48 و من خطبة له ع عند المسير إلى الشام
الْحَمْدُ لِلَّهِ كُلَّمَا وَقَبَ لَيْلٌ وَ غَسَقَ- وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ كُلَّمَا لَاحَ نَجْمٌ وَ خَفَقَ- وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ غَيْرَ مَفْقُودِ الْإِنْعَامِ وَ لَا مُكَافَإِ الْإِفْضَالِ- أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَعَثْتُ مُقَدِّمَتِي- وَ أَمَرْتُهُمْ بِلُزُومِ هَذَا الْمِلْطَاطِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرِي- وَ قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَقْطَعَ هَذِهِ النُّطْفَةَ إِلَى شِرْذِمَةٍ مِنْكُمْ- مُوطِنِينَ أَكْنَافَ دِجْلَةَ- فَأُنْهِضَهُمْ مَعَكُمْ إِلَى عَدُوِّكُمْ- وَ أَجْعَلَهُمْ مِنْ أَمْدَادِ الْقُوَّةِ لَكُمْ قال الرضي رحمه الله- يعني ع بالملطاط هاهنا- السمت الذي أمرهم بلزومه و هو شاطئ الفرات- و يقال ذلك أيضا لشاطئ البحر- و أصله ما استوى من الأرض- و يعني بالنطفة ماء الفرات- و هو من غريب العبارات و عجيبها- وقب الليل أي دخل قال الله تعالى- وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ- . و غسق أي أظلم و خفق النجم أي غاب- .و مقدمة الجيش بكسر الدال أوله- و ما يتقدم منه على جمهور العسكر- و مقدمة الإنسان بفتح الدال صدره- و الملطاط حافة الوادي و شفيرة- و ساحل البحر قال رؤبة-نحن جمعنا الناس بالملطاط– .
قال الأصمعي يعني به ساحل البحر- و قول ابن مسعود هذا الملطاط طريق بقية المؤمنين- هرابا من الدجال يعني به شاطئ الفرات- . فأما قول الرضي رحمه الله تعالى- الملطاط السمت الذي أمرهم بلزومه و هو شاطئ الفرات- و يقال ذلك لشاطئ البحر فلا معنى له- لأنه لا فرق بين شاطئ الفرات و شاطئ البحر- و كلاهما أمر واحد- و كان الواجب أن يقول الملطاط السمت في الأرض- و يقال أيضا لشاطئ البحر- . و الشرذمة نفر قليلون- . و موطنين أكناف دجلة- أي قد جعلوا أكنافها وطنا أوطنت البقعة- و الأكناف الجوانب واحدها كنف- و الأمداد جمع مدد و هو ما يمد به الجيش تقوية له- . و هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين ع و هو بالنخيلة- خارجا من الكوفة- و متوجها إلى صفين لخمس بقين من شوال سنة سبع و ثلاثين- ذكرها جماعة من أصحاب السير و زادوا فيها-قد أمرت على المصر عقبة بن عمرو الأنصاري- و لم آلكم و لا نفسي- فإياكم و التخلف و التربص- فإني قد خلفت مالك بن حبيب اليربوعي- و أمرته ألا يترك متخلفا إلا ألحقه بكم عاجلا إن شاء الله -.
و روى نصر بن مزاحم عوض قوله- فأنهضهم معكم إلى عدوكم- فأنهضهم معكم إلى عدو الله-قال نصر فقام إليه معقل بن قيس الرياحي- فقال يا أمير المؤمنين و الله ما يتخلف عنك إلا ظنين- و لا يتربص بك إلا منافق- فمر مالك بن حبيب فليضرب أعناق المتخلفين- فقال قد أمرته بأمري و ليس بمقصر إن شاء الله
أخبار علي في جيشه و هو في طريقه إلى صفين
قال نصر بن مزاحم ثم سار ع حتى انتهى إلى مدينة بهرسير- و إذا رجل من أصحابه يقال له حر بن سهم بن طريف- من بني ربيعة بن مالك ينظر إلى آثار كسرى- و يتمثل بقول الأسود بن يعفر-
جرت الرياح على محل ديارهم
فكأنما كانوا على ميعاد
فقال له ع ألا قلت- كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ- وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ- وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ- كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ- فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ- إن هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا مورثين- و لم يشكروا النعمة- فسلبوا دنياهم بالمعصية- إياكم و كفر النعم لا تحل بكم النقم- انزلوا بهذه الفجوة- .
