و قد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط قريبا مما تقدم- من أن إخراج أبي ذر إلى الربذة كان باختياره- و روى في ذلك خبرا- قال و أقل ما في ذلك أن تختلف الأخبار فتطرح- و يرجع إلى الأمر الأول في صحة إمامة عثمان و سلامة أحواله- .
اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام- فقال أما قول أبي علي- إن الأخبار في سبب خروج أبي ذر إلى الربذة متكافئة- فمعاذ الله أن تتكافأ في ذلك- بل المعروف و الظاهر أنه نفاه أولا إلى الشام- ثم استقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية- ثم نفاه من المدينة إلى الربذة- و قد روى جميع أهل السير على اختلاف طرقهم و أسانيدهم- أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم ما أعطاه- و أعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص- ثلاثمائة ألف درهم- و أعطى زيد بن ثابت مائة ألف درهم- جعل أبو ذر يقول بشر الكانزين بعذاب أليم- و يتلو قول الله تعالى- وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ- وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ- فرفع ذلك مروان إلى عثمان- فأرسل إلى أبي ذر نائلا مولاه- أن انته عما يبلغني عنك- فقال أ ينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله- و عيب من ترك أمر الله- فو الله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي- و خير لي من أن أسخط الله برضاه- فأغضب عثمان ذلك و أحفظه فتصابر- .
و قال يوما أ يجوز للإمام أن يأخذ من المال فإذا أيسر قضى- فقال كعب الأحبار لا بأس بذلك- فقال له أبو ذر يا ابن اليهوديين أ تعلمنا ديننا- فقال عثمان قد كثر أذاك لي و تولعك بأصحابي- الحق بالشام فأخرجه إليها- فكان أبو ذر ينكر علي معاوية أشياء يفعلها- فبعث إليه معاوية ثلاثمائة دينار- فقال أبو ذر إن كانت هذه من عطائي- الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها- و إن كانت صلة فلا حاجة لي فيها و ردها عليه- . و بنى معاوية الخضراء بدمشق- فقال أبو ذر يا معاوية- إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة- و إن كانت من مالك فهو الإسراف- . و كان أبو ذر رحمه الله تعالى يقول- و الله لقد حدثت أعمال ما أعرفها- و الله ما هي في كتاب الله و لا سنة نبيه- و الله إني لأرى حقا يطفأ و باطلا يحيا و صادقا مكذبا- و أثرة بغير تقى و صالحا مستأثرا عليه- فقال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية- أن أبا ذر لمفسد عليكم الشام- فتدارك أهله إن كانت لكم حاجة فيه- فكتب معاوية إلى عثمان فيه- فكتب عثمان إلى معاوية- أما بعد فاحمل جندبا إلي على أغلظ مركب و أوعره- فوجه به مع من سار به الليل و النهار- و حمله على شارف ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة- و قد سقط لحم فخذيه من الجهد- فلما قدم أبو ذر المدينة- بعث إليه عثمان أن الحق بأي أرض شئت- فقال بمكة قال لا قال فبيت المقدس- قال لا قال فأحد المصرين- قال لا و لكني مسيرك إلى الربذة فسيره إليها- فلم يزل بها حتى مات- .
و في رواية الواقدي أن أبا ذر لما دخل علي عثمان- قال له لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب- فقال أبو ذر أنا جنيدب و سماني رسول الله ص عبد الله- فاخترت اسم رسول الله الذي سماني به على اسمي- فقال عثمان أنت الذي تزعم أنا نقول إن يد الله مغلولة- و إن الله فقير و نحن أغنياء- فقال أبو ذر لو كنتم لا تزعمون- لأنفقتم مال الله على عباده-و لكني أشهد لسمعت رسول الله ص يقول إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا- و عباد الله خولا و دين الله دخلا- فقال عثمان لمن حضره أ سمعتموها من نبي الله- فقالوا ما سمعناه- فقال عثمان ويلك يا أبا ذر- أ تكذب على رسول الله- فقال أبو ذر لمن حضر أ ما تظنون أني صدقت- قالوا لا و الله ما ندري- فقال عثمان ادعوا لي عليا فدعي- فلما جاء قال عثمان لأبي ذر- اقصص عليه حديثك في بني أبي العاص فحدثه- فقال عثمان لعلي هل سمعت هذا من رسول الله ص- فقال علي ع لا و قد صدق أبو ذر- قال عثمان بم عرفت صدقه-
قال لأني سمعت رسول الله ص يقول ما أظلت الخضراء- و لا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر- فقال جميع من حضر من أصحاب النبي ص لقد صدق أبو ذر- فقال أبو ذر أحدثكم أني سمعت هذا من رسول الله ص- ثم تتهمونني- ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد ص- . و روى الواقدي في خبر آخر بإسناده- عن صهبان مولى الأسلميين- قال رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان- فقال له أنت الذي فعلت و فعلت- فقال له أبو ذر نصحتك فاستغششتني- و نصحت صاحبك فاستغشني- فقال عثمان كذبت و لكنك تريد الفتنة و تحبها- قد انغلت الشام علينا- فقال له أبو ذر اتبع سنة صاحبيك- لا يكن لأحد عليك كلام- قال عثمان ما لك و ذلك لا أم لك- قال أبو ذر و الله ما وجدت لي عذرا- إلا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- فغضب عثمان و قال أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب- إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله- فإنه قد فرق جماعة المسلمين- أو أنفيه من أرض الإسلام- فتكلم علي ع و كان حاضرا- و قال أشير عليك بما قاله مؤمن آل فرعون- وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ- وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ- إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ- قال فأجابه عثمان بجواب غليظ لا أحب ذكره- و أجابه ع بمثله- قال ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر- أو يكلموه- فمكث كذلك أياما- ثم أمر أن يؤتى به- فلما أتي به وقف بين يديه- قال ويحك يا عثمان- أ ما رأيت رسول الله ص و رأيت أبا بكر و عمر- هل رأيت هذا هديهم- إنك لتبطش بي بطش جبار-
فقال اخرج عنا من بلادنا- فقال أبو ذر ما أبغض إلي جوارك فإلى أين أخرج- قال حيث شئت- قال فأخرج إلى الشام أرض الجهاد- قال إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها- أ فأردك إليها- قال أ فأخرج إلى العراق- قال لا قال و لم- قال تقدم على قوم أهل شبه و طعن في الأئمة- قال أ فأخرج إلى مصر قال لا- قال فإلى أين أخرج قال حيث شئت- قال أبو ذر فهو إذن التعرب بعد الهجرة أ أخرج إلى نجد- فقال عثمان الشرف الأبعد أقصى فأقصى- امض على وجهك هذا و لا تعدون الربذة فخرج إليها- .
و روى الواقدي عن مالك بن أبي الرجال- عن موسى بن ميسرة أن أبا الأسود الدؤلي قال- كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه- فنزلت الربذة فقلت له أ لا تخبرني- أ خرجت من المدينة طائعا أم أخرجت مكرها- فقال كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم- فأخرجت إلى مدينة الرسول ع- فقلت أصحابي و دار هجرتي- فأخرجت منها إلى ما ترى-ثم قال بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد- إذ مر بي رسول الله ص فضربني برجله- و قال لا أراك نائما في المسجد- فقلت بأبي أنت و أمي غلبتني عيني فنمت فيه- فقال كيف تصنع إذا أخرجوك منه- فقلت إذن ألحق بالشام فإنها أرض مقدسة- و أرض بقية الإسلام و أرض الجهاد- فقال فكيف تصنع إذا أخرجت منها- فقلت أرجع إلى المسجد- قال فكيف تصنع إذا أخرجوك منه- قلت آخذ سيفي فأضرب به- فقال ص أ لا أدلك على خير من ذلك- انسق معهم حيث ساقوك و تسمع و تطيع- فسمعت و أطعت و أنا أسمع و أطيع- و الله ليلقين الله عثمان و هو آثم في جنبي- .
و كان يقول بالربذة ما ترك الحق لي صديقا- و كان يقول فيها ردني عثمان بعد الهجرة أعرابيا- . و الأخبار في هذا الباب أكثر من أن تحصر- و أوسع من أن نذكرها- و ما يحمل نفسه على ادعاء- أن أبا ذر خرج مختارا إلى الربذة إلا مكابر- و لسنا ننكر أن يكون ما أورده صاحب كتاب المغني- من أنه خرج مختارا قد روي إلا أنه من الشاذ النادر- و بإزاء هذه الرواية الفذة- كل الروايات التي تتضمن خلافها- و من تصفح الأخبار علم- أنها غير متكافئة على ما ظن صاحب المغني- و كيف يجوز خروجه عن اختيار- و إنما أشخص من الشام على الوجه الذي أشخص عليه- من خشونة المركب و قبح السير به للموجدة عليه- ثم لما قدم منع الناس من كلامه و أغلظ له في القول- و كل هذا لا يشبه أن يكون خروجه إلى الربذة باختياره- و كيف يظن عاقل أن أبا ذر يختار الربذة منزلا مع جدبها- و قحطها و بعدها عن الخيرات- و لم تكن بمنزل مثله- . فأما قوله- إنه أشفق عليه من أن يناله بعض أهل المدينة بمكروه- من حيث كان يغلظ لهم القول فليس بشيء- لأنه لم يكن في أهل المدينة- إلا من كان راضيا بقوله عاتبا بمثل عتبة- إلا أنهم كانوا بين مجاهر بما في نفسه و مخف ما عنده- و ما في أهل المدينة إلا من رثى لأبي ذر مما حدث عليه- و من استفظعه و من رجع إلى كتب السيرة عرف ما ذكرناه- .
فأما قوله أن عمر أخرج من المدينة نصر بن حجاج- فيا بعد ما بين الأمرين- و ما كنا نظن أن أحدا يسوي بين أبي ذر- و هو وجه الصحابة و عينهم- و من أجمع المسلمون على توقيره و تعظيمه- و أن رسول الله ص مدحه من صدق اللهجة بما لم يمدح به أحدا- و بين نصر بن الحجاج الحدث- الذي كان خاف عمر من افتتان النساء بشبابه- و لا حظ له في فضل و لا دين- على أن عمر قد ذم بإخراجه نصر بن الحجاج- من غير ذنب كان منه- فإذا كان من أخرج نصر بن حجاج مذموما- فكيف من أخرج أبا ذر- . فأما قوله- إن الله تعالى و الرسول قد ندبا إلى خفض الجناح- و لين القول للمؤمن و الكافر فهو كما قال- إلا أن هذا أدب كان ينبغي أن يتأدب به عثمان في أبي ذر- و لا يقابله بالتكذيب- و قد قطع رسول الله ص على صدقه- و لا يسمعه مكروه الكلام- فإنما نصح له و أهدى إليه عيوبه- و عاتبه على ما لو نزع عنه- لكان خيرا له في الدنيا و الآخرة- .
الطعن العاشر- تعطيله الحد الواجب على عبيد الله بن عمر بن الخطاب- فإنه قتل الهرمزان مسلما فلم يقده به- و قد كان أمير المؤمنين ع يطلبه لذلك- . قال قاضي القضاة في الجواب عن ذلك- أن شيخنا أبا علي رحمه الله تعالى قال- إنه لم يكن للهرمزان ولى يطلب بدمه- و الإمام ولي من لا ولي له- و للولي أن يعفو كما له أن يقتل- و قد روي أنه سأل المسلمين أن يعفوا عنه- فأجابوا عنه إلى ذلك- .
قال و إنما أراد عثمان بالعفو عنه ما يعود إلى عز الدين- لأنه خاف أن يبلغ العدو قتله- فيقال قتلوا إمامهم و قتلوا ولده- و لا يعرفون الحال في ذلك فيكون فيه شماتة- و قد قال الشيخ أبو الحسين الخياط- أن عامة المهاجرين أجمعوا على أنه لا يقاد بالهرمزان- و قالوا لعثمان هذا دم سفك في غير ولايتك- و ليس له ولي يطلب به و أمره إلى الإمام- فاقبل منه الدية فذلك صلاح للمسلمين- .
