49 و من خطبة له ع
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَطَنَ خَفِيَّاتِ الْأَمُوُرِ- وَ دَلَّتْ عَلَيْهِ أَعْلَامُ الظُّهُورِ- وَ امْتَنَعَ عَلَى عَيْنِ الْبَصِيرِ- فَلَا عَيْنُ مَنْ لَمْ يَرَهُ تُنْكِرُهُ- وَ لَا قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ يُبْصِرُهُ- سَبَقَ فِي الْعُلُوِّ فَلَا شَيْءَ أَعْلَى مِنْهُ- وَ قَرُبَ فِي الدُّنُوِّ فَلَا شَيْءَ أَقْرَبُ مِنْهُ- فَلَا اسْتِعْلَاؤُهُ بَاعَدَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ- وَ لَا قُرْبُهُ سَاوَاهُمْ فِي الْمَكَانِ بِهِ- لَمْ يُطْلِعِ الْعُقُولَ عَلَى تَحْدِيدِ صِفَتِهِ- وَ لَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفَتِهِ- فَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ أَعْلَامُ الْوُجُودِ- عَلَى إِقْرَارِ قَلْبِ ذِي الْجُحُودِ- تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُهُ الْمُشَبِّهُونَ بِهِ- وَ الْجَاحِدُونَ لَهُ عُلُوّاً كَبِيراً بطنت سر فلان أي أخفيته- . و الأعلام جمع علم و هو المنار يهتدى به- ثم جعل لكل ما دل على شيء- فقيل لمعجزات الأنبياء أعلام لدلالتها على نبوتهم- و قوله ع أعلام الظهور- أي الأدلة الظاهرة الواضحة- . و قوله فيما بعد أعلام الوجود- أي الأدلة الموجودة- و الدلالة هي الوجود نفسه- و سيأتي شرح ذلك- . و قوله و امتنع على عين البصير- يقول إنه سبحانه ليس بمرئي بالعين- و مع ذلك فلا يمكن من لم يره بعينه أن ينكره- لدلالة كل شيء عليه- بل لدلالته سبحانه على نفسه- . ثم قال و لا قلب من أثبته يبصره- أي لا سبيل لمن أثبت وجوده- أن يحيط علما بجميع أحواله و معلوماته و مصنوعاته- أو أراد أنه لا تعلم حقيقة ذاته- كما قاله قوم من المحققين- . و قد روي هذا الكلام على وجه آخر قالوا في الخطبة- فلا قلب من لم يره ينكره- و لا عين من أثبته تبصره- و هذا غير محتاج إلى تفسير لوضوحه- .
و قوله ع فلا استعلاؤه باعده- أي ليس علوه و لا قربه- كما نعقله من العلو و القرب المكانيين- بل هو علو و قرب خارج من ذلك- فليس علوه يقتضي بعده بالمكان عن الأجسام- و لا قربه يقتضي مساواته إياها- في الحاجة إلى المكان و الجهة- . و الباء في به متعلقة بساواهم- معناه و لا قربه ساواهم به في الحاجة إلى المكان- أي لم يقتض قربه مماثلته و مساواته إياهم في ذلك
فصول في العلم الإلهي
و هذا الفصل يشتمل على عدة مباحث من العلم الإلهي-
أولها كونه تعالى عالما بالأمور الخفية- .
و الثاني كونه تعالى مدلولا عليه بالأمور الظاهرة- يعني أفعاله- .
و الثالث أن هويته تعالى غير معلومة للبشر- .
و الرابع نفي تشبيهه بشيء من مخلوقاته- .
و الخامس بيان أن الجاحد لإثباته مكابر بلسانه- و عارف به بقلبه- .
و نحن نذكر القول في جميع ذلك- على سبيل اقتصاص المذاهب و الأقوال- و نحيل في البرهان على الحق من ذلك- و بطلان شبه المخالفين فيه- على ما هو مذكور في كتبنا الكلامية- إذ ليس هذا الكتاب موضوعا لذلك- و إن كنا قد لا نخلي بعض فصوله- من إشارة إلى الدليل موجزة- و تلويح إلى الشبهة لطيف فنقول أماالفصل الأول و هو الكلام في كونه تعالى عالما بالأمور الخفية
فاعلم أن أمير المؤمنين ع إنما قال بطن خفيات الأمور- و هذا القدر من الكلام يقتضي كونه تعالى عالما- يعلم الأمور الخفية الباطنة- و هذا منقسم قسمين- أحدهما أن يعلم الأمور الخفية الحاضرة- . و الثاني أن يعلم الأمور الخفية المستقبلة- . و الكلام من حيث إطلاقه يحتمل الأمرين- فنحمله عليهما معا- فقد خالف في كل واحدة من المسألتين قوم- فمن الناس من نفى كونه عالما بالمستقبلات- و من الناس من نفى كونه عالما بالأمور الحاضرة- سواء كانت خفية أو ظاهرة- و هذا يقتضينا أن نشرح أقوال العقلاء في هذه المسائل- فنقول إن الناس فيها على أقوال-
القول الأول قول جمهور المتكلمين- و هو أن البارئ سبحانه يعلم كل معلوم- الماضي و الحاضر و المستقبل- ظاهرها و باطنها و محسوسها و غير محسوسها- فهو تعالى العالم بما كان و ما هو حاضر- و ما سيكون و ما لم يكن- أن لو كان كيف كان يكون كقوله تعالى- وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ- فهذا علم بأمر مقدر على تقدير وقوع أصله- الذي قد علم أنه لا يكون- .
