أنفسهم في الماء- فغرق منهم بدجيل الأهواز خلق كثير
الزبير بن علي السليطي و ظهور أمر المهلب
و منهم الزبير بن علي السليطي التميمي- كان على مقدمة ابن الماحوز- و كان ابن الماحوز يخاطب بالخلافة- و يخاطب الزبير بالإمارة- و وصل الزبير بعد هلاك حارثة بن بدر- و هرب أصحابه إلى البصرة فخافه الناس خوفا شديدا- و ضج أهل البصرة إلى الأحنف فأتى القباع- فقال أصلح الله الأمير- إن هذا العدو قد غلبنا على سوادنا و فيئنا- فلم يبق إلا أن يحصرنا في بلدنا حتى نموت هزالا- قال فسموا إلى رجلا يلي الحرب- فقال الأحنف لا أرى لها رجلا إلا المهلب بن أبي صفرة- فقال أ و هذا رأي جميع أهل البصرة- اجتمعوا إلي في غد لأنظر- و جاء الزبير حتى نزل على البصرة و عقد الجسر ليعبر إليها- فخرج أكثر أهل البصرة إليه- و انضم إلى الزبير جميع كور الأهواز و أهلها رغبة و رهبة- فوافاه البصريون في السفن و على الدواب- فاسودت بهم الأرض-
فقال الزبير لما رآهم أبى قومنا إلا كفرا و قطع الجسر- و أقام الخوارج بإزائهم و اجتمع الناس عند القباع- و خافوا الخوارج خوفا شديدا و كانوا ثلاث فرق- سمى قوم المهلب و سمى قوم مالك بن مسمع- و سمى قوم زياد بن عمرو بن أشرف العتكي- فاختبر القباع ما عند مالك و زياد- فوجدهما متثاقلين عن الحرب و عاد إليه من أشار بهما- و قالوا قد رجعنا عن رأينا ما نرى لها إلا المهلب- فوجه إليه القباع فأتاه فقال له يا أبا سعيد- قد ترى ما قد رهقنا من هذا العدو- و قد أجمع أهل مصرك عليك- و قال له الأحنف يا أبا سعيد أنا و الله ما آثرناك- و لكنا لم نر من يقوم مقامك- .
ثم قال القباع و أومأ إلى الأحنف- أن هذا الشيخ لم يسمك إلا إيثارا للدين و البقيا- و كل من في مصرك ماد عينه إليك- راج أن يكشف الله عنه هذه الغمة بك- فقال المهلب لا حول و لا قوة إلا بالله- إني عند نفسي لدون ما وصفتم و لست آبى ما دعوتم إليه- لكن لي شروطا أشترطها- قالوا قل قال على أن أنتخب من أحببت- قال الأحنف ذاك لك قال و لي إمرة كل بلد أغلب عليه- قالوا لك ذلك قال و لي فيء كل بلد أظفر به- قال الأحنف ليس ذاك لك و لا لنا إنما هو فيء للمسلمين- فإن سلبتهم إياه كنت عليهم كعدوهم- و لكن لك أن تعطي أصحابك- من فيء كل بلد تغلب عليه ما أحببت- و تنفق منه على محاربة عدوك- فما فضل عنكم كان للمسلمين- فقال المهلب لا حول و لا قوة إلا بالله فمن لي بذلك- قال الأحنف نحن و أميرك و جماعة أهل مصرك قال قد قبلت- فكتبوا بينهم بذلك كتابا- و وضع على يدي الصلت بن حريث بن جابر الجعفي-
و انتخب المهلب من جميع الأخماس- فبلغت نخبته اثني عشر ألفا و نظروا في بيت المال-فلم يكن إلا مائتي ألف درهم- فعجزت فبعث المهلب إلى التجار- فقال إن تجاراتكم منذ حول- قد فسدت بانقطاع مواد الأهواز و فارس عنكم- فهلموا فبايعوني و اخرجوا معي أوفكم حقوقكم- فبايعوه و تاجروه- فأخذ منهم من المال ما أصلح به عسكره- و اتخذ لأصحابه الخفاتين و الرانات المحشوة بالصوف- ثم نهض و كان أكثر أصحابه رجالة- حتى إذا صار بحذاء القوم أمر بسفن فأصلحت و أحضرت- فما ارتفع النهار حتى فرغ منها- ثم أمر الناس بالعبور- و أمر عليهم ابنه المغيرة فخرج الناس- فلما قاربوا الشط خاضت إليهم الخوارج- فحاربوهم و حاربهم المغيرة- و نضحهم بالسهام حتى تنحوا- و صار هو و أصحابه على الشط فحاربوا الخوارج فكشفوهم و شغلوهم حتى عقد المهلب الجسر و عبر- و الخوارج منهزمون- فنهى الناس عن اتباعهم- ففي ذلك يقول شاعر من الأزد-
إن العراق و أهله لم يخبروا
مثل المهلب في الحروب فسلموا
أمضى و أيمن في اللقاء نقيبة
و أقل تهليلا إذا ما أحجموا
و أبلى مع المغيرة يومئذ عطية بن عمرو العنبري- من فرسان تميم و شجعانهم- و من شعر عطية
يدعى رجال للعطاء و إنما
يدعى عطية للطعان الأجرد
و قال فيه شاعر من بني تميم-
و ما فارس إلا عطية فوقه
إذا الحرب أبدت عن نواجذها الفما
به هزم الله الأزارق بعد ما
أباحوا من المصرين حلا و محرما
فأقام المهلب أربعين ليلة يجبي الخراج بكور دجلة- و الخوارج بنهر تيرى- و الزبير بن علي منفرد بعسكره عن عسكر ابن الماحوز- فقضى المهلب التجار و أعطى أصحابه-فأسرع الناس إليه رغبة في مجاهدة العدو- و طمعا في الغنائم و التجارات- فكان فيمن أتاه محمد بن واسع الأزدي- و عبد الله بن رباح و معاوية بن قرة المزني- و كان يقول لو جاءت الديلم من هاهنا- و الحرورية من هاهنا لحاربت الحرورية- و جاءه أبو عمران الجوني- و كان يروى عن كعب- أن قتيل الحرورية يفضل قتيل غيرهم بعشرة أبواب- . ثم أتى المهلب إلى نهر تيرى- فتنحوا عنه إلى الأهواز- و أقام المهلب يجبي ما حواليه من الكور- و قد دس الجواسيس إلى عسكر الخوارج- يأتونه بأخبارهم و من في عسكرهم- و إذا حشوه ما بين قصاب و حداد و داعر- فخطب المهلب الناس و ذكر لهم ذلك- و قال أ مثل هؤلاء يغلبونكم على فيئكم- و لم يزل مقيما حتى فهمهم- و أحكم أمرهم و قوى أصحابه- و كثرت الفرسان في عسكره- و تتام أصحابه عشرين ألفا- .
ثم مضى يؤم كور الأهواز- فاستخلف أخاه المعارك بن أبي صفرة على نهر تيرى- و جعل المغيرة على مقدمته فسار حتى قاربهم- فناوشهم و ناوشوه فانكشف عن المغيرة بعض أصحابه- و ثبت المغيرة نفسه بقية يومه و ليلته يوقد النيران- ثم غاداهم فإذا القوم قد أوقدوا النيران في بقية متاعهم- و ارتحلوا عن سوق الأهواز فدخلها المغيرة- و قد جاءت أوائل خيل المهلب فأقام بسوق الأهواز- و كتب بذلك إلى الحارث القباع كتابا يقول فيه- . أما بعد فإنا مذ خرجنا نؤم العدو- في نعم من فضل الله متصلة علينا- و نقم متتابعة عليهم نقدم و يحجمون- و نحل و يرتحلون إلى أن حللنا سوق الأهواز- و الحمد لله رب العالمين الذي من عنده النصر- و هو العزيز الحكيم-فكتب إليه الحارث- هنيئا لك أخا الأزد الشرف في الدنيا و الأجر في الآخرة- إن شاء الله- .
فقال المهلب لأصحابه ما أجفى أهل الحجاز- أ ما ترونه عرف اسمي و كنيتي و اسم أبي- قالوا و كان المهلب يبث الأحراس في الأمن- كما يبثهم في الخوف و يذكي العيون في الأمصار- كما يذكيها في الصحاري و يأمر أصحابه بالتحرز- و يخوفهم البيات- و إن بعد منه العدو- و يقول احذروا أن تكادوا كما تكيدون- و لا تقولوا هزمناهم و غلبناهم و القوم خائفون وجلون- فإن الضرورة تفتح باب الحيلة- .
ثم قام فيهم خطيبا فقال أيها الناس- قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج- و أنهم إن قدروا عليكم فتنوكم في دينكم و سفكوا دماءكم- فقاتلوهم على ما قاتلهم عليه أولكم علي بن أبي طالب- لقد لقيهم الصابر المحتسب مسلم بن عبيس- و العجل المفرط عثمان بن عبيد الله- و المعصي المخالف حارثة بن بدر فقتلوا جميعا و قتلوا- فالقوهم بحد و جد فإنما هم مهنتكم و عبيدكم- و عار عليكم و نقص في أحسابكم- و أديانكم أن يغلبكم هؤلاء على فيئكم- و يطئوا حريمكم- .
ثم سار يريدهم و هم بمناذر الصغرى- فوجه عبيد الله بن بشير بن الماحوز رئيس الخوارج رجلا- يقال له واقد- مولى لآل أبي صفرة من سبي الجاهلية في خمسين رجلا- فيهم صالح بن مخراق إلى نهر تيرى- و بها المعارك بن أبي صفرة فقتلوه و صلبوه- فنمي الخبر إلى المهلب فوجه ابنه المغيرة- فدخل نهر تيرى و قد خرج واقد منها- فاستنزل عمه فدفنه و سكن الناس- و استخلف بها و رجع إلى أبيه- و قد نزل بسولاف و الخوارج بها فواقعهم- و جعل على بني تميم الحريش بن هلال-
فخرج رجل من أصحاب المهلب يقال له عبد الرحمن الإسكاف- فجعل يحض الناس و يهون أمر الخوارج- و يختال بين الصفين- فقال رجل من الخوارج لأصحابه- يا معشر المهاجرين هل لكم في قتلة فيها الجنة- فحمل جماعة منهم على الإسكاف فقاتلهم وحده فارسا- ثم كبا به فرسه فقاتلهم راجلا قائما و باركا- ثم كثرت به الجراحات فذبب بسيفه- ثم جعل يحثو في وجوههم التراب- و المهلب غير حاضر فقتل- ثم حضر المهلب فأعلم فقال للحريش و لعطية العنبري- أ سلمتما سيد أهل العراق- لم تعيناه و لم تستنقذاه حسدا له- لأنه رجل من الموالي و وبخهما- . و حمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب فقلته- فحمل عليه المهلب فطعنه فقتله- و مال الخوارج بأجمعهم على العسكر- فانهزم الناس و قتل منهم سبعون رجلا- و ثبت المهلب و ابنه المغيرة يومئذ و عرف مكانه- . و يقال حاص المهلب يومئذ حيصة- و يقول الأزد بل كان يرد المنهزمة و يحمي أدبارهم- و بنو تميم تزعم أنه فر- و قال شاعرهم
بسولاف أضعت دماء قومي
و طرت على مواشكة درور
و قال آخر من بني تميم-
تبعنا الأعور الكذاب طوعا
يزجي كل أربعة حمارا
فيا ندمى على تركي عطائي
معاينة و أطلبه ضمارا
إذا الرحمن يسر لي قفولا
فحرق في قرى سولاف نارا
قوله الأعور الكذاب يعني به المهلب- كانت عينه عارت بسهم أصابها- و سموه الكذاب لأنه كان فقيها- و كان يتأول ما ورد في الأثر- من أن كل كذب يكتب كذبا إلا ثلاثة- الكذب في الصلح بين رجلين- و كذب الرجل لامرأته بوعد- و كذب الرجل في الحرب بتوعد و تهدد-
قالوا و جاء عنه ص إنما أنت رجل فخذل عنا ما استطعت و قال إنما الحرب خدعة – فكان المهلب ربما صنع الحديث- ليشد به من أمر المسلمين ما ضعف- و يضعف به من أمر الخوارج ما اشتد- و كان حي من الأزد يقال لهم الندب- إذا رأوا المهلب رائحا إليهم قالوا راح ليكذب- و فيه يقول رجل منهم-
أنت الفتى كل الفتى
لو كنت تصدق ما تقول
فبات المهلب في ألفين فلما أصبح رجع بعض المنهزمة- فصاروا في أربعة آلاف فخطب أصحابه- فقال و الله ما بكم من قلة- و ما ذهب عنكم إلا أهل الجبن و الضعف و الطبع و الطمع- فإن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله- فسيروا إلى عدوكم على بركة الله- . فقام إليه الحريش بن هلال- فقال أنشدك الله أيها الأمير أن تقاتلهم إلا أن يقاتلوك- فإن في أصحابك جراحا و قد أثخنتهم هذه الجولة- . فقبل منه و مضى المهلب في عشرة- فأشرف على عسكر الخوارج فلم ير منهم أحدا يتحرك- فقال له الحريش ارتحل عن هذا المنزل فارتحل- فعبر دجيلا و صار إلى عاقول لا يؤتى إلا من جهة واحدة- فأقام به و أقام الناس ثلاثا مستريحين- . و في يقوم سولاف يقول ابن قيس الرقيات-
أ لا طرقت من آل مية طارقه
على أنها معشوقة الدل عاشقه
تراءت و أرض السوس بيني و بينها
و رستاق سولاف حمته الأزارقه
إذا نحن شئنا صادفتنا عصابة
حرورية فيها من الموت بارقه
أجازت عيلنا العسكرين كليهما
فباتت لنا دون اللحاف معانقه
فأقام المهلب في ذلك العاقول ثلاثة أيام ثم ارتحل- و الخوارج بسلى و سلبرى فنزل قريبا منهم- فقال ابن الماحوز لأصحابه- ما تنتظرون بعدوكم و قد هزمتموهم بالأمس- و كسرتم حدهم- فقال له واقد مولى أبي صفرة- يا أمير المؤمنين إنما تفرق عنهم أهل الضعف و الجبن- و بقي أهل النجدة و القوة- فإن أصبتهم لم يكن ظفرا هينا- لأني أراهم لا يصابون حتى يصيبوا- و إن غلبوا ذهب الدين- فقال أصحابه نافق واقد فقال ابن الماحوز لا تعجلوا على أخيكم- فإنه إنما قال هذا نظرا لكم- .
