4 و من خطبة له ع
بِنَا اهْتَدَيْتُمْ فِي الظَّلْمَاءِ وَ تَسَنَّمْتُمُ الْعَلْيَاءَ- وَ بِنَا انْفَجَرْتُمْ عَنِ السِّرَارِ- وُقِرَ سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ الْوَاعِيَةَ- وَ كَيْفَ يُرَاعِي النَّبْأَةَ مَنْ أَصَمَّتْهُ الصَّيْحَةُ- رُبِطَ جَنَانٌ لَمْ يُفَارِقْهُ الْخَفَقَانُ- مَا زِلْتُ أَنْتَظِرُ بِكُمْ عَوَاقِبَ الْغَدْرِ- وَ أَتَوَسَّمُكُمْ بِحِلْيَةِ الْمُغْتَرِّينَ- سَتَرَنِي عَنْكُمْ جِلْبَابُ الدِّينِ- وَ بَصَّرَنِيكُمْ صِدْقُ النِّيَّةِ- أَقَمْتُ لَكُمْ عَلَى سَنَنِ الْحَقِّ فِي جَوَادِّ الْمَضَلَّةِ- حَيْثُ تَلْتَقُونَ وَ لَا دَلِيلَ- وَ تَحْتَفِرُونَ وَ لَا تُمِيهُونَ- الْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ الْعَجْمَاءَ ذَاتَ الْبَيَانِ- عَزَبَ رَأْيُ امْرِئٍ تَخَلَّفَ عَنِّي- مَا شَكَكْتُ فِي الْحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ- لَمْ يُوجِسْ مُوسَى خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ- أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ الْجُهَّالِ وَ دُوَلِ الضَّلَالِ- الْيَوْمَ تَوَاقَفْنَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ- مَنْ وَثِقَ بِمَاءٍ لَمْ يَظْمَأْ
هذه الكلمات و الأمثال ملتقطة من خطبة طويلة- منسوبة إليه ع- قد زاد فيها قوم أشياء حملتهم عليها أهواؤهم- لا توافق ألفاظها طريقته ع في الخطب- و لا تناسب فصاحتها فصاحته- و لا حاجة إلى ذكرها فهي شهيرة- و نحن نشرح هذه الألفاظ لأنها كلامه ع- لا يشك في ذلك من له ذوق و نقد- و معرفة بمذاهب الخطباء و الفصحاء في خطبهم و رسائلهم- و لأن الرواية لها كثيرة- و لأن الرضي رحمة الله تعالى عليه قد التقطها- و نسبها إليه ع و صححها و حذف ما عداها- . و أما قوله ع بنا اهتديتم في الظلماء- فيعني بالظلماء الجهالة- و تسنمتم العلياء ركبتم سنامها و هذه استعارة- . قوله و بنا انفجرتم عن السرار أي دخلتم في الفجر- و السرار الليلة و الليلتان يستتر فيهما القمر- في آخر الشهر فلا يظهر- و روي أفجرتم و هو أفصح و أصح- لأن انفعل لا يكون إلا مطاوع فعل- نحو كسرته فانكسر و حطمته فانحطم- إلا ما شذ من قولهم أغلقت الباب فانغلق- و أزعجته فانزعج- و أيضا فإنه لا يقع إلا حيث يكون علاج و تأثير- نحو انكسر و انحطم- و لهذا قالوا إن قولهم انعدم خطأ- و أما أفعل فيجيء لصيرورة الشيء على حال و أمر- نحو أغد البعير أي صار ذا غدة- و أجرب الرجل إذا صار ذا إبل جربى و غير ذلك- فأفجرتم أي صرتم ذوي فجر- .
و أما عن في قوله عن السرار- فهي للمجاوزة على حقيقة معناها الأصلي- أي منتقلين عن السرار و متجاوزين له- . و قوله ع وقر سمع- هذا دعاء على السمع الذي لم يفقه الواعية- بالثقل و الصمم- وقرت أذن زيد بضم الواو فهي موقورة- و الوقر بالفتح الثقل في الأذن-وقرت أذنه بفتح الواو و كسر القاف- توقر وقرا أي صمت- و المصدر في هذا الموضع جاء بالسكون و هو شاذ- و قياسه التحريك بالفتح نحو ورم ورما- و الواعية الصارخة من الوعاء- و هو الجلبة و الأصوات و المراد العبر و المواعظ- . قوله كيف يراعي النبأة هذا مثل آخر- يقول كيف يلاحظ و يراعي العبر الضعيفة- من لم ينتفع بالعبر الجلية الظاهرة بل فسد عندها- و شبه ذلك بمن أصمته الصيحة القوية- فإنه محال أن يراعي بعد ذلك الصوت الضعيف- و النبأة هي الصوت الخفي- .
فإن قيل هذا يخالف قولكم- إن الاستفساد لا يجوز على الحكيم سبحانه- فإن كلامه ع صريح- في أن بعض المكلفين يفسد عند العبر و المواعظ- . قيل إن لفظة أفعل قد تأتي لوجود الشيء على صفة- نحو أحمدته إذا أصبته محمودا- و قالوا أحييت الأرض إذا وجدتها حية النبات- فقوله أصمته الصيحة- ليس معناه أن الصيحة كانت علة لصممه- بل معناه صادفته أصم- و بهذا تأول أصحابنا قوله تعالى- وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ- . قوله ربط جنان لم يفارقه الخفقان- هذا مثل آخر- و هو دعاء لقلب لا يزال خائفا من الله- يخفق بالثبوت و الاستمساك- .