القول الثاني– قول من زعم أنه تعالى لا يعلم الأمور المستقبلة- و شبهوه بكونه مدركا- قالوا كما أنه لا يدرك المستقبلات- فكذلك لا يعلم المستقبلات- و هو قول هشام بن الحكم- .
القول الثالث– قول من زعم أنه لا يعلم الأمور الحاضرة- و هذا القول نقيض القول الثاني- و شبهوه بكونه قادرا- قالوا كما أنه لا يقدر على الموجود- فكذلك لا يعلم الموجود- و نسب ابن الراوندي هذا القول إلى معمر بن عباد- أحد شيوخنا و أصحابنا يكذبونه في ذلك- و يدفعون الحكاية عنه- .
القول الرابع– قول من زعم أنه تعالى لا يعلم نفسه خاصة- و يعلم كل ما عدا ذاته- و نسب ابن الراوندي هذه المقالة إلى معمر أيضا- و قال إنه يقول إن العالم غير المعلوم- و الشيء لا يكون غير نفسه- و أصحابنا يكذبون ابن الراوندي في هذه الحكاية- و ينزهون معمرا عنها- .
القول الخامس قول من قال- إنه تعالى لم يكن فيما لم يزل عالما بشيء أصلا- و إنما أحدث لنفسه علما علم به الأشياء- و هو قول جهم بن صفوان- .
القول السادس قول من قال- إنه تعالى لا يعلم كل المعلومات على تفاصيلها- و إنما يعلم ذلك إجمالا و هؤلاء يسمون المسترسلية- لأنهم يقولون- يسترسل علمه على المعلومات إجمالا لا تفصيلا- و هو مذهب الجويني من متكلمي الأشعرية- .
القول السابع– قول من قال إنه تعالى يعلم المعلومات المفصلة- ما لم يفض القول به إلى محال- و زعموا أن القول بأنه يعلم كل شيء يفضي إلى محال- و هو أن يعلم و يعلم أنه يعلم- و هلم جرا إلى ما لا نهاية له- و كذلك المحال لازم إذا قيل إنه يعلم الفروع- و فروع الفروع و لوازمها- و لوازم لوازمها إلى ما لا نهاية له- قالوا و محال اجتماع كل هذه العلوم- غير المتناهية في الوجود- و هذا مذهب أبي البركات البغدادي صاحب المعتبر- .
القول الثامن– قول من زعم أنه تعالى لا يعلم الشخصيات الجزئية- و إنما يعلم الكليات التي لا يجوز عليها التغيير- كالعلم بأن كل إنسان حيوان و يعلم نفسه أيضا- و هذا مذهب أرسطو- و ناصري قوله من الفلاسفة كابن سينا و غيره- . القول التاسع- قول من زعم أنه تعالى لا يعلم شيئا أصلا- لا كليا و لا جزئيا- و إنما وجد العالم عنه لخصوصية ذاته فقط من غير أن يعلمه- كما أن المغناطيس يجذب الحديد لقوة فيه- من غير أن يعلم بالجذب- و هذا قول قوم من قدماء الفلاسفة- . فهذا تفصيل المذاهب في هذه المسألة- .
و اعلم أن حجة المتكلمين على كونه عالما بكل شيء- إنما تتضح بعد إثبات حدوث العالم- و أنه فعله بالاختيار- فحينئذ لا بد من كونه عالما- لأنه لو لم يكن عالما بشيء أصلا- لما صح أن يحدث العالم على طريق الاختيار- لأن الإحداث على طريق الاختيار- إنما يكون بالغرض و الداعي- و ذلك يقتضي كونه عالما- فإذا ثبت أنه عالم بشيء أفسدوا حينئذ- أن يكون عالما بمعنى اقتضى له العالمية- أو بأمر خارج عن ذاته- مختارا كان أو غير مختار-فحينئذ ثبت لهم أنه إنما علم- لأنه هذه الذات المخصوصة لا لشيء أزيد منها- فإذا كان لهم ذلك وجب أن يكون عالما بكل معلوم- لأن الأمر الذي أوجب كونه عالما بأمر ما- هو ذاته يوجب كونه عالما بغيره من الأمور- لأن نسبة ذاته إلى الكل نسبة واحدة- . فأما الجواب عن شبه المخالفين- فمذكور في المواضع المختصة بذلك- فليطلب من كتبنا الكلامية
الفصل الثاني في تفسير قوله ع و دلت عليه أعلام الظهور
فنقول إن الذي يستدل به على إثبات الصانع- يمكن أن يكون من وجهين- و كلاهما يصدق عليه أنه أعلام الظهور- أحدهما الوجود و الثاني الموجود- . أما الاستدلال عليه بالوجود نفسه- فهي طريقة المدققين من الفلاسفة- فإنهم استدلوا على أن مسمى الوجود مشترك- و أنه زائد على ماهيات الممكنات- و أن وجود البارئ لا يصح أن يكون زائدا على ماهيته- فتكون ماهيته وجودا- و لا يجوز أن تكون ماهيته عارية عن الوجود- فلم يبق إلا أن تكون ماهيته هي الوجود نفسه- و أثبتوا وجوب ذلك الوجود- و استحالة تطرق العدم بوجه ما- فلم يفتقروا في إثبات البارئ- إلى تأمل أمر غير نفس الوجود- .