ثم وجه الزبير بن علي إلى عسكر المهلب- لينظر ما حالهم فأتاهم في مائتين فحزرهم و رجع- و أمر المهلب أصحابه بالتحارس- حتى إذا أصبح ركب إليهم في تعبئة- فالتقوا بسلى و سلبرى فتصافوا- فخرج من الخوارج مائة فارس- فركزوا رماحهم بين الصفين و اتكئوا عليها- و أخرج إليهم المهلب أعدادهم ففعلوا مثل ما فعلوا- لا يرعون إلا الصلاة- حتى إذا أمسوا رجع كل قوم إلى معسكرهم- ففعلوا هكذا ثلاثة أيام- .
ثم إن الخوارج تطاردوا لهم في اليوم الثالث- فحمل عليهم هؤلاء الفرسان فجالوا ساعة- ثم إن رجلا من الخوارج حمل على رجل فطعنه- فحمل عليه المهلب فطعنه فحمل الخوارج بأجمعهم- كما صنعوا يوم سولاف فضعضعوا الناس- و فقد المهلب و ثبت المغيرة في جمع أكثرهم أهل عمان- . ثم نجم المهلب في مائة و قد انغمس كماه في الدم- و على رأسه قلنسوة مربعة فوق المغفر- محشوة قزا و قد تمزقت- و إن حشوها ليتطاير و هو يلهث و ذلك في وقت الظهر- فلم يزل يحاربهم حتى أتى الليل- و كثر القتلى في الفريقين فلما كان الغد غاداهم- و قد كان وجه بالأمس رجلا- من طاحية بن سود بن مالك بن فهم- من الأزد من ثقاته و أصحابه يرد المنهزمين- فمر به عامر بن مسمع فرده- فقال إن الأمير أذن لي في الانصراف فبعث إلى المهلب فأعلمه- فقال دعه فلا حاجة لي في مثله من أهل الجبن و الضعف- ثم غاداهم المهلب في ثلاثة آلاف- و قد تفرق عنه أكثر الناس-
و قال لأصحابه ما بكم من قلة- أ يعجز أحدكم أن يلقي رمحه ثم يتقدم فيأخذه- ففعل ذلك رجل من كندة و اتبعه قوم- ثم قال المهلب لأصحابه أعدوا مخالي فيها حجارة- و ارموا بها في وقت الغفلة- فإنها تصد الفارس و تصرع الراجل- ففعلوا ثم أمر مناديا ينادي في أصحابه- يأمرهم بالجد و الصبر و يطمعهم في العدو- ففعل ذلك حتى مر ببني العدوية- من بني مالك بن حنظلة فنادى فيهم فضربوه- فدعا المهلب بسيدهم و هو معاوية بن عمرو- فجعل يركله برجله فقال أصلح الله الأمير- اعفني من أم كيسان و الأزد تسمى الركبة أم كيسان- ثم حمل المهلب و حملوا و اقتتلوا قتالا شديدا- فجهد الخوارج و نادى مناد منهم- ألا إن المهلب قد قتل-فركب المهلب برذونا وردا- و أقبل يركض بين الصفين- و إن إحدى يديه لفي القباء و ما يشعر لها- و هو يصيح أنا المهلب- فسكن الناس بعد أن كانوا قد ارتاعوا- و ظنوا أن أميرهم قد قتل- و كل الناس مع العصر فصاح المهلب بابنه المغيرة تقدم- ففعل و صاح بذكوان مولاه قدم رايتك ففعل-
فقال له رجل من ولده إنك تغرر بنفسك فزبره و زجره- و صاح يا بني سلمة آمركم فتعصونني- فتقدم و تقدم الناس فاجتلدوا أشد جلاد- حتى إذا كان مع المساء قتل ابن الماحوز- و انصرف الخوارج و لم يشعر المهلب بقتله- فقال لأصحابه ابغوا لي رجلا جلدا يطوف في القتلى- فأشاروا عليه برجل من جرم- و قالوا إنا لم نر قط رجلا أشد منه- فجعل يطوف و معه النيران- فجعل إذا مر بجريح من الخوارج- قال كافر و رب الكعبة فأجهز عليه- و إذا مر بجريح من المسلمين أمر بسقيه و حمله- و أقام المهلب يأمرهم بالاحتراس حتى إذا كان في نصف الليل- وجه رجلا من اليحمد في عشرة- فصاروا إلى عسكر الخوارج- فإذا هم قد تحملوا إلى أرجان- فرجع إلى المهلب فأعلمه-
فقال لهم أنا الساعة أشد خوفا احذروا البيات- . و يروى عن شعبة بن الحجاج- أن المهلب قال لأصحابه يوما- إن هؤلاء الخوارج قد يئسوا من ناحيتكم- إلا من جهة البيات- فإن يكن ذلك فاجعلوا شعاركم- حم لا ينصرون- فإن رسول الله ص كان يأمر بها- . و يروى أنه كان شعار أصحاب علي بن أبي طالب ع- . فلما أصبح القوم غدوا على القتلى- فأصابوا ابن الماحوز قتيلا- ففي ذلك يقول رجل من الخوارج-
بسلى و سلبرى مصارع فتية
كرام و عقرى من كميت و من ورد
و قال آخر
بسلى و سلبرى جماجم فتية
كرام و صرعى لم توسد خدودها
و قال رجل من موالي المهلب- لقد صرعت يومئذ بحجر واحد ثلاثة- رميت به رجلا فصرعته- ثم رميت به رجلا فأصبت به أصل أذنه فصرعته- ثم أخذت الحجر و صرعت به ثالثا- و في ذلك يقول رجل من الخوارج-
أتانا بأحجار ليقتلنا بها
و هل يقتل الأبطال ويحك بالحجر
و قال رجل من أصحاب المهلب في يوم سلى و سلبرى- و قتل ابن الماحوز-
و يوم سلى و سلبرى أحاط بهم
منا صواعق لا تبقي و لا تذر
حتى تركنا عبيد الله منجدلا
كما تجدل جذع مال منقعر
و يروى أن رجلا من الخوارج يوم سلى- حمل على رجل من أصحاب المهلب فطعنه- فلما خالطه الرمح صاح يا أمتاه- فصاح به المهلب لا كثر الله منك في المسلمين- فضحك الخارجي و قال-
أمك خير لك مني صاحبا
تسقيك محضا و تعل رائبا
و كان المغيرة بن المهلب إذا نظر إلى الرماح- قد تشاجرت في وجهه- نكس علىقربوس السرج و حمل من تحتها- فبرأها بسيفه و أثر في أصحابها- فتحوميت الميمنة من أجله- و كان أشد ما تكون الحرب استعارا أشد ما يكون تبسما- و كان المهلب يقول ما شهد معي حربا قط- إلا رأيت البشرى في وجهه- . و قال رجل من الخوارج في هذا اليوم-
فإن تك قتلى يوم سلى تتابعت
فكم غادرت أسيافنا من قماقم
غداة نكر المشرقية فيهم
بسولاف يوم المأزق المتلاحم
فكتب المهلب- إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع- . أما بعد فإنا لقينا الأزارقة المارقة بحد و جد- فكانت في الناس جولة- ثم ثاب أهل الحفاظ و الصبر بنيات صادقة- و أبدان شداد و سيوف حداد- فأعقب الله خير عاقبة- و جاوز بالنعمة مقدار الأمل- فصاروا دريئة رماحنا و ضرائب سيوفنا- و قتل الله أميرهم ابن الماحوز- و أرجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها و السلام- .
فكتب إليه القباع- قد قرأت كتابك يا أخا الأزد- فرأيتك قد وهب لك شرف الدنيا و عزها- و ذخر لك إن شاء الله ثواب الآخرة و أجرها- و رأيتك أوثق حصون المسلمين- و هادأركان المشركين و ذا الرئاسة و أخا السياسة- فاستدم الله بشكره يتمم عليكم نعمه و السلام- . و كتب إليه أهل البصرة يهنئونه و لم يكتب إليه الأحنف- و لكن قال اقرءوا عليه السلام و قولوا- إنا لك على ما فارقتك عليه- فلم يزل يقرأ الكتب و ينظر في تضاعيفها- و يلتمس كتاب الأحنف فلا يراه- فلما لم يره قال لأصحابه أ ما كتب أبو بحر- فقال له الرسول إنه حملني إليك رسالة فأبلغه- فقال هذا أحب إلي من هذه الكتب- .
و اجتمعت الخوارج بأرجان فبايعوا الزبير بن علي- و هو من بني سليط بن يربوع من رهط ابن الماحوز- فرأى فيهم انكسارا شديدا و ضعفا بينا- فقال لهم اجتمعوا فاجتمعوا- فحمد الله و أثنى عليه و صلى على محمد رسوله ص- ثم أقبل عليهم فقال إن البلاء للمؤمنين تمحيص و أجر- و هو على الكافرين عقوبة و خزي- و إن يصب منكم أمير المؤمنين- فما صار إليه خير مما خلف- و قد أصبتم منهم مسلم بن عبيس- و ربيعا الأجذم و الحجاج بن رباب و حارثة بن بدر- و أشجيتم المهلب و قتلتم أخاه المعارك- و الله يقول لإخوانكم المؤمنين- إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ- وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ- فيوم سلى كان لكم بلاء و تمحيصا- و يوم سولاف كان لهم عقوبة و نكالا- فلا تغلبن علي الشكر في حينه و الصبر في وقته- و ثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض و العاقبة للمتقين- .