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن مسلم الأعور عن حبة العرني- قال أمر علي ع الحارث الأعور فصاح في أهل المدائن- من كان من المقاتلة فليواف أمير المؤمنين ع صلاة العصر- فوافوه في تلك الساعة فحمد الله و أثنى عليه-ثم قال أما بعد- فإني قد تعجبت من تخلفكم عن دعوتكم- و انقطاعكم عن أهل مصركم في هذه المساكن الظالم أهلها- الهالك أكثر ساكنيها- لا معروف يأمرون به- و لا منكر ينهون عنه- .
قالوا يا أمير المؤمنين- إنا ننتظر أمرك مرنا بما أحببت- فسار و خلف عليهم عدي بن حاتم- أقام عليهم ثلاثا ثم خرج في ثمانمائة رجل منهم- و خلف ابنه زيدا بعده- فلحقه في أربعمائة رجل منهم- . و جاء علي ع حتى مر بالأنبار- فاستقبله بنو خشنوشك دهاقينها- قال نصر الكلمة فارسية- أصلها خش أي الطيب- قال فلما استقبلوه نزلوا عن خيولهم- ثم جاءوا يشتدون معه- و بين يديه و معهم براذين قد أوقفوها في طريقه- فقال ما هذه الدواب التي معكم- و ما أردتم بهذا الذي صنعتم- قالوا أما هذا الذي صنعنا فهو خلق منا نعظم به الأمراء- و أما هذه البراذين فهدية لك- و قد صنعنا للمسلمين طعاما- و هيأنا لدوابكم علفا كثيرا- .
فقال ع أما هذا الذي زعمتم أنه فيكم خلق تعظمون به الأمراء- فو الله ما ينفع ذلك الأمراء- و إنكم لتشقون به على أنفسكم و أبدانكم- فلا تعودواله- و أما دوابكم هذه- فإن أحببتم أن آخذها منكم- و أحسبها لكم من خراجكم أخذناها منكم- و أما طعامكم الذي صنعتم لنا- فإنا نكره أن نأكل من أموالكم إلا بثمن- قالوا يا أمير المؤمنين نحن نقومه ثم نقبل ثمنه- قال إذا لا تقومونه قيمته- نحن نكتفي بما هو دونه- قالوا يا أمير المؤمنين- فإن لنا من العرب موالي و معارف- أ تمنعنا أن نهدي لهم أو تمنعهم أن يقبلوا منا- فقال كل العرب لكم موال- و ليس ينبغي لأحد من المسلمين أن يقبل هديتكم- و إن غصبكم أحد فأعلمونا- قالوا يا أمير المؤمنين- إنا نحب أن تقبل هديتنا و كرامتنا- قال ويحكم فنحن أغنى منكم و تركهم و سار- .
قال نصر و حدثنا عبد العزيز بن سياه- قال حدثنا حبيب بن أبي ثابت- قال حدثنا أبو سعيد التيمي المعروف بعقيصي- قال كنا مع علي ع في مسيره إلى الشام- حتى إذا كنا بظهر الكوفة من جانب هذا السواد- عطش الناس و احتاجوا إلى الماء- فانطلق بنا علي ع حتى أتى بنا إلى صخرة ضرس في الأرض- كأنها ربضة عنز فأمرنا فاقتلعناها- فخرج لنا من تحتها ماء فشرب الناس منه و ارتووا- ثم أمرنا فأكفأناها عليه- و سار الناس حتى إذا مضى قليلا- قال ع أ منكم أحد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه- قالوا نعم يا أمير المؤمنين-
قال فانطلقوا إليه- فانطلق منا رجال ركبانا و مشاة فاقتصصنا الطريق إليه- حتى انتهينا إلى المكان الذي نرى أنه فيه- فطلبناه فلم نقدر على شيء- حتى إذا عيل علينا انطلقنا إلى دير قريبمنا- فسألناهم أين هذا الماء الذي عندكم- قالوا ليس قربنا ماء- فقلنا بلى إنا شربنا منه- قالوا أنتم شربتم منه قلنا نعم- فقال صاحب الدير- و الله ما بني هذا الدير إلا بذلك الماء- و ما استخرجه إلا نبي أو وصي نبي- .
