35 و من خطبة له ع بعد التحكيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ إِنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفَادِحِ- وَ الْحَدَثِ الْجَلِيلِ- وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ- لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ غَيْرُهُ- وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ ص- أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ- تُورِثُ الْحَسْرَةَ وَ تُعْقِبُ النَّدَامَةَ- وَ قَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي- وَ نَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي- لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ- فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ الْجُفَاةِ وَ الْمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ- حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِهِ وَ ضَنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ- فَكُنْتُ أَنَا وَ إِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ-
أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى
فَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلَّا ضُحَى الْغَدِ
الخطب الفادح الثقيل- و نخلت لكم أي أخلصته من نخلت الدقيق بالمنخل- . و قوله الحمد لله و إن أتى الدهر- أي أحمده على كل حال من السراء و الضراء- . و قوله لو كان يطاع لقصير أمر- فهو قصير صاحب جذيمة- و حديثة مع جذيمة و مع الزباء مشهور- فضرب المثل لكل ناصح يعصى بقصير- .
و قوله حتى ارتاب الناصح بنصحه و ضن الزند بقدحه- يشير إلى نفسه- يقول- خالفتموني حتى ظننت أن النصح الذي نصحتكم به غير نصح- و لإطباقكم و إجماعكم على خلافي- و هذا حق لأن ذا الرأي الصواب- إذا كثر مخالفوه يشك في نفسه- . و أما ضن الزند بقدحه- فمعناه أنه لم يقدح لي بعد ذلك رأي صالح- لشدة ما لقيت منكم من الإباء و الخلاف و العصيان- و هذا أيضا حق- لأن المشير الناصح إذا اتهم و استغش- عمي قلبه و فسد رأيه- . و أخو هوازن صاحب الشعر هو دريد بن الصمة- و الأبيات مذكورة في الحماسة و أولها-
نصحت لعارض و أصحاب عارض
و رهط بني السوداء و القوم شهدي
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
سراتهم في الفارسي المسرد
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم و قد أرى
غوايتهم و أنني غير مهتد
و ما أنا إلا من غزية إن غوت
غويت و إن ترشد غزية أرشد
و هذه الألفاظ من خطبة خطب بها ع- بعد خديعة ابن العاص لأبي موسى و افتراقهما- و قبل وقعة النهروان
قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج
و يجب أن نذكر في هذا الفصل أمر التحكيم كيف كان- و ما الذي دعا إليه- فنقول إن الذي دعا إليه طلب أهل الشام له- و اعتصامهم به من سيوف أهل العراق- فقد كانت أمارات القهر و الغلبة لاحت- و دلائل النصر و الظفر وضحت- فعدل أهل الشام عن القراع إلى الخداع- و كان ذلك برأي عمرو بن العاص- . و هذه الحال وقعت عقيب ليلة الهرير- و هي الليلة العظيمة التي يضرب بها المثل- . و نحن نذكر ما أورده نصر بن مزاحم- في كتاب صفين في هذا المعنى- فهو ثقة ثبت صحيح النقل- غير منسوب إلى هوى و لا إدغال- و هو من رجال أصحاب الحديث- قال نصر حدثنا عمرو بن شمر قال حدثني أبو ضرار- قال حدثني عمار بن ربيعة قال- غلس علي ع بالناس صلاة الغداة يوم الثلاثاء- عاشر شهر ربيع الأول سنة سبع و ثلاثين- و قيل عاشر شهر صفر- ثم زحف إلى أهل الشام بعسكر العراق- و الناس على راياتهم و أعلامهم- و زحف إليهم أهل الشام- و قد كانت الحرب أكلت الفريقين- و لكنها في أهل الشام أشد نكاية و أعظم وقعا- فقد ملوا الحرب و كرهوا القتال- و تضعضعت أركانهم- .
قال فخرج رجل من أهل العراق- على فرس كميت ذنوب- عليه السلاح لا يرى منه إلا عيناه و بيده الرمح- فجعل يضرب رءوس أهل العراق بالقناة- و يقول سووا صفوفكم رحمكم الله- حتى إذا عدل الصفوف و الرايات استقبلهم بوجهه- و ولى أهل الشام ظهره ثم حمد الله و أثنى عليه و قال- الحمد لله الذي جعل فينا ابن عم نبيه- أقدمهم هجرة و أولهم إسلاما- سيف من سيوف الله على أعدائه- فانظروا إذا حمي الوطيس و ثار القتام- و تكسر المران و جالت الخيل بالأبطال- فلا أسمع إلا غمغمة أو همهمة- فاتبعوني و كونوا في أثري- . ثم حمل على أهل الشام فكسر فيهم رمحه- ثم رجع فإذا هو الأشتر- .