و أما الاستدلال عليه بالموجود لا بالوجود نفسه- فهو الاستدلال عليه بأفعاله- و هي طريقة المتكلمين- قالوا كل ما لم يعلم بالبديهة و لا بالحس- فإنما يعلم بآثاره الصادرة عنه- و البارئ تعالى كذلك- فالطريق إليه ليس إلا أفعاله- فاستدلوا عليه بالعالم- و قالوا تارة العالم محدث و كل محدث له محدث- و قالوا تارة أخرى العالم ممكن فله مؤثر-و قال ابن سينا إن الطريقة الأولى- و هي الاستدلال عليه بالوجود نفسه أعلى و أشرف- لأنه لم يحتج فيها إلى الاحتجاج بأمر خارج عن ذاته- و استنبط آية من الكتاب العزيز في هذا المعنى- و هي قوله تعالى- سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ- حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ- . قال ابن سينا أقول- إن هذا حكم لقوم يعني المتكلمين و غيرهم- ممن يستدل عليه تعالى بأفعاله و تمام الآية- أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ- . قال هذا حكم الصديقين الذين يستشهدون به لا عليه- يعني الذين استدلوا عليه بنفس الوجود- و لم يفتقروا إلى التعلق بأفعاله في إثبات ربوبيته
الفصل الثالث في أن هويته تعالى غير هوية البشر
و ذلك معنى قوله ع و امتنع على عين البصير- و قوله و لا قلب من أثبته يبصره- و قوله و لم يطلع العقول على تحديد صفته- فنقول إن جمهور المتكلمين زعموا أنا نعرف حقيقة ذات الإله- و لم يتحاشوا من القول- بأنه تعالى لا يعلم من ذاته إلا ما نعلمه نحن منها- و ذهب ضرار بن عمرو- أن لله تعالى ماهية لا يعلمها إلا هو- و هذا هو مذهب الفلاسفة- و قد حكي عن أبي حنيفة و أصحابه أيضا- و هو الظاهر من كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل
الفصل الرابع في نفي التشبيه عنه تعالى
و هو معنى قوله ع بعد و قرب أي في حال واحدة- و ذلك يقتضي نفي كونه تعالى جسما- و كذلك قوله ع فلا استعلاؤه باعده- و لا قربه ساواهم في المكان به- فنقول إن مذهب جمهور المتكلمين نفي التشبيه- و هذا القول يتنوع أنواعا- .
النوع الأول نفي كونه تعالى جسما مركبا- أو جوهرا فردا غير مركب- و المراد بالجوهر هاهنا الجرم و الحجم و هو قول المعتزلة- و أكثر محققي المتكلمين من سائر الفرق- و إليه ذهبت الفلاسفة أيضا- .
و قال قوم من مستضعفي المتكلمين خلاف ذلك- فذهب هشام بن الحكم- إلى أنه تعالى جسم مركب كهذه الأجسام- و اختلفت الحكاية عنه- فروي عنه أنه قال إنه يشبر نفسه سبعة أشبار- و روي عنه أنه قال إنه على هيئة السبيكة- و روي عنه أنه قال- إنه على هيئة البلورة الصافية المستوية- الاستدارة من حيث أتيتها رأيتها على هيئة واحدة- و روي عنه أيضا قال إنه ذو صورة- و أصحابه من الشيعة يدفعون اليوم هذه الحكايات عنه- و يزعمون أنه لم يزد على قوله- أنه جسم لا كالأجسام- و أنه إنما أراد بإطلاق هذا اللفظ عليه إثباته- .و صدقوا عنه أنه كان يطلق عليه كونه نورا- لقول الله سبحانه اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ- .
و حكي عن محمد بن النعمان الأحول- المعروف بشيطان الطاق- و هشام بن سالم المعروف بالجواليقي- و أبي مالك بن الحضرمي- أنه نور على صورة الإنسان- و أنكروا مع ذلك أن يكون جسما- و هذه مناقضة ظاهرة- . و حكي عن علي بن ميثم مثله- و قد حكي عنه أنه كان يقول بالصورة و الجسم- .
و حكي عن مقاتل بن سليمان- و داود الجواربي و نعيم بن حماد المصري- أنه في صورة الإنسان و أنه لحم و دم- و له جوارح و أعضاء من يد و رجل و لسان و رأس و عينين- و هو مع ذلك لا يشبه غيره و لا يشبهه غيره- وافقهم على ذلك جماعة من العامة و من لا نظر له- . و حكي عن داود الجواربي أنه قال- اعفوني من الفرج و اللحية و سلوني عما وراء ذلك- و حكي عنه أنه قال هو أجوف من فيه إلى صدره- و ما سوى ذلك مصمت- . و حكى أبو عيسى الوراق- أن هشام بن سالم الجواليقي كان يقول إن له وفرة سوداء- . و ذهب جماعة من هؤلاء إلى القول بالمؤانسة- و الخلوة و المجالسة و المحادثة- .
و سئل بعضهم عن معنى قوله تعالى- فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ- فقال يقعد معه على سريره و يغلفه بيده- . و قال بعضهم سألت معاذا العنبري- فقلت أ له وجه- فقال نعم حتى عددت جميع الأعضاء من أنف و فم و صدر و بطن- و استحييت أن أذكر الفرج فأومأت بيدي إلى فرجي- فقال نعم فقلت أ ذكر أم أنثى فقال ذكر- . و يقال إن ابن خزيمة أشكل عليه القول في أنه أ ذكر أم أنثى-
فقال له بعض أصحابه إن هذا مذكور في القرآن- و هو قوله تعالى وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى- فقال أفدت و أجدت و أودعه كتابه- . و دخل إنسان على معاذ بن معاذ يوم عيد- و بين يديه لحم في طبيخ سكباج- فسأله عن البارئ تعالى في جملة ما سأله- فقال هو و الله مثل هذا الذي بين يدي لحم و دم- . و شهد بعض المعتزلة عند معاذ بن معاذ- فقال له لقد هممت أن أسقطك- لو لا أني سمعتك تلعن حماد بن سلمة- فقال أما حماد فلم ألعنه- و لكني ألعن من يقول- إنه سبحانه ينزل ليلة عرفة من السماء إلى الأرض- على جمل أحمر في هودج من ذهب- فإن كان حماد يروي هذا أو يقوله فعليه لعنة الله- فقال أخرجوه فأخرج- .
