39 و من خطبة له ع
مُنِيتُ بِمَنْ لَا يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ- وَ لَا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ- لَا أَبَا لَكُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ- أَ مَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ وَ لَا حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ- أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً وَ أُنَادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً- فَلَا تَسْمَعُونَ لِي قَوْلًا وَ لَا تُطِيعُونَ لِي أَمْراً- حَتَّى تَكْشِفَ الْأُمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ الْمَسَاءَةِ- فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَأْرٌ وَ لَا يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ- دَعَوْتُكُمْ إِلَى نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ- فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الْأَسَرِّ- وَ تَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ النِّضْوِ الْأَدْبَرِ- ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ مُتَذَائِبٌ ضَعِيفٌ- كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ قال الرضي رحمه الله- قوله ع متذائب أي مضطرب- من قولهم تذاءبت الريح أي اضطرب هبوبها- و منه سمي الذئب ذئبا لاضطراب مشيته منيت أي بليت و تحمشكم تغضبكم- أحمشه أي أغضبه و المستصرخ المستنصر- و المتغوث القائل وا غوثاه- .و الجرجرة صوت يردده البعير في حنجرته- و أكثر ما يكون ذلك عند الإعياء و التعب- و الجمل الأسر الذي بكركرته دبرة- و النضو البعير المهزول و الأدبر الذي به دبر- و هو المعقور من القتب و غيره- . هذا الكلام خطب به أمير المؤمنين ع- في غارة النعمان بن بشير الأنصاري على عين التمر
أمر النعمان بن بشير مع علي و مالك بن كعب الأرحبي
ذكر صاحب الغارات- أن النعمان بن بشير قدم هو و أبو هريرة على علي ع- من عند معاوية بعد أبي مسلم الخولاني- يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلى معاوية ليقيدهم بعثمان- لعل الحرب أن تطفأ و يصطلح الناس- و إنما أراد معاوية أن يرجع مثل النعمان و أبي هريرة- من عند علي ع إلى الناس- و هم لمعاوية عاذرون و لعلي لائمون- و قد علم معاوية أن عليا لا يدفع قتلة عثمان إليه- فأراد أن يكون هذان يشهدان له عند أهل الشام بذلك- و أن يظهر عذره- فقال لهما ائتيا عليا فانشداه الله- و سلاه بالله لما دفع إلينا قتلة عثمان- فإنه قد آواهم و منعهم- ثم لا حرب بيننا و بينه فإن أبى فكونوا شهداء الله عليه- . و أقبلا على الناس فأعلماهم ذلك- فأتيا إلى علي ع فدخلا عليه- فقال له أبو هريرة يا أبا حسن- إن الله قد جعل لك في الإسلام فضلا و شرفا- أنت ابن عم محمد رسول الله ص- و قد بعثنا إليك ابن عمك معاوية- يسألك أمرا تسكن به هذه الحرب- و يصلح الله تعالى ذات البين- أن تدفع إليه قتلة عثمان ابن عمه فيقتلهم به- و يجمع الله تعالى أمرك و أمره و يصلح بينكم- و تسلم هذه الأمة من الفتنة و الفرقة- ثم تكلم النعمان بنحو من ذلك- .
فقال لهما دعا الكلام في هذا- حدثني عنك يا نعمان أنت أهدى قومك سبيلا- يعني الأنصار- قال لا قال فكل قومك قد اتبعني إلا شذاذا- منهم ثلاثة أو أربعة- أ فتكون أنت من الشذاذ- فقال النعمان أصلحك الله- إنما جئت لأكون معك و ألزمك- و قد كان معاوية سألني أن أؤدي هذا الكلام- و رجوت أن يكون لي موقف اجتمع فيه معك- و طمعت أن يجري الله تعالى بينكما صلحا- فإذا كان غير ذلك رأيك- فأنا ملازمك و كائن معك- .