قال و لم يثبت أن أمير المؤمنين ع كان يطلبه- ليقتله بالهرمزان- لأنه لا يجوز قتل من عفا عنه ولي المقتول- و إنما كان يطلبه ليضع من قدره و يصغر من شأنه- . قال و يجوز أن يكونما روي عن علي ع من أنه قال لو كنت بدل عثمان لقتلته- يعني أنه كان يرى ذلك أقوى في الاجتهاد- و أقرب إلى التشدد في دين الله سبحانه- . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام قال- أما قوله لم يكن للهرمزان ولي يطلب بدمه- فالإمام يكون وليه و له أن يعفو عنه- كما له أن يقتص فليس بمعتمد- لأن الهرمزان رجل من أهل فارس- و لم يكن له ولي حاضر يطالب بدمه- و قد كان الواجب أن يبذل الإنصاف لأوليائه- و يؤمنوا متى حضروا- حتى أنه لو كان له ولي يريد المطالبة حضر و طالب- ثم لو لم يكن له ولي لم يكن عثمان ولي دمه- لأنه قتل في أيام عمر فصار عمر ولي دمه- و قد أوصى عمر على ما جاءت به الروايات- الظاهرة بقتل ابنه عبيد الله- إن لم تقم البينة العادلة على الهرمزان و جفينة- أنهما أمرا أبا لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة بقتله- و كانت وصيته بذلك إلى أهل الشورى- فقال أيكم ولي هذا الأمر فليفعل كذا و كذا مما ذكرناه- فلما مات عمر طلب المسلمون إلى عثمان- إمضاءالوصية في عبيد الله بن عمر- فدافع عن ذلك و عللهم- و لو كان هو ولي الدم على ما ذكروا لم يكن له أن يعفو- و أن يبطل حدا من حدود الله تعالى- و أي شماتة للعدو في إقامة حد من حدود الله تعالى- و إنما الشماتة كلها من أعداء الإسلام في تعطيل الحدود- و أي حرج في الجمع بين قتل الإمام و ابنه- حتى يقال كره أن ينتشر الخبر بأن الإمام و ابنه قتلا- و إنما قتل أحدهما ظلما و الآخر عدلا- أو أحدهما بغير أمر الله و الآخر بأمره سبحانه- .
و قد روى زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح أن أمير المؤمنين ع أتى عثمان بعد ما استخلف- فكلمه في عبيد الله و لم يكلمه أحد غيره- فقال اقتل هذا الفاسق الخبيث الذي قتل أميرا مسلما- فقال عثمان قتلوا أباه بالأمس و أقتله اليوم- و إنما هو رجل من أهل الأرض- فلما أبى عليه مر عبيد الله على علي ع- فقال له إيه يا فاسق- أما و الله لئن ظفرت بك يوما من الدهر لأضربن عنقك- فلذلك خرج مع معاوية عليه-.
و روى القناد عن الحسن بن عيسى بن زيد عن أبيه أن المسلمين لما قال عثمان- إني قد عفوت عن عبيد الله بن عمر- قالوا ليس لك أن تعفو عنه- قال بلى إنه ليس لجفينة و الهرمزان قرابة من أهل الإسلام- و أنا ولي أمر المسلمين و أنا أولى بهما و قد عفوت- فقال علي ع إنه ليس كما تقول- إنما أنت في أمرهما بمنزلة أقصى المسلمين- إنه قتلهما في إمرة غيرك- و قد حكم الوالي الذي قتلا في إمارته بقتله- و لو كان قتلهما في إمارتك لم يكن لك العفو عنه- فاتق الله فإن الله سائلك عن هذا- فلما رأى عثمان أن المسلمين قد أبوا إلا قتل عبيد الله- أمره فارتحل إلى الكوفة- و أقطعه بها دارا و أرضا- و هي التي يقال لها كويفة بن عمر- فعظم ذلك عند المسلمين و أكبروه و كثر كلامهم فيه- .
و روي عن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع أنه قال ما أمسى عثمان يوم ولي- حتى نقموا عليه في أمر عبيد الله بن عمر- حيث لم يقتله بالهرمزان- فأما قوله إن أمير المؤمنين ع لم يطلبه ليقتله- بل ليضع من قدره- فهو بخلاف ما صرح به ع من أنه إن تمكن ليضربن عنقه- . و بعد فإن ولي الدم إذا عفا عنه على ما ادعوا- لم يكن لأحد أن يستخف به- و لا يضع من قدره كما ليس له أن يقتله- . و أما قوله- إن أمير المؤمنين ع لا يجوز أن يتوعده مع عفو الإمام عنه- فإنما يكون صحيحا لو كان ذلك العفو مؤثرا- و قد بينا أنه غير مؤثر- . و أما قوله يجوز أن يكون ع رأى أن قتله أقوى في الاجتهاد- و أقرب إلى التشدد في دين الله- فلا شك أنه كذلك- و هذا بناء منه على أن كل مجتهد مصيب- و قد بينا أن الأمر بخلاف ذلك- و إذا كان اجتهاد أمير المؤمنين ع يقتضي قتله- فهو الذي لا يسوغ خلافه- .
الطعن الحادي عشر- و هو إجمالي قالوا- وجدنا أحوال الصحابة دالة على تصديقهم المطاعن فيه- و براءتهم منه- و الدليل على ذلك- أنهم تركوه بعد قتله ثلاثة أيام لم يدفنوه- و لا أنكروا على من أجلب عليه من أهل الأمصار- بل أسلموه و لم يدفعوا عنه و لكنهم أعانوا عليه- و لم يمنعوا من حصره و لا من منع الماء عنه و لا من قتله- مع تمكنهم من خلاف ذلك- و هذا من أقوى الدلائل على ما قلناه- و لو لم يدل على أمره عندهم إلا ما روي عن علي ع أنه قال- الله قتله و أنا معه- و أنه كان في أصحابه ع من يصرح بأنه قتل عثمان- و مع ذلك لا يقيدهم بل و لا ينكر عليهم- و كان أهل الشام يصرحون بأن مع أمير المؤمنين قتلة عثمان- و يجعلون ذلك من أوكد الشبه- و لا ينكر ذلك عليهم- مع أنا نعلم أن أمير المؤمنين ع لو أراد أن يتعاضد هو- و أصحابه على المنع عنه لما وقع في حقه ما وقع- فصار كفه و كف غيره عن ذلك من أدل الدلائل- على أنهم صدقوا عليه ما نسب إليه من الأحداث- و أنهم لم يقبلوا منه ما جعله عذرا- . و أجاب قاضي القضاة عن هذا فقال- أما تركه بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن فليس بثابت- و لو صح لكان طعنا على من لزمه القيام به- و قد قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى- إنه لا يمتنع أن يشتغلوا بإبرام البيعة لأمير المؤمنين ع- خوفا على الإسلام من الفتنة فيؤخروا دفنه- .
قال و بعيد مع حضور قريش- و قبائل العرب و سائر بني أمية و مواليهم- أن يترك عثمان و لا يدفن هذه المدة- و بعيد أن يكون أمير المؤمنين ع لا يتقدم بدفنه- و لو مات في جواره يهودي أو نصراني- و لم يكن له من يواريه ما تركه أمير المؤمنين ألا يدفن- فكيف يجوز مثل ذلك في عثمان- و قد روي أنه دفن في تلك الليلة و هذا هو الأولى- . فأما التعلق بأن الصحابة لم تنكر على القوم- و لا دفعت عنه فقد سبق القول في ذلك- و الصحيح عن أمير المؤمنين ع أنه تبرأ من قتل عثمان- و لعن قتلته في البر و البحر و السهل و الجبل- و إنما كان يجري من جيشه هذا القول منه على جهة المجاز- لأنا نعلم أن جميع من كان يقول- نحن قتلناه لم يقتله- لأن في الخبر أن العدد الكثير كانوا يصرحون بذلك- و الذين دخلوا عليه و قتلوه اثنان أو ثلاثة- و إنما كانوا يقصدون بهذا القول- أي احسبوا أنا قتلناه فما لكم- و ذلك أن الإمام هو الذي يقوم بأمر القود- و ليس للخارج عليه أن يطالب بذلك- و لم يكن لأمير المؤمنين ع أن يقتل قتلته- لو عرفهم ببينة أو إقرار- و ميزهم من غيرهم إلا عند مطالبة ولي الدم- و الذين كانوا أولياء الدم لم يكونوا يطالبونه- و لا كانت صفتهم صفة من يطالب- لأنهم كانوا كلهم أو بعضهم- يدعون أن عليا ع ليس بإمام- و لا يحل لولي الدم مع هذا الاعتقاد أن يطالب بالقود- فلذلك لم يقتلهم ع- هذا لو صح أنه كان يميزهم- فكيف و ذلك غير صحيح- .
فأما ما روي عنه من قوله ع قتله الله و أنا معه- فإن صح فمعناه مستقيم- يريد أن الله أماته و سيميتني و سائر العباد- . ثم قال سائلا نفسه- كيف يقول ذلك و عثمان مات مقتولا من جهة المكلفين- و أجاب بأنه و إن قتل- فالإماتة من قبل الله تعالى- و يجوز أن يكون ما ناله من الجراح- لا يوجب انتفاء الحياة لا محالة- فإذا مات صحت الإماتة على طريق الحقيقة- . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام- فقال أما تضعيفه- أن يكون عثمان ترك بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن- فليس بحجة لأن ذلك قد رواه جماعة الرواة- و ليس يخالف في مثله أحد يعرف بالرواية- و قد ذكر ذلك الواقدي و غيره- و روى أن أهل المدينة منعوا الصلاة عليه- حتى حمل بين المغرب و العتمة- و لم يشهد جنازته غير مروان و ثلاثة من مواليه و لما أحسوا بذلك رموه بالحجارة- و ذكروه بأسوإ الذكر- و لم يقع التمكن من دفنه- إلا بعد أن أنكر أمير المؤمنين ع المنع من دفنه- و أمر أهله بتولي ذلك منه- .
فأما قوله- إن ذلك إن صح كان طعنا على من لزمه القيام بأمره- فليس الأمر على ما ظنه- بل يكون طعنا على عثمان- من حيث لا يجوز أن يمنع أهل المدينة- و فيها وجوه الصحابة- من دفنه و الصلاة عليه إلا لاعتقاد قبيح- أو لأن أكثرهم و جمهورهم يعتقد ذلك- و هذا طعن لا شبهة فيه- و استبعاد صاحب المغني لذلك- مع ظهور الرواية به لا يلتفت إليه- فأما أمير المؤمنين ع- و استبعاد صاحب المغني منه ألا يتقدم بدفنه- فقد بينا أنه تقدم بذلك بعد مماكسة و مراوضة- و أعجب من كل شيء قول صاحب المغني- إنهم أخروا دفنه تشاغلا بالبيعة لأمير المؤمنين ع- و أي شغل في البيعة لأمير المؤمنين يمنع من دفنه- و الدفن فرض على الكفاية- لو قام به البعض و تشاغل الباقون بالبيعة لجاز- و ليس الدفن و لا البيعة أيضا- مفتقرة إلى تشاغل جميع أهل المدينة بها- .
فأما قوله إنه قد روي أن عثمان دفن تلك الليلة- فما تعرف هذه الرواية- و قد كان يجب أن يسندها و يعزوها إلى راويها- أو الكتاب الذي أخذها منه- فالذي ظهر في الرواية هو ما ذكرناه- . فأما إحالته على ما تقدم في معنى الإنكار- من الصحابة على القوم المجلبين على عثمان- فقد سبق القول في ذلك- .
فأما روايته عن أمير المؤمنين ع تبرؤه من قتل عثمان- و لعنه قتلته في البر و البحر و السهل و الجبل- فلا شك في أنه ع كان بريئا من قتله-و قد روي عنه ع أنه قال و الله ما قتلت عثمان و لا مالأت في قتله- و الممالأة هي المعاونة و الموازرة- و قد صدق ع في أنه ما قتل و لا وازر على القتل- .
