42 و من خطبة له ع
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَتَانِ- اتِّبَاعُ الْهَوَى وَ طُولُ الْأَمَلِ- فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ- وَ أَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الآْخِرَةَ- أَلَا وَ إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ- فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ- اصْطَبَّهَا صَابُّهَا- أَلَا وَ إِنَّ الآْخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ- فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآْخِرَةِ وَ لَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا- فَإِنَّ كُلَّ وَلَدٍ سَيُلْحَقُ بِأُمِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- وَ إِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَ لَا حِسَابَ وَ غَداً حِسَابٌ وَ لَا عَمَلَ قال الرضي رحمه الله- أقول الحذاء السريعة- و من الناس من يرويه جذاء بالجيم و الذال- أي انقطع درها و خيرها الصبابة بقية الماء في الإناء و اصطبها صابها- مثل قولك أبقاها مبقيها أو تركها تاركها- و نحو ذلك يقول- أخوف ما أخافه عليكم اتباع الهوى و طول الأمل- أما اتباع الهوى فيصد عن الحق- و هذا صحيح لا ريب فيه لأن الهوى يعمي البصيرة- و قد قيلحبك الشيء يعمي و يصم- و لهذا قال بعض الصالحين- رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي- و ذاك لأن الإنسان يحب نفسه- و من أحب شيئا عمي عن عيوبه- فلا يكاد الإنسان يلمح عيب نفسه- و قد قيل
أرى كل إنسان يرى عيب غيره
و يعمى عن العيب الذي هو فيه
فلهذا استعان الصالحون على معرفة عيوبهم بأقوال غيرهم- علما منهم أن هوى النفس لذاتها يعميها- عن أن تدرك عيبها- و ما زال الهوى مرديا قتالا- و لهذا قال سبحانه وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى و قال ص ثلاث مهلكات شح مطاع- و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه
– . و أنت إذا تأملت هلاك من هلك من المتكلمين- كالمجبرة و المرجئة- مع ذكائهم و فطنتهم و اشتغالهم بالعلوم- عرفت أنه لا سبب لهلاكهم إلا هوى الأنفس- و حبهم الانتصار للمذهب الذي قد ألفوه- و قد رأسوا بطريقه و صارت لهم الأتباع و التلامذة- و أقبلت الدنيا عليهم- و عدهم السلاطين علماء و رؤساء- فيكرهون نقض ذلك كله و إبطاله- و يحبون الانتصار لتلك المذاهب و الآراء- التي نشئوا عليها و عرفوا بها- و وصلوا إلى ما وصلوا إليه بطريقها- و يخافون عار الانتقال عن المذهب- و أن يشتفي بهم الخصوم و يقرعهم الأعداء- و من أنصف علم أن الذي ذكرناه حق- و أما طول الأمل فينسي الآخرة- و هذا حق لأن الذهن إذا انصرف إلى الأمل- و مد الإنسان في مداه فإنه لا يذكر الآخرة- بل يصير مستغرق الوقت بأحوال الدنيا- و ما يرجو حصوله منها في مستقبل الزمان- .و من كلام مسعر بن كدام- كم من مستقبل يوما ليس يستكمله- و منتظر غدا ليس من أجله- و لو رأيتم الأجل و مسيره أبغضتم الأمل و غروره- . و كان يقال تسويف الأمل غرار و تسويل المحال ضرار- . و من الشعر المنسوب إلى علي ع
غر جهولا أمله
يموت من جا أجله
و من دنا من حتفه
لم تغن عنه حيله
و ما بقاء آخر
قد غاب عنه أوله
و المرء لا يصحبه
في القبر إلا عمله
و قال أبو العتاهية-
لا تأمن الموت في لحظ و لا نفس
و لو تمنعت بالحجاب و الحرس
و اعلم بأن سهام الموت قاصدة
لكل مدرع منا و مترس
ما بال دينك ترضى أن تدنسه
و ثوب لبسك مغسول من الدنس
ترجو النجاة و لم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس
و من الحديث المرفوع أيها الناس إن الأعمال تطوى- و الأعمار تفنى و الأبدان تبلى في الثرى- و إن الليل و النهار يتراكضان تراكض الفرقدين- يقربان كل بعيد و يخلقان كل جديد- و في ذلك ما ألهى عن الأمل- و أذكرك بحلول الأجل
و قال بعض الصالحين- بقاؤك إلى فناء و فناؤك إلى بقاء- فخذ من فنائك الذي لا يبقى لبقائك الذي لا يفنى- . و قال بعضهم اغتنم تنفس الأجل و إمكان العمل- و اقطع ذكر المعاذير و العلل- و دع تسويف الأماني و الأمل- فإنك في نفس معدود و عمر محدود ليس بممدود- . و قال بعضهم اعمل عمل المرتحل- فإن حادي الموت يحدوك ليوم لا يعدوك-
ثم قال ع- ألا إن الدنيا قد أدبرت حذاء بالحاء و الذال المعجمة- و هي السريعة و قطاة حذاء- خف ريش ذنبها و رجل أحذ- أي خفيف اليد و قد روي قد أدبرت جذاء بالجيم- أي قد انقطع خيرها و درها- . ثم قال إن كل ولد سيلحق بأمه يوم القيامة- فكونوا من أبناء الآخرة لتلحقوا بها و تفوزوا- و لا تكونوا من أبناء الدنيا فتلحقوا بها و تخسروا- . ثم قال اليوم عمل و لا حساب و غدا حساب و لا عمل- و هذا من باب المقابلة في علم البيان
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 2