فأما أبو هريرة فلحق بالشام- و أقام النعمان عند علي ع- فأخبر أبو هريرة معاوية بالخبر- فأمره أن يعلم الناس ففعل- و أقام النعمان بعده شهرا ثم خرج فارا من علي ع- حتى إذا مر بعين التمر أخذه مالك بن كعب الأرحبي- و كان عامل علي ع عليها- فأراد حبسه و قال له ما مر بك بيننا- قال إنما أنا رسول بلغت رسالة صاحبي ثم انصرفت- فحبسه و قال كما أنت حتى أكتب إلى علي فيك- فناشده و عظم عليه أن يكتب إلى علي فيه- فأرسل النعمان إلى قرظة بن كعب الأنصاري- و هو كاتب عين التمر يجبي خراجها لعلي ع- فجاءه مسرعا فقال لمالك بن كعب- خل سبيل ابن عمي يرحمك الله-
فقال يا قرظة اتق الله و لا تتكلم في هذا- فإنه لو كان من عباد الأنصار و نساكهم- لم يهرب من أمير المؤمنين إلى أمير المنافقين- . فلم يزل به يقسم عليه حتى خلى سبيله- و قال له يا هذا لك الأمان اليوم و الليلة-و غدا و الله إن أدركتك بعدها لأضربن عنقك- فخرج مسرعا لا يلوي على شيء و ذهبت به راحلته- فلم يدر أين يتسكع من الأرض ثلاثة أيام لا يعلم أين هو- فكان النعمان يحدث بعد ذلك- يقول و الله ما علمت أين أنا- حتى سمعت قول قائلة تقول و هي تطحن-
شربت مع الجوزاء كأسا روية
و أخرى مع الشعرى إذا ما استقلت
معتقة كانت قريش تصونها
فلما استحلوا قتل عثمان حلت
فعلمت أني عند حي من أصحاب معاوية- و إذا الماء لبني القين- فعلمت أني قد انتهيت إلى الماء- . ثم قدم على معاوية فخبره بما لقي- و لم يزل معه مصاحبا لم يجاهد عليا- و يتتبع قتلة عثمان- حتى غزا الضحاك بن قيس أرض العراق- ثم انصرف إلى معاوية- و قد كان معاوية قال قبل ذلك بشهرين أو ثلاثة- أ ما من رجل أبعث به بجريدة خيل- حتى يغير على شاطئ الفرات- فإن الله يرعب بها أهل العراق- فقال له النعمان فابعثني- فإن لي في قتالهم نية و هوى- و كان النعمان عثمانيا- قال فانتدب على اسم الله- فانتدب و ندب معه ألفي رجل- و أوصاه أن يتجنب المدن و الجماعات- و ألا يغير إلا على مصلحة و أن يعجل الرجوع- . فأقبل النعمان بن بشير حتى دنا من عين التمر- و بها مالك بن كعب الأرحبي الذي جرى له معه ما جرى- و مع مالك ألف رجل و قد أذن لهم فرجعوا إلى الكوفة- فلم يبق معه إلا مائة أو نحوها- فكتب مالك إلى علي ع أما بعد- فإن النعمان بن بشير قد نزل بي في جمع كثيف- فرأيك سددك الله تعالى و ثبتك و السلام- .
فوصل الكتاب إلى علي ع فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه- ثم قال اخرجوا هداكم الله إلى مالك بن كعب أخيكم- فإن النعمان بن بشير قد نزل به في جمع من أهل الشام- ليس بالكثير- فانهضوا إلى إخوانكم- لعل الله يقطع بكم من الكافرين طرفا- ثم نزل- . فلم يخرجوا فأرسل إلى وجوههم و كبرائهم- فأمرهم أن ينهضوا و يحثوا الناس على المسير- فلم يصنعوا شيئا- و اجتمع منهم نفر يسير نحو ثلاثمائة فارس أو دونها- فقام ع فقال ألا إني منيت بمن لا يطيع- الفصل الذي شرحناه إلى آخره- ثم نزل- . فدخل منزله فقام عدي بن حاتم فقال هذا و الله الخذلان- على هذا بايعنا أمير المؤمنين ثم دخل إليه- فقال يا أمير المؤمنين- إن معي من طيئ ألف رجل لا يعصونني- فإن شئت أن أسير بهم سرت- قال ما كنت لأعرض قبيلة واحدة- من قبائل العرب للناس- و لكن اخرج إلى النخيلة فعسكر بهم- و فرض علي ع لكل رجل سبعمائة- فاجتمع إليه ألف فارس عدا طيئا أصحاب عدي بن حاتم- . و ورد على علي ع الخبر- بهزيمة النعمان بن بشير و نصرة مالك بن كعب- فقرأ الكتاب على أهل الكوفة و حمد الله و أثنى عليه- ثم نظر إليهم و قال هذا بحمد الله و ذم أكثركم- .