و قال بعضهم خرجنا يوم عيد إلى المصلى- فإذا جماعة بين يدي أمير- و الطبول تضرب و الأعلام تخفق فقال واحد من خلفنا- اللهم لا طبل إلا طبلك- فقل له لا تقل هكذا- فليس لله تعالى طبل فبكى- و قال أ رأيتم هو يجيء وحده و لا يضرب بين يديه طبل- و لا ينصب على رأسه علم فإذن هو دون الأمير- . و روى بعضهم أنه تعالى أجرى خيلا فخلق نفسه من مثلها- . و روى قوم منهم أنه نظر في المرآة- فرأى صورة نفسه فخلق آدم عليها- . و رووا أنه يضحك حتى تبدو نواجذه- .
و رووا أنه أمرد جعد قطط- في رجليه نعلان من ذهب- و أنه في روضة خضراء على كرسي تحمله الملائكة- . و رووا أنه يضع رجلا على رجل و يستلقي فإنها جلسة الرب- . و رووا أنه خلق الملائكة من زغب ذراعيه- و أنه اشتكى عينه فعادته الملائكة- و أنه يتصور بصورة آدم- و يحاسب الناس في القيامة- و له حجاب من الملائكة يحجبونه- .
و رووا عن النبي ص أنه قال رأيت ربي في أحسن صورة- فسألته عما يختلف فيه الملأ الأعلى- فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها- فعلمت ما اختلفوا فيه- .
و رووا أنه ينزل إلى السماء الدنيا في نصف شعبان- و أنه جالس على العرش- قد فضل منه أربع أصابع من كل جانب- و أنه يأتي الناس يوم القيامة فيقول أنا ربكم- فيقولون نعوذ بالله منك- فيقول لهم أ فتعرفونه إن رأيتموه- فيقولون بيننا و بينه علامة- فيكشف لهم عن ساقه- و قد تحول في الصورة التي يعرفونها- فيخرون له سجدا- . و رووا أنه يأتي في غمام فوقه هواء و تحته هواء- . و كان بطبرستان قاص من المشبهة يقص على الناس- فقال يوما في قصصه- إن يوم القيامة تجيء فاطمة بنت محمد- معها قميص الحسين ابنها- تلتمس القصاص من يزيد بن معاوية- فإذا رآها الله تعالى من بعيد- دعا يزيد و هو بين يديه- فقال له ادخل تحت قوائم العرش- لا تظفر بك فاطمة فيدخل و يختبئ- و تحضر فاطمة فتتظلم و تبكي- فيقول سبحانه انظري يا فاطمة إلى قدمي- و يخرجها إليها و به جرح من سهم نمرود-فيقول هذا جرح نمرود في قدمي و قد عفوت عنه- أ فلا تعفين أنت عن يزيد- فتقول هي أشهد يا رب أني قد عفوت عنه- . و ذهب بعض متكلمي المجسمة- إلى أن البارئ تعالى مركب من أعضاء على حروف المعجم- .
و قال بعضهم إنه ينزل على حمار في صورة غلام أمرد- في رجليه نعلان من ذهب- و على وجهه فراش من ذهب يتطاير- . و قال بعضهم إنه في صورة غلام أمرد صبيح الوجه- عليه كساء أسود ملتحف به- . و سمعت أنا في عصري هذا من قال في قوله تعالى- وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ- إنهم قيام على رأسه بسيوفهم و أسلحتهم- فقال له آخر على سبيل التهكم به- يحرسونه من المعتزلة أن يفتكوا به- فغضب و قال هذا إلحاد- .
و رووا أن النار تزفر و تتغيظ تغيظا شديدا- فلا تسكن حتى يضع قدمه فيها- فتقول قط قط أي حسبي حسبي- و يرفعون هذا الخبر مسندا- و قد ذكر شبيه به في الصحاح- . و روي في الكتب الصحاح أيضا- أن الله خلق آدم على صورته- و قيل إن في التوراة نحو ذلك في السفر الأول- . و اعلم أن أهل التوحيد- يتأولون ما يحتمل التأويل من هذه الروايات- على وجوه محتملة غير مستبعدة- و ما لا يحتمل التأويل منها يقطعون ببطلانه و بأنه موضوع- و للاستقصاء في هذا المعنى موضع غير هذا الموضع- . و حكى أبو إسحاق النظام- و محمد بن عيسى برغوث أن قوما قالوا- إنه تعالى الفضاء نفسه و ليس بجسم- لأن الجسم يحتاج إلى مكان و نفسه مكان الأشياء- .