قال نصر ثم مضى ع حتى نزل بأرض الجزيرة- فاستقبله بنو تغلب و النمر بن قاسط بجزور- فقال ع ليزيد بن قيس الأرحبي يا يزيد- قال لبيك يا أمير المؤمنين- قال هؤلاء قومك من طعامهم فاطعم و من شرابهم فاشرب- . قال ثم سار حتى أتى الرقة و جل أهلها عثمانية- فروا من الكوفة إلى معاوية- فأغلقوا أبوابها دونه و تحصنوا- و كان أميرهم سماك بن مخرقة الأسدي في طاعة معاوية- و قد كان فارق عليا ع في نحو من مائة رجل من بني أسد- ثم كاتب معاوية و أقام بالرقة- حتى لحق به سبعمائة رجل- .
قال نصر فروى حبة أن عليا ع لما نزل على الرقة- نزل بموضع يقال له البليخ على جانب الفرات- فنزل راهب هناك من صومعته- فقال لعلي ع إن عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا- كتبه أصحاب عيسى ابن مريم أعرضه عليك- قال نعم فقرأ الراهب الكتاب- بسم الله الرحمن الرحيم- الذي قضي فيما قضي- و سطر فيما كتب- أنه باعث في الأميين رسولا منهم- يعلمهم الكتاب و الحكمة- و يدلهم على سبيل الله لا فظ و لا غليظ- و لا صخاب في الأسواق و لا يجزي بالسيئة السيئة- بل يعفو و يصفح- أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل نشر- و في كل صعود و هبوط- تذل ألسنتهم بالتكبير و التهليل و التسبيح- و ينصره الله على من ناواه- فإذا توفاه الله اختلفت أمته من بعده ثم اجتمعت- فلبثت ما شاء الله ثم اختلفت- فيمر رجل من أمته بشاطئ هذا الفرات- يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر- و يقضي بالحق و لا يركس الحكم- الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح- و الموت أهون عليه من شرب الماء على الظمآن- يخاف الله في السر و ينصح له في العلانية- لا يخاف في الله لومة لائم- فمن أدرك ذلك النبي من أهل هذه البلاد- فآمن به كان ثوابه رضواني و الجنة- و من أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره- فإن القتل معه شهادة- . ثم قال له أنا مصاحبك- فلا أفارقك حتى يصيبني ما أصابك فبكى ع-ثم قال الحمد لله الذي لم أكن عنده منسيا- الحمد لله الذي ذكرني عنده في كتب الأبرار- . فمضى الراهب معه- فكان فيما ذكروا يتغدى مع أمير المؤمنين و يتعشى- حتى أصيب يوم صفين- فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم-قال ع اطلبوه فلما وجدوه صلى عليه و دفنه- و قال هذا منا أهل البيت و استغفر له مرارا- .
روى هذا الخبر نصر بن مزاحم في كتاب صفين- عن عمر بن سعد عن مسلم الأعور عن حبة العرني- و رواه أيضا إبراهيم بن ديزيل الهمداني- بهذا الإسناد عن حبة أيضا في كتاب صفين- .
و روى ابن ديزيل في هذا الكتاب قال حدثني يحيى بن سليمان حدثني يحيى بن عبد الملك بن حميد بن عتيبة عن أبيه عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه و محمد بن فضيل عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبي سعيد الخدري رحمه الله قال كنا مع رسول الله ص فانقطع شسع نعله- فألقاها إلى علي ع يصلحها- ثم قال إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن- كما قاتلت على تنزيله- فقال أبو بكر الصديق أنا هو يا رسول الله فقال لا- فقال عمر بن الخطاب أنا هو يا رسول الله- قال لا و لكنه ذاكم خاصف النعل- و يد علي ع على نعل النبي ص يصلحها- . قال أبو سعيد فأتيت عليا ع فبشرته بذلك فلم يحفل به- كأنه شيء قد كان علمه من قبل- .