فأما خبر مالك بن كعب مع النعمان بن بشير- قال عبد الله بن حوزة الأزدي قال- كنت مع مالك بن كعب حين نزل بنا النعمان بن بشير- و هو في ألفين و ما نحن إلا مائة- فقال لنا قاتلوهم في القرية و اجعلوا الجدر في ظهوركم- و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة- و اعلموا أن الله تعالى ينصر العشرة على المائة- و المائة على الألف و القليل على الكثير- ثم قال إن أقرب من هاهنا إلينا- من شيعة أمير المؤمنين و أنصاره و عماله- قرظة بن كعب و مخنف بن سليم- فاركض إليهما فأعلمهما حالنا- و قل لهما فلينصرانا ما استطاعا- فأقبلت أركض و قد تركته- و أصحابه يرمون أصحاب ابن بشير بالنبل- فمررت بقرظة فاستصرخته- فقال إنما أنا صاحب خراج و ليس عندي من أعينه به- فمضيت إلى مخنف بن سليم فأخبرته الخبر- فسرح معي عبد الرحمن بن مخنف في خمسين رجلا- و قاتل مالك بن كعب النعمان و أصحابه إلى العصر- فأتيناه و قد كسر هو و أصحابه جفون سيوفهم- و استقبلوا الموت فلو أبطأنا عنهم هلكوا- فما هو إلا أن رآنا أهل الشام- و قد أقبلنا عليهم فأخذوا ينكصون عنهم و يرتفعون- و رآنا مالك و أصحابه- فشدوا عليهم حتى دفعوهم عن القرية- فاستعرضناهم فصرعنا منهم رجالا ثلاثة- و ارتفع القوم عنا و ظنوا أن وراءنا مددا- و لو ظنوا أنه ليس غيرنا لأقبلوا علينا و لأهلكونا- و حال الليل بيننا و بينهم فانصرفوا إلى أرضهم- و كتب مالك بن كعب إلى علي ع- أما بعد فإنه نزل بنا النعمان بن بشير- في جمع من أهل الشام كالظاهر علينا- و كان عظم أصحابي متفرقين- و كنا للذي كان منهم آمنين فخرجنا إليهم رجالا مصلتين- فقاتلناهم حتى المساء و استصرخنا مخنف بن سليم- فبعث إلينا رجالا من شيعة أمير المؤمنين و ولده- فنعم الفتى و نعم الأنصار كانوا- فحملنا على عدونا و شددنا عليهم- فأنزل الله علينا نصره و هزم عدوه و أعز جنده- و الحمد لله رب العالمين- و السلام على أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته- .
و روى محمد بن فرات الجرمي عن زيد بن علي ع قال قال علي ع في هذه الخطبة أيها الناس إني دعوتكم إلى الحق فتوليتم عني- و ضربتكم بالدرة فأعييتموني- أما إنه سيليكم بعدي ولاة لا يرضون عنكم بذلك- حتى يعذبوكم بالسياط و بالحديد- فأما أنا فلا أعذبكم بهما- إنه من عذب الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة- و آية ذلك أن يأتيكم صاحب اليمن- حتى يحل بين أظهركم- فيأخذ العمال و عمال العمال- رجل يقال له يوسف بن عمرو- و يقوم عند ذلك رجل منا أهل البيت- فانصروه فإنه داع إلى الحق-. قال و كان الناس يتحدثون أن ذلك الرجل هو زيد ع
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 2