و قال برغوث و طائفة منهم يقولون هو الفضاء نفسه- و هو جسم تحل الأشياء فيه- و ليس بذي غاية و لا نهاية و احتجوا بقوله تعالى- وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ- . فأما من قال إنه جسم لا كالأجسام- على معنى أنه بخلاف العرض- الذي يستحيل أن يتوهم منه فعل- و نفوا عنه معنى الجسمية- و إنما أطلقوا هذه اللفظة لمعنى أنه شيء لا كالأشياء- و ذات لا كالذوات فأمرهم سهل- لأن خلافهم في العبارة و هم- علي بن منصور و السكاك و يونس بن عبد الرحمن- و الفضل بن شاذان- و كل هؤلاء من قدماء رجال الشيعة- و قد قال بهذا القول ابن كرام و أصحابه- قالوا معنى قولنا فيه سبحانه أنه جسم- أنه قائم بذاته لا بغيره- . و المتعصبون لهشام بن الحكم من الشيعة في وقتنا هذا- يزعمون أنه لم يقل بالتجسيم المعنوي- و إنما قال إنه جسم لا كالأجسام- بالمعنى الذي ذكرناه عن يونس و السكاك و غيرهما- و إن كان الحسن بن موسى النوبختي- و هو من فضلاء الشيعة- قد روي عنه التجسيم المحض في كتاب الآراء و الديانات- .
النوع الثاني نفي الأعضاء و الجوارح عنه سبحانه- فالذي يذهب إليه المعتزلة- و سائر المحققين من المتكلمين نفي ذلك عنه- و قد تأولوا ما ورد في القرآن العزيز من ذلك- من نحو قوله تعالى لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ- و قوله سبحانه عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ و غير ذلك- و حملوه على وجوه صحيحة جائزة في اللغة العربية- . و أطلقت الكرامية عليه سبحانه لفظ اليدين و الوجه- و قالوا لا نتجاوز الإطلاق-و لا نفسر ذلك و لا نتأوله- و إنما نقتصر على إطلاق ما ورد به النص- . و أثبت الأشعري اليدين صفة قائمة بالبارئ سبحانه- و كذلك الوجه من غير تجسيم- . و قالت المجسمة إن لله تعالى يدين هما عضوان له- و كذلك الوجه و العين- و أثبتوا له رجلين قد فضلتا عن عرشه- و ساقين يكشف عنهما يوم القيامة- و قدما يضعها في جهنم فتمتلئ- و أثبتوا له ذلك معنى لا لفظا و حقيقة لا مجازا- . فأما أحمد بن حنبل فلم يثبت عنه تشبيه و لا تجسيم أصلا- و إنما كان يقول بترك التأويل فقط- و يطلق ما أطلقه الكتاب و السنة- و لا يخوض في تأويله- و يقف على قوله تعالى وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ- و أكثر المحصلين من أصحابه على هذا القول- .
النوع الثالث نفي الجهة عنه سبحانه- فالذي يذهب إليه المعتزلة- و جمهور المحققين من المتكلمين- أنه سبحانه ليس في جهة و لا مكان- و أن ذلك من توابع الجسمية- أو العرضية اللاحقة بالجسمية- فإذا انتفى عنه كونه جسما و كونه عرضا لم يكن في جهة أصلا- و إلى هذا القول يذهب الفلاسفة- .و ذهبت الكرامية و الحشوية- إلى أن الله تعالى في جهة فوق- و إليه ذهب هشام بن الحكم و علي بن منصور- و يونس بن عبد الرحمن- و هشام بن سالم الجواليقي- و كثير من أهل الحديث- . و ذهب محمد بن الهيصم- متكلم الكرامية إلى أنه تعالى ذات موجودة- منفردة بنفسها عن سائر الموجودات- لا تحل شيئا حلول الأعراض- و لا تمازج شيئا ممازجة الأجسام-بل هو مباين للمخلوقين إلا أنه في جهة فوق- و بينه و بين العرش بعد لا يتناهى- .
هكذا يحكي المتكلمون عنه- و لم أره في شيء من تصانيفه و أحالوا ذلك- لأن ما لا يتناهى لا يكون محصورا بين حاصرين- و أنا أستبعد عنه هذه الحكاية- لأنه كان أذكى من أن يذهب عليه فساد هذا القول- و حقيقة مذهب مثبتي المكان- أنه سبحانه متمكن على العرش- كما يتمكن الملك على سريره- فقيل لبعض هؤلاء أ هو أكبر من العرش- أم أصغر أم مساو له- فقال بل أكبر من العرش- فقيل له فكيف يحمله- فقال كما تحمل رجلا الكركي جسم الكركي- و جسمه أكبر من رجليه- و منهم من يجعله مساويا للعرش في المقدار- و لا يمتنع كثير منهم من إطلاق القول- بأن أطرافه تفضل عن العرش- و قد سمعت أنا من قال منهم- إنه مستو على عرشه- كما أنا مستو على هذه الدكة- و رجلاه على الكرسي الذي وسع السموات و الأرض- و الكرسي تحت العرش- كما يجعل اليوم الناس تحت أسرتهم كراسي- يستريحون بوضع أرجلهم عليها- .
و قال هؤلاء كلهم- إنه تعالى ينزل و يصعد حقيقة لا مجازا- و إنه يتحرك و ينزل- فمن ذلك نزوله إلى السماء الدنيا كما ورد في الخبر- و من ذلك إتيانه و مجيئه- كما نطق به الكتاب العزيز في قوله سبحانه- هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ- و قوله وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا- .و أطلق ابن الهيصم عليه هذه الألفاظ- اتباعا لما ورد في الكتاب و السنة- و قال لا أقول بمعانيها و لا أعتقد حركته الحقيقية- و إنما أرسلها إرسالا كما وردت- و أما غيره فاعتقد معانيها حقيقة- و قال ابن الهيصم في كتاب المقالات- إن أكثر الحشوية يجيز عليه تعالى العدو و الهرولة- .