قوله ما زلت أنتظر بكم- يقول كنت مترقبا غدركم متفرسا فيكم الغرر- و هو الغفلة- . و قيل إن هذه الخطبة خطبها بعد مقتل طلحة و الزبير- مخاطبا بها لهما و لغيرهما من أمثالهما- كما قال النبي ص يوم بدر بعد قتل من قتل من قريش- يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة يا عمرو بن هشام- و هم جيف منتنة قد جروا إلى القليب- .
قوله سترني عنكم هذا يحتمل وجوها- أوضحها أن إظهاركم شعار الإسلام عصمكم مني- مع علمي بنفاقكم- و إنما أبصرت نفاقكم و بواطنكم الخبيثة- بصدق نيتي- كما يقال المؤمن يبصر بنور الله- و يحتمل أن يريد سترني عنكم جلباب ديني- و منعني أن أعرفكم نفسي- و ما أقدر عليه من عسفكم- كما تقول لمن استهان بحقك- أنت لا تعرفني و لو شئت لعرفتك نفسي- . و فسر القطب الراوندي قوله ع- و بصرنيكم صدق النية- قال معناه أنكم إذا صدقتم نياتكم- و نظرتم بأعين لم تطرف بالحسد و الغش- و أنصفتموني أبصرتم عظيم منزلتي- . و هذا ليس بجيد لأنه لو كان هو المراد لقال- و بصركم إياي صدق النية- و لم يقل ذلك و إنما قال بصرنيكم- فجعل صدق النية مبصرا له لا لهم- و أيضا فإنه حكم بأن صدق النية هو علة التبصير- و أعداؤه لم يكن فيهم صادق النية- و ظاهر الكلام الحكم و القطع لا التعليق بالشرط- .
قوله أقمت لكم على سنن الحق- يقال تنح عن سنن الطريق و سنن الطريق- بفتح السين و ضمها فالأول مفرد و الثاني جمع سنة- و هي جادة الطريق و الواضح منها- و أرض مضلة و مضلة بفتح الضاد و كسرها يضل سالكها- و أماه المحتفر يميه أنبط الماء- يقول فعلت من إرشادكم و أمركم بالمعروف- و نهيكم عن المنكر ما يجب على مثلي- فوقفت لكم على جادة الحق و منهجه- حيث طرق الضلال كثيرة مختلفة من سائر جهاتي- و أنتم تائهون فيها تلتقون و لا دليل لكم- و تحتفرون لتجدوا ماء تنقعون به- غلتكم فلا تظفرون بالماء و هذه كلها استعارات- .
قوله اليوم أنطق هذا مثل آخر- و العجماء التي لا نطق لها- و هذا إشارة إلى الرموز التي تتضمنها هذه الخطبة- يقول هي خفية غامضة- و هي مع غموضها جلية لأولى الألباب- فكأنها تنطق كما ينطق ذوو الألسنة- كما قيل ما الأمور الصامتة الناطقة- فقيل الدلائل المخبرة و العبر الواعظة- و في الأثر سل الأرض من شق أنهارك- و أخرج ثمارك فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا- . قوله عزب رأي امرئ تخلف عني هذا كلام آخر- عزب أي بعد و العازب البعيد- و يحتمل أن يكون هذا الكلام إخبارا و أن يكون دعاء- كما أن قوله تعالى حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ يحتمل الأمرين- . قوله ما شككت في الحق مذ رأيته هذا كلام آخر- يقول معارفي ثابتة لا يتطرق إليها الشك و الشبهة- .
قوله لم يوجس موسى هذا كلام شريف جدا- يقول إن موسى لما أوجس الخيفة- بدلالة قوله تعالى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى- لم يكن ذلك الخوف على نفسه- و إنما خاف من الفتنة و الشبهة الداخلة على المكلفين- عند إلقاء السحرة عصيهم- فخيل إليه من سحرهم أنها تسعى- و كذلك أنا لا أخاف على نفسي من الأعداء- الذين نصبوا لي الحبائل و أرصدوا لي المكايد- و سعروا علي نيران الحرب- و إنما أخاف أن يفتتن المكلفون بشبههم و تمويهاتهم- فتقوى دولة الضلال و تغلب كلمة الجهال- .
قوله اليوم تواقفنا القاف قبل الفاء- تواقف القوم على الطريق أي وقفوا كلهم عليها- يقول اليوم اتضح الحق و الباطل و عرفناهما نحن و أنتم- . قوله من وثق بماء لم يظمأ- الظمأ الذي يكون عند عدم الثقة بالماء- و ليس يريد النفي المطلق- لأن الواثق بالماء قد يظمأ- و لكن لا يكون عطشه على حد العطش الكائن عند عدم الماء- و عدم الوثوق بوجوده- و هذا كقول أبي الطيب-
و ما صبابة مشتاق على أمل
من اللقاء كمشتاق بلا أمل
– . و الصائم في شهر رمضان يصبح جائعا- تنازعه نفسه إلى الغذاء- و في أيام الفطر لا يجد تلك المنازعة في مثل ذلك الوقت- لأن الصائم ممنوع- و النفس تحرص على طلب ما منعت منه- يقول إن وثقتم بي و سكنتم إلى قولي- كنتم أبعد عن الضلال و أقرب إلى اليقين و ثلج النفس- كمن وثق بأن الماء في إداوته- يكون عن الظمأ و خوف الهلاك من العطش- أبعد ممن لم يثق بذلك