و روى ابن ديزيل في هذا الكتاب أيضا- عن يحيى بن سليمان عن ابن فضيل- عن إبراهيم الهجري عن أبي صادق- قال قدم علينا أبو أيوب الأنصاري العراق- فأهدت له الأزد جزرا فبعثوها معي- فدخلت إليه فسلمت عليه- و قلت له يا أبا أيوب- قد كرمك الله عز و جل بصحبة نبيه ص و نزوله عليك- فما لي أراك تستقبل الناس بسيفك- تقاتلهم هؤلاء مرة و هؤلاء مرة- قال إن رسول الله ص عهد إلينا- أن نقاتل مع علي الناكثين فقد قاتلناهم- و عهد إلينا أن نقاتل معه القاسطين- فهذا وجهنا إليهم يعني معاوية و أصحابه- و عهد إلينا أن نقاتل معه المارقين و لم أرهم بعد- .
و روى ابن ديزيل أيضا في هذا الكتاب عن يحيى عن يعلى بن عبيد الحنفي عن إسماعيل السدي عن زيد بن أرقم قال كنا مع رسول الله ص و هو في الحجرة يوحى إليه- و نحن ننتظره حتى اشتد الحر- فجاء علي بن أبي طالب و معه فاطمة- و حسن و حسين ع- فقعدوا في ظل حائط ينتظرونه- فلما خرج رسول الله ص رآهم فأتاهم- و وقفنا نحن مكاننا- ثم جاء إلينا و هو يظلهم بثوبه- ممسكا بطرف الثوب- و علي ممسك بطرفه الآخر و هو يقول- اللهم إني أحبهم فأحبهم- اللهم إني سلم لمن سالمهم و حرب لمن حاربهم- قال فقال ذلك ثلاث مرات
قال إبراهيم في الكتاب المذكور و حدثنا يحيى بن سليمان قال حدثنا ابن فضيل قال حدثنا الحسن بن الحكم النخعي عن رباح بن الحارث النخعي قال كنت جالسا عند علي ع إذ قدم عليه قوم متلثمون- فقالوا السلام عليك يا مولانا- فقال لهم أ و لستم قوما عربا قالوا بلى- و لكنا سمعنا رسول الله ص يقول يوم غدير خم- من كنت مولاه فعلي مولاه- اللهم وال من والاه- و عاد من عاداه- و انصر من نصره و اخذل من خذله- قال فلقد رأيت عليا ع ضحك حتى بدت نواجذه- ثم قال اشهدوا- . ثم إن القوم مضوا إلى رحالهم فتبعتهم- فقلت لرجل منهم من القوم- قالوا نحن رهط من الأنصار- و ذاك يعنون رجلا منهم أبو أيوب- صاحب منزل رسول الله ص قال فأتيته فصافحته- .
قال نصر و حدثني عمر بن سعد- عن نمير بن وعلة عن أبي الوداك أن عليا ع- بعث من المدائن معقل بن قيس الرياحي في ثلاث آلاف- و قال له خذ علىالموصل ثم نصيبين ثم القنى بالرقة- فإني موافيها و سكن الناس و أمنهم- و لا تقاتل إلا من قاتلك و سر البردين و غور بالناس- أقم الليل و رفه في السير- و لا تسر أول الليل- فإن الله جعله سكنا- أرح فيه بدنك و جندك و ظهرك- فإذا كان السحر أو حين يتبلج الفجر فسر- . فسار حتى أتى الحديثة- و هي إذ ذاك منزل الناس- و إنما بنى مدينة الموصل بعد ذلك محمد بن مروان- فإذا بكبشين ينتطحان- و مع معقل بن قيس رجل من خثعم يقال له شداد بن أبي ربيعة- قتل بعد ذلك مع الحرورية فأخذ يقول إيه إيه- فقال معقل ما تقول فجاء رجلان نحو الكبشين- فأخذ كل واحد منهما كبشا و انصرفا- فقال الخثعمي لمعقل لا تغلبون و لا تغلبون- فقال معقل من أين علمت- قال أ ما أبصرت الكبشين- أحدهما مشرق و الآخر مغرب- التقيا فاقتتلا و انتطحا- فلم يزل كل واحد من مصاحبه منتصفا- حتى أتى كل واحد منهما صاحبه فانطلق به- فقال معقل أ و يكون خيرا مما تقول يا أخا خثعم- ثم مضى حتى وافى عليا ع بالرقة- .
