53 و من كلام له ع في ذكر البيعة- :
فَتَدَاكُّوا عَلَيَّ تَدَاكَّ الْإِبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا- وَ قَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا وَ خُلِعَتْ مَثَانِيهَا- حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْضٍ لَدَيَّ- وَ قَدْ قَلَّبْتُ هَذَا الْأَمْرَ بَطْنَهُ وَ ظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ- فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعُنِي إِلَّا قِتَالُهُمْ- أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ص- فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ- وَ مَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الآْخِرَةِ تداكوا ازدحموا و الهيم العطاش- و يوم وردها يوم شربها الماء- و المثاني الحبال- جمع مثناة و مثناة بالفتح و الكسر و هو الحبل- . و جهاد البغاة واجب على الإمام إذا وجد أنصارا- فإذا أخل بذلك أخل بواجب و استحق العقاب- . فإن قيل-إنه ع قال لم يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد ص- فكيف يكون تارك الواجب جاحدا لما جاء به النبي ص- . قيل إنه في حكم الجاحد لأنه مخالف و عاص- لا سيما على مذهبنا- في أن تارك الواجب يخلد في النار و إن لم يجحد النبوة
بيعة علي و أمر المتخلفين عنها
اختلف الناس في بيعة أمير المؤمنين ع- فالذي عليه أكثر الناس و جمهور أرباب السير- أن طلحة و الزبير بايعاه طائعين غير مكرهين- ثم تغيرت عزائمهما و فسدت نياتهما و غدرا به- . و قال الزبيريون منهم عبد الله بن مصعب- و الزبير بن بكار و شيعتهم- و من وافق قولهم من بني تيم بن مرة- أرباب العصبية لطلحة إنهما بايعا مكرهين- و إن الزبير كان يقول بايعت و اللج على قفي- و اللج سيف الأشتر و قفي لغة هذلية- إذا أضافوا المقصور إلى أنفسهم قلبوا الألف ياء- و أدغموا إحدى الياءين في الأخرى فيقولون- قد وافق ذلك هوي أي هواي- و هذه عصي أي عصاي- . و ذكر صاحب كتاب الأوائل- أن الأشتر جاء إلى علي ع حين قتل عثمان- فقال قم فبايع الناس فقد اجتمعوا لك و رغبوا فيك- و الله لئن نكلت عنها لتعصرن عليها عينيك مرة رابعة- فجاء حتى دخل بئر سكن و اجتمع الناس- و حضر طلحة و الزبير لا يشكان أن الأمر شورى- فقال الأشتر أ تنتظرون أحدا- قم يا طلحة فبايع فتقاعس- فقال قم يا ابن الصعبة و سل سيفه- فقام طلحة يجر رجله حتى بايع- فقال قائل أول من بايعه أشل لا يتم أمره ثم لا يتم- قال قم يا زبير- و الله لا ينازع أحد إلا و ضربت قرطة بهذا السيف- فقام الزبير فبايع ثم انثال الناس عليه فبايعوا- . و قيل أول من بايعه الأشتر- ألقى خميصة كانت عليه و اخترط سيفه- و جذب يد علي ع فبايعه- و قال للزبير و طلحة قوما فبايعا- و إلا كنتما الليلة عند عثمان- فقاما يعثران في ثيابهما لا يرجوان نجاة- حتى صفقا بأيديهما على يده ثم قام بعدهما البصريون-و أولهم عبد الرحمن بن عديس البلوي فبايعوا- و قال له عبد الرحمن-
خذها إليك و اعلمن أبا حسن
أنا نمر الأمر إمرار الرسن
و قد ذكرنا نحن في شرح الفصل الذي فيه- أن الزبير أقر بالبيعة و ادعى الوليجة- أن بيعة أمير المؤمنين لم تقع- إلا عن رضا جميع أهل المدينة- أولهم طلحة و الزبير- و ذكرنا في ذلك ما يبطل رواية الزبير- . و ذكر أبو مخنف في كتاب الجمل- أن الأنصار و المهاجرين اجتمعوا في مسجد رسول الله ص- لينظروا من يولونه أمرهم حتى غص المسجد بأهله- فاتفق رأي عمار و أبي الهيثم بن التيهان- و رفاعة بن رافع و مالك بن عجلان- و أبي أيوب خالد بن يزيد- على إقعاد أمير المؤمنين ع في الخلافة- و كان أشدهم تهالكا عليه عمار- فقال لهم أيها الأنصار- قد سار فيكم عثمان بالأمس بما رأيتموه- و أنتم على شرف من الوقوع في مثله إن لم تنظروا لأنفسكم- و إن عليا أولى الناس بهذا الأمر لفضله و سابقته- فقالوا رضينا به حينئذ- و قالوا بأجمعهم لبقية الناس من الأنصار و المهاجرين- أيها الناس إنا لن نألوكم خيرا و أنفسنا إن شاء الله- و إن عليا من قد علمتم- و ما نعرف مكان أحد أحمل لهذا الأمر منه و لا أولى به- فقال الناس بأجمعهم قد رضينا- و هو عندنا ما ذكرتم و أفضل- .