ثم تحمل للمحاربة نحو المهلب فنفحهم المهلب نفحة- فرجعوا و أكمنوا للمهلب في غمض من غموض الأرض- يقرب من عسكره مائة فارس ليغتالوه- فسار المهلب يوما يطيف بعسكره و يتفقد سواده- فوقف على جبل- فقال إن من التدبير لهذه المارقة- أن تكون قد أكمنت في سفح هذا الجبل كمينا- فبعث المهلب عشرة فوارس فاطلعوا على المائة- فلما علموا بهم قطعوا القنطرة- و نجوا و انكشفت الشمس- فصاحوا يا أعداء الله- لو قامت القيامة لجددنا و نحن في جهادكم- . ثم يئس الزبير من ناحية المهلب- فضرب إلى ناحية أصبهان- ثم كر راجعا إلى أرجان و قد جمع جموعا- و كان المهلب يقول كأني بالزبير و قد جمع لكم- فلا ترهبوهم فتنخب قلوبكم- و لا تغفلوا الاحتراس فيطمعوا فيكم- فجاءوه من أرجان فلقوه مستعدا آخذا بأفواه الطرق- فحاربهم فظهر عليهم ظهورا بينا- ففي ذلك يقول رجل من بني يربوع-
سقى الله المهلب كل غيث
من الوسمي ينتحر انتحارا
فما وهن المهلب يوم جاءت
عوابس خيلهم تبغي الغوارا
و قال المهلب يومئذ- ما وقفت في مضيق من الحرب إلا رأيت أمامي رجالا- من بني الهجيم بن عمرو بن تميم يجالدون- و كان لحاهم أذناب العقاعق- و كانوا صبروا معه في غير مواطن- . و قال رجل من أصحاب المهلب من بني تميم-
ألا يا من لصب مستهام
قريح القلب قد مل المزونا
لهان على المهلب ما لقينا
إذا ما راح مسرورا بطينا
يجر السابري و نحن شعث
كأن جلودنا كسيت طحينا
و حمل يومئذ الحارث بن هلال على قيس الإكاف- و كان من أنجد فرسان الخوارج فطعنه فدق صلبه- و قال
قيس الإكاف غداة الروع يعلمني
ثبت المقام إذا لاقيت أقراني
و قد كان بعض جيش المهلب يوم سلى و سلبرى- صاروا إلى البصرة- فذكروا أن المهلب قد أصيب- فهم أهل البصرة بالنقلة إلى البادية- حتى ورد كتابه بظفره فأقام الناس- و تراجع من كان ذهب منهم- فعند ذلك قال الأحنف البصرة بصرة المهلب- و قدم رجل من كندة يعرف بابن أرقم فنعى ابن عم له- و قال إني رأيت رجلا من الخوارج- و قد مكن رمحه من صلبه- فلم ينشب أن قدم المنعي سالما فقيل له ذلك- فقال صدق ابن أرقم- لما أحسست برمحه بين كتفي صحت به البقية- فرفعه و تلا بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- و وجه المهلب بعقب هذه الوقعة رجلا من الأزد- برأس عبيد الله بن بشير بن الماحوز- إلى الحارث بن عبد الله- فلما صار بكربج دينار لقيته إخوة عبيد الله- حبيب و عبد الملك و علي بنو بشير بن الماحوز-
فقالوا ما الخبر و هو لا يعرفهم- فقال قتل الله ابن الماحوز المارق و هذا رأسه معي- فوثبوا عليه فقتلوه و صلبوه- و دفنوا رأس أخيهم عبيد الله- فلما ولي الحجاج دخل عليه علي بن بشير و كان وسيما جسيما- فقال من هذا فخبره فقتله و وهب ابنه الأزهر و ابنته لأهل الأزدي المقتول- و كانت زينب بنت بشير لهم مواصلة فوهبوهما لها- . قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل- و لم يزل المهلب يقاتل الخوارج في ولاية الحارث القباع- حتى عزل و ولي مصعب بن الزبير- فكتب إلى المهلب أن أقدم علي و استخلف ابنك المغيرة- ففعل بعد أن جمع الناس و قال لهم- إني قد استخلفت المغيرة عليكم- و هو أبو صغيركم رقة و رحمة- و ابن كبيركم طاعة و برا و تبجيلا- و أخو مثله مواساة و مناصحة- فلتحسن له طاعتكم و ليلن له جانبكم- فو الله ما أردت صوابا قط إلا سبقني إليه- .
ثم مضى إلى مصعب- فكتب مصعب إلى المغيرة بولايته- و كتب إليه أنك إن لم تكن كأبيك- فإنك كاف لما وليت- فشمر و ائتزر و جد و اجتهد- . ثم شخص المصعب إلى المزار- فقتل أحمر بن شميط ثم أتى الكوفة فقتل المختار- و قال للمهلب- أشر علي برجل أجعله بيني و بين عبد الملك- فقال له اذكر واحدا من ثلاثة- محمد بن عمير بن عطارد الدارمي- أو زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي- أو داود بن قحذم- قال أ و تكفيني أنت قال أكفيك إن شاء الله- فشخص فولاه الموصل فخرج إليها- و صار مصعب إلى البصرة لينفر إلى أخيه بمكة- فشاور الناس فيمن يستكفيه أمر الخوارج- فقال قوم ول عبد الله بن أبي بكرة- و قال قوم ول عمر بن عبيد الله بن معمر-
و قال قوم ليس لهم إلا المهلب فاردده إليهم- و بلغت المشورة الخوارج فأداروا الأمر بينهم- فقال قطري بن الفجاءة المازني- و لم يكن أمروه عليهم بعد- إن جاءكم عبد الله بن أبي بكرة- أتاكم سيد سمح كريم جواد مضيع لعسكره- و إن جاءكم عمر بن عبيد الله أتاكم فارس شجاع- بطل جاد يقاتل لدينه و لملكه- و بطبيعة لم أر مثلها لأحد فقد شهدته في وقائع- فما نودي في القوم لحرب إلا كان أول فارس- حتى يشد على قرنه و يضربه- و إن رد المهلب فهو من قد عرفتموه- إذا أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر- يمده إذا أرسلتموه و يرسله إذا مددتموه- لا يبدؤكم إلا أن تبدءوه- إلا أن يرى فرصة فينتهزها- فهو الليث المبر و الثعلب الرواغ و البلاء المقيم- .
فولى مصعب عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر ولاه فارس- و الخوارج بأرجان يومئذ- و عليهم الزبير بن علي السليطي- فشخص إليهم فقاتلهم- و ألح عليهم حتى أخرجهم منها- فألحقهم بأصبهان- فلما بلغ المهلب أن مصعبا ولى حرب الخوارج عمر بن عبيد الله- قال رماهم بفارس العرب و فتاها فجمع الخوارج له- و أعدوا و استعدوا ثم أتوا سابور- فسار إليهم حتى نزل منهم على أربعة فراسخ- فقال له مالك بن أبي حسان الأزدي- إن المهلب كان يذكي العيون- و يخاف البيات و يرتقب الغفلة- و هو على أبعد من هذه المسافة منهم- .
فقال عمر اسكت خلع الله قلبك- أ تراك تموت قبل أجلك و أقام هناك- فلما كان ذات ليلة بيته الخوارج- فخرج إليهم فحاربهم حتى أصبح- فلم يظفروا منه بشيء- فأقبل على مالك بن أبي حسان فقال كيف رأيت- فقال قد سلم الله- و لم يكونوا يطمعون في مثلها من المهلب- فقال أما إنكم لو ناصحتموني مناصحتكم المهلب- لرجوت أن أنفي هذا العدو و لكنكم تقولون- قرشي حجازي بعيد الدار خيره لغيرنا- فتقاتلون معي تعذيرا- ثم زحف إلى الخوارج من غد ذلك اليوم- فقاتلهم قتالا شديدا حتى ألجأهم إلى قنطرة- فتكاثف الناس عليها حتى سقطت- فأقام حتى أصلحها ثم عبر- و تقدم ابنه عبيد الله بن عمر- و أمه من بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب- فقاتلهم حتى قتل-
فقال قطري للخوارج لا تقاتلوا عمر اليوم- فإنه موتور قد قتلتم ابنه- و لم يعلم عمر بقتل ابنه حتى أفضى إلى القوم- و كان مع ابنه النعمان بن عباد- فصاح به عمر يا نعمان أين ابني- قال أحتسبه فقد استشهد صابرا مقبلا غير مدبر- فقال إنا لله و إنا إليه راجعون- ثم حمل على الخوارج حملة لم ير مثلها- و حمل أصحابه بحملته- فقتلوا في وجههم ذلك تسعين رجلا من الخوارج- و حمل على قطري فضربه على جبينه ففلقه- و انهزمت الخوارج و انتهبها- فلما استقروا و رأى ما نزل بهم- قال أ لم أشر عليكم بالانصراف- فجعلوه حينئذ من وجوههم حتى خرجوا من فارس- و تلقاهم في ذلك الوقت الفزر بن مهزم العبدي- فسألوه عن خبره و أرادوا قتله- فأقبل على قطري و قال إني مؤمن مهاجر- فسأله عن أقاويلهم فأجاب إليها- فخلوا عنه ففي ذلك يقول في كلمة له-
فشدوا وثاقي ثم ألجوا خصومتي
إلى قطري ذي الجبين المفلق
و حاججتهم في دينهم فحججتهم
و ما دينهم غير الهوى و التخلق
ثم رجعوا و تكانفوا و عادوا إلى ناحية أرجان- فسار إليهم عمر بن عبيد الله و كتب إلى مصعب-أما بعد فإني لقيت الأزارقة- فرزق الله عز و جل عبيد الله بن عمر الشهادة- و وهب له السعادة و رزقنا بعد عليهم الظفر- فتفرقوا شذر مذر و بلغني عنهم عودة فيممتهم- و بالله أستعين و عليه أتوكل- . فسار إليهم و معه عطية بن عمرو و مجاعة بن سعر فالتقوا- فألح عليهم عمر حتى أخرجهم و انفرد من أصحابه- فعمد إلى أربعة عشر رجلا من مذكوريهم و شجعانهم- و في يده عمود فجعل لا يضرب رجلا منهم ضربة إلا صرعه- فركض إليه قطري على فرس طمر و عمر على مهر- فاستعلاه قطري بقوة فرسه حتى كاد يصرعه فبصر به مجاعة- فأسرع إليه فصاحت الخوارج- يا أبا نعامة إن عدو الله قد رهقك- فانحط قطري على قربوسه و طعنه مجاعة- و على قطري درعان فهتكهما و أسرع السنان في رأس قطري- فكشط جلده و نجا و ارتحل القوم إلى أصفهان- فأقاموا برهة ثم رجعوا إلى الأهواز- و قد ارتحل عمر بن عبيد الله إلى إصطخر- فأمر مجاعة فجبى الخراج أسبوعا فقال له كم جبيت- قال تسعمائة ألف فقال هي لك- . و قال يزيد بن الحكم لمجاعة-
و دعاك دعوة مرهق فأجبته
عمر و قد نسي الحياة و ضاعا
فرددت عادية الكتيبة عن فتى
قد كاد يترك لحمه أوزاعا
قال ثم عزل مصعب بن الزبير- و ولى عبد الله بن الزبير العراق ابنه- حمزةبن عبد الله بن الزبير فمكث قليلا- ثم أعيد مصعب إلى العراق و الخوارج بأطراف أصبهان- و الوالي عليها عتاب بن ورقاء الرياحي- فأقام الخوارج هناك يجبون شيئا من القرى- ثم أقبلوا إلى الأهواز من ناحية فارس- فكتب مصعب إلى عمر بن عبيد الله ما أنصفتنا- أقمت بفارس تجبي الخراج- و مثل هذا العدو يجتاز بك لا تحاربه- و الله لو قاتلت ثم هزمت لكان أعذر لك- . و خرج مصعب من البصرة يريدهم- و أقبل عمر بن عبيد الله يريدهم- فتنحى الخوارج إلى السوس- ثم أتوا إلى المدائن و بسطوا في القتل- فجعلوا يقتلون النساء و الصبيان- حتى أتوا المذار فقتلوا أحمر طيئ و كان شجاعا- و كان من فرسان عبيد الله بن الحر و في ذلك يقول الشاعر-
تركتم فتى الفتيان أحمر طيئ
بساباط لم يعطف عليه خليل
ثم خرجوا عامدين إلى الكوفة فلما خالطوا سوادها- و واليها الحارث القباع تثاقل عن الخروج و كان جبانا- فذمره إبراهيم بن الأشتر و لامه الناس- فخرج متحاملا حتى أتى النخيلة ففي ذلك يقول الشاعر-
إن القباع سار سيرا نكرا
يسير يوما و يقيم عشرا
و جعل يعد الناس بالخروج و لا يخرج- و الخوارج يعيثون حتى أخذوا امرأة- فقتلوا أباها بين يديها و كانت جميلة- ثم أرادوا قتلها فقالت أ تقتلون من ينشأ في الحلية- و هو في الخصام غير مبين- فقال قائل منهم دعوها فقالوا قد فتنتك- ثم قدموها فقتلوها- .و قربوا امرأة أخرى و هم بإزاء القباع- و الجسر معقود بينهم فقطعه القباع و هو في ستة آلاف- و المرأة تستغيث به و هي تقبل و تقول علام تقتلونني- فو الله ما فسقت و لا كفرت و لا زنيت- و الناس يتفلتون إلى القتال و القباع يمنعهم- . فلما خاف أن يعصوه أمر عند ذاك بقطع الجسر- فأقام بين دبيرى و دباها خمسة أيام و الخوارج بقربه- و هو يقول للناس في كل يوم إذا لقيتم العدو غدا- فأثبتوا أقدامكم و اصبروا- فإن أول الحرب الترامي- ثم إشراع الرماح ثم السلة- فثكلت رجلا أمه فر من الزحف- . فقال بعضهم لما أكثر عليهم- أما الصفة فقد سمعناها فمتى يقع الفعل- . و قال الراجز-