فأما لعنه قتلته فضعيف في الرواية و إن كان قد روي- فأظهر منهما رواه الواقدي عن الحكم بن الصلت عن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال رأيت عليا ع على منبر رسول الله ص حين قتل و هو يقول- ما أحببت قتله و لا كرهته و لا أمرت به و لا نهيت عنه و قد روى محمد بن سعد عن عفان بن جرير بن بشير عن أبي جلدة أنه سمع عليا ع يقول و هو يخطب فذكر عثمان و قال: و الله الذي لا إله إلا هو- ما قتلته و لا مالأت على قتله و لا ساءني و روى ابن بشير عن عبيدة السلماني قال سمعت عليا ع يقول من كان سائلي عن دم عثمان- فإن الله قتله و أنا معه- و قد روي هذا اللفظ من طرق كثيرة- .
و قد روى شعبة عن أبي حمزة الضبعي قال قلت لابن عباس إن أبي أخبرني أنه سمع عليا يقول ألا من كان سائلي على دم عثمان- فإن الله قتله و أنا معه- فقال صدق أبوك- هل تدري ما معنى قوله- إنما عنى الله قتله و أنا مع الله – . قال فإن قيل كيف يصح الجمع بين معاني هذه الأخبار- . قلنا لا تنافي بينها- لأنه ع تبرأ من مباشرة قتله و المؤازرة عليه- ثم قال ما أمرت بذلك و لا نهيت عنه- يريد أن قاتليه لم يرجعوا إلي- و لم يكن مني قول في ذلك بأمر و لا نهى- فأما قوله الله قتله و أنا معه- فيجوز أن يكون المراد به- الله حكم بقتله و أوجبه و أنا كذلك- لأن من المعلوم أن الله تعالى لم يقتله على الحقيقة- فإضافة القتل إليه لا تكون إلا بمعنى الحكم و الرضا- و ليس يمتنع أن يكون مما حكم الله تعالى به- ما لم يتوله بنفسه و لا آزر عليه و لا شايع فيه- .
فإن قال قائل هذا ينافي ما روي عنه من قوله- ما أحببت قتله و لا كرهته- و كيف يكون من حكم الله- و حكمه أن يقتل و هو لا يحب قتله- . قلنا يجوز أن يريد بقوله- ما أحببت قتله و لا كرهته- أن ذلك لم يكن مني على سبيل التفصيل و لا خطر لي ببال- و إن كان على سبيل الجملة- يحب قتل من غلب المسلمين على أمورهم- و طالبوه بأن يعتزل- لأنه مستول عليهم بغير حق فامتنع من ذلك- و يكون فائدة هذا الكلام التبرؤ من مباشرة قتله- و الأمر به على سبيل التفصيل أو النهي عنه- و يجوز أن يريد أنني ما أحببت قتله- إن كانوا تعمدوا القتل- و لم يقع على سبيل الممانعة و هو غير مقصود- و يريد بقوله ما كرهته- أني لم أكرهه على كل حال و من كل وجه- .
فأما لعنه قتلته- فقد بينا أنه ليس بظاهر ظهور ما ذكرناه- و إن صح فهو مشروط بوقوع القتل- على الوجه المحظور من تعمد له- و قصد إليه و غير ذلك- على أن المتولي للقتل- على ما صحت به الرواية كنانة بن بشير التجيبي- و سودان بن حمران المرادي- و ما منهما من كان غرضه صحيحا في القتل- و لا له أن يقدم عليه فهو ملعون به- فأما محمد بن أبي بكر فما تولى قتله- و إنما روي أنه لما جثا بين يديه قابضا على لحيته- قال له يا ابن أخي دع لحيتي- فإن أباك لو كان حيا لم يقعد مني هذا المقعد- فقال محمد أن أبي لو كان حيا- ثم يراك تفعل ما تفعل لأنكره عليك- ثم وجأه بجماعة قداح كانت في يده- فحزت في جلده و لم تقطع- و بادره من ذكرناه في قتله بما كان فيه قتله- .
فأما تأويله قول أمير المؤمنين ع قتله الله و أنا معه- على أن المراد به الله أماته و سيميتني- فبعيد من الصواب- لأن لفظة أنا لا تكون كناية عن المفعول- و إنما تكون كناية عن الفاعل- و لو أراد ما ذكره لكان يقول و إياي معه- و ليس له أن يقول إننا نجعل قوله- و أنا معه مبتدأ محذوف الخبر- و يكون تقدير الكلام و أنا معه مقتول- و ذلك لأن هذا ترك للظاهر و إحالة على ما ليس فيه- و الكلام إذا أمكن حمله على معنى- يستقل ظاهره به من غير تقدير و حذف- كان أولى مما يتعلق بمحذوف- على أنهم إذا جعلوه مبتدأ و قدروا خبرا- لم يكونوا بأن يقدروا ما يوافق مذهبهم- بأولى من تقدير خلافه- و يجعل بدلا من لفظة المقتول المحذوفة لفظة معين أو ظهير- .و إذا تكافأ القولان في التقدير و تعارضا سقطا- و وجب الرجوع إلى ظاهر الخبر- على أن عثمان مضى مقتولا- فكيف يقال إن الله تعالى أماته- و القتل كاف في انتفاء الحياة- و ليس يحتاج معه إلى ناف للحياة يسمى موتا- .
و قول صاحب المغني- يجوز أن يكون ما ناله من الجراح لا يوجب انتفاء الحياة- ليس بشيء- لأن المروي أنه ضرب على رأسه بعمود عظيم من حديد- و أن أحد قتلته قال جلست على صدره فوجأته تسع طعنات- علمت أنه مات في ثلاث- و وجأته الست الأخر لما كان في نفسي عليه من الحنق- . و بعد فإذا كان جائزا- فمن أين علمه أمير المؤمنين ع حتى يقول إن الله أماته- و إن الحياة لم تنتف بما فعله القاتلون- و إنما انتفت بشيء زاد على فعلهم من قبل الله تعالى- مما لا يعلمه على سبيل التفصيل إلا علام الغيوب سبحانه- .
و الجواب عن هذه المطاعن على وجهين إجمالا و تفصيلا– أما الوجه الإجمالي- فهو أننا لا ننكر أن عثمان أحدث أحداثا- أنكرها كثير من المسلمين- و لكنا ندعي مع ذلك أنها لم تبلغ درجة الفسق- و لا أحبطت ثوابه- و أنها من الصغائر التي وقعت مكفرة- و ذلك لأنا قد علمنا أنه مغفور له- و أنه من أهل الجنة لثلاثة أوجه- .
أحدها أنه من أهل بدر-و قد قال رسول الله ص إن الله اطلع على أهل بدر- فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم- و لا يقال إن عثمان لم يشهد بدرا- لأنا نقول صدقتم أنه لم يشهدها- و لكنه تخلف على رقية- ابنة رسول الله صبالمدينة لمرضها- و ضرب له رسول الله ص بسهمه و أجره باتفاق سائر الناس- .
و ثانيها أنه من أهل بيعة الرضوان- الذين قال الله تعالى فيهم- لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ- و لا يقال إنه لم يشهد البيعة تحت الشجرة- لأنا نقول صدقتم أنه لم يشهدها- و لكنه كان رسول الله ص أرسله إلى أهل مكة- و لأجله كانت بيعة الرضوان- حيث أرجف بأن قريشا قتلت عثمان-فقال رسول الله ص إن كانوا قتلوه لأضرمنها عليهم نارا- ثم جلس تحت الشجرة و بايع الناس على الموت- ثم قال إن كان عثمان حيا فأنا أبايع عنه فصفح بشماله على يمينه- و قال شمالي خير من يمين عثمان- روى ذلك جميع أرباب أهل السيرة متفقا عليه- .
و ثالثها أنه من جملة العشرة- الذين تظاهرت الأخبار بأنهم من أهل الجنة- . و إذا كانت الوجوه الثلاثة دالة على أنه مغفور له- و أن الله تعالى قد رضي عنه و هو من أهل الجنة- بطل أن يكون فاسقا- لأن الفاسق يخرج عندنا من الإيمان و يحبط ثوابه- و يحكم له بالنار و لا يغفر له و لا يرضى عنه- و لا يرى الجنة و لا يدخلها- فاقتضت هذه الوجوه الصحيحة الثابتة أن يحكم- بأن كل ما وقع منه فهو من باب الصغائر المكفرة- توفيقا بين هذه الوجوه- و بين روايات الأحداث المذكورة- . و أما الوجه التفصيلي- فهو مذكور في كتب أصحابنا المطولة في الإمامة- فليطلب من مظانه- فإنهم قد استقصوا في الجواب عن هذه المطاعن- استقصاء لا مزيد عليه
بيعة جرير بن عبد الله البجلي لعلي
فأما خبر جرير بن عبد الله البجلي- و بعث أمير المؤمنين ع إياه إلى معاوية- فنحن نذكره نقلا من كتاب صفين- لنصر بن مزاحم بن بشار المنقري- و نذكر حال أمير المؤمنين ع- منذ قدم الكوفة بعد وقعة الجمل- و مراسلته معاوية و غيره- و مراسلة معاوية له و لغيره- و ما كان من ذلك في مبدأ حالتهما- إلى أن سار علي ع إلى صفين- .
قال نصر حدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال لما قدم علي ع الكوفة بعد انقضاء أمر الجمل- كاتب العمال فكتب إلى جرير بن عبد الله البجلي- مع زحر بن قيس الجعفي- و كان جرير عاملا لعثمان على ثغر همذان- أما بعد ف إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ- حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ- وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ- وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ- و إني أخبرك عن نبإ من سرنا إليه من جموع طلحة و الزبير- عند نكثهم بيعتي و ما صنعوا بعاملي عثمان بن حنيف- إني نهضت من المدينة بالمهاجرين و الأنصار- حتى إذا كنت بالعذيب- بعثت إلى أهل الكوفة الحسن بن علي- و عبد الله بن عباس و عمار بن ياسر و قيس بن عبادة- فاستنفرتهم فأجابوا- فسرت بهم حتى نزلت بظهر البصرة- فأعذرت في الدعاء و أقلت العثرة- و ناشدتهم عهد بيعتهم- فأبوا إلا قتالي فاستعنت الله عليهم- فقتل من قتل و ولوا مدبرين إلى مصرهم- و سألوني ما كنت دعوتهم إليه قبل اللقاء- فقبلت العافية و رفعت السيف- و استعملت عليهم عبد الله بن العباس- و سرت إلى الكوفة و قد بعثت إليك زحر بن قيس- فاسأله عما بدا لك و السلام- .