و قال قوم منهم- إنه تعالى يجوز أن ينزل فيطوف البلدان- و يدور في السكك- . و قال بعض الأشعريين إن سائلا سأل السكاك- فقال إذا أجزت عليه الحركة- فهلا أجزت عليه أن يطفر- فقال لا يجوز عليه الطفر- لأن الطفر إنما يكون فرارا من ضد أو اتصالا بشكل- فقال له فالحركة أيضا كذلك فلم يأت بفرق- . فأما القول بأنه تعالى في كل مكان- فإن المعتزلة يقولون ذلك- و تريد به أنه و إن لم يكن في مكان أصلا- فإنه عالم بما في كل مكان- و مدبر لما في كل مكان- و كأنه موجود في جميع الأمكنة لإحاطته بالجميع- . و قال قوم من قدماء الفلاسفة- إن البارئ تعالى روح شديد في غاية اللطافة- و في غاية القوة ينفذ في كل العالم- و هؤلاء يطلقون عليه أنه في كل مكان حقيقة لا تأويلا- و من هؤلاء من أوضح هذا القول- و قال إنه تعالى سار في هذا العالم- سريان نفس الواحد منا في بدنه- فكما أن كل بدن منا له نفس سارية فيه تدبره- كذلك البارئ سبحانه هو نفس العالم- و سار في كل جزء من العالم- فهو إذا في كل مكان بهذا الاعتبار- لأن النفس في كل جزء من البدن- . و حكى الحسن بن موسى النوبختي- عن أهل الرواق من الفلاسفة- أن الجوهر الإلهي سبحانه روح ناري عقلي ليس له صورة- لكنه قادر على أن يتصور بأي صورة شاء و يتشبه بالكل- و ينفذ في الكل بذاته و قوته لا بعلمه و تدبيره- .
النوع الرابع نفي كونه عرضا حالا في المحل- فالذي تذهب إليه المعتزلة- و أكثر المسلمين و الفلاسفة نفي ذلك القول- باستحالته عليه سبحانه لوجوب وجوده- و كون كل حال في الأجسام ممكنا بل حادثا- .و ذهبت الحلولية من أهل الملة و غيرها- إلى أنه تعالى يحل في بعض الأجسام دون بعض- كما يشاء سبحانه- و إلى هذا القول ذهب أكثر الغلاة في أمير المؤمنين- و منهم من قال بانتقاله من أمير المؤمنين ع إلى أولاده- و منهم من قال بانتقاله من أولاده- إلى قوم من شيعته و أوليائه- و اتبعهم على هذه المقالة قوم من المتصوفة- كالحلاجية و البسطامية و غيرهم- . و ذهبت النسطورية من النصارى- إلى حلول الكلمة في بدن عيسى ع- كحلول السواد في الجسم- . فأما اليعقوبية من النصارى فلا تثبت الحلول- و إنما تثبت الاتحاد- بين الجوهر الإلهي و الجوهر الجسماني- و هو أشد بعدا من الحلول- .
النوع الخامس في نفي كونه تعالى محلا لشيء- ذهبت المعتزلة- و أكثر أهل الملة و الفلاسفة إلى نفي ذلك- و القول باستحالته على ذاته سبحانه- . و ذهبت الكرامية إلى أن الحوادث تحل في ذاته- فإذا أحدث جسما أحدث معنى حالا في ذاته و هو الإحداث- فحدث ذلك الجسم مقارنا لذلك المعنى أو عقيبه- قالوا و ذلك المعنى هو قول كن و هو المسمى خلقا- و الخلق غير المخلوق قال الله تعالى- ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ- قالوا لكنه قد أشهدنا ذواتها- فدل على أن خلقها غيرها- .
و صرح ابن الهيصم في كتاب المقالات- بقيام الحوادث بذات البارئ- فقال إنه تعالى إذا أمر أو نهى أو أراد شيئا- كان أمره و نهيه و إراداته كائنة بعد أن لم تكن- و هي قائمة به لأن قوله منه يسمع و كذلك إرادته منه توجد- . قال و ليس قيام الحوادث بذاته دليلا على حدوثه- و إنما يدل على الحدوث- تعاقب الأضداد التي لا يصح أن يتعطل منها- و البارئ تعالى لا تتعاقب عليه الأضداد- . و ذهب أبو البركات البغدادي صاحب المعتبر- إلى أن الحوادث تقوم بذات البارئ سبحانه- و إنه لا يصح إثبات الإلهية إلا بذلك- و قال إن المتكلمين ينزهونه عن ذلك- و التنزيه عن هذا التنزيه هو الواجب- . و ذهب أصحابنا و أكثر المتكلمين- إلى أن ذلك لا يصح في حق واجب الوجود- و أنه دليل على إمكان ذاته بل على حدوثها- و أجازوا مع ذلك عليه أن يتجدد له صفات- يعنون الأحوال لا المعاني- نحو كونه مدركا بعد أن لم يكن- و كقول أبي الحسين أنه يتجدد له عالمية بما وجد- و كان من قبل عالما بأنه سيوجد- و إحدى هاتين الصفتين غير الأخرى- . و قالوا إن الصفات و الأحوال قيل مفرد عن المعاني- و المحال إنما هو حلول المعاني في ذاته- لا تجدد الصفات لذاته- و للكلام في هذا الباب موضع هو أليق به- .
النوع السادس في نفي اتحاده تعالى بغيره- ذهب أكثر العقلاء إلى استحالة ذلك- و ذهبت اليعقوبية من النصارى- إلى أن الكلمة اتحدت بعيسى- فصارت جوهرا من جوهرين أحدهما إلهي و الآخر جسماني- و قد أجاز الاتحاد في نفس الأمر- لا في ذات البارئ قوم من قدماء الفلاسفة منهم فرفريوس- و أجازه أيضا منهم من ذهب- إلى أن النفس إنما تعقل المعقولات- لاتحادها بالجوهر- المفارق المفيض للنفوس على الأبدان- و هو المسمى بالعقل الفعال- .