إن القباع سار سيرا ملسا
بين دباها و دبيرى خمسا
و أخذ الخوارج حاجتهم و كان شأن القباع التحصن منهم- ثم انصرفوا و رجع إلى الكوفة- و ساروا من فورهم إلى أصبهان- فبعث عتاب بن ورقاء الرياحي إلى الزبير بن علي- أنا ابن عمك- و لست أراك تقصد في انصرافك من كل حرب غيري- فبعث إليه الزبير- إن أدنى الفاسقين و أبعدهم في الحق سواء- . فأقام الخوارج يغادون عتاب بن ورقاء القتال- و يراوحونه حتى طال عليهم المقام- و لم يظفروا بكبير شيء فلما كثر عليهم ذلك انصرفوا- لا يمرون بقرية بين أصبهان و الأهواز إلا استباحوها- و قتلوا من فيها و شاور المصعب الناس فيهم- فأجمع رأيهم علىالمهلب فبلغ الخوارج مشاورتهم-
فقال لهم قطري إن جاءكم عتاب بن ورقاء فهو فاتك- يطلع في أول المقنب و لا يظفر بكثير- و إن جاءكم عمر بن عبيد الله ففارس يقدم- إما عليه و إما له- و إن جاءكم المهلب فرجل لا يناجزكم حتى تناجزوه- و يأخذ منكم و لا يعطيكم- فهو البلاء الملازم و المكروه الدائم- . و عزم مصعب على توجيه المهلب- و أن يشخص هو لحرب عبد الملك- فلما أحس به الزبير خرج إلى الري- و بها يزيد بن الحارث بن رويم فحاربه ثم حصره- فلما طال عليه الحصار خرج إليه فكان الظفر للخوارج- فقتل يزيد بن الحارث بن رويم- و نادى يزيد ابنه حوشبا ففر عنه و عن أمه لطيفة- و كان علي بن أبي طالب ع دخل على الحارث بن رويم- يعود ابنه يزيد فقال عندي جارية لطيفة الخدمة أبعث بها إليك- فسماها يزيد لطيفة- فقتلت مع بعلها يزيد يومئذ و قال الشاعر-
مواقفنا في كل يوم كريهة
أسر و أشفى من مواقف حوشب
دعاه أبوه و الرماح شوارع
فلم يستجب بل راغ ترواغ ثعلب
و لو كان شهم النفس أو ذا حفيظة
رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب
و قال آخر-
نجا حليلته و أسلم شيخه
نصب الأسنة حوشب بن يزيد
قال ثم انحط الزبير على أصفهان- فحصر بها عتاب بن ورقاء سبعة أشهر- و عتاب يحاربه في بعضهن- فلما طال به الحصار قال لأصحابه ما تنتظرون- و الله ما تؤتون من قلة و إنكم لفرسان عشائركم- و لقد حاربتموهم مرارا فانتصفتم منهم- و ما بقي مع هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم- فيموت أحدكم فيدفنه أخوه- ثم يموت أخوه فلا يجد من يدفنه فقاتلوا القوم- و بكم قوة من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه- . فلما أصبح صلى بهم الصبح- ثم خرج إلى الخوارج و هم غارون- و قد نصب لواء لجارية له يقال لها ياسمين- فقال من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين- و من أراد الجهاد فليخرج معي- فخرج في ألفين و سبعمائة فارس- فلم يشعر بهم الخوارج حتى غشوهم- فقاتلوهم بجد لم تر الخوارج منهم مثله- فعقروا منهم خلقا كثيرا و قتل الزبير بن علي- و انهزمت الخوارج فلم يتبعهم عتاب- ففي ذلك يقول القائل-
و يوم بجي تلافيته
و لو لاك لاصطلم العسكر
– . و قال آخر-
خرجت من المدينة مستميتا
و لم أك في كتيبة ياسمينا
أ ليس من الفضائل أن قومي
غدوا مستلئمين مجاهدينا
قال و تزعم الرواة أنهم في أيام حصارهم كانوا يتواقفون- و يحمل بعضهم على بعض- و ربما كانت مواقفة بغير حرب- و ربما اشتدت الحرب بينهم- و كان رجل من أصحاب عتاب- يقال له شريح و يكنى أبا هريرة- إذا تحاجز القوم مع المساء- نادى بالخوارج و الزبير بن علي-
يا ابن أبي الماحوز و الأشرار
كيف ترون يا كلاب النار
شد أبي هريرة الهرار
يهركم بالليل و النهار
أ لم تروا جيا على المضمار
تمسي من الرحمن في جوار
فغاظهم ذلك فكمن له عبيدة بن هلال- فضربه بالسيف و احتمله أصحابه- و ظنت الخوارج أنه قد قتل- فكانوا إذا تواقفوا نادوهم ما فعل الهرار- فيقولون ما به من بأس حتى أبل من علته فخرج إليهم- فقال يا أعداء الله أ ترون بي بأسا فصاحوا به- قد كنا نرى أنك قد لحقت بأمك الهاوية- إلى النار الحامية
قطري بن الفجاءة المازني
و منهم قطري بن الفجاءة المازني قال أبو العباس- لما قتل الزبير بن علي أدارت الخوارج أمرها- فأرادوا تولية عبيدة بن هلال فقال- أدلكم على من هو خير لكم مني- من يطاعن في قبل و يحمي في دبر- عليكمبقطري بن الفجاءة المازني فبايعوه- و قالوا يا أمير المؤمنين امض بنا إلى فارس فقال- إن بفارس عمر بن عبيد الله بن معمر- و لكن نسير إلى الأهواز- فإن خرج مصعب من البصرة دخلناها- فأتوا الأهواز ثم ترفعوا عنها على إيذج- و كان المصعب قد عزم على الخروج إلى باجميرا- و قال لأصحابه إن قطريا لمطل علينا- و إن خرجنا عن البصرة دخلها فبعث إلى المهلب فقال- اكفنا هذا العدو فخرج إليهم المهلب- فلما أحس به قطري يمم نحو كرمان- و أقام المهلب بالأهواز ثم كر عليه قطري و قد استعد- و كانت الخوارج في حالاتهم أحسن عدة- ممن يقاتلهم بكثرة السلاح و كثرة الدواب- و حصانة الجنن فحاربهم المهلب- فدفعهم فصاروا إلى رامهرمز- و كان الحارث بن عميرة الهمداني قد صار إلى المهلب- مراغما لعتاب بن ورقاء و يقال- إنه لم يرضه عن قتله الزبير بن علي- و كان الحارث بن عميرة هو الذي قتله و خاض إليه أصحابه- ففي ذلك يقول أعشى همدان-
إن المكارم أكملت أسبابها
لابن الليوث الغر من همدان
للفارس الحامي الحقيقة معلما
زاد الرفاق و فارس الفرسان
الحارث بن عميرة الليث الذي
يحمي العراق إلى قرى نجران
ود الأزراق لو يصاب بطعنة
و يموت من فرسانهم مائتان
قال أبو العباس و خرج مصعب إلى باجميرا- ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن- و لم يأت المهلب و أصحابه- فتواقفوا يوما برامهرمز على الخندق- فناداهم الخوارج ما تقولون في مصعب قالوا إمام هدى- قالوا فما تقولون في عبد الملك قالوا ضال مضل- فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل المصعب- و إن أهل العراق قد اجتمعوا على عبد الملك- و ورد عليه كتاب عبد الملك بولايته- فلما تواقفوا ناداهم الخوارج- ما تقولون في المصعب قالوا لا نخبركم- قالوا فما تقولون في عبد الملك قالوا إمام هدى- قالوا يا أعداء الله بالأمس ضال مضل و اليوم إمام هدى- يا عبيد الدنيا عليكم لعنة الله- . و روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني الكبير- قال كان الشراة و المسلمون في حرب المهلب و قطري- يتواقفون و يتساءلون بينهم عن أمر الدين و غير ذلك- على أمان و سكون لا يهيج بعضهم بعضا- فتواقف يوما عبيدة بن هلال اليشكري- و أبو حزابة التميمي-
فقال عبيدة يا أبا حزابة إني أسألك عن أشياء- أ فتصدقني عنها في الجواب- قال نعم إن ضمنت لي مثل ذلك قال قد فعلت- قال فسل عما بدا لك قال ما تقولون في أئمتكم- قال يبيحون الدم الحرام قال ويحك- فكيف فعلهم في المال قال يحبونه من غير حله- و ينفقونه في غير وجهه- قال فكيف فعلهم في اليتيم- قال يظلمونه ماله و يمنعونه حقه و ينيكون أمه- قال ويحك يا أبا حزابة أ مثل هؤلاء تتبع- قال قد أجبتك فاسمع سؤالي و دع عتابي على رأيي-قال سل قال أي الخمر أطيب خمر السهل أم خمر الجبل- قال ويحك أ مثلي يسأل عن هذا قال- قد أوجبت على نفسك أن تجيب قال- أما إذ أبيت فإن خمر الجبل أقوى و أسكر- و خمر السهل أحسن و أسلس- قال فأي الزواني أفره أ زواني رامهرمز أم زواني أرجان- قال ويحك إن مثلي لا يسأل عن هذا- قال لا بد من الجواب أو تغدر- . قال أما إذ أبيت فزواني رامهرمز أرق أبشارا- و زواني أرجان أحسن أبدانا- قال فأي الرجلين أشعر جرير أم الفرزدق- قال عليك و عليهما لعنة الله قال لا بد أن تجيب- قال أيهما الذي يقول-
و طوى الطراد مع القياد بطونها
طي التجار بحضرموت برودا
قال جرير قال فهو أشعرهما- . قال أبو الفرج و قد كان الناس تجادلوا- في أمر جرير و الفرزدق في عسكر المهلب- حتى تواثبوا و صاروا إليه محكمين له في ذلك- فقال أ تريدون أن أحكم بين هذين الكلبين المتهارشين- فيمضغاني ما كنت لأحكم بينهما- و لكني أدلكم على من يحكم بينهما- ثم يهون عليه سبابهما- عليكم بالشراة فاسألوهم إذا تواقفتم- فلما تواقفوا سأل أبو حزابة عبيدة بن هلال عن ذلك- فأجابه بهذا الجواب- . و روى أبو الفرج أن امرأة من الخوارج- كانت مع قطري بن الفجاءة يقال لها أم حكيم- و كانت من أشجع الناس و أجملهم وجها- و أحسنهم بالدين تمسكا- و خطبهاجماعة منهم فردتهم و لم تجبهم- فأخبر من شاهدها في الحرب- أنها كانت تحمل على الناس و ترتجز فتقول-
أحمل رأسا قد سئمت حمله
و قد مللت دهنه و غسله
أ لا فتى يحمل عني ثقله
و الخوارج يفدونها بالآباء و الأمهات- فما رأينا قبلها و لا بعدها مثلها- . و روى أبو الفرج قال- كان عبيدة بن هلال إذا تكاف الناس ناداهم- ليخرج إلي بعضكم فيخرج إليه فتيان من عسكر المهلب- فيقول لهم أيما أحب إليكم- أقرأ عليكم القرآن أم أنشدكم الشعر- فيقولون له أما القرآن فقد عرفناه مثل معرفتك- و لكن تنشدنا فيقول يا فسقة- قد و الله علمت أنكم تختارون الشعر على القرآن- ثم لا يزال ينشدهم و يستنشدهم حتى يملوا و يفترقوا- . قال أبو العباس- و ولى خالد بن عبد الله بن أسيد فقدم فدخل البصرة- فأراد عزل المهلب فأشير عليه بألا يفعل- و قيل له إنما أمن أهل هذا المصر- لأن المهلب بالأهواز و عمر بن عبيد الله بفارس- فقد تنحى عمر و إن نحيت المهلب لم تأمن على البصرة- فأبى إلا عزله فقدم المهلب البصرة- و خرج خالد إلى الأهواز فاستصحبه- فلما صار بكربج دينار لقيه قطري- فمنعه حط أثقاله و حاربه ثلاثين يوما- . ثم أقام قطري بإزائه و خندق على نفسه-
فقال المهلب لخالد إن قطريا ليس بأحق بالخندق منك- فعبر دجيلا إلى شق نهر تيرى- و اتبعه قطري فصار إلى مدينة نهر تيرى- فبنى سورها و خندق عليها- فقال المهلب لخالد خندق على نفسك- فإني لا آمن البيات- فقال يا أبا سعيد الأمر أعجل من ذاك- فقال المهلب لبعض ولده إني أرى أمرا ضائعا- ثم قال لزياد بن عمرو خندق علينا- فخندق المهلب على نفسه و أمر بسفنه ففرغت- و أبى خالد أن يفرغ سفنه- فقال المهلب لفيروز حصين صر معنا- فقال يا أبا سعيد إن الحزم ما تقول- غير إني أكره أن أفارق أصحابي- قال فكن بقربنا قال أما هذه فنعم- . و قد كان عبد الملك كتب إلى بشر بن مروان يأمره- أن يمد خالدا بجيش كثيف- أميره عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ففعل- فقدم عليه عبد الرحمن- فأقام قطري يغاديهم القتال و يراوحهم أربعين يوما- فقال المهلب لمولى أبي عيينة سر إلى ذلك الناوس- فبت عليه كل ليلة فمتى أحسست خبرا للخوارج- أو حركة أو صهيل خيل فأعجل إلينا- .