قال نصر و قالت طائفة من أصحاب علي ع له- يا أمير المؤمنين اكتب إلى معاوية و من قبله من قومك- فإن الحجة لا تزداد عليهم بذلك إلا عظما-فكتب إليهم ع بسم الله الرحمن الرحيم- من عبد الله- علي أمير المؤمنين إلى معاوية و من قبله من قريش-سلام عليكم- فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو- أما بعد فإن لله عبادا آمنوا بالتنزيل- و عرفوا التأويل و فقهوا في الدين- و بين الله فضلهم في القرآن الحكيم- و أنتم في ذلك الزمان أعداء للرسول- تكذبون بالكتاب مجمعون على حرب المسلمين- من ثقفتم منهم حبستموه أو عذبتموه أو قتلتموه- حتى أراد الله تعالى إعزاز دينه و إظهار أمره- فدخلت العرب في الدين أفواجا- و أسلمت له هذه الأمة طوعا و كرها- فكنتم فيمن دخل في هذا الدين- إما رغبة و إما رهبة- على حين فاز أهل السبق بسبقهم- و فاز المهاجرون الأولون بفضلهم- و لا ينبغي لمن ليست له مثل سوابقهم في الدين- و لا فضائلهم في الإسلام- أن ينازعهم الأمر الذي هم أهله و أولى به- فيجور و يظلم- و لا ينبغي لمن كان له عقل أن يجهل قدره و يعدو طوره- و يشقى نفسه بالتماس ما ليس بأهله- فإن أولى الناس بأمر هذه الأمة قديما و حديثا- أقربها من الرسول و أعلمها بالكتاب- و أفقهها في الدين أولها إسلاما- و أفضلها جهادا- و أشدها بما تحمله الأئمة من أمر الأمة اضطلاعا- فاتقوا الله الذي إليه ترجعون- و لا تلبسوا الحق بالباطل و تكتموا الحق و أنتم تعلمون- و اعلموا أن خيار عباد الله الذين يعملون بما يعلمون- و أن شرارهم الجهال الذين ينازعون بالجهل أهل العلم- فإن للعالم بعلمه فضلا- و إن الجاهل لا يزداد بمنازعته العالم إلا جهلا- ألا و إني أدعوكم إلى كتاب الله و سنة نبيه- و حقن دماء هذه الأمة- فإن قبلتم أصبتم رشدكم- و اهتديتم لحظكم- و إن أبيتم إلا الفرقة و شق عصا هذه الأمة- لم تزدادوا من الله إلا بعدا- و لا يزداد الرب عليكم إلا سخطا و السلام- . فكتب إليه معاوية جواب هذا الكتاب سطرا واحدا- و هو أما بعد فإنه-
ليس بيني و بين قيس عتاب
غير طعن الكلي و ضرب الرقاب
فقال علي ع لما أتاه هذا الجواب إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ- وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَقال نصر و قال علي ع لأهل الرقة- جسروا لي جسرا أعبر عليه من هذا المكان إلى الشام فأبوا- و قد كانوا ضموا السفن إليهم- فنهض من عندهم ليعبر على جسر منبج و خلف عليهم الأشتر- فقال يا أهل هذا الحصن إني أقسم بالله- إن مضى أمير المؤمنين ع- و لم تجسروا له عند مدينتكم حتى يعبر منها- لأجردن فيكم السيف فلأقتلن مقاتلكم- و لأخربن أرضكم و لآخذن أموالكم- . فلقي بعضهم بعضا- فقالوا إن الأشتر يفي بما حلف عليه- و إنما خلفه علي عندنا ليأتينا بشر- فبعثوا إليه إنا ناصبون لكم جسرا فأقبلوا- فأرسل الأشتر إلى علي ع فجاء و نصبوا له الجسر- فعبر الأثقال و الرجال- و أمر الأشتر فوقف في ثلاثة آلاف فارس- حتى لم يبق من الناس أحد إلا عبر- ثم عبر آخر الناس رجلا- . قال نصر و ازدحمت الخيل حين عبرت- فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبي الحصين- فنزل فأخذها و ركب- ثم سقطت قلنسوة عبد الله بن الحجاج فنزل فأخذها- ثم ركب فقال لصاحبه-