و قاموا كلهم فأتوا عليا ع- فاستخرجوه من داره و سألوه بسط يده- فقبضها فتداكوا عليه تداك الإبل الهيم على وردها- حتى كاد بعضهم يقتل بعضا- فلما رأى منهم ما رأى- سألهم أن تكون بيعته في المسجد ظاهرة للناس- و قال إن كرهني رجل واحد من الناس لم أدخل في هذا الأمر- . فنهض الناس معه حتى دخل المسجد- فكان أول من بايعه طلحة- فقال قبيصة بن ذؤيب الأسدي تخوفت ألا يتم له أمره- لأن أول يد بايعته شلاء ثم بايعه الزبير-و بايعه المسلمون بالمدينة إلا محمد بن مسلمة و عبد الله بن عمر- و أسامة بن زيد و سعد بن أبي وقاص- و كعب بن مالك و حسان بن ثابت و عبد الله بن سلام- .
فأمر بإحضار عبد الله بن عمر فقال له بايع- قال لا أبايع حتى يبايع جميع الناس- فقال له ع فأعطني حميلا ألا تبرح- قال و لا أعطيك حميلا- فقال الأشتر يا أمير المؤمنين- إن هذا قد أمن سوطك و سيفك فدعني أضرب عنقه- فقال لست أريد ذلك منه على كره خلوا سبيله- فلما انصرف قال أمير المؤمنين- لقد كان صغيرا و هو سيئ الخلق و هو في كبره أسوأ خلقا- . ثم أتي بسعد بن أبي وقاص فقال له بايع- فقال يا أبا الحسن خلني فإذا لم يبق غيري بايعتك- فو الله لا يأتيك من قبلي أمر تكرهه أبدا- فقال صدق خلوا سبيله- . ثم بعث إلى محمد بن مسلمة فلما أتاه قال له بايع- قال إن رسول الله ص أمرني إذا اختلف الناس- و صاروا هكذا و شبك بين أصابعه- أن أخرج بسيفي فأضرب به عرض أحد- فإذا تقطع أتيت منزلي- فكنت فيه لا أبرحه حتى تأتيني يد خاطية أو منية قاضية- فقال له ع فانطلق إذا فكن كما أمرت به- . ثم بعث إلى أسامة بن زيد فلما جاء قال له بايع- فقال إني مولاك و لا خلاف مني عليك- و ستأتيك بيعتي إذا سكن الناس- فأمره بالانصراف و لم يبعث إلى أحد غيره- .و قيل له أ لا تبعث إلى حسان بن ثابت- و كعب بن مالك و عبد الله بن سلام- فقال لا حاجة لنا فيمن لا حاجة له فينا- .
فأما أصحابنا فإنهم يذكرون في كتبهم- أن هؤلاء الرهط إنما اعتذروا بما اعتذروا به-لما ندبهم إلى الشخوص معه لحرب أصحاب الجمل- و أنهم لم يتخلفوا عن البيعة و إنما تخلفوا عن الحرب- .
و روى شيخنا أبو الحسين رحمه الله تعالى في كتاب الغرر أنهم لما اعتذروا إليه بهذه الأعذار- قال لهم ما كل مفتون يعاتب- أ عندكم شك في بيعتي قالوا لا- قال فإذا بايعتم فقد قاتلتم و أعفاهم من حضور الحرب- .
فإن قيل رويتم أنه قال- إن كرهني رجل واحد من الناس لم أدخل في هذا الأمر- ثم رويتم أن جماعة من أعيان المسلمين كرهوا- و لم يقف مع كراهتهم- . قيل إنما مراده ع- أنه متى وقع الاختلاف قبل البيعة- نفضت يدي عن الأمر و لم أدخل فيه- فأما إذا بويع ثم خالف ناس بعد البيعة- فلا يجوز له أن يرجع عن الأمر و يتركه- لأن الإمامة تثبت بالبيعة- و إذا ثبتت لم يجز له تركها- . و روى أبو مخنف عن ابن عباس قال- لما دخل علي ع المسجد- و جاء الناس ليبايعوه- خفت أن يتكلم بعض أهل الشنئان لعلي ع- ممن قتل أباه أو أخاه- أو ذا قرابته في حياة رسول الله ص- فيزهد علي في الأمر و يتركه- فكنت أرصد ذلك و أتخوفه- فلم يتكلم أحد حتى بايعه الناس كلهم- راضين مسلمين غير مكرهين- .
لما بايع الناس عليا ع- و تخلف عبد الله بن عمر- و كلمه علي ع في البيعة فامتنع عليه- أتاه في اليوم الثاني فقال إني لك ناصح- إن بيعتك لم يرض بها كلهم- فلو نظرت لدينك و رددت الأمر شورى بين المسلمين- فقال علي ع ويحك- و هل ما كان عن طلب مني له أ لم يبلغك صنيعهم- قم عني يا أحمق ما أنت و هذا الكلام-فلما خرج أتى عليا في اليوم الثالث آت فقال- إن ابن عمر قد خرج إلى مكة يفسد الناس عليك- فأمر بالبعث في أثره فجاءت أم كلثوم ابنته- فسألته و ضرعت إليه فيه- و قالت يا أمير المؤمنين إنما خرج إلى مكة ليقيم بها- و إنه ليس بصاحب سلطان و لا هو من رجال هذا الشأن- و طلبت إليه أن يقبل شفاعتها في أمره لأنه ابن بعلها- فأجابها و كف عن البعثة إليه و قال دعوه و ما أراده
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 4