قال فلما قرأ جرير الكتاب قام- فقال أيها الناس- هذا كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع- و هو المأمون على الدين و الدنيا- و قد كان من أمره و أمر عدوه ما نحمد الله عليه- و قد بايعه الناس الأولون من المهاجرين و الأنصار- و التابعين بإحسان- و لو جعل هذا الأمر شورى بين المسلمين كان أحقهم بها- ألا و إن البقاء في الجماعة و الفناء في الفرقة- و إن عليا حاملكم على الحق ما استقمتم- فإن ملتم أقام ميلكم- فقال الناس سمعا و طاعة رضينا رضينا- . فكتب جرير إلى علي ع جواب كتابه بالطاعة- . قال نصر و كان مع علي رجل من طيئ ابن أخت لجرير- فحمل زحر بن قيس شعرا له إلى خاله جرير و هو-
جرير بن عبد الله لا تردد الهدى
و بايع عليا إنني لك ناصح
فإن عليا خير من وطيء الحصى
سوى أحمد و الموت غاد و رائح
و دع عنك قول الناكثين
فإنما أولاك أبا عمرو كلاب نوابح
و بايع إذا بايعته بنصيحة
و لا يك منها من ضميرك قادح
فإنك إن تطلب بها الدين
تعطه و إن تطلب الدنيا فإنك رابح
و إن قلت عثمان بن عفان حقه
علي عظيم و الشكور مناصح
فحق علي إذ وليك كحقه
و شكرك ما أوليت في الناس صالح
و إن قلت لا أرضى عليا إمامنا
فدع عنك بحرا ضل فيه السوابح
أبى الله إلا أنه خير دهره
و أفضل من ضمت عليه الأباطح
قال نصر ثم إن جريرا قام في أهل همذان خطيبا- فقال الحمد لله الذي اختار لنفسه الحمد- و تولاه دون خلقه- لا شريك له في الحمد- و لا نظير له في المجد- و لا إله إلا الله وحده الدائم القائم- إله السماء و الأرض- و أشهد أن محمدا عبده و رسوله- أرسله بالنور الواضح و الحق الناطق- داعيا إلى الخير و قائدا إلى الهدى- ثم قال أيها الناس إن عليا قد كتب إليكم كتابا- لا يقال بعده إلا رجيع من القول- و لكن لا بد من رد الكلام- إن الناس بايعوا عليا بالمدينة- عن غير محاباة له ببيعتهم- لعلمه بكتاب الله و سنن الحق- و إن طلحة و الزبير نقضا بيعته على غير محاباة حدثت- و ألبا عليه الناس- ثم لم يرضيا حتى نصبا له الحرب- و أخرجا أم المؤمنين فلقيهما فأعذر في الدعاء- و أحسن في البقية- و حمل الناس على ما يعرفون- فهذا عيان ما غاب عنكم- و إن سألتم الزيادة زدناكم- و لا قوة إلا بالله ثم قال-
أتانا كتاب علي
فلم ترد الكتاب بأرض العجم
و لم نعص ما فيه لما أتى
و لما نذم و لما نلم
و نحن ولاة على ثغرنا
نضيم العزيز و نحمي الذمم
نساقيهم الموت عند اللقاء
بكأس المنايا و نشفي القرم
فصلى الإله على أحمد
رسول المليك تمام النعم
رسول المليك و من بعده
خليفتنا القائم المدعم
عليا عنيت وصي النبي
نجالد عنه غواة الأمم
له الفضل و السبق و المكرمات
و بيت النبوة لا يهتضم
قال نصر فسر الناس بخطبة جرير و شعره- . و قال ابن الأزور القسري في جرير يمدحه بذلك-
لعمر أبيك و الأنباء
تنمي لقد جلى بخطبته جرير
و قال مقالة جدعت رجالا
من الحيين خطبهم كبير
بدا بك قبل أمته علي
و مخك إن رددت الحق رير
أتاك بأمره زحر بن قيس
و زحر بالتي حدثت خبير
فكنت لما أتاك به سميعا
و كدت إليه من فرح تطير
فأنت بما سعدت به ولي
و أنت لما تعد له نصير
و أحرزت الثواب و رب حاد
حدا بالركب ليس له بعير
بيعة الأشعث لعلي
قال نصر و كتب علي ع إلى الأشعث- و كان عامل عثمان على آذربيجان-يدعوه إلى البيعة و الطاعة- و كتب جرير بن عبد الله البجلي إلى الأشعث- يحضه على طاعة أمير المؤمنين ع و قبول كتابه- أما بعد فإني أتتني بيعة علي- فقبلتها و لم أجد إلى دفعها سبيلا- لأني نظرت فيما غاب عني من أمر عثمان- فلم أجده يلزمني- و قد شهد المهاجرون و الأنصار- فكان أوفق أمرهم فيه الوقوف فأقبل بيعته- فإنك لا تنقلب إلى خير منه- و اعلم أن بيعة علي خير من مصارع أهل البصرة و السلام- . قال نصر فقبل الأشعث البيعة و سمع و أطاع- و أقبل جرير سائرا من ثغر همذان- حتى ورد علي ع الكوفة فبايعه- و دخل فيما دخل فيه الناس من طاعته و لزوم أمره
دعوة علي معاوية إلى البيعة و الطاعة و رد معاوية عليه
قال نصر فلما أراد علي ع أن يبعث إلى معاوية رسولا- قال له جرير ابعثني يا أمير المؤمنين إليه- فإنه لم يزل لي مستخصا و ودا آتيه فأدعوه- على أن يسلم لك هذا الأمر و يجامعك على الحق- على أن يكون أميرا من أمرائك و عاملا من عمالك- ما عمل بطاعة الله و اتبع ما في كتاب الله- و أدعو أهل الشام إلى طاعتك و ولايتك- فجلهم قومي و أهل بلادي- و قد رجوت ألا يعصوني- . فقال له الأشتر لا تبعثه و لا تصدقه- فو الله إني لأظن هواه هواهم و نيته نيتهم- .
فقال له علي ع دعه حتى ننظر ما يرجع به إلينا- فبعثه علي ع و قال له ع حين أراد أن يبعثه- إن حولي من أصحاب رسول الله ص- من أهل الرأي و الدين من قد رأيت- و قد اخترتك عليهم لقول رسول الله فيك-إنك من خير ذي يمن- ائت معاوية بكتابي- فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون و إلا فانبذ إليه- و أعلمه إني لا أرضى به أميرا- و أن العامة لا ترضى به خليفة- . فانطلق جرير حتى أتى الشام و نزل بمعاوية- فلما دخل عليه حمد الله و أثنى عليه- و قال أما بعد يا معاوية- فإنه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين و أهل المصرين- و أهل الحجاز و أهل اليمن و أهل مصر و أهل العروض- و العروض عمان و أهل البحرين و اليمامة- فلم يبق إلا هذه الحصون التي أنت فيها- لو سال عليها سيل من أوديته غرقها- و قد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك- و يهديك إلى مبايعة هذا الرجل- و دفع إليه كتاب علي ع-
و فيه أما بعد فإن بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشام- لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان- على ما بويعوا عليه- فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يرد-
و إنما الشورى للمهاجرين و الأنصار- إذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما كان ذلك لله رضا- فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه- فإن أبى قاتلوه على اتباع سبيل المؤمنين- و ولاه الله ما تولى و يصليه جهنم و ساءت مصيرا- و إن طلحة و الزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي- فكان نقضهما كردتهما فجاهدتهما على ذلك- حتى جاء الحق و ظهر أمر الله و هم كارهون- فادخل فيما دخل فيه المسلمون- فإن أحب الأمور إلي فيك العافية إلا أن تتعرض للبلاء- فإن تعرضت له قاتلتك و استعنت بالله عليك- . و قد أكثرت في قتلة عثمان- فادخل فيما دخل فيه الناس- ثم حاكم القوم إلي أحملك-و إياهم على كتاب الله- فأما تلك التي تريدها فخدعة الصبي عن اللبن- و لعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك- لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان- و اعلم أنك من الطلقاء الذين لا يحل لهم الخلافة- و لا تعرض فيهم الشورى- و قد أرسلت إليك- و إلى من قبلك جرير بن عبد الله البجلي- و هو من أهل الإيمان و الهجرة فبايع و لا قوة إلا بالله- .
فلما قرأ الكتاب قام جرير فخطب فقال- الحمد لله المحمود بالعوائد- و المأمول منه الزوائد- المرتجى منه الثواب- المستعان على النوائب- أحمده و أستعينه في الأمور التي تحير دونها الألباب- و تضمحل عندها الأسباب- و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- كل شيء هالك إلا وجهه- له الحكم و إليه ترجعون- و أشهد أن محمدا عبده و رسوله- أرسله بعد فترة من الرسل الماضية و القرون الخالية- و أبدان البالية و الجبلة الطاغية- فبلغ الرسالة و نصح للأمة- و أدى الحق الذي استودعه الله- و أمره بأدائه إلى أمته ص- من رسول و مبتعث و منتجب- . أيها الناس إن أمر عثمان قد أعيا من شهده- فكيف بمن غاب عنه- و إن الناس بايعوا عليا غير واتر و لا موتور- و كان طلحة و الزبير ممن بايعاه- ثم نكثا بيعته على غير حدث- ألا و إن هذا الدين لا يحتمل الفتن- ألا و إن العرب لا تحتمل الفتن- و قد كانت بالبصرة أمس روعة ملحمة- إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس-و قد بايعت الأمة عليا- و لو ملكنا و الله الأمور- لم نختر لها غيره و من خالف هذا استعتب- فادخل يا معاوية فيما دخل فيه الناس- . فإن قلت استعملني عثمان ثم لم يعزلني- فإن هذا قول لو جاز لم يقم لله دين- و كان لكل امرئ ما في يديه- و لكن الله جعل للآخر من الولاة حق الأول- و جعل الأمور موطأة ينسخ بعضها بعضا ثم قعد- .
قال نصر فقال معاوية أنظر و تنظر- و أستطلع رأي أهل الشام- . فمضت أيام و أمر معاوية مناديا ينادي الصلاة جامعة- فلما اجتمع الناس صعد المنبر- ثم قال الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام أركانا- و الشرائع للإيمان برهانا- يتوقد قبسه في الأرض المقدسة- جعلها الله محل الأنبياء و الصالحين من عباده- فأحلهم أرض الشام- و رضيهم لها و رضيها لهم- لما سبق في مكنون علمه من طاعتهم و مناصحتهم خلفاءه- و القوام بأمره و الذابين عن دينه و حرماته- ثم جعلهم لهذه الأمة نظاما- و في سبيل الخيرات أعلاما- يردع الله بهم الناكثين- و يجمع بهم ألفة المؤمنين- و الله نستعين على ما تشعب من أمر المسلمين- بعد الالتئام و تباعد بعد القرب- اللهم انصرنا على أقوام يوقظون نائمنا و يخيفون آمننا- و يريدون إراقة دمائنا و إخافة سبلنا- و قد علم الله أنا لا نريد لهم عقابا- و لا نهتك لهم حجابا و لا نوطئهم زلقا- غير أن الله الحميد كسانا من الكرامة ثوبا- لن ننزعه طوعا ما جاوب الصدى- و سقط الندى و عرف الهدى- حملهم على ذلك البغي و الحسد فنستعين الله عليهم- أيها الناس قد علمتم- أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- و خليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان عليكم- و أني لم أقم رجلا منكم على خزاية قط- و أني ولي عثمان و قد قتل مظلوما و الله تعالى يقول- وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً- فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً- و أنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان- . فقام أهل الشام بأجمعهم- فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان و بايعوه على ذلك- و أوثقوا له على أن يبذلوا بين يديه أموالهم و أنفسهم- حتى يدركوا بثأره أو تلتحق أرواحهم بالله- . قال نصر فلما أمسى معاوية اغتم بما هو فيه- و جنة الليل و عنده أهل بيته فقال-
تطاول ليلي و اعترتني وساوسي
لآت أتى بالترهات البسابس
أتاني جرير و الحوادث جمة
بتلك التي فيها اجتداع المعاطس
أكايده و السيف بيني و بينه
و لست لأثواب الدنيء بلابس
إن الشام أعطت طاعة يمنية
تواصفها أشياخها في المجالس
فإن يفعلوا أصدم عليا بجبهة
تفت عليه كل رطب و يابس
و إني لأرجو خير ما نال نائل
و ما أنا من ملك العراق بآيس
قلت الجبهة هاهنا الخيل-و منه قول النبي ص ليس في الجبهة صدقةأي زكاة- .قال نصر فاستحثه جرير بالبيعة- فقال يا جرير إنها ليست بخلسة- و إنه أمر له ما بعده- فأبلعني ريقي حتى أنظر و دعا ثقاته- فأشار عليه أخوه بعمرو بن العاص- و قال له إنه من قد عرفت- و قد اعتزل عثمان في حياته- و هو لأمرك أشد اعتزالا إلا أن يثمن له دينه- . و قد ذكرنا فيما تقدم خبر استدعائه عمرا- و ما شرط له من ولاية مصر- و استقدامه شرحبيل بن السمط رئيس اليمنية- و شيخها و المقدم عليها- و تدسيس الرجال إليه يغرونه بعلي ع- و يشهدون عنده أنه قتل عثمان- حتى ملئوا صدره و قلبه حقدا و ترة- و إحنة على علي ع و أصحابه بما لا حاجة إلى إعادته- . قال نصر فحدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال- جاء شرحبيل إلى حصين بن نمير- فقال ابعث إلى جرير فليأتنا- فبعث حصين بن نمير إلى جرير- أن زرنا فعندنا شرحبيل- فاجتمعا عند حصين فتكلم شرحبيل-
فقال يا جرير أتيتنا بأمر ملفف- لتلقينا في لهوات الأسد- و أردت أن تخلط الشام بالعراق- و أطريت عليا و هو قاتل عثمان- و الله سائلك عما قلت يوم القيامة- . فأقبل عليه جرير و قال يا شرحبيل- أما قولك إني جئت بأمر ملفف- فكيف يكون ملففا و قد اجتمع عليه المهاجرون و الأنصار- و قوتل على رده طلحة و الزبير- . و أما قولك إني ألقيك في لهوات الأسد- ففي لهواتها ألقيت نفسك- . و أما خلط أهل الشام بأهل العراق- فخلطهما على حق خير من فرقتهما على باطل- . و أما قولك إن عليا قتل عثمان- فو الله ما في يديك من ذلك إلا القذف بالغيب- من مكان بعيد- و لكنك ملت إلى الدنيا- و شيء كان في نفسك على زمن سعد بن أبي وقاص- . فبلغ ما قالاه إلى معاوية- فبعث إلى جرير فزجره- قال نصر و كتب إلى شرحبيل كتاب لا يعرف كاتبه فيه- .