فجاءه ليلة فقال قد تحرك القوم- فجلس المهلب بباب الخندق- و أعد قطري سفنا فيها حطب و أشعلها نارا- و أرسلها على سفن خالد و خرج في أدبارها حتى خالطهم- لا يمر برجل إلا قتله و لا بدابة إلا عقرها- و لا بفسطاط إلا هتكه- فأمر المهلب يزيد ابنه فخرج في مائة فارس فقاتل- و أبلي عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث يومئذ بلاء حسنا- و خرج فيروز حصين في مواليه- فلم يزل يرميهم بالنشاب هو و من معه فأثر أثرا جميلا- و صرع يزيد بن المهلب يومئذ- و صرع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث- فحامى عنهما أصحابهما حتى ركبا- و سقط فيروز حصين في الخندق- فأخذ بيده رجل من الأزد فاستنقذه- فوهب له فيروز عشرة آلاف- و أصبح عسكر خالد كأنه حرة سوداء- فجعل لا يرى إلا قتيلا أو جريحا- فقال للمهلب يا أبا سعيد كدنا نفتضح- فقال خندق على نفسك فإن لم تفعل عادوا إليك- فقال اكفني أمر الخندق- فجمع له الأحماس فلم يبق شريف إلا عمل فيه- فصاح بهم الخوارج و الله لو لا هذا الساحر المزوني- لكان الله قد دمر عليكم- و كانت الخوارج تسمى المهلب الساحر- لأنهم كانوا يدبرون الأمر- فيجدون المهلب قد سبق إلى نقض تدبيرهم- . و قال أعشى همدان لابن الأشعث- يذكره بلاء القحطانية عنده في كلمة طويلة-
و يوم أهوازك لا تنسه
ليس الثنا و الذكر بالبائد
ثم مضى قطري إلى كرمان و انصرف خالد إلى البصرة- و أقام قطري بكرمان شهرا ثم عمد لفارس- فخرج خالد إلى الأهواز و ندب الناس للرحيل- فجعلوا يطلبون المهلب- فقال خالد ذهب المهلب بحظ هذا المصر- إني قد وليت أخي قتال الأزارقة- . فولى أخاه عبد العزيز- و استخلف المهلب على الأهواز في ثلاثمائة- و مضى عبد العزيز و الخوارج بدرابجرد- و هو في ثلاثين ألفا فجعل عبد العزيز يقول في طريقه- يزعم أهل البصرة أن هذا الأمر لا يتم إلا بالمهلب سيعلمون- . قال صقعب بن يزيد فلما خرج عبد العزيز عن الأهواز- جاءني كردوس حاجب المهلب فدعاني- فجئت إلى المهلب و هو في سطح و عليه ثياب هروية-
فقال يا صقعب أنا ضائع كأني أنظر إلى هزيمة عبد العزيز- و أخشى أن توافيني الأزارقة و لا جند معي- فابعث رجلا من قبلك يأتيني بخبرهم سابقا إلي به- فوجهت رجلا من قبلي يقال له عمران بن فلان- و قلت له اصحب عسكر عبد العزيز- و اكتب إلي بخبر يوم فيوم- فجعلت أورده على المهلب- فلما قاربهم عبد العزيز وقف وقفة- فقال له الناس هذا منزل- فينبغي أن تنزل فيه أيها الأمير- حتى نطمئن ثم نأخذ أهبتنا- فقال كلا الأمر قريب فنزل الناس عن غير أمره- فلم يستتم النزول- حتى ورد عليه سعد الطلائع في خمسمائة فارس- كأنهم خيط ممدود- فناهضهم عبد العزيز فواقفوه ساعة- ثم انهزموا عنه مكيدة و اتبعهم-
فقال له الناس لا تتبعهم فإنا على غير تعبية فأبى- فلم يزل في آثارهم حتى اقتحموا عقبة- فاقتحمها وراءهم و الناس ينهونه و يأبى- و كان قد جعل على بني تميم عبس بن طلق الصريمي- الملقب عبس الطعان- و على بكر بن وائل مقاتل بن مسمع- و على شرطته رجلا من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار- فنزلوا عن العقبة و نزل خلفهم- و كان لهم في بطن العقبة كمين- فلما صاروا من ورائها خرج عليهم الكمين- و عطف سعد الطلائع فترجل عبس بن طلق- فقتل و قتل مقاتل بن مسمع- و قتل الضبيعي صاحب شرطة عبد العزيز- و انحاز عبد العزيز و اتبعهم الخوارج فرسخين- يقتلونهم كيف شاءوا- و كان عبد العزيز قد أخرج معه أم حفص- بنت المنذر بن الجارود امرأته- فسبوا النساء يومئذ و أخذوا أسارى لا تحصى- فقذفوهم في غار بعد أن شدوهم وثاقا- ثم سدوا عليهم بابه حتى ماتوا فيه- .
و قال بعض من حضر ذلك اليوم- رأيت عبد العزيز- و إن ثلاثين رجلا ليضربونه بسيوفهم- فما تحيك في جنبه- و نودي على السبي يومئذ- فغولي بأم حفص فبلغ بها رجل سبعين ألفا- و كان ذلك الرجل من مجوس كانوا أسلموا- و لحقوا بالخوارج- ففرضوا لكل رجل منهم خمسمائة- فكاد ذلك الرجل يأخذ أم حفص- فشق ذلك على قطري و قال- ما ينبغي لرجل مسلم أن يكون عنده سبعون ألفا- إن هذه لفتنة- فوثب عليها أبو الحديد العبدي فقتلها- فأتي به قطري- فقال مهيم يا أبا الحديد- فقال يا أمير المؤمنين- رأيت المؤمنين تزايدوا في هذه المشركة- فخشيت عليهم الفتنة- فقال قطري أحسنت- فقال رجل من الخوارج-
كفانا فتنة عظمت و جلت
بحمد الله سيف أبي الحديد
إهاب المسلمون بها و قالوا
على فرط الهوى هل من مزيد
فزاد أبو الحديد بنصل سيف
رقيق الحد فعل فتى رشيد
و كان العلاء بن مطرف السعدي- ابن عم عمرو القنا- و كان يحب أن يلقاه في صدر مبارزة- فلحقه عمرو القنا يومئذ و هو منهزم- فضحك منه و قال متمثلا-
تمناني ليلقاني لقيط
أعام لك ابن صعصعة بن سعد
ثم صاح به أنج يا أبا المصدي- و كان العلاء بن مطرف قد حمل معه امرأتين-إحداهما من بني ضبة يقال لها أم جميل- و الأخرى بنت عمه- يقال لها فلانة بنت عقيل فطلق الضبية- و حملها أولا و تخلص بابنة عمه- فقال في ذلك-
أ لست كريما إذ أقول لفتيتي
قفوا فاحملوها قبل بنت عقيل
و لو لم يكن عودي نضارا لأصبحت
تجر على المتنين أم جميل
قال الصقعب بن يزيد- و بعثني المهلب لآتيه بالخبر- فصرت إلى قنطرة أربك- على فرس اشتريته بثلاثة آلاف درهم- فلم أحس خبرا- فسرت مهجرا إلى أن أمسيت- فلما أمسينا و أظلمنا- سمعت كلام رجل عرفته من الجهاضم- فقلت ما وراءك قال الشر- قلت فأين عبد العزيز قال أمامك- فلما كان آخر الليل- إذا أنا بزهاء خمسين فارسا معهم لواء- فقلت لواء من هذا قالوا لواء عبد العزيز- فتقدمت إليه فسلمت عليه- و قلت أصلح الله الأمير- لا يكبرن عليك ما كان- فإنك كنت في شر جند و أخبثه- قال لي أ و كنت معنا قلت لا- و لكن كأني شاهد أمرك- ثم أقبلت إلى المهلب و تركته- فقال لي ما وراءك- قلت ما يسرك هزم الرجل و فل جيشه- فقال ويحك- و ما يسرني من هزيمة رجل من قريش- و فل جيش من المسلمين- قلت قد كان ذلك ساءك أو سرك- فوجه رجلا إلى خالد يخبره بسلامة أخيه- قال الرجل فلما خبرت خالدا- قال كذبت و لؤمت- و دخل رجل من قريش فكذبني- فقال لي خالد- و الله لقد هممت أن أضرب عنقك- فقلت أصلح الله الأمير- إن كنت كاذبا فاقتلني- و إن كنت صادقا فأعطني مطرف هذا المتكلم- فقال خالد لبئس ما أخطرت به دمك- فما برحت حتى دخل عليه بعض الفل- و قدم عبد العزيز سوق الأهواز- فأكرمه المهلب و كساه- و قدم معه على خالد- و استخلف المهلب ابنه حبيبا- و قال له تجسس الأخبار- فإن أحسست بخيل الأزارقة قريبا منك- فانصرف إلى البصرة على نهر تيرى- فلما أحس حبيب بهم- دخل البصرة و أعلم خالدا بدخوله- فغضب و خاف حبيب منه- فاستتر في بني عامر بن صعصعة- و تزوج هناك في استتاره الهلالية- و هي أم ابنه عباد بن حبيب- و قال الشاعر لخالد يفيل رأيه-
بعثت غلاما من قريش فروقة
و تترك ذا الرأي الأصيل المهلبا
أبى الذم و اختار الوفاء و أحكمت
قواه و قد ساس الأمور و جربا
و قال الحارث بن خالد المخزومي-
فر عبد العزيز إذ راء عيسى
و ابن داود نازلا قطريا
عاهد الله إن نجا ملمنايا
ليعودن بعدها حرميا
يسكن الخل و الصفاح فغورينا
مرارا و مرة نجديا
حيث لا يشهد القتال و لا
يسمع يوما لكر خيل دويا
و كتب خالد إلى عبد الملك بعذر عبد العزيز- و قال للمهلب- ما ترى أمير المؤمنين صانعا بي- قال يعزلك قال أ تراه قاطعا رحمي- قال نعم قد أتته هزيمة أمية أخيك- ففعل يعني هرب أمية من سجستان- فكتب عبد الملك إلى خالد-أما بعد فإني كنت حددت لك حدا في أمر المهلب- فلما ملكت أمرك نبذت طاعتي وراءك- و استبددت برأيك- فوليت المهلب الجباية و وليت أخاك حرب الأزارقة- فقبح الله هذا رأيا- أ تبعث غلاما غرا لم يجرب الأمور و الحروب للحرب- و تترك سيدا شجاعا مدبرا حازما- قد مارس الحروب ففلج فشغلته بالجباية- أما لو كافأتك على قدر ذنبك- لأتاك من- نكيري ما لا بقية لك معه- و لكن تذكرت رحمك فكفتني عنك- و قد جعلت عقوبتك عزلك و السلام- قال و ولى بشر بن مروان الإمارة و هو بالكوفة- و كتب إليه- أما بعد فإنك أخو أمير المؤمنين- يجمعك و إياه مروان بن الحكم- و إن خالدا لا مجتمع له مع أمير المؤمنين دون أمية- فانظر المهلب بي أبي صفرة- فوله حرب الأزارقة- فإنه سيد بطل مجرب- و امدده من أهل الكوفة بثمانية آلاف رجل و السلام- فشق على بشر ما أمره به في المهلب- و قال و الله لأقتلنه فقال له موسى بن نصير- أيها الأمير إن للمهلب حفاظا و وفاء و بلاء- .
و خرج بشر بن مروان يريد البصرة- فكتب موسى بن نصير و عكرمة بن ربعي- إلى المهلب أن يتلقاه لقاء لا يعرفه به- فتلقاه المهلب على بغل- و سلم عليه في غمار الناس- فلما جلس بشر مجلسه قال ما فعل أميركم المهلب- قالوا قد تلقاك أيها الأمير و هو شاك- فهم بشر أن يولي حرب الأزارقة- عمر بن عبيد الله بن معمر- و شد عزمه أسماءبن خارجة- و قال له إنما ولاك أمير المؤمنين لترى رأيك- فقال له عكرمة بن ربعي- اكتب إلى أمير المؤمنين فأعلمه علة المهلب- فكتب إليه بذلك- و أن بالبصرة من يغني غناءه- و وجه بالكتاب مع وفد أوفدهم إليه- رئيسهم عبد الله بن حكيم المجاشعي- فلما قرأ عبد الملك الكتاب خلا بعبد الله- فقال له إن لك دينا و رأيا و حزما- فمن لقتال هؤلاء الأزارقة- قال المهلب قال إنه عليل- قال ليست علته بمانعة-
فقال عبد الملك- لقد أراد بشر أن يفعل ما فعل خالد- فكتب إليه يعزم عليه أن يولي المهلب الحرب- فوجه إليه فقال أنا عليل- و لا يمكنني الاختلاف فأمر بشر بحمل الدواوين إليه- فجعل ينتخب فعزم عليه بشر بالخروج- فاقتطع أكثر نخبته- ثم عزم عليه ألا يقيم بعد ثالثة- و قد أخذت الخوارج الأهواز- و خلفوها وراء ظهورهم و صاروا بالفرات- فخرج المهلب حتى صار إلى شهار طاق- فأتاه شيخ من بني تميم- فقال أصلح الله الأمير- إن سني ما ترى فهبني لعيالي- فقال على أن تقول للأمير إذا خطب فحثكم على الجهاد- كيف تحثنا على الجهاد- و أنت تحبس عنه أشرافنا- و أهل النجدة منا- ففعل الشيخ ذلك فقال له بشر- و ما أنت و ذاك- ثم أعطى المهلب رجلا ألف درهم- على أن يأتي بشرا فيقول له- أيها الأمير أعن المهلب بالشرطة و المقاتلة- ففعل الرجل ذلك- فقال له بشر و ما أنت و ذاك-
فقال نصيحة حضرتني للأمير و المسلمين- و لا أعود إلى مثلها- فأمده بشر بالشرطة و المقاتلة- و كتب إلى خليفته على الكوفة- أن يعقد لعبد الرحمن بن مخنف على ثمانية آلاف- من كل ربع ألفين و يوجه بهم مددا للمهلب-فلما أتاه الكتاب- بعث إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي يعقد له- و اختار من كل ربع ألفين- فكان على ربع أهل المدينة- بشر بن جرير بن عبد الله البجلي- و على ربع تميم و همدان- محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني- و على ربع كندة- محمد بن إسحاق بن الأشعث بن قيس الكندي- و على ربع مذحج- و أسد زحر بن قيس المذحجي- فقدموا على بشر بن مروان- فخلا بعبد الرحمن بن مخنف- و قال له قد عرفت رأيي فيك و ثقتي بك- فكن عند ظني بك- و انظر إلى هذا المزوني- فخالفه في أمره و أفسد عليه رأيه- .