النوع السابع– في نفي الأعراض الجسمانية عنه من التعب و الاستراحة- و الألم و اللذة و الغم و السرور و نحو ذلك- . و ذهبت المعتزلة و أكثر العقلاء من أهل الملة- و غيرهم إلى نفي ذلك- و القول باستحالته عليه سبحانه- . و ذهبت الفلاسفة إلى جواز اللذة عليه- و قالوا إنه يلتذ بإدراك ذاته و كماله- لأن إدراك الكمال هو اللذة أو سبب اللذة- و هو تعالى أكمل الموجودات- و إدراكه أكمل الإدراكات- و إلى هذا القول ذهب محمد الغزالي من الأشعرية- . و حكى ابن الراوندي عن الجاحظ- أن أحد قدماء المعتزلة و يعرف بأبي شعيب- كان يجوز عليه تعالى السرور و الغم و الغيرة و الأسف- و يذكر في ذلك ما رويعن النبي ص أنه قال لا أحد أغير من الله- و إنه تعالى يفرح بتوبة عبده و يسر بها- .
و قال تعالى فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ- و قال مقال المتحسر على الشيء- يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ- و حكي عنه أيضا أنه يجوز عليه أن يتعب و يستريح- و يحتج بقوله وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ- .و هذه الألفاظ كلها عند أصحابنا متأولة- محمولة على محامل صحيحة- تشتمل على شرحها الكتب المبسوطة- .
النوع الثامن في أنه تعالى ليس بمتلون- لم يصرح أحد من العقلاء- قاطبة بأن الله تعالى متلون- و إنما ذهب قوم من أهل التشبيه و التجسيم إلى أنه نور- فإذا أبصرته العيون- و أدركته أبصرت شخصا نورانيا مضيئا- لم يزيدوا على ذلك- و لم يصرحوا بإثبات اللون بهذه العبارة- و إن كان كل مضيء ملونا- .
النوع التاسع في أنه تعالى لا يشتهي و لا ينفر- ذهب شيوخنا المتكلمون إلى أنه سبحانه- لا يصح عليه الشهوة و النفرة- لأنهما إنما يصحان على ما يقبل الزيادة و النقصان- بطريق الاغتذاء و النمو- و البارئ سبحانه و تعالى يتعالى عن ذلك- و ما عرفت لأحد من الناس خلافا في ذلك- اللهم إلا أن يطلق هاتان اللفظتان- على مسمى الإرادة و الكراهية على سبيل المجاز- .
النوع العاشر في أن البارئ تعالى غير متناهي الذات- قالت المعتزلة- لما كان البارئ تعالى ليس بجسم و جسماني- و كانت النهاية من لواحق الأشياء ذوات المقادير- يقال هذا الجسم متناه أي ذو طرف- . قلنا إن ذات البارئ تعالى غير متناهية- لا على معنى أن امتداد ذاته غير متناه- فإنه سبحانه ليس بذي امتداد- بل بمعنى أن الموضوع الذي يصدق عليه النهاية- ليس بمتحقق في حقه سبحانه- فقلنا إن ذاته غير متناهية- كما يقول المهندس إن النقطة غير متناهية- لا على معنى أن لها امتدادا غير متناه- فإنها ليست بممتدة أصلا- بل على معنى أن الأمر الذي تصدق عليه النهاية- و هو الامتداد لا يصدق عليها- فإذن صدق عليها أنها غير متناهية- و هذا قول الفلاسفة و أكثر المحققين- .
و قالت الكرامية- البارئ تعالى ذات واحدة- منفردة عن العالم قائمة بنفسها- مباينة للموجودات متناهية في ذاتها- و إن كنا لا نطلق عليها هذا اللفظ- لما فيه من إيهام انقطاع وجودها و تصرم بقائها- . و أطلق هشام بن الحكم و أصحابه عليه تعالى القول- بأنه متناهي الذات غير متناهي القدرة- . و قال الجاحظ إن لي قوما زعموا- أنه تعالى ذاهب في الجهات الست التي لا نهاية لها- . النوع الحادي عشر في أنه تعالى لا تصح رؤيته- قالت المعتزلة- رؤية البارئ تعالى مستحيلة في الدنيا و الآخرة- و إنما يصح أن يرى المقابل ذو الجهة- . و قالت الكرامية و الحنابلة و الأشعرية- تصح رؤيته و يرى في الآخرة يراه المؤمنون ثم اختلفوا- فقالت الكرامية و الحنابلة يرى في جهة فوق- و حكي عن مضر و كهمس و أحمد الجبي- أنهم أجازوا رؤيته في الدنيا و ملامسته و مصافحته- و زعموا أن المخلصين يعانقونه متى شاءوا- و يسمون الحبية- . و حكى شيخنا أبو الحسين في التصفح- عن أيوب السجستاني من المرجئة- أن البارئ تعالى تصح رؤيته و لمسه- . و ذهب قوم إلى أنهم لا يزالون يرون الله تعالى- و أن الناس كلهم كافرهم و مؤمنهم يرونه- و لكن لا يعرفونه- .