شرحبيل يا ابن السمط لا تتبع الهوى
فما لك في الدنيا من الدين من بدل
و لا تك كالمجرى إلى شر غاية
فقد خرق السربال و استنوق الجمل
و قل لابن حرب ما لك اليوم
خلة تروم بها ما رمت و اقطع له الأمل
شرحبيل إن الحق قد جد جده
فكن فيه مأمون الأديم من النغل
و أرود و لا تفرط بشيء نخافه عليك
و لا تعجل فلا خير في العجل
مقال ابن هند في علي عضيهة
و لله في صدر بن أبي طالب أجل
و ما من علي في ابن عفان سقطة
بقول و لا مالا عليه و لا قتل
و ما كان إلا لازما قعر بيته
إلى أن أتى عثمان في داره الأجل
فمن قال قولا غير هذا فحسبه
من الزور و البهتان بعض الذي احتمل
وصى رسول الله من دون أهله
و من باسمه في فضله يضرب المثل
قال نصر فلما قرأ شرحبيل الكتاب ذعر و فكر- و قال هذه نصيحة لي في ديني- و لا و الله لا أعجل في هذا الأمر بشيء- و في نفسي منه حاجة- و كاد يحول عن نصر معاوية و يتوقف- فلفق له معاوية الرجال يدخلون إليه و يخرجون- و يعظمون عنده قتل عثمان و يرمون به عليا- و يقيمون الشهادة الباطلة و الكتب المختلقة- حتى أعادوا رأيه و شحذوا عزمه- .قال نصر و حدثنا عمر بن سعد بإسناده- قال بعث معاوية إلى شرحبيل بن السمط- إنه قد كان من إجابتك إلى الحق- و ما وقع فيه أجرك على الله- و قبله عنك صلحاء الناس ما علمت- و إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يتم إلا برضا العامة- فسر في مدائن الشام- و ناد فيهم بأن عليا قتل عثمان- و أنه يجب علي المسلمين أن يطلبوا بدمه- .
فسار شرحبيل فبدأ بأهل حمص- فقام فيهم خطيبا و كان مأمونا في أهل الشام ناسكا متألها- فقال أيها الناس إن عليا قتل عثمان- فغضب له قوم من أصحاب رسول الله ص- فلقيهم فهزم الجمع- و قتل صلحاءهم و غلب على الأرض فلم يبق إلا الشام- و هو واضع سيفه على عاتقه- ثم خائض غمرات الموت- حتى يأتيكم أو يحدث الله أمرا- و لا نجد أحدا أقوى على قتاله من معاوية فجدوا و انهضوا- . فأجابه الناس كلهم إلا نساكا من أهل حمص- فإنهم قالوا له بيوتنا قبورنا و مساجدنا- و أنت أعلم بما ترى- . قال و جعل شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى استفرغها- لا يأتي على قوم إلا قبلوا ما أتاهم به- فبعث إليه النجاشي بن الحارث و كان له صديقا- .
شرحبيل ما للدين فارقت ديننا
و لكن لبغض المالكي جرير
و شحناء دبت بين سعد و بينه
فأصبحت كالحادي بغير بعير
و ما أنت إذ كانت بجيلة
عاتبت قريشا فيا لله بعد نصير
أ تفصل أمرا غبت عنه بشبهة
و قد حار فيه عقل كل بصير
بقول رجال لم يكونوا أئمة
و لا للتي لقوكها بحضور
و ما قول قوم غائبين تقاذفوا
من الغيب ما دلاهم بغرور
و تترك أن الناس أعطوا عهودهم
عليا على أنس به و سرور
إذا قيل هاتوا واحدا يقتدى به
نظيرا له لم يفصحوا بنظير
لعلك أن تشقى الغداة
بحربه فليس الذي قد جئته بصغير
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن نمير بن وعلة عن الشعبي- أن شرحبيل بن السمط بن الأسود بن جبلة الكندي- دخل على معاوية- فقال له أنت عامل أمير المؤمنين و ابن عمه- و نحن المؤمنون- فإن كنت رجلا تجاهد عليا و قتلة عثمان حتى ندرك ثارنا- أو تذهب أرواحنا استعملناك علينا- و إلا عزلناك و استعملنا غيرك ممن نريد- ثم جاهدنا معه حتى ندرك بدم عثمان أو نهلك- . فقال جرير بن عبد الله و كان حاضرا- مهلا يا شرحبيل فإن الله قد حقن الدماء- و لم الشعث و جمع أمر الأمة- و دنا من هذه الأمة سكون- فإياك أن تفسد بين الناس-
و أمسك عن هذا القول قبل أن يشيع- و يظهر عنك قول لا تستطيع رده- فقال لا و الله لا أسرة أبدا ثم قام فتكلم به- فقال الناس صدق صدق القول ما قال و الرأي ما رأى- فأيس جرير عند ذلك من معاوية و من عوام أهل الشام- .
قال نصر و حدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني- قال كان معاوية قد أتى جريرا قبل ذلك في منزله- فقال له يا جرير إني قد رأيت رأيا قال هاته- قال اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام و مصر جباية- فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده في عنقي بيعة- و أسلم له هذا الأمر- و اكتب إليه بالخلافة- فقال جرير اكتب ما أردت أكتب معك- . فكتب معاوية بذلك إلى علي-فكتب علي ع إلى جرير أما بعد فإنما أراد معاوية ألا يكون لي في عنقه بيعة- و أن يختار من أمره ما أحب- و أراد أن يريثك و يبطئك حتى يذوق أهل الشام- و أن المغيرة بن شعبة قد كان- أشار علي أن أستعمل معاوية على الشام- و أنا حينئذ بالمدينة فأبيت ذلك عليه- و لم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا- فإن بايعك الرجل و إلا فأقبل و السلام
قال نصر و فشا كتاب معاوية في العرب- فبعث إليه الوليد بن عقبة-
معاوي إن الشام شامك فاعتصم
بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا
و حام عليها بالصوارم و القنا
و لا تك موهون الذراعين وانيا
و إن عليا ناظر ما تجيبه
فأهد له حربا تشيب النواصيا
و إلا فسلم إن في السلم راحة
لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا
و إن كتابا يا ابن حرب كتبته
على طمع يزجى إليك الدواهيا
سألت عليا فيه ما لن تناله
و لو نلته لم يبق إلا لياليا
و سوف ترى منه التي ليس بعدها
بقاء فلا تكثر عليك الأمانيا
أ مثل علي تعتريه بخدعة
و قد كان ما جربت من قبل كافيا
قال و كتب الوليد بن عقبة إلى معاوية أيضا يوقظه- و يشير عليه بالحرب و ألا يكتب جواب جرير-
معاوي إن الملك قد جب غاربه
و أنت بما في كفك اليوم صاحبه
أتاك كتاب من علي بخطه
هي الفصل فاختر سلمه أو تحاربه
فلا ترج عند الواترين مودة
و لا تأمن اليوم الذي أنت راهبه
و حاربه إن حاربت حرب ابن حرة
و إلا فسلم لا تدب عقاربه
فإن عليا غير ساحب ذيله
على خدعة ما سوغ الماء شاربه
و لا قابل ما لا يريد و هذه
يقوم بها يوما عليه نوادبه
فلا تدعن الملك و الأمر مقبل
و تطلب ما أعيت عليك مذاهبه
فإن كنت تنوي أن تجيب كتابه
فقبح ممليه و قبح كاتبه
و إن كنت تنوي أن ترد كتابه
و أنت بأمر لا محالة راكبه
فألق إلى الحي اليمانين كلمة
تنال بها الأمر الذي أنت طالبه
تقول أمير المؤمنين أصابه
عدو و مالأهم عليه أقاربه
أفانين منهم قائل و محرض
بلا ترة كانت و آخر سالبه
و كنت أميرا قبل بالشام فيكم
فحسبي و إياكم من الحق واجبه
فجيئوا و من أرسى ثبيرا مكانه
ندافع بحرا لا ترد غواربه
فأقلل و أكثر ما لها اليوم صاحب
سواك فصرح لست ممن تواربه
قال نصر و خرج جرير يوما يتجسس الأخبار- فإذا هو بغلام يتغنى على قعود له هو يقول-
حكيم و عمار الشجا و محمد
و أشتر و المكشوح جروا الدواهيا
و قد كان فيها للزبير عجاجة
و صاحبه الأدنى أثاروا الدواهيا
فأما علي فاستجار ببيته
فلا آمر فيها و لم يك ناهيا
فقل في جميع الناس ما شئت بعده
فلو قلت أخطأ الناس لم تك خاطيا
و إن قلت عم القوم فيه بفتنة
فحسبك من ذاك الذي كان كافيا
فقولا لأصحاب النبي محمد
و خصا الرجال الأقربين الأدانيا
أ يقتل عثمان بن عفان بينكم
على غير شيء ليس إلا تعاميا
فلا نوم حتى نستبيح حريمكم
و نخضب من أهل الشنان العواليا
فقال جرير يا ابن أخي من أنت- فقال غلام من قريش و أصلي من ثقيف- أنا ابن المغيرة بن الأخنس بن شريق- قتل أبي مع عثمان يوم الدار- فعجب جريرمن شعره و قوله- و كتب بذلك إلى علي ع- فقال علي و الله ما أخطأ الغلام شيئا- . قال نصر و في حديث صالح بن صدقة- قال أبطأ جرير عند معاوية حتى اتهمه الناس- و قال علي ع قد وقت لجرير وقتا- لا يقيم بعده إلا مخدوعا أو عاصيا- و أبطأ على علي حتى أيس منه- .
قال و في حديث محمد و صالح بن صدقة قالا فكتب علي ع إلى جرير بعد ذلك إذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل- ثم خيره و خذه بالجواب بين حرب مخزية أو سلم محظية- فإن اختار الحرب فانبذ إليه- و إن اختار السلم فخذه ببيعته و السلام- . قال فلما انتهى الكتاب إلى جرير أتى معاوية- فأقرأه الكتاب- و قال له يا معاوية إنه لا يطبع على قلب إلا بذنب- و لا يشرح صدر إلا بتوبة- و لا أظن قلبك إلا مطبوعا عليه- أراك قد وقفت بين الحق و الباطل- كأنك تنتظر شيئا في يد غيرك- . فقال معاوية ألقاك بالفصل في أول مجلس إن شاء الله- . فلما بايع معاوية أهل الشام بعد أن ذاقهم- قال يا جرير الحق بصاحبك و كتب إليه بالحرب- و كتب في أسفل الكتاب شعر كعب بن جعيل-أرى الشام تكره أهل العراق و أهل العراق لهم كارهونا-و قد ذكرنا هذا الشعر فيما تقدم- .
و قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل- إن عليا ع لما أراد أن يبعث جريرا إلى معاوية- قال و الله يا أمير المؤمنين ما أدخرك من نصرتي شيئا- و ما أطمع لك في معاوية- فقال علي ع إنما قصدي حجة أقيمها عليه- فلما أتى جرير معاوية دافعه بالبيعة- فقال له جرير إن المنافق لا يصلي حتى لا يجد من الصلاة بدا- فقال معاوية إنها ليست بخدعة الصبي عن اللبن- فأبلغني ريقي إنه أمر له ما بعده- . قال و كتب مع جرير إلى علي ع جوابا عن كتابه إليه- من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب- أما بعد فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك- و أنت بريء من دم عثمان كنت كأبي بكر و عمر و عثمان- و لكنك أغريت بعثمان المهاجرين- و خذلت عنه الأنصار- فأطاعك الجاهل و قوي بك الضعيف- و قد أبى أهل الشام إلا قتالك- حتى تدفع إليهم قتلة عثمان- فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين- و لعمري ليس حججك علي كحججك على طلحة و الزبير- لأنهما بايعاك و لم أبايعك- و ما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة- لأن أهل البصرة أطاعوك و لم يطعك أهل الشام- فأما شرفك في الإسلام- و قرابتك من النبي ص و موضعك من قريش فلست أدفعه- .ثم كتب في آخر الكتاب شعر كعب بن جعيل الذي أوله-
أرى الشام تكره أهل العراق
و أهل العراق لهم كارهونا
قال أبو العباس المبرد رحمه الله تعالى فكتب إليه علي ع جوابا عن كتابه هذا من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- إلى معاوية بن صخر بن حرب- أما بعد فإنه أتاني منك كتاب امرئ ليس له بصر يهديه- و لا قائد يرشده- دعاه الهوى فأجابه- و قاده الضلال فاتبعه- زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان- و لعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين- أوردت كما أوردوا و أصدرت كما أصدروا- و ما كان الله ليجمعهم على الضلال- و لا ليضربهم بالعمى- و بعد فما أنت و عثمان- إنما أنت رجل من بني أمية- و بنو عثمان أولى بمطالبة دمه- فإن زعمت أنك أقوى على ذلك- فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثم حاكم القوم إلي- و أما تمييزك بينك و بين طلحة و الزبير- و بين أهل الشام و أهل البصرة- فلعمري ما الأمر فيما هناك إلا سواء- لأنها بيعة شاملة لا يستثنى فيها الخيار- و لا يستأنف فيها النظر- و أما شرفي في الإسلام و قرابتي من رسول الله ص- و موضعي من قريش فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته- . قال ثم دعا النجاشي أحد بني الحارث بن كعب- فقال له إن ابن جعيل شاعر أهل الشام- و أنت شاعر أهل العراق فأجب الرجل- فقال يا أمير المؤمنين أسمعني قوله- قال إذن أسمعك شعر شاعر ثم أسمعه- فقال النجاشي يجيبه-
دعا يا معاوي ما لن يكونا
فقد حقق الله ما تحذرونا
أتاكم علي بأهل العراق
و أهل الحجاز فما تصنعونا
على كل جرداء خيفانة
و أشعث نهد يسر العيونا
عليها فوارس مخشية
كأسد العرين حمين العرينا
يرون الطعان خلال العجاج
و ضرب الفوارس في النقع دينا
هم هزموا الجمع جمع الزبير
و طلحة و المعشر الناكثينا
و آلوا يمينا على حلفة
لنهدي إلى الشام حربا زبونا
تشيب النواهد قبل المشيب
و تلقى الحوامل منها الجنينا
فإن تكرهوا الملك ملك العراق
فقد رضي القوم ما تكرهونا
فقل للمضلل من وائل
و من جعل الغث يوما سمينا
جعلتم عليا و أشياعه
نظير ابن هند أ ما تستحونا
إلى أفضل الناس بعد الرسول
و صنو الرسول من العالمينا
و صهر الرسول و من مثله
إذا كان يوم يشيب القرونا
قلت أبيات كعب بن جعيل خير من هذه الأبيات- و أخبث مقصدا و أدهى و أحسن- . و زاد نصر بن مزاحم في هذه الرسالة بعد قوله- و لا ليضربهم بالعمى- و ما ألبت فتلزمني خطيئة الأمر- و لا قتلت فيجب على القصاص- و أما قولك إن أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز- فهات رجلا من أهل الشام يقبل في الشورى- أو تحل له الخلافة- فإن زعمت ذلك كذبك المهاجرون و الأنصار- و إلا أتيتك به من قريش الحجاز- و أما ولوعك بي في أمر عثمان- فما قلت ذلك عن حق العيان و لا يقين الخبر- . و هذه الزيادة التي ذكرها نصر بن مزاحم- تقتضي أنه كان في كتاب معاوية إليه ع- أن أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز- و ما وجدنا هذا الكلام في كتابه
أخبار متفرقة
و روى نصر بن مزاحم- قال لما قتل عثمان ضربت الركبان إلى الشام بقتله- فبينا معاوية يوما إذا أقبل رجل متلفف- فكشف عن وجهه- و قال لمعاوية يا أمير المؤمنين أ تعرفني- قال نعم أنت الحجاج بن خزيمة بن الصمة فأين تريد- قال إليك القربان نعي ابن عفان ثم قال-
إن بني عمك عبد المطلب
هم قتلوا شيخكم غير كذب
و أنت أولى الناس بالوثب فثب
و اغضب معاوي للإله و احتسب
و سر بنا سير الجرير المتلئب
و انهض بأهل الشام ترشد و تصب
ثم اهزز الصعدة للشأس الشغب
قال يعني عليا ع قلت المتلئب المستقيم المطرد- يقال هذا قياس متلئب أي مستمر مطرد-و يقال مكان شأس أي غليظ صلب- و الشغب الهائج للشر- و من رواه للشاسي بالياء- فأصله الشاصي بالصاد و هو المرتفع- يقال شصا السحاب إذا ارتفع- فأبدل الصاد سينا- و مراده هنا نسبة علي ع إلى التيه و الترفع عن الناس- . قال نصر فقال له معاوية أ فيك مهز- فقال نعم فقال أخبر الناس- فقال الحجاج يا أمير المؤمنين- و لم يخاطب معاوية بأمير المؤمنين قبلها- إني كنت فيمن خرج مع يزيد بن أسد القسري مغيثا لعثمان- فقدمت أنا و زفر بن الحارث- فلقينا رجلا زعم أنه ممن قتل عثمان فقتلناه- و إني أخبرك يا أمير المؤمنين- إنك لتقوى على علي بدون ما يقوى به عليك- لأن معك قوما لا يقولون إذا قلت- و لا يسألون إذا أمرت- و إن مع علي قوما يقولون إذا قال و يسألون إذا أمر- فقليل ممن معك خير من كثير ممن معه- و اعلم أنه لا يرضى علي إلا بالرضا- و إن رضاه سخطك- و لست و علي سواء- علي لا يرضى بالعراق دون الشام- و أنت ترضى بالشام دون العراق- . قال نصر فضاق معاوية صدرا بما أتاه- و ندم على خذلان عثمان و قال-
أتاني أمر فيه للنفس
غمة و فيه بكاء للعيون طويل
و فيه فناء شامل و خزاية
و فيه اجتداع للأنوف أصيل
مصاب أمير المؤمنين
و هدة تكاد لها صم الجبال تزول
فلله عينا من رأى مثل هالك
أصيب بلا ذنب و ذاك جليل
تداعت عليه بالمدينة عصبة
فريقان منهم قاتل و خذول
دعاهم فصموا عنه عند دعائه
و ذاك على ما في النفوس دليل
ندمت على ما كان من تبعي الهوى
و قصري فيه حسرة و عويل
سأبغي أبا عمرو بكل مثقف
و بيض لها في الدار عين صليل
تركتك للقوم الذين هم هم
شجاك فما ذا بعد ذاك أقول
فلست مقيما ما حييت
ببلدة أجر بها ذيلي و أنت قتيل
فلا نوم حتى تشجر الخيل بالقنا
و يشفي من القوم الغواة غليل
و نطحنهم طحن الرحى بثفالها
و ذاك بما أسدوا إليك قليل
فأما التي فيها مودة بيننا
فليس إليها ما حييت سبيل
سألقحها حربا عوانا ملحة
و إني بها من عامنا لكفيل
قال نصر و افتخر الحجاج على أهل الشام- بما كان من تسليمه على معاوية بأمره المؤمنين- . قال نصر و حدثنا صالح بن صدقة- عن ابن إسحاق عن خالد الخزاعي و غيره ممن لا يتهم- أن عثمان لما قتل- و أتي معاوية بكتاب علي ع بعزله عن الشام- صعد المنبر و نادى في الناس أن يحضروا فحضروا فخطبهم- فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله- ثم قال يا أهل الشام- قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- و خليفة عثمان و قد قتل و أنا ابن عمه و وليه- و الله تعالى يقول- وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً- و أنا أحب أن تعلموني ما في نفوسكم من قتل خليفتكم- .
فقام مرة بن كعب و في المسجد يومئذ- أربعمائة رجل من أصحاب النبي ص أو نحوها- فقال و الله لقد قمت مقامي هذا- و إني لأعلم أن فيكم من هو أقدم صحبة لرسول الله ص مني- و لكني شهدت رسول الله ص نصف النهار في يوم شديد الحر- و هو يقول لتكونن فتنة حاضرة فمر رجل مقنع- فقال رسول الله و هذا المقنع يومئذ على الهدى- فقمت فأخذت بمنكبه و حسرت عن رأسه- فإذا عثمان فأقبلت بوجهه على رسول الله ص- و قلت هذا يا رسول الله فقال نعم- فأصفق أهل الشام مع معاوية حينئذ- و بايعوه على الطلب بدم عثمان أميرا- لا يطمع في الخلافة ثم الأمر شورى- . و روى إبراهيم بن الحسن بن ديزيل في كتاب صفين- عن أبي بكر بن عبد الله الهذلي- أن الوليد بن عقبة كتب إلى معاوية- يستبطئه في الطلب بدم عثمان- و يحرضه و ينهاه عن قطع الوقت بالمكاتبة-
ألا أبلغ معاوية بن حرب
فإنك من أخي ثقة مليم
قطعت الدهر كالسدم المعنى
تهدر في دمشق و لا تريم
فإنك و الكتاب إلى علي
كدابغة و قد حلم الأديم
لك الويلات أقحمها عليهم
فخير الطالبي الترة الغشوم
قال فكتب معاوية إليه الجواب بيتا من شعر أوس بن حجر-و مستعجب مما يرى من أناتنا و لو زبنته الحرب لم يترمرم- . و روى ابن ديزيل- قال لما عزم علي ع على المسير إلى الشام دعا رجلا- فأمره أن يتجهز و يسير إلى دمشق- فإذا دخل أناخ راحلته بباب المسجد- و لا يلقي من ثياب سفره شيئا- فإن الناس إذا رأوه عليه آثار الغربة سألوه- فليقل لهم تركت عليا قد نهد إليكم بأهل العراق- فانظر ما يكون من أمرهم- ففعل الرجل ذلك فاجتمع الناس و سألوه فقال لهم- فكثروا عليه يسألونه- فأرسل إليه معاوية بالأعور السلمي يسأله فأتاه فسأله- فقال له فأتى معاوية فأخبره- فنادى الصلاة جامعة ثم قام فخطب الناس- و قال لهم إن عليا قد نهد إليكم في أهل العراق فما ترون- فضرب الناس بأذقانهم على صدورهم لا يتكلمون- فقام ذو الكلاع الحميري- فقال عليك امرأي و علينا امفعال و هي لغة حمير- .
فنزل و نادى في الناس بالخروج إلى معسكرهم- و عاد إلى علي ع فأخبره- فنادى الصلاة جامعة ثم قام فخطب الناس- فأخبرهم أنه قدم عليه رسول كان بعثه إلى الشام- و أخبره أن معاوية قد نهد إلى العراق في أهل الشام- فما الرأي- . قال فاضطرب أهل المسجد- هذا يقول الرأي كذا- و هذا يقول الرأي كذا- و كثر اللغط و اللجب- فلم يفهم علي ع من كلامهم شيئا- و لم يدر المصيب من المخطئ فنزل عن المنبر- و هو يقول إنا لله و إنا إليه راجعون- ذهب بها ابن آكلة الأكباد يعني معاوية- . و روى ابن ديزيل عن عقبة بن مكرم- عن يونس بن بكير عن الأعمش- قال كان أبو مريم صديقا لعلي ع- فسمع بما كان فيه علي ع من اختلاف أصحابه عليه فجاءه- فلم يرع عليا ع إلا و هو قائم على رأسه بالعراق- فقال له أبا مريم ما جاء بك نحوي- قال ما جاء بي غيرك- عهدي بك لو وليت أمر الأمة كفيتهم- ثم سمعت بما أنت فيه من الاختلاف- فقال يا أبا مريم إني منيت بشرار خلق الله- أريدهم على الأمر الذي هو الرأي فلا يتبعونني- .