فخرج عبد الرحمن و هو يقول- ما أعجب ما طلب مني هذا الغلام- يأمرني أن أصغر شأن شيخ من مشايخ أهلي- و سيد من ساداتهم فلحق بالمهلب- . فلما أحس الأزارقة بدنو المهلب منهم- انكشفوا عن الفرات- فأتبعهم المهلب إلى سوق الأهواز فنفاهم عنها- ثم اتبعهم إلى رامهرمز فهزمهم عنها فدخلوا فارس- و أبلى يزيد ابنه في وقائعه هذه بلاء شديدا- تقدم فيه و هو ابن إحدى و عشرين سنة- . فلما صار القوم إلى فارس- وجه إليهم ابنه المغيرة- فقال له عبد الرحمن بن صالح أيها الأمير- إنه ليس لك برأي قتل هذه الأكلب- و لئن و الله قتلتهم لتقعدن في بيتك- و لكن طاولهم و كل بهم- فقال ليس هذا من الوفاء- فلم يلبث برامهرمز إلا شهرا- حتى أتاه موت بشر بن مروان- .
فاضطرب الجند على ابن مخنف- فوجه إلى إسحاق بن الأشعث و ابن زحر- فاستحلفهما ألا يبرحا فحلفا له و لم يفيا- و جعل الجند من أهل الكوفة يتسللون- حتى اجتمعوا بسوق الأهواز- و أراد أهل البصرة الانسلال من المهلب- فخطبهم فقال إنكم لستم كأهل الكوفة- إنما تذبون عن مصركم و أموالكم و حرمكم- . فأقام منهم قوم و تسلل منهم قوم كثير- .
و كان خالد بن عبد الله خليفة بشر بن مروان- فوجه مولى له بكتاب منه إلى من بالأهواز- يحلف بالله مجتهدا- لئن لم يرجعوا إلى مراكزهم- و انصرفوا عصاة لا يظفر بأحد إلا قتله- فجاءهم مولاه فجعل يقرأ عليهم الكتاب- و لا يرى في وجوههم قبولا- فقال إني أرى وجوها ما القبول من شأنها- فقال له ابن زحر أيها العبد- اقرأ ما في الكتاب و انصرف إلى صاحبك- فإنك لا تدري ما في أنفسنا- و جعلوا يستحثونه بقراءته ثم قصدوا قصد الكوفة- فنزلوا النخيلة- و كتبوا إلى خليفة بشر- يسألونه أن يأذن لهم في دخول الكوفة فأبى فدخلوها بغير إذن- .
فلم يزل المهلب و من معه من قواده و ابن مخنف- في عدد قليل فلم يلبثوا أن ولي الحجاج العراق- . فدخل الكوفة قبل البصرة- و ذلك في سنة خمس و سبعين- فخطبهم الخطبة المشهورة و تهددهم- ثم نزل فقال لوجوه أهلها- ما كانت الولاة تفعل بالعصاة- قالوا كانت تضرب و تحبس فقال- و لكن ليس لهم عندي إلا السيف- إن المسلمين لو لم يغزوا المشركين لغزاهم المشركون- و لو ساغت المعصية لأهلها- ما قوتل عدو و لا جبي فيء و لا عز دين- . ثم جلس لتوجيه الناس- فقال قد أجلتكم ثلاثا- و أقسم بالله لا يتخلف أحد- من أصحاب ابن مخنف بعدها إلا قتلته- ثم قال لصاحب حرسه و لصاحب شرطته- إذا مضت ثلاثة أيام فاشحذا سيوفكما- فجاءه عمير بن ضابئ البرجمي بابنه- فقال أصلح الله الأمير- إن هذا أنفع لكم مني- و هو أشد بني تميم أبدانا- و أجمعهم سلاحا و أربطهم جأشا- و أنا شيخ كبير عليل- و استشهد جلساءه- فقال له الحجاج إن عذرك لواضح و إن ضعفك لبين- و لكني أكره أن يجترئ بك الناس علي- و بعد فأنت ابن ضابئ صاحب عثمان- و أمر به فقتل فاحتمل الناس- و إن أحدهم ليتبع بزاده و سلاحه- ففي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي-
أقول لعبد الله يوم لقيته
أرى الأمر أمسى منصبا متشعبا
تجهز فإما أن تزور ابن ضابئ
عميرا و إما أن تزور المهلبا
هما خطتا خسف نجاؤك منهما
ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
فما إن أرى الحجاج يغمد سيفه
مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا
فأضحى و لو كانت خراسان دونه
رآها مكان السوق أو هي أقربا
و هرب سوار بن المضرب السعدي من الحجاج و قال-
أ قاتلي الحجاج إن لم أزر له
دراب و أترك عند هند فؤاديا
في قصيدة مشهورة له- . فخرج الناس عن الكوفة- و أتى الحجاج البصرة- فكان أشد عليهم إلحاحا- و قد كان أتاهم خبره بالكوفة- فتحمل الناس قبل قدومه- و أتاه رجل من بني يشكر و كان شيخا أعور- يجعل على عينه العوراء صوفة- فكان يلقب ذا الكرسفة فقال-أصلح الله الأمير إن بي فتقا- و قد عذرني بشر بن مروان و قد رددت العطاء- فقال إنك عندي لصادق- ثم أمر به فضربت عنقه- ففي ذلك يقول كعب الأشقري أو الفرزدق-
لقد ضرب الحجاج بالمصر ضربة
تقرقر منها بطن كل عريف
و يروى عن أبي البئر- قال إنا لنتغدى معه يوما- إذ جاءه رجل من بني سليم برجل يقوده- فقال أصلح الله الأمير إن هذا عاص- فقال له الرجل أنشدك الله أيها الأمير في دمي- فو الله ما قبضت ديوانا قط- و لا شهدت عسكرا قط- و إني لحائك أخذت من تحت الحف- فقال اضربوا عنقه فلما أحس بالسيف سجد- فلحقه السيف و هو ساجد- فأمسكنا عن الأكل فأقبل علينا- و قال ما لي أراكم قد صفرت أيديكم- و اصفرت وجوهكم- و حد نظركم من قتل رجل واحد- ألا إن العاصي يجمع خلالا- يخل بمركزه و يعصي أميره و يغر المسلمين- و هو أجير لهم و إنما يأخذ الأجرة لما يعمل- و الوالي مخير فيه إن شاء قتل و إن شاء عفا- .
ثم كتب إلى المهلب- أما بعد فإن بشرا استكره نفسه عليك- و أراك غناه عنك- و أنا أريك حاجتي إليك- فأرني الجد في قتال عدوك- و من خفته على المعصية ممن قبلك فاقتله-فإني قاتل من قبلي- و من كان عندي ممن هرب عنك فأعلمني مكانه- فإني أرى أن آخذ السمي بالسمي و الولي بالولي- . فكتب إليه المهلب- ليس قبلي إلا مطيع- و إن الناس إذا خافوا العقوبة كبروا الذنب- و إذا أمنوا العقوبة صغروا الذنب- و إذا يئسوا من العفو أكفرهم ذلك- فهب لي هؤلاء الذين سميتهم عصاة- فإنهم فرسان أبطال- أرجو أن يقتل الله بهم العدو و نادم على ذنبه- . فلما رأى المهلب كثرة الناس عنده- قال اليوم قوتل هذا العدو- . و لما رأى ذلك قطري قال لأصحابه- انهضوا بنا نريد السردن فنتحصن فيها- فقال عبيدة بن هلال أو تأتي سابور- فتأخذ منها ما نريد و تصير إلى كرمان- فأتوا سابور- و خرج المهلب في آثارهم فأتى أرجان- و خاف أن يكونوا قد تحصنوا بالسردن و ليست بمدينة- و لكنها جبال محدقة منيعة فلم يصب بها أحدا- فخرج فعسكر بكازرون و استعدوا لقتاله فخندق على نفسه- و وجه إلى عبد الرحمن بن مخنف خندق على نفسك- فوجه إليه خنادقنا سيوفنا- فوجه المهلب إليه إني لا آمن عليك البيات- فقال ابنه جعفر- ذاك أهون علينا من ضرطة جمل- فأقبل المهلب على ابنه المغيرة- فقال لم يصيبوا الرأي و لم يأخذوا بالوثيقة- .
فلما أصبح القوم عاودوه الحرب- فبعث إلى ابن مخنف يستمده- فأمده بجماعة جعل عليهم ابنه جعفرا- فجاءوا و عليهم أقبية بيض جدد- فأبلوا يومئذ حتى عرف مكانهم المهلب- و أبلى بنوه يومئذ كبلاء الكوفيين أو أشد- . ثم أتى رئيس من الخوارج- يقال له صالح بن مخراق- و هو ينتخب قوما من جلة العسكر حتى بلغ أربعمائة- فقال لابنه المغيرة- ما أراه يعد هؤلاء إلا للبيات- . و انكشفت الخوارج و الأمر للمهلب عليهم- و قد كثر فيهم الجراح و القتل- و قد كان الحجاج يتفقد العصاة و يوجه الرجال- و كان يحبسهم نهارا و يفتح الحبس ليلا- فيتسلل الرجال إلى ناحية المهلب- و كان الحجاج لا يعلم فإذا رأى إسراعهم تمثل-
إن لها لسائقا عشنزرا
إذا وثبن وثبة تغشمرا
ثم كتب الحجاج إلى المهلب يستحثه- أما بعد فإنه قد بلغني- أنك قد أقبلت على جباية الخراج- و تركت قتال العدو- و إني وليتك و أنا أرى مكان عبد الله بن حكيم المجاشعي- و عباد بن الحصين الحبطي- و اخترتك و أنت من أهل عمان ثم رجل من الأزد- فالقهم يوم كذا في مكان كذا- و إلا أشرعت إليك صدر الرمح- .
فشاور المهلب بنيه- فقالوا أيها الأمير- لا تغلظ عليه في الجواب- . فكتب إليه- ورد إلي كتابك- تزعم أني أقبلت على جباية الخراج- و تركت قتال العدو و من عجز عن جباية الخراج- فهو عن قتال العدو أعجز- و زعمت أنك وليتني- و أنت ترى مكان عبد الله بن حكيم و عباد بن الحصين- و لو وليتهما لكانا مستحقين لذلك- لفضلهما و غنائهما و بطشهما- و زعمت أنك اخترتني و أنا رجل من الأزد- و لعمري إن شرا من الأزد لقبيلة تنازعتها ثلاث قبائل- لم تستقر في واحدة منهن- و زعمت أني إن لم ألقهم يوم كذا في مكان كذا- أشرعت إلى صدر الرمح- لو فعلت لقلبت لك ظهر المجن و السلام- .