و قال من ترفع عن هذه الطبقة منهم- لا يجوز أن يرى بعين خلقت للفناء- و إنما يرى في الآخرة بعين خلقت للبقاء- . و قال كثير من هؤلاء- إن محمدا ص رأى ربه بعيني رأسه ليلة المعراج- . و رووا عن كعب الأحبار- أن الله تعالى قسم كلامه و رؤيته بين موسى و محمد ع- . و رووا عن المبارك بن فضالة أن الحسن كان يحلف بالله- قد رأى محمد ربه- . و تعلق كثير منهم بقوله تعالى- وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى- و قالوا كلمه موسى ع مرتين- و رآه محمد ص مرتين- . و أنكر ابن الهيصم مع اعتقاده أقوال الكرامية ذلك- و قال إن محمدا ص لم يره- و لكنه سوف يراه في الآخرة- . قال و إلى هذا القول ذهبت عائشة و أبو ذر و قتادة- و قد روي مثله عن ابن عباس و ابن مسعود- . و اختلف من قال إنه يرى في الآخرة- هل يجوز أن يراه الكافر- فقال أكثرهم إن الكفار لا يرونه- لأن رؤيته كرامة و الكافر لا كرامة له- و قالت السالمية و بعض الحشوية- إن الكفار يرونه يوم القيامة- و هو قول محمد بن إسحاق بن خزيمة- ذكر ذلك عنه محمد بن الهيصم- . فأما الأشعري و أصحابه- فإنهم لم يقولوا كما قال هؤلاء- إنه يرى كما يرى الواحد منا- بل قالوا يرى و ليس فوقا و لا تحتا- و لا يمينا و لا شمالا و لا أماما و لا وراء- و لا يرى كله و لا بعضه- و لا هو في مقابلة الرائي و لا منحرفا عنه- و لا تصح الإشارة إليه إذا رئي-و هو مع ذلك يرى و يبصر- و أجازوا أيضا عليه أن تسمع ذاته- و أن تشم و تذاق و تحس لا على طريق الاتصال- بل تتعلق هذه الإدراكات كلها بذاته- تعلقا عاريا عن الاتصال- و أنكرت الكرامية ذلك- و لم يجيزوا عليه إلا إدراك البصر وحده- و ناقضهم شيخنا أبو الحسين في التصفح- و ألزمهم أحد أمرين- إما نفي الجميع أو إثبات إدراكه من جميع الجهات- كما يقوله الأشعرية- . و ذهب ضرار بن عمرو- إلى أن الله تعالى يرى يوم القيامة بحاسة سادسة- لا بهذا البصر- و قيل ذلك عن جماعة غيره- . و قال قوم يجوز أن يحول الله تعالى قوة القلب إلى العين- فيعلم الله تعالى بها- فيكون ذلك الإدراك علما باعتبار أنه بقوة القلب- و رؤية باعتبار أنه قد وقع بالمعنى الحال في العين- . فهذه الأنواع الأحد عشر هي الأقوال- و المذاهب التي يشتمل قوله ع بنفي التشبيه عليها- و سيأتي من كلامه ع في نفي التشبيه- ما هو أشد تصريحا من الألفاظ التي نحن في شرحها
الفصل الخامس في بيان أن الجاحد له مكابر بلسانه و مثبت له بقلبه
و هو معنى قوله ع فهو الذي تشهد له أعلام الوجود- على إقرار قلب ذي الجحود- . لا شبهة في أن العلم بافتقار المتغير إلى المغير ضروري- و العلم بأن المتغير ليس هو المغير-إما أن يكون ضروريا أو قريبا من الضروري- فإذا قد شهدت أعلام الوجود- على أن الجاحد لإثبات الصانع- إنما هو جاحد بلسانه لا بقلبه- لأن العقلاء لا يجحدون الأوليات بقلوبهم- و إن كابروا بألسنتهم- و لم يذهب أحد من العقلاء إلى نفي الصانع سبحانه- . و أما القائلون بأن العالم وجد عن طبيعة- و أن الطبيعة هي المدبرة له- و القائلون بتصادم الأجزاء في الخلاء الذي لا نهاية له- حتى حصل منها هذا العالم- و القائلون بأن أصل العالم- و أساس بنيته هو النور و الظلمة- و القائلون بأن مبادئ العالم هي الأعداد المجردة- و القائلون بالهيولى القديمة- التي منها حدث العالم- و القائلون بعشق النفس للهيولى- حتى تكونت منها هذه الأجسام- فكل هؤلاء أثبتوا الصانع- و إنما اختلفوا في ماهيته و كيفية فعله- .
و قال قاضي القضاة إن أحدا من العقلاء- لم يذهب إلى نفي الصانع للعالم بالكلية- و لكن قوما من الوراقين اجتمعوا و وضعوا بينهم مقالة- لم يذهب أحد إليها- و هي أن العالم قديم لم يزل على هيئته هذه- و لا إله للعالم و لا صانع أصلا و إنما هو هكذا ما زال- و لا يزال من غير صانع و لا مؤثر- . قال و أخذ ابن الراوندي هذه المقالة- فنصرها في كتابه المعروف بكتاب التاج- قال فأما الفلاسفة القدماء و المتأخرون- فلم ينفوا الصانع- و إنما نفوا كونه فاعلا بالاختيار و تلك مسألة أخرى- قال و القول بنفي الصانع قريب من القول بالسفسطة- بل هو هو بعينه- لأن من شك في المحسوس أعذر ممن قال- إن المتحركات تتحرك من غير محرك حركها- .و قول قاضي القضاة هذا- هو محض كلام أمير المؤمنين ع و عينه- و ليس قول الجاحظ هو هذا- لأن الجاحظ يذهب إلى أن جميع المعارف- و العلوم الإلهية ضرورية- و نحن ما ادعينا في هذا المقام- إلا أن العلم بإثبات الصانع فقط هو الضروري- فأين أحد القولين من الآخر
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 3