و روى ابن ديزيل عن عبد الله بن عمر عن زيد بن الحباب عن علاء بن جرير العنبري عن الحكم بن عمير الثمالي و كانت أمه بنت أبي سفيان بن حرب قال قال رسول الله ص لأصحابه ذات يوم- كيف بك يا أبا بكر إذا وليت- قال لا يكون ذلك أبدا- قال فكيف بك يا عمر إذا وليت- فقال آكل حجرا لقد لقيت إذن شرا- قال فكيف بك يا عثمان إذا وليت- قال آكل و أطعم و أقسم و لا أظلم- قال فكيف بك يا علي إذا وليت- قال آكل الفوت و أحمي الجمرة- و أقسم التمرة و أخفي الصور- قال أي العورة- فقال ص أما إنكم كلكم سيلي و سيرى الله أعمالكم- ثم قال يا معاوية كيف بك إذا وليت- قال الله و رسوله أعلم- فقال أنت رأس الحطم و مفتاح الظلم حصبا و حقبا- تتخذ الحسن قبيحا و السيئة حسنة- يربو فيها الصغير- و يهرم فيها الكبير- أجلك يسير و ظلمك عظيم- .
و روى ابن ديزيل أيضا عن عمر بن عون- عن هشيم عن أبي فلج عن عمرو بن ميمون- قال قال عبد الله بن مسعود- كيف أنتم إذا لقيتكم فتنة يهرم فيها الكبير- و يربو فيها الصغير- تجري بين الناس و يتخذونها سنة- فإذا غيرت قيل هذا منكر- . و روى ابن ديزيل- قال حدثنا الحسن بن الربيع البجلي- عن أبي إسحاق الفزاري عن حميد الطويل عن أنس بن مالك في قوله تعالى- فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ- أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ- قال أكرم الله تعالى نبيه ع- أن يريه في أمته ما يكره رفعه إليه و بقيت النقمة- .
قال ابن ديزيل و حدثنا عبد الله بن عمر قال حدثنا عمرو بن محمد قال أخبرنا أسباط عن السدي عن أبي المنهال عن أبي هريرة قال قال رسول الله ص سألت ربي لأمتي ثلاث خلال- فأعطاني اثنتين و منعني واحدة- سألته ألا تكفر أمتي صفقة واحدة فأعطانيها- و سألته ألا يعذبهم بما عذب به الأمم قبلهم فأعطانيها- و سألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها- .
قال ابن ديزيل و حدثنا يحيى بن عبد الله الكرابيسي- قال حدثنا أبو كريب- قال حدثنا أبو معاوية عن عمار بن زريق- عن عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد- قال جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود- فقال إن الله تعالى قد آمننا أن يظلمنا- و لم يؤمنا أن يفتننا- أ رأيت إذا أنزلت فتنة كيف أصنع- فقال عليك كتاب الله تعالى- قال أ فرأيت إن جاء قوم كلهم يدعو إلى كتاب الله تعالى-فقال ابن مسعود سمعت رسول الله ص يقول إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحقيعني عمارا- .
و روى ابن ديزيل قال حدثنا يحيى بن زكريا قال حدثنا علي بن القاسم عن سعيد بن طارق عن عثمان بن القاسم عن زيد بن أرقم قال قال رسول الله ص أ لا أدلكم على ما إن تساءلتم عليه لم تهلكوا- إن وليكم الله و إن إمامكم علي بن أبي طالب- فناصحوه و صدقوه فإن جبريل أخبرني بذلك- . فإن قلت هذا نص صريح في الإمامة- فما الذي تصنع المعتزلة بذلك- . قلت يجوز أن يريد أنه إمامهم في الفتاوي- و الأحكام الشرعية لا في الخلافة- .
و أيضا فإنا قد شرحنا من قول شيوخنا البغداديين ما محصله- إن الإمامة كانت لعليع إن رغب فيها و نازع عليها- و إن أقرها في غيره و سكت عنها تولينا ذلك الغير- و قلنا بصحة خلافته- و أمير المؤمنين ع لم ينازع الأئمة الثلاثة و لا جرد السيف- و لا استنجد بالناس عليهم- فدل ذلك على إقراره لهم على ما كانوا فيه- فلذلك توليناهم- و قلنا فيهم بالطهارة و الخير و الصلاح- و لو حاربهم و جرد السيف عليهم- و استصرخ العرب على حربهم- لقلنا فيهم ما قلناه فيمن عامله هذه المعاملة- من التفسيق و التضليل- .
قال ابن ديزيل و حدثنا عمرو بن الربيع- قال حدثنا السري بن شيبان عن عبد الكريم- أن عمر بن الخطاب قال لما طعن- يا أصحاب محمد تناصحوا- فإنكم إن لم تفعلوا- غلبكم عليها عمرو بن العاص و معاوية بن أبي سفيان- . قلت إن محمد بن النعمان المعروف بالمفيد أحد الإمامية- قال في بعض كتبه- إنما أراد عمر بهذا القول إغراء معاوية- و عمرو بن العاص بطلب الخلافة و إطماعهما فيها- لأن معاوية كان عامله و أميره على الشام- و عمرو بن العاص عامله و أميره على مصر- و خاف أن يضعف عثمان عنها و أن تصير إلى علي ع- فألقى هذه الكلمة إلى الناس لتنقل إليهما- و هما بمصر و الشام- فيتغلبا على هذين الإقليمين إن أفضت إلى علي ع- . و هذا عندي من باب الاستنباطات- التي يوجبها الشنآن و الحنق- و عمر كان أتقى لله من أن يخطر له هذا- و لكنه من فراسته الصادقة- التي كان يعلم بها كثيرا من الأمور المستقبلة- كما قال عبد الله بن عباس في وصفه- و الله ما كان أوس بن حجر عنى أحدا سواه بقوله-الألمعي الذي يظن بك الظن كان قد رأى و قد سمعا-
و روى ابن ديزيل عن عفان بن مسلم- عن وهب بن خالد عن أيوب- عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن مرة بن كعب- قال ذكر رسول الله ص فتنة فقربها- فمر رجل قد تقنع بثوبه- فقال ع هذا و أصحابه يومئذ على الحق- فقمت إليه فأخذت بمنكبه- فقلت هو هذا فقال نعم فإذا هو عثمان بن عفان- . قلت- هذا الحديث قد رواه كثير من محققي أصحاب الحديث- و رواه محمد بن إسماعيل البخاري- في تاريخه الكبير بعدة روايات- و ليس لقائل أن يقول- فهذا الحديث إذا صححتموه كان حجة للسفيانية- لأنا نقول الخبر يتضمن أن عثمان و أصحابه على الحق- و هذا مذهبنا- لأنا نذهب إلى أن عثمان قتل مظلوما- و أنه و ناصريه يوم الدار على الحق- و أن القوم الذين قتلوه لم يكونوا على الحق- فأما معاوية و أهل الشام الذين حاربوا عليا ع بصفين- فليسوا بداخلين في الخبر- و لا في ألفاظ الخبر لفظ عموم يتعلق به- أ لا ترى أنه ليس فيه كل من أظهر الانتصار لعثمان- في حياته و بعد وفاته فهو على الحق- و إنما خلاصته أنه ستقوم فتنة- يكون عثمان فيها و أصحابه على الحق- و نحن لا نأبى ذلك بل هو مذهبنا- .
و روى نصر بن مزاحم في كتاب صفين- قال لما قدم عبيد الله بن عمر- بن الخطاب على معاوية بالشام- أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص- إن الله قد أحيا لك عمر بن الخطاب بالشام- بقدوم عبيد الله بن عمر- و قد رأيت أن أقيمه خطيبا يشهد على علي بقتل عثمان- و ينال منه فقال الرأي ما رأيت فبعث إليه فأتاه- فقال له معاوية يا ابن أخي- إن لك اسم أبيك فانظر بملء عينيك- و أنطق بملء فيك فأنت المأمون المصدق- فاصعد المنبر و اشتم عليا و اشهد عليه أنه قتل عثمان- . فقال أيها الأمير أما شتمه- فإن أباه أبو طالب و أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم- فما عسى أن أقول في حسبه- و أما بأسه فهو الشجاع المطرق- و أما أيامه فما قد عرفت- و لكني ملزمه دم عثمان- فقال عمرو بن العاص قد و أبيك إذن نكأت القرحة- . فلما خرج عبيد الله بن عمر- قال معاوية أما و الله لو لا قتله الهرمزان- و مخافته عليا على نفسه ما أتانا أبدا- أ لا ترى إلى تقريظه عليا- فقال عمرو يا معاوية إن لم تغلب فاخلب- قال و خرج حديثهما إلى عبيد الله- فلما قام خطيبا تكلم بحاجته- فلما انتهى إلى أمر علي أمسك و لم يقل شيئا- فلما نزل بعث إليه معاوية يا ابن أخي- إنك بين عي و خيانة فبعث إليه- إني كرهت أن أقطع الشهادة على رجل لم يقتل عثمان- و عرفت أن الناس محتملوها عني فتركتها- . قال فهجره معاوية و استخف به و فسقه فقال عبيد الله-
معاوي لم أحرض بخطبة خاطب
و لم أك عيا في لؤي بن غالب
و لكنني زاولت نفسا أبية
على قذف شيخ بالعراقين غائب
و قذفي عليا بابن عفان جهرة كذاب
و ما طبي سجايا المكاذب
و لكنه قد قرب القوم جهده
و دبوا حواليه دبيب العقارب
فما قال أحسنتم و لا قد أسأتم
و أطرق إطراق الشجاع المواثب
فأما ابن عفان فأشهد أنه
أصيب بريئا لابسا ثوب تائب
و قد كان فيها للزبير عجاجة
و طلحة فيها جاهد غير لاعب
و قد أظهرا من بعد ذلك توبة
فيا ليت شعري ما هما في العواقب
قال فلما بلغ معاوية شعره بعث إليه فأرضاه- و قال حسبي هذا منك- . و روى نصر عن عبيد الله بن موسى- قال سمعت سفيان بن سعيد المعروف بسفيان الثوري- يقول ما أشك أن طلحة و الزبير بايعا عليا- و ما نقما عليه جورا في حكم و لا استئثارا بفيء- و ما قاتل عليا أحد إلا و علي أولى بالحق منه- . و روى نصر بن مزاحم- أن عليا ع قدم من البصرة- في غرة شهر رجب من سنة ست و ثلاثين إلى الكوفة- و أقام بها سبعة عشر شهرا- تجري الكتب بينه و بين معاوية و عمرو بن العاص- حتى سار إلى الشام- . قال نصر و قد روي من طريق أبي الكنود و غيره- أنه قدم الكوفة بعد وقعة الجمل- لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رجب سنة ست و ثلاثين- .
قال نصر فدخل الكوفة- و معه أشراف الناس من أهل البصرة و غيرهم- فاستقبله أهل الكوفة- و فيهم قراؤهم و أشرافهم- فدعوا له بالبركة- و قالوا يا أمير المؤمنين أين تنزل أ تنزل القصر- قال لا و لكني أنزل الرحبة- فنزلها و أقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى فيه ركعتين- ثم صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله- ثم قال أما بعد يا أهل الكوفة- فإن لكم في الإسلام فضلا ما لم تبدلوا و تغيروا- دعوتكم إلى الحق فأجبتم- و بدأتم بالمنكر فغيرتم- ألا إن فضلكم فيما بينكم و بين الله- فأما في الأحكام و القسم فأنتم أسوة غيركم ممن أجابكم- و دخل فيما دخلتم فيه- ألا إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى و طول الأمل- أما اتباع الهوى فيصد عن الحق- و أما طول الأمل فينسي الآخرة- ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة- و إن الآخرة قد ترحلت مقبلة- و لكل واحدة منهما بنون- فكونوا من أبناء الآخرة- اليوم عمل و لا حساب و غدا حساب و لا عمل- الحمد لله الذي نصر وليه و خذل عدوه- و أعز الصادق المحق و أذل الناكث المبطل- عليكم بتقوى الله- و طاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم- الذين هم أولى بطاعتكم- فيما أطاعوا الله فيه من المستحلين- المدعين المقابلين إلينا يتفضلون بفضلنا- و يجاحدوننا أمرنا- و ينازعوننا حقنا- و يباعدوننا عنه- فقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غيا- ألا إنه قد قعد عن نصرتي رجال منكم- و أنا عليهم عاتب زار- فاهجروهم و أسمعوهم ما يكرهون- حتى يعتبوا ليعرف بذلك حزب الله عند الفرقة- فقام إليه مالك بن حبيب اليربوعي و كان صاحب شرطته- فقال و الله إني لأرى الهجر و سماع المكروه لهم قليلا- و الله لو أمرتنا لنقتلنهم- فقال علي ع سبحان الله يا مال جزت المدى و عدوت الحد- فأغرقت في النزع- فقال يا أمير المؤمنين- لبعض الغشم أبلغ في أمر ينوبك من مهادنة الأعادي- فقال علي ع ليس هكذا قضى الله يا مال- قال سبحانه النَّفْسَ بِالنَّفْسِ- فما بال ذكر الغشم-.