قال ثم كانت الوقعة بينه و بين الخوارج عقيب هذا الكتاب- . فلما انصرف الخوارج تلك الليلة- قال لابنه المغيرة إني أخاف البيات على بني تميم- فانهض إليهم فكن فيهم فأتاهم المغيرة- فقال له الحريش بن هلال يا أبا حاتم- أ يخاف الأمير أن يؤتى من ناحيتنا- قل له فليبت آمنا فإنا كافوه ما قبلنا إن شاء الله- . فلما انتصف الليل و قد رجع المغيرة إلى أبيه- سرى صالح بن مخراق في القوم الذين كان أعدهم للبيات- إلى ناحية بني تميم و معه عبيدة بن هلال و هو يقول-
إني لمذك للشراة نارها
و مانع ممن أتاها دارها
و غاسل بالسيف عنها عارها
فوجد بني تميم أيقاظا متحارسين- و خرج إليهم الحريش بن هلال و هو يقول-
وجدتمونا وقرا أنجادا
لا كشفا ميلا و لا أوغادا
ثم حمل على الخوارج- فرجعوا عنه فاتبعهم ثم صاح بهم- إلى أين يا كلاب النار- فقالوا إنما أعدت لك و لأصحابك- فقال الحريش كل مملوك لي حر إن لم تدخلوا النار- ما دخلها مجوسي فيما بين سفوان و خراسان- . ثم قال بعضهم لبعض نأتي عسكر ابن مخنف- فإنه لا خندق عليه- و قد بعث فرسانهم اليوم مع المهلب- و قد زعموا أنا أهون عليهم من ضرطة جمل- فأتوهم فلم يشعر ابن مخنف و أصحابه- إلا و قد خالطوهم في عسكرهم- . و كان ابن مخنف شريفا- و فيه يقول رجل من بني عامر لرجل يعاتبه- و يضرب بابن مخنف المثل-
تروح و تغدو كل يوم معظما
كأنك فينا مخنف و ابن مخنف
فترجل عبد الرحمن تلك الليلة يجالدهم- حتى قتل و قتل معه سبعون رجلا من القراء- فيهم نفر من أصحاب علي بن أبي طالب- و نفر من أصحاب ابن مسعود و بلغ الخبر المهلب- و جعفر بن عبد الرحمن بن مخنف عند المهلب- فجاءهم مغيثا فقاتل حتى ارتث- و وجه المهلب إليهم ابنه حبيبا فكشفهم ثم جاء المهلب- حتى صلى على عبد الرحمن بن مخنف و أصحابه- و صار جنده في جند المهلب- فضمهم إلى ابنه حبيب- فعيرهم البصريون و سموا جعفرا خضفة الجمل- .و قال رجل منهم لجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف-
تركت أصحابكم تدمى نحورهم
و جئت تسعى إلينا خضفة الجمل
فلام المهلب أهل البصرة- و قال بئسما قلتم و الله ما فروا و لا جبنوا- و لكنهم خالفوا أميرهم- أ فلا تذكرون فراركم بدولاب عني- و فراركم بدارس عن عثمان- . و وجه الحجاج البراء بن قبيصة إلى المهلب- يستحثه في مناجزة القوم- و كتب إليه إنك تحب بقاءهم لتأكل بهم- فقال المهلب لأصحابه حركوهم- فخرج فرسان من أصحابه- فخرج إليهم من الخوارج جمع كثير- فاقتتلوا إلى الليل- فقال لهم الخوارج ويلكم أ ما تملون- فقالوا لا حتى تملوا- فقالوا فمن أنتم قالوا تميم-
فقالت الخوارج و نحن تميم أيضا- فلما أمسوا افترقوا- فلما كان الغد خرج عشرة من أصحاب المهلب- و خرج إليهم من الخوارج عشرة- و احتفر كل واحد منهم حفيرة- و أثبت قدميه فيها- كلما قتل رجل جاء رجل من أصحابه- فاجتره و قام مكانه حتى أعتموا- فقال لهم الخوارج ارجعوا- فقالوا بل ارجعوا أنتم- قالوا لهم ويلكم من أنتم- قالوا تميم قالوا و نحنتميم أيضا- فرجع البراء بن قبيصة إلى الحجاج- فقال له مهيم قال- رأيت أيها الأمير قوما لا يعين عليهم إلا الله- . و كتب المهلب جواب الحجاج- إني منتظر بهم إحدى ثلاث- موتا ذريعا أو جوعا مضرا أو اختلافا من أهوائهم- . و كان المهلب لا يتكل في الحراسة على أحد- كان يتولى ذلك بنفسه و يستعين عليه بولده- و بمن يحل محلهم في الثقة عنده- . قال أبو حرملة العبدي يهجو المهلب و كان في عسكره-
عدمتك يا مهلب من أمير
أ ما تندى يمينك للفقير
بدولاب أضعت دماء قومي
و طرت على مواشكة درور
فقال له المهلب ويحك- و الله إني لاقيكم بنفسي و ولدي- قال جعلني الله فداء الأمير- فذاك الذي نكره منك ما كلنا يحب الموت- قال ويحك و هل عنه من محيص- قال لا و لكنا نكره التعجيل- و أنت تقدم عليه إقداما- قال المهلب ويلك أ ما سمعت قول الكلحبة اليربوعي-
فقلت لكأس ألجميها فإنما
نزلنا الكثيب من زرود لنفزعا
فقال بلى قد سمعت و لكن قولي أحب إلي منه-
و لما وقفتم غدوة و عدوكم
إلى مهجتي وليت أعداءكم ظهري
و طرت و لم أحفل ملامة جاهل
يساقي المنايا بالردينية السمر
فقال المهلب- بئس حشو الكتيبة أنت و الله يا أبا حرملة- إن شئت أذنت لك فانصرفت إلى أهلك- قال بل أقيم معك أيها الأمير- فوهب له المهلب و أعطاه فقال يمدحه-
يرى حتما عليه أبو سعيد
جلاد القوم في أولى النفير
إذا نادى الشراة أبا سعيد
مشى في رفل محكمة القتير
قال و كان المهلب يقول- ما يسرني أن في عسكري ألف شجاع مكان بيهس بن صهيب- فيقال له أيها الأمير بيهس ليس بشجاع- فيقول أجل و لكنه سديد الرأي محكم العقل- و ذو الرأي حذر سئول- فأنا آمن أن يغتفل- و لو كان مكانه ألف شجاع- لخلت أنهم ينشامون حيث يحتاج إليهم- . قال و مطرت السماء مطرا شديدا و هم بسابور- و بين المهلب و بين الشراة عقبة- فقال المهلب من يكفينا أمر هذه العقبة الليلة- فلم يقم أحد فلبس المهلب سلاحه- و قام إلى العقبة و اتبعه ابنه المغيرة- فقال رجل من أصحابه- دعانا الأمير إلى ضبط العقبة- و الحظ في ذلك لنا فلم نطعه- و لبس سلاحه و اتبعه جماعة من العسكر فصاروا إليه- فإذا المهلب و المغيرة و لا ثالث لهما- فقالوا انصرف أيها الأمير- فنحن نكفيك إن شاء الله- فلما أصبحوا إذا هم بالشراة على العقبة- فخرج إليهم غلام من أهل عمان على فرس- فجعل يحمل و فرسه تزلق- و يلقاه مدرك في جماعة معه- حتى ردوهم عن العقبة- فلما كان يوم النحر و المهلب على المنبر يخطب الناس- إذ الشراة قد أكبوا-
فقال المهلب سبحان الله- أ في مثل هذا اليوم يا مغيرة اكفنيهم- فخرج إليهم المغيرة- و أمامه سعد بن نجد القردوسي- و كان سعد مقدما في شجاعته- و كان الحجاج إذا ظن برجل أن نفسه قد أعجبته قال له- لو كنت سعد بن نجد القردوسي ما عدا- فخرج أمام المغيرة و مع المغيرة جماعة من فرسان المهلب فالتقوا- و أمام الخوارج غلام جامع السلاح- مديد القامة كريه الوجه شديد الحملة صحيح الفروسية- فأقبل يحمل على الناس و يرتجز فيقول-
نحن صبحناكم غداة النحر
بالخيل أمثال الوشيج تجري
فخرج إليه سعد بن نجد القردوسي من الأزد- فتجاولا ساعة ثم طعنه سعد فقتله و التقى الناس- فصرع المغيرة يومئذ- فحامى عليه سعد بن نجد و دينار السجستاني و جماعة من الفرسان- حتى ركب و انكشف الناس عند سقطة المغيرة- حتى صاروا إلى المهلب فقالوا- قتل المغيرة فأتاه دينار السجستاني فأخبره بسلامته- فأعتق كل مملوك كان بحضرته- .
قال و وجه الحجاج الجراح بن عبد الله إلى المهلب- يستبطئه في مناجزة القوم و كتب إليه- أما بعد فإنك جبيت الخراج بالعلل- و تحصنت بالخنادق و طاولت القوم- و أنت أعز ناصرا و أكثر عددا- و ما أظن بك مع هذا معصية و لا جبنا- و لكنك اتخذتهم أكلا- و كان بقاؤهم أيسر عليك من قتالهم- فناجزهم و إلا أنكرتني و السلام- . فقال المهلب للجراح يا أبا عقبة- و الله ما تركت حيلة إلا احتلتها و لا مكيدة إلا أعملتها- و ما العجب من إبطاء النصرة و تراخي الظفر- و لكن العجب أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره- . ثم ناهضهم ثلاثة أيام يغاديهم القتال- فلا يزالون كذلك إلى العصر- و ينصرف أصحابه و بهم قرح و بالخوارج قرح و قتل- فقال له الجراح قد أعذرت- . فكتب المهلب إلى الحجاج- أتاني كتابك تستبطئني في لقاء القوم- على أنك لا تظن بي معصية و لا جبنا- و قد عاتبتني معاتبة الجبان- و أوعدتني وعيد العاصي- فسل الجراح و السلام- .
فقال الحجاج للجراح كيف رأيت أخاك- قال و الله أيها الأمير ما رأيت مثله قط- و لا ظننت أن أحدا يبقى على مثل ما هو عليه- و لقد شهدت أصحابه أياما ثلاثة يغدون إلى الحرب- ثم ينصرفون عنها و هم يتطاعنون بالرماح- و يتجالدون بالسيوف و يتخابطون بالعمد- ثم يروحون كأن لم يصنعوا شيئا- رواح قوم تلك عادتهم و تجارتهم- . فقال الحجاج- لشد ما مدحته أبا عقبة فقال الحق أولى- . و كانت ركب الناس قديما من الخشب- فكان الرجل يضرب ركابه فينقطع- فإذا أراد الضرب أو الطعن لم يكن له معتمد- فأمر المهلب بضرب الركب من الحديد- فهو أول من أمر بطبعها- و في ذلك يقول عمران بن عصام العنزي-
ضربوا الدراهم في إمارتهم
و ضربت للحدثان و الحرب
حلقا ترى منها مرافقهم
كمناكب الجمالة الجرب
قال و كتب الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي- من بني رياح بن يربوع و هو والي أصفهان- يأمره بالمسير إلى المهلب- و أن يضم إليه جند عبد الرحمن بن مخنف- فكل بلد يدخلانه من فتوح أهل البصرة- فالمهلب أمير الجماعة فيه- و أنت على أهل الكوفة- فإذا دخلتم بلدا فتحه أهل الكوفة- فأنت أمير الجماعة و المهلب على أهل البصرة- . فقدم عتاب في إحدى جماديين- من سنة ست و سبعين على المهلب و هو بسابور- و هي من فتوح أهل البصرة- فكان المهلب أمير الناس- و عتاب على أصحاب ابن مخنف- و الخوارج بأيديهم كرمان- و هم بإزاء المهلب بفارس يحاربونه من جميع النواحي- .
قال و وجه الحجاج إلى المهلب رجلين- يستحثانه لمناجزة القوم- أحدهما يقال له زياد بن عبد الرحمن- من بني عامر بن صعصعة- و الآخر من آل أبي عقيل من رهط الحجاج- فضم المهلب زيادا إلى ابنه حبيب- و ضم الثقفي إلى ابنه يزيد و قال لهما- خذا يزيد و حبيبا بالمناجزة و غادوا الخوارج- فاقتتلوا أشد قتال- فقتل زياد بن عبد الرحمن العامري و فقد الثقفي- ثم باكروهم في اليوم الثاني- و قد وجد الثقفي فدعا به المهلب و دعا بالغداء- فجعل النبل يقع قريبا منهم و يتجاوزهم- و الثقفي يعجب من أمر المهلب فقال الصلتان العبدي-
ألا يا أصبحاني قبل عوق العوائق
و قبل اختراط القوم مثل العقائق
غداة حبيب في الحديد يقودنا
يخوض المنايا في ظلال الخوافق
حرون إذا ما الحرب طار شرارها
و هاج عجاج النقع فوق المفارق
فمن مبلغ الحجاج أن أمينه
زيادا أطاحته رماح الأزارق
فلم يزل عتاب بن ورقاء مع المهلب ثمانية أشهر- حتى ظهر شبيب بن يزيد- فكتب الحجاج إلى عتاب يأمره بالمصير إليه- ليوجهه إلى شبيب- و كتب إلى المهلب يأمره أن يرزق الجند- فرزق أهل البصرة و أبى أن يرزق أهل الكوفة- فقال له عتاب ما أنا ببارح حتى ترزق أهل الكوفة- فأبى فجرت بينهما غلظة فقال له عتاب- قد كان يبلغني أنك شجاع فرأيتك جبانا- و كان يبلغني أنك جواد فرأيتك بخيلا- فقال له المهلب يا ابن اللخناء- فقال له عتاب لكنك معم مخول- .