فإن يك ظن الزاجري الطير صادقا
كما زعموا أقتل وشيكا و تقتل
فقال عبد الله بن أبي الحصين- ما شيء أحب إلي مما ذكرت فقتلا معا يوم صفين- .قال نصر فلما قطع علي ع الفرات- دعا زياد بن النضر و شريح بن هانئ- فسرحهما أمامه نحو معاوية- على حالهما الذي كانا عليه حين خرجا من الكوفة- في اثني عشر ألفا- و قد كانا حيث سرحهما من الكوفة مقدمة له- أخذا على شاطئ الفرات من قبل البر- مما يلي الكوفة حتى بلغا عانات- فبلغهم أخذ علي ع طريق الجزيرة و علما- أن معاوية قد أقبل في جنود الشام من دمشق لاستقباله- فقالا و الله ما هذا برأي- أن نسير و بيننا و بين أمير المؤمنين هذا البحر- و ما لنا خير في أن نلقى جموع الشام في قلة من العدد- منقطعين عن المدد- فذهبوا ليعبروا من عانات- فمنعهم أهلها و حبسوا عنهم السفن- فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت- و لحقوا عليا ع بقرية دون قرقيسيا- فلما لحقوا عليا ع عجب- و قال مقدمتي تأتي من ورائي- فقام له زياد و شريح و أخبراه بالرأي الذي رأيا- فقال قد أصبتما رشدكما- فلما عبروا الفرات قدمهما أمامه نحو معاوية- فلما انتهيا إلى معاوية- لقيهما أبو الأعور السلمي في جنود من أهل الشام- و هو على مقدمة معاوية- فدعواه إلى الدخول في طاعة أمير المؤمنين ع فأبى- فبعثوا إلى علي ع- إنا قد لقينا أبا الأعور السلمي بسور الروم- في جند من أهل الشام- فدعوناه و أصحابه إلى الدخول في طاعتك- فأبى علينا فمرنا بأمرك- .
فأرسل علي ع إلى الأشترفقال يا مال إن زيادا و شريحا أرسلا إلي يعلمانني- أنهما لقيا أبا الأعور السلمي- في جند من أهل الشام بسور الروم- و نبأني الرسول أنه تركهم متواقفين- فالنجاء النجاء إلى أصحابك- فإذا أتيتهم فأنت عليهم- و إياك أن تبدأ القوم بقتال إن لم يبدءوك- و ألقهم و اسمع منهم- و لا يجرمنك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم- و الإعذار إليهم مرة بعد مرة- و اجعل على ميمنتك زيادا- و على ميسرتك شريحا- و قف من أصحابك وسطا- و لا تدن منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب- و لا تتباعد عنهم تباعد من يهاب الناس- حتى أقدم عليك فإني حثيث السير إليك إن شاء الله- قال و كتب علي ع إليهما- و كان الرسول الحارث بن جمهان الجعفي-أما بعد فإني قد أمرت عليكما مالكا- فاسمعا له و أطيعا أمره- و هو ممن لا يخاف رهقه و لا سقاطه- و لا بطؤه عما الإسراع إليه أحزم- و لا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل- و قد أمرته بمثل الذي أمرتكما- ألا يبدأ القوم بقتال حتى يلقاهم و يدعوهم- و يعذر إليهم إن شاء الله– .