و قال تعالى وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً- فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ- و الإسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك- فقد نهى الله عنه و ذاك هو الغشم- فقام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي- و كان ممن تخلف عنه- فقال يا أمير المؤمنين- أ رأيت القتلى حول عائشة و طلحة و الزبير علام قتلوا- أو قال بم قتلوا- فقال علي ع قتلوا بما قتلوا شيعتي و عمالي- و قتلوا أخا ربيعة العبدي في عصابة من المسلمين- قالوا إنا لا ننكث كما نكثتم و لا نغدر كما غدرتم- فوثبوا عليهم فقتلوهم- فسألتهم أن يدفعوا إلي قتلة إخواني أقتلهم بهم- ثم كتاب الله حكم بيني و بينهم فأبوا علي- و قاتلوني و في أعناقهم بيعتي- و دماء قريب من ألف رجل من شيعتي فقتلتهم- أ في شك أنت من ذلك- فقال قد كنت في شك فأما الآن فقد عرفت- و استبان لي خطأ القوم- و أنك المهتدي المصيب- .
قال نصر و كان أشياخ الحي يذكرون أنه كان عثمانيا- و قد شهد على ذلك صفين مع علي ع- و لكنه بعد ما رجع كان يكاتب معاوية- فلما ظهر معاوية أقطعه قطيعة بالفلوجة- و كان عليه كريما- . قال ثم إن عليا ع تهيأ لينزل- و قام رجال ليتكلموا- فلما رأوه نزل جلسوا و سكتوا- . قال و نزل علي ع بالكوفة على جعدة بن هبيرة المخزومي- . قلت جعدة ابن أخته أم هانئ بنت أبي طالب- كانت تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي- فأولدها جعدة و كان شريفا- .
قال نصر و لما قدم علي ع إلى الكوفة نزل على باب المسجد- فدخل فصلى ثم تحول فجلس إليه الناس- فسأل عن رجل من الصحابة كان نزل الكوفة- فقال قائل استأثر الله به-فقال علي ع إن الله تبارك و تعالى لا يستأثر بأحد من خلقه- إنما أراد الله جل ذكره بالموت إعزاز نفسه و إذلال خلقه- و قرأ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ- قال نصر فلما لحقه ع ثقله- قالوا أ ننزل القصر- فقال قصر الخبال لا تنزلوا فيه- . قال نصر و دخل سليمان بن صرد الخزاعي على علي ع- مرجعه من البصرة فعاتبه و عذله- و قال له ارتبت و تربصت و راوغت- و قد كنت من أوثق الناس في نفسي- و أسرعهم فيما أظن إلى نصرتي- فما قعد بك عن أهل بيت نبيك- و ما زهدك في نصرتهم- فقال يا أمير المؤمنين لا تردن الأمور على أعقابها- و لا تؤنبني بما مضى منها- و استبق مودتي تخلص لك نصيحتي- فقد بقيت أمور تعرف فيها عدوك من وليك- فسكت عنه و جلس سليمان قليلا ثم نهض- فخرج إلى الحسن بن علي ع و هو قاعد في باب المسجد- فقال أ لا أعجبك من أمير المؤمنين- و ما لقيت منه من التوبيخ و التبكيت- فقال الحسن إنما يعاتب من ترجى مودته و نصيحته- فقال لقد وثبت أمور ستشرع فيها القنا- و تنتضى فيها السيوف- و يحتاج فيها إلى أشباهي- فلاتستغشوا عتبي و لا تتهموا نصحي- فقال الحسن رحمك الله ما أنت عندنا بظنينقال نصر و دخل عليه سعيد بن قيس الأزدي فسلم عليه- فقال و عليك السلام و إن كنت من المتربصين- قال حاش لله يا أمير المؤمنين- فإني لست من أولئك- فقال لعل الله فعل ذلك- .
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن مخنف- قال دخلت مع أبي على علي ع مقدمه من البصرة- و هو عام بلغت الحلم- فإذا بين يديه رجال يؤنبهم-و يقول لهم ما أبطأ بكم عني و أنتم أشراف قومكم- و الله إن كان من ضعف النية و تقصير البصيرة إنكم لبور- و إن كان من شك في فضلي و مظاهرة علي إنكم لعدو- .
فقالوا حاش لله يا أمير المؤمنين- نحن سلمك و حرب عدوك- ثم اعتذر القوم فمنهم من ذكر عذرا- و منهم من اعتل بمرض- و منهم من ذكر غيبة- فنظرت إليهم فعرفتهم- فإذا عبد الله المعتم العبسي- و حنظلة بن الربيع التميمي- و كلاهما كانت له صحبة- و إذا أبو بردة بن عوف الأزدي- و إذا غريب بن شرحبيل الهمداني- . قال و نظر علي ع إلى أبي-فقال و لكن مخنف بن مسلم و قومه لم يتخلفوا- و لم يكن مثلهم كمثل القوم الذين قال الله تعالى فيهم- وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ- فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ- قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً- وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ- لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ- يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً- .
قال نصر ثم إن عليا ع مكث بالكوفة- فقال الشني في ذلك [شن بن عبد القيس]-
قل لهذا الإمام قد خبت
الحرب و تمت بذلك النعماء
و فرغنا من حرب من نقض العهد
و بالشام حية صماء
تنفث السم ما لمن نهشته
فارمها قبل أن تعض شفاء
إنه و الذي يحج له الناس
و من دون بيته البيداء
لضعيف النخاع إن رمي
اليوم بخيل كأنها أشلاء
تتبارى بكل أصيد كالفحل
بكفيه صعدة سمراء
إن تذره فما معاوية الدهر
بمعطيك ما أراك تشاء
و لنيل السماء أقرب من ذاك
و نجم العيوق و العواء
فأعد بالحد و الحديد
إليهم ليس و الله غير ذاك دواء
قال نصر و أتم علي ع صلاته يوم دخل الكوفة- فلما كانت الجمعة خطب الناس- فقال الحمد لله الذي أحمده و أستعينه و أستهديه- و أعوذ بالله من الضلالة من يهد الله فلا مضل له- و من يضلل فلا هادي له- و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- و أشهد أن محمدا عبده و رسوله- انتجبه لأمره و اختصه بنبوته- أكرم خلقه عليه و أحبهم إليه فبلغ رسالة ربه- و نصح لأمته و أدى الذي عليه- أوصيكم بتقوى الله- فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله- و أقربه إلى رضوان الله- و خيره في عواقب الأمور عند الله- و بتقوى الله أمرتم- و للإحسان و الطاعة خلقتم- فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه- فإنه حذر بأسا شديدا- و اخشوا خشية ليست بتعذير- و اعملوا في غير رياء و لا سمعة- فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل له- و من عمل لله مخلصا تولى الله أجره- أشفقوا من عذاب الله- فإنه لم يخلقكم عبثا- و لم يترك شيئا من أمركم سدى- قد سمى آثاركم و علم أعمالكم و كتب آجالكم- فلا تغتروا بالدنيا فإنها غرارة لأهلها- مغرور من اغتر بها و إلى فناء ما هي- و إن الآخرة هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون- أسأل الله منازل الشهداء و مرافقة الأنبياء- و معيشة السعداء فإنما نحن به و له- .
قال نصر ثم استعمل علي ع العمال و فرقهم في البلاد- و كتب إلى معاوية مع جرير بن عبد الله البجلي- ما تقدم ذكره-قال نصر و قال معاوية لعمرو بن العاص- أيام كان جرير عنده ينتظر جوابه- إنني قد رأيت أن نلقي إلى أهل مكة و أهل المدينة كتابا- نذكر فيه أمر عثمان- فإما أن ندرك به حاجتنا أو نكف القوم عنا- فقال له عمرو إنما تكتب إلى ثلاثة نفر- رجل راض بعلي فلا يزيده كتابك إلا بصيرة فيه- أو رجل يهوي عثمان فلن يزيده كتابك على ما هو عليه- أو رجل معتزل فلست في نفسه بأوثق من علي- . قال علي ذاك فكتبا- أما بعد- فإنه مهما غاب عنا من الأمور فلم يغب عنا- أن عليا قتل عثمان- و الدليل على ذلك مكان قتلته منه- و إنما نطلب قتلته حتى يدفعوا إلينا- فنقتلهم بكتاب الله عز و جل- فإن دفعهم علي إلينا كففنا عنه- و جعلناها شورى بين المسلمين- على ما جعلها عليه عمر بن الخطاب- فأما الخلافة فلسنا نطلبها- فأعينونا على أمرنا هذا- و انهضوا من ناحيتكم- فإن أيدينا و أيديكم إذا اجتمعت على أمر واحد- هاب علي ما هو فيه و السلام- .
فكتب إليهما عبد الله بن عمر- أما بعد- فلعمري لقد أخطأتما موضع النصرة- و تناولتماها من مكان بعيد- و ما زاد الله من شك في هذا الأمر بكتابكما إلا شكا- و ما أنتما و المشورة و ما أنتما و الخلافة- أما أنت يا معاوية فطليق- و أما أنت يا عمرو فظنين- ألا فكفا أنفسكما- فليس لكم فينا ولي و لا نصير و السلام- . قال نصر- و كتب رجل من الأنصار إليهما مع كتاب عبد الله بن عمر-
معاوي إن الحق أبلج واضح
و ليس بما ربصت أنت و لا عمرو
نصبت ابن عفان لنا اليوم خدعة
كما نصب الشيخان إذ قضي الأمر
يعني طلحة و الزبير رحمهما الله-
فهذا كهذاك البلا حذو نعله
سواء كرقراق يغر به السفر
رميتم عليا بالذي لا يضيره
و إن عظمت فيه المكيدة و المكر
و ما ذنبه إن نال عثمان معشر
أتوه من الأحياء تجمعهم مصر
فثار إليه المسلمون ببيعة
علانية ما كان فيها لهم قسر
و بايعه الشيخان ثم تحملا
إلى العمرة العظمى و باطنها الغدر
فكان الذي قد كان مما اقتصاصه
يطول فيا لله ما أحدث الدهر
و ما أنتما و النصر منا
و أنتما بعيثا حروب ما يبوخ لها جمر
و ما أنتما لله در أبيكما
و ذكركما الشورى و قد وضح الفجر
قال نصر و قام عدي بن حاتم الطائي إلى علي ع- فقال يا أمير المؤمنين إن عندي رجلا لا يوازى به رجل- و هو يريد أن يزور ابن عمه حابس بن سعد الطائي بالشام- فلو أمرناه أن يلقى معاوية- لعله أن يكسره و يكسر أهل الشام- فقال علي ع نعم فأمره عدي بذلك- و كان اسم الرجل خفاف بن عبد الله- . فقدم على ابن عمه حابس بن سعد بالشام- و حابس سيد طيء بها- فحدث خفاف حابسا أنه شهد عثمان بالمدينة- و سار مع علي إلى الكوفة- و كان لخفاف لسان و هيئة و شعر- فغدا حابس بخفاف إلى معاوية- فقال إن هذا ابن عم لي قدم الكوفة مع علي- و شهد عثمان بالمدينة و هو ثقة- فقال له معاوية هات- حدثنا عن عثمان فقال نعم حصره المكشوح- و حكم فيه حكيم و وليه عمار- و تجرد في أمره ثلاثة نفر- عدي بن حاتم و الأشتر النخعي و عمرو بن الحمق- و جد في أمره رجلان
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 3