فغضبت بكر بن وائل للمهلب للحلف- و وثب نعيم بن هبيرة- ابن أخي مصقلة بن هبيرة على عتاب فشتمه- و قد كان المهلب كارها للحلف- فلما رأى نصرة بكر بن وائل له سره و اغتبط به- فلم يزل يؤكده و غضبت تميم البصرة لعتاب- و غضبت أزد الكوفة للمهلب- فلما رأى ذلك المغيرة مشى بين أبيه و بين عتاب- و قال لعتاب يا أبا ورقاء- إن الأمير يصير إلى كل ما تحب- و سأل أباه أن يرزق أهل الكوفة- ففعل فصلح الأمر فكانت تميم قاطبة و عتاب بن ورقاء- يحمدون المغيرة بن المهلب- و كان عتاب يقول إني لأعرف فضله على أبيه- . و قال رجل من الأزد من بني أياد بن سود-
ألا أبلغ أبا ورقاء عنا
فلو لا أننا كنا غضابا
على الشيخ المهلب إذ جفانا
للاقت خيلكم منا ضرابا
قال و كان المهلب يقول لبنيه- لا تبدءوا الخوارج بقتال حتى يبدءوكم و يبغوا عليكم- فإنهم إذا بغوا عليكم نصرتم عليهم- . فشخص عتاب إلى الحجاج في سنة سبع و سبعين- فوجهه إلى شبيب فقتله شبيب- . و أقام المهلب على حربهم- فلما انقضى من مقامه ثمانية عشر شهرا- اختلفوا و افترقت كلمتهم- و كان سبب اختلافهم أن رجلا حدادا من الأزارقة- كان يعمل نصالا مسمومة فيرمي بها أصحاب المهلب- فرفع ذلك إلى المهلب- فقال أنا أكفيكموه إن شاء الله- فوجه رجلا من أصحابه بكتاب و ألف درهم إلى عسكر قطري- فقال له ألق هذا الكتاب في العسكر و الدراهم- و احذر على نفسك و كان الحداد يقال له أبزى- فمضى الرجل و كان في الكتاب- أما بعد فإن نصالك قد وصلت إلي- و قد وجهت إليك بألف درهم- فاقبضها و زدنا من هذه النصال- .
فوقع الكتاب إلى قطري فدعا بأبزى- فقال ما هذا الكتاب قال لا أدري- قال فما هذه الدراهم قال لا أعلم- فأمر به فقتل- فجاءه عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة- فقال له أ قتلت رجلا على غير ثقة و لا تبين- قال قطري فما حال هذه الألف- قال يجوز أن يكون أمرها كذبا- و يجوز أن يكون حقا فقال قطري- إن قتل رجل في صلاح الناس غير منكر- و للإمام أن يحكم بما رآه صلاحا- و ليس للرعية أن تعترض عليه- فتنكر له عبد ربه في جماعة معه و لم يفارقوه- . و بلغ ذلك المهلب فدس إليهم رجلا نصرانيا- جعل له جعلا يرغب في مثله- و قال له إذا رأيت قطريا فاسجد له- فإذا نهاك فقل إنما سجدت لك- ففعل ذلك النصراني- فقال قطري إنما السجود لله تعالى-
فقال ما سجدت إلا لك فقال رجل من الخوارج- إنه قد عبدك من دون الله و تلا- إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ- أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ- فقال قطري- إن النصارى قد عبدوا عيسى ابن مريم- فما ضر عيسى ذلك شيئا- فقام رجل من الخوارج إلى النصراني فقتله- فأنكر قطري ذلك عليه- و أنكر قوم من الخوارج إنكاره- . و بلغ المهلب ذلك- فوجه إليهم رجلا يسألهم فأتاهم الرجل- فقال أ رأيتم رجلين خرجا مهاجرين إليكم- فمات أحدهما في الطريق و بلغ الآخر إليكم- فامتحنتموه فلم يجز المحنة ما تقولون فيهما- فقال بعضهم أما الميت فمؤمن من أهل الجنة- و أما الذي لم يجز المحنة فكافر حتى يجيز المحنة- . و قال قوم آخرون- بل هما كافران حتى يجيز المحنة فكثر الاختلاف- . و خرج قطري إلى حدود إصطخر فأقام شهرا- و القوم في اختلافهم ثم أقبل- فقال لهم صالح بن مخراق يا قوم- إنكم أقررتم عين عدوكم- و أطمعتموه فيكم بما يظهر من خلافكم- فعودوا إلى سلامة القلوب و اجتماع الكلمة- . و خرج عمرو القنا و هو من بني سعد بن زيد مناة بن تميم- فنادى يا أيها المحلون- هل لكم في الطراد فقد طال عهدي به ثم قال-
أ لم تر أنا مذ ثلاثين ليلة
جديب و أعداء الكتاب على خفض
فتهايج القوم و أسرع بعضهم إلى بعض- و كانت الوقعة و أبلى يومئذ المغيرة بن المهلب- و صار في وسط الأزارقة فجعلت الرماح تحطه و ترفعه- و اعتورت رأسه السيوف و عليه ساعد حديد- فوضع يده على رأسه فلم يعمل السيف فيه شيئا- و استنقذه فرسان من الأزد بعد أن صرع- و كان الذي صرعه عبيدة بن هلال- بن يشكر بن بكر بن وائل و كان يقول يومئذ-
أنا ابن خير قومه هلال
شيخ على دين أبي بلال
و ذاك ديني آخر الليالي
فقال رجل للمغيرة- كنا نعجب كيف تصرع و الآن نعجب كيف تنجو- و قال المهلب لبنيه- إن سرحكم لغار و لست آمنهم عليه- أ فوكلتم به أحدا قالوا لا فلم يستتم الكلام حتى أتاه آت- فقال إن صالح بن مخراق قد أغار على السرح- فشق على المهلب و قال- كل أمر لا إليه بنفسي فهو ضائع و تذمر عليهم- فقال له بشر بن المغيرة أرح نفسك- فإن كنت إنما تريد مثلك- فو الله ما يعدل خيرنا شسع نعلك-فقال خذوا عليهم الطريق- فبادر بشر بن المغيرة و مدرك و المفضل ابنا المهلب- فسبق بشر إلى الطريق- فإذا رجل أسود من الأزارقة- يشل السرح و هو يقول-
نحن قمعناكم بشل السرح
و قد نكانا القرح بعد القرح
و لحقه المفضل و مدرك فصاحا برجل من طيئ- اكفنا الأسود فاعتوره الطائي و بشر بن المغيرة فقتلاه- و أسرا رجلا من الأزارقة من همدان- و استردا السرح- . قال و كان عياش الكندي شجاعا بئيسا فأبلي يومئذ- فلما مات على فراشه بعد ذلك- قال المهلب لا وألت نفس الجبان بعد عياش- و قال المهلب ما رأيت تالله كهؤلاء القوم- كلما انتقص منهم يزيد فيهم- . و وجه الحجاج رجلين إلى المهلب يستحثانه بالقتال- أحدهما من كلب و الآخر من سليم- فقال المهلب متمثلا بشعر لأوس بن حجر-
و مستعجب مما يرى من أناتنا
و لو زبنته الحرب لم يترمرم
فقال المهلب ليزيد ابنه حرك القوم- فحركهم فتهايجوا- و ذلك في قرية من قرى إصطخر- فحمل رجل من الخوارج على رجل- من أصحاب المهلب و طعنه- فشك فخذه بالسرج- فقال المهلب للسلمي و الكلبي- كيف يقاتل قوم هذا طعنهم- و حمليزيد عليهم- و قد جاء الرقاد و هو من فرسان المهلب- و هو أحد بني مالك بن ربيعة على فرس له أدهم- و به نيف و عشرون جراحة و قد وضع عليها القطن- فلما حمل يزيد ولى الجمع و حماهم فارسان منهم- فقال يزيد لقيس الخشني مولى العتيك من لهذين- قال أنا فحمل عليهما- فعطف عليه أحدهما فطعنه قيس فصرعه- و حمل عليه الآخر فتعانقا- فسقطا جميعا إلى الأرض- فصاح قيس الخشني اقتلونا جميعا- فحملت خيل هؤلاء و خيل هؤلاء فحجزوا بينهما- فإذا معانق قيس امرأة فقام قيس مستحييا- فقال له يزيد يا أبا بشر- أما أنت فبارزتها على أنها رجل- فقال أ رأيت لو قتلت أ ما كان يقال قتلته امرأة- و أبلى يومئذ ابن المنجب السدوسي- فقال غلام له يقال له خلاج- و الله لوددنا أنا فضضنا عسكرهم حتى نصير إلى مستقرهم- فاستلب مما هناك جاريتين- فقال له مولاه ابن المنجب- و كيف تمنيت ويحك اثنتين- فقال لأعطيك إحداهما و آخذ الأخرى- فقال ابن المنجب-
أ خلاج إنك لن تعانق طفلة
شرقا بها الجادي كالتمثال
حتى تلاقي في الكتيبة معلما
عمرو القنا و عبيدة بن هلال
و ترى المقعطر في الفوارس مقدما
في عصبة نشطوا على الضلال
أو أن يعلمك المهلب غزوه
و ترى جبالا قد دنت لجبال
قال و كان بدر بن الهذيل من أصحاب المهلب شجاعا- و كان لحانة كان إذا أحس بالخوارج ينادي- يا خيل الله اركبي و إليه يشير القائل-
و إذا طلبت إلى المهلب حاجة
عرضت توابع دونه و عبيد
العبد كردس و بدر مثله
و علاج باب الأحمرين شديد
قال و كان بشر بن المغيرة بن أبي صفرة- أبلى يومئذ بلاء حسنا عرف مكانه فيه- و كانت بينه و بين المهلب جفوة- فقال لبنيه يا بني عم- إني قد قصرت عن شكاة العاتب- و جاوزت شكاة المستعتب- حتى كأني لا موصول و لا محروم- فاجعلوا لي فرجة أعيش بها- و هبوني امرأ رجوتم نصره أو خفتم لسانه- فرجعوا له و وصلوه و كلموا فيه المهلب فوصله- . و ولى الحجاج كردما فارس- و وجهه إليها و الحرب قائمة- فقال رجل من أصحاب المهلب-
و لو رآها كردم لكردما
كردمة العير أحس الضيغما
فكتب المهلب إلى الحجاج يسأله- أن يتجافى له عن إصطخر و دارابجرد لأرزاق الجند ففعل- و قد كان قطري هدم مدينة إصطخر- لأن أهلها كانوا يكاتبون المهلب بأخباره- و أراد مثل ذلك بمدينة فسا- فاشتراها منه آزاذ مرد بن الهربذ بمائة ألف درهم-فلم يهدمها فواقعه وجه المهلب فهزمه- فنفاه إلى كرمان و اتبعه المغيرة ابنه- و قد كان دفع إليه سيفا وجه به الحجاج إلى المهلب- و أقسم عليه أن يتقلده فدفعه إلى المغيرة بعد ما تقلده- فرجع به المغيرة إليه و قد دماه فسر المهلب- و قال ما يسرني أن يكون كنت دفعته إلى غيرك من ولدي- و قال له اكفني جباية خراج هاتين الكورتين و ضم إليه الرقاد- فجعلا يجبيان و لا يعطيان الجند شيئا- ففي ذلك يقول رجل من بني تميم في كلمة له-
و لو علم ابن يوسف ما نلاقي
من الآفات و الكرب الشداد
لفاضت عينه جزعا علينا
و أصلح ما استطاع من الفساد
ألا قل للأمير جزيت خيرا
أرحنا من مغيرة و الرقاد
فما رزق الجنود بهم قفيزا
و قد ساست مطامير الحصاد
أي وقع فيها السوس- . قال ثم حاربهم المهلب بالسيرجان- حتى نفاهم عنها إلى جيرفت و اتبعهم و نزل قريبا منهم- . ثم اختلفت كلمة الخوارج- و كان سبب ذلك أن عبيدة بن هلال اتهم بامرأة رجل نجار- رأوه يدخل مرارا إليها بغير إذن- فأتى قطريا فذكروا ذلك له- فقال لهم إن عبيدة من الدين بحيث علمتم- و من الجهاد بحيث رأيتم- فقالوا إنا لا نقار على الفاحشة فقال انصرفوا- ثم بعث إلى عبيدة فأخبره- و قال له أنا لا أقار على الفاحشة-
فقال بهتوني يا أمير المؤمنين فما ترى- قال إني جامع بينك و بينهم- فلا تخضع خضوع المذنب- و لا تتطاول تطاول البريء فجمع بينهم فتكلموا- فقام عبيدة فقال بسم الله الرحمن الرحيم- إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ… حتى تلا الآيات- فبكوا و قاموا إليه فاعتنقوه- و قالوا استغفر لنا ففعل- فقال عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة- و الله لقد خدعكم فتابع عبد ربه منهم ناس كثير- و لم يظهروا و لم يجدوا على عبيدة في إقامة الحد ثبتا- . و كان قطري قد استعمل رجلا من الدهاقين- فظهرت له أموال كثيرة فأتوا قطريا فقالوا- إن عمر بن الخطاب لم يكن يقار عماله على مثل هذا-
فقال قطري إني استعملته و له ضياع و تجارات- فأوغر ذلك صدورهم و بلغ المهلب ذلك- فقال اختلافهم أشد عليهم مني- ثم قالوا لقطري أ لا تخرج بنا إلى عدونا- فقال لا ثم خرج فقالوا قد كذب و ارتد فاتبعوه يوما- فأحس بالشر و دخل دارا مع جماعة من أصحابه- فاجتمعوا عليه و صاحوا اخرج إلينا يا دابة- فخرج إليهم فقال أ رجعتم بعدي كفارا- قالوا أ و لست دابة قال الله تعالى- وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها- و لكنك قد كفرت بقولك- أنا قد رجعنا كفارا فتب إلى الله فشاور عبيدة في ذلك- فقال له إن تبت لم يقبلوا منك- فقل إني استفهمت فقلت أ رجعتم بعدي كفارا- فقال لهم ذلك فقبلوا منه فرجع إلى منزله
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 4