قال فخرج الأشتر حتى قدم على القوم- فاتبع ما أمره به علي ع- و كف عن القتال فلم يزالوا متواقفين- حتى إذا كان عند المساء- حمل عليهم أبو الأعور فثبتوا له و اضطربوا ساعة- ثم إن أهل الشام انصرفوا- ثم خرج هاشم بن عتبة في خيل و رجال حسن عدتها و عددها- فخرج إليهم أبو الأعور السلمي فاقتتلوا يومهم ذلك- تحمل الخيل على الخيل و الرجال على الرجال- و صبر بعضهم لبعض ثم انصرفوا- و بكر عليهم الأشتر- فقتل من أهل الشام عبد الله بن المنذر التنوخي- قتله ظبيان بن عمارة التميمي- و ما هو يومئذ إلا فتى حديث السن- و إن كان الشامي لفارس أهل الشام- و أخذ الأشتر يقول ويحكم أروني أبا الأعور- . ثم إن أبا الأعور دعا الناس فرجعوا نحوه- فوقف على تل من وراء المكان الذي كان فيه أول مرة- و جاء الأشتر حتى صف أصحابه في المكان- الذي كان فيه أبو الأعور أول مرة- فقال الأشتر لسنان بن مالك النخعي- انطلق إلى أبو الأعور فادعه إلى المبارزة-فقال إلى مبارزتي أم إلى مبارزتك-
فقال أ و لو أمرتك بمبارزته فعلت قال نعم- و الذي لا إله إلا هو- لو أمرتني أن أعترض صفهم بسيفي- لفعلت حتى أضربه بالسيف- فقال يا ابن أخي أطال الله بقاءك- قد و الله ازددت فيك رغبة- لا ما أمرتك بمبارزته- إنما أمرتك أن تدعوه لمبارزتي- فإنه لا يبارز إن كان ذلك من شأنه- إلا ذوي الأسنان و الكفاءة و الشرف- و أنت بحمد الله من أهل الكفاءة و الشرف- و لكنك حديث السن و ليس يبارز الأحداث- فاذهب فادعه إلى مبارزتي- .فأتاهم فقال أنا رسول فآمنوني- فجاء حتى انتهى إلى أبي الأعور- .
قال نصر فحدثني عمر بن سعد- عن أبي زهير العبسي- عن صالح بن سنان عن أبيه- قال فقلت له إن الأشتر يدعوك إلى المبارزة- قال فسكت عني طويلا- ثم قال إن خفة الأشتر و سوء رأيه و هوانه- دعاه إلى إجلاء عمال عثمان و افترائه عليه يقبح محاسنه- و يجهل حقه و يظهر عداوته- و من خفة الأشتر و سوء رأيه- أنه سار إلى عثمان في داره و قراره فقتله فيمن قتله- و أصبح متبعا بدمه- لا حاجة لي في مبارزته- . فقلت إنك قد تكلمت فاسمع حتى أجيبك- فقال لا حاجة لي في جوابك و لا الاستماع منك اذهب عني- و صاح بي أصحابه فانصرفت عنه- و لو سمع لأسمعته عذر صاحبي و حجته- . فرجعت إلى الأشتر- فأخبرته أنه قد أبى المبارزة- فقال لنفسه نظر- .
قال فتواقفنا فإذا هم قد انصرفوا- قال و صبحنا علي ع غدوة سائرا نحو معاوية- فإذا أبو الأعور قد سبق إلى سهولة الأرض و سعة المنزل- و شريعة الماء مكانأفيح- و كان أبو الأعور على مقدمة معاوية- و اسمه سفيان بن عمرو- و قد جعل على ساقته بسر بن أرطاة العامري- و على الخيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب- و دفع اللواء إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد- و جعل على ميمنته حبيب بن مسلمة الفهري- و على رجالته من الميمنة يزيد بن زحر الضبي- و على الميسرة عبد الله بن عمرو بن العاص- و على الرجالة من الميسرة حابس بن سعيد الطائي- و على خيل دمشق الضحاك بن قيس الفهري- و على رجالة أهل دمشق يزيد بن أسد بن كرز البجلي- و على أهل حمص ذا الكلاع- و على أهل فلسطين مسلمة بن مخلد- و كان وصول علي ع إلى صفين- لثمان بقين من المحرم من سنة سبع و ثلاثين
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 3