قال و خرج رجل من أهل الشام- فنادى بين الصفين يا أبا الحسن يا علي ابرز إلي- فخرج إليه علي ع حتى اختلفت أعناق دابتيهما بين الصفين- فقال إن لك يا علي لقدما في الإسلام و الهجرة- فهل لك في أمر أعرضه عليك- يكون فيه حقن هذه الدماء و تأخر هذه الحروب- حتى ترى رأيك- قال و ما هو قال ترجع إلى عراقك- فنخلي بينك و بين العراق- و نرجع نحن إلى شامنا فتخلي بيننا و بين الشام- فقال علي ع قد عرفت ما عرضت- إن هذه لنصيحة و شفقة- و لقد أهمني هذا الأمر و أسهرني- و ضربت أنفه و عينه- فلم أجد إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد- إن الله تعالى ذكره لم يرض من أوليائه- أن يعصى في الأرض و هم سكوت مذعنون- لا يأمرون بمعروف و لا ينهون عن منكر- فوجدت القتال أهون علي من معالجة في الأغلال في جهنم-.
قال فرجع الرجل و هو يسترجع- و زحف الناس بعضهم إلى بعض- فارتموا بالنبل و الحجارة حتى فنيت- ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت و اندقت- ثم مشى القوم بعضهم إلى بعض بالسيوف و عمد الحديد- فلم يسمع السامعون إلا وقع الحديد بعضه على بعض- لهو أشد هولا في صدور الرجال من الصواعق- و من جبال تهامة يدك بعضها بعضا- و انكسفت الشمس بالنقع و ثار القتام و القسطل- و ضلت الألوية و الرايات- و أخذ الأشتر يسير فيما بين الميمنة و الميسرة- فيأمر كل قبيلة أو كتيبة من القراء- بالإقدام على التي تليها- فاجتلدوا بالسيوف و عمد الحديد- من صلاة الغداة من اليوم المذكور إلى نصف الليل- لم يصلوا لله صلاة- فلم يزل الأشتر يفعل ذلك حتى أصبح و المعركة خلف ظهره- و افترقوا عن سبعين ألف قتيل في ذلك اليوم- و تلك الليلة و هي ليلة الهرير المشهورة- و كان الأشتر في ميمنة الناس و ابن عباس في الميسرة- و علي ع في القلب و الناس يقتتلون- . ثم استمر القتال من نصف الليل الثاني إلى ارتفاع الضحى- و الأشتر يقول لأصحابه-
و هو يزحف بهم نحو أهل الشام- ازحفوا قيد رمحي هذا و يلقي رمحه فإذا فعلوا ذلك- قال ازحفوا قاب هذا القوس- فإذا فعلوا ذلك سألهم مثل ذلك- حتى مل أكثر الناس من الإقدام- فلما رأى ذلك قال- أعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائر اليوم- ثم دعا بفرسه و ركز رايته- و كانت مع حيان بن هوذة النخعي- و سار بين الكتائب و هو يقول- أ لا من يشتري نفسه لله و يقاتل مع الأشتر- حتى يظهر أو يلحق بالله- فلا يزال الرجل من الناس يخرج إليه فيقاتل معه- . قال نصر و حدثني عمرو قال حدثني أبو ضرار- قال حدثني عمار بن ربيعة قال- مر بي الأشتر فأقبلت معه- حتى رجع إلى المكان الذي كان به- فقام في أصحابه فقال شدوا فدا لكم عمي و خالي- شدة ترضون بها الله و تعرزون بها الدين- إذا أنا حملت فاحملوا ثم نزل- و ضرب وجه دابته و قال لصاحب رايته- أقدم فتقدم بها- ثم شد على القوم و شد معه أصحابه- فضرب أهل الشام حتى انتهى بهم إلى معسكرهم- فقاتلوا عند المعسكر قتالا شديدا- و قتل صاحب رايتهم- و أخذ علي ع لما رأى الظفر قد جاء من قبله يمده بالرجال- .
و روى نصر عن رجاله قال لما بلغ القوم إلى ما بلغوا إليه قام علي ع خطيبا- فحمد الله و أثنى عليه و قال-أيها الناس قد بلغ بكم الأمر و بعدوكم ما قد رأيتم- و لم يبق منهم إلا آخر نفس- و إن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها- و قد صبر لكم القوم على غير دين- حتى بلغنا منهم ما بلغنا- و أنا غاد عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله – . قال فبلغ ذلك معاوية فدعا عمرو بن العاص- و قال يا عمرو إنما هي الليلة- حتى يغدو علي علينا بالفيصل فما ترى- . قال إن رجالك لا يقومون لرجاله و لست مثله- هو يقاتلك على أمر و أنت تقاتله على غيره- أنت تريد البقاء و هو يريد الفناء- و أهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم- و أهل الشام لا يخافون عليا إن ظفر بهم- و لكن ألق إلى القوم أمرا إن قبلوه اختلفوا- و إن ردوه اختلفوا- ادعهم إلى كتاب الله حكما فيما بينك و بينهم- فإنك بالغ به حاجتك في القوم- و إني لم أزل أؤخر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه- . فعرف معاوية ذلك و قال له صدقت- .
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر بن عمير الأنصاري قال و الله لكأني أسمع عليا يوم الهرير- و ذلك بعد ما طحنت رحى مذحج- فيما بينها و بين عك و لخم و جذام و الأشعريين- بأمر عظيم تشيب منه النواصي- حتى استقلت الشمس و قام قائم الظهر- و علي ع قول لأصحابه- حتى متى نخلي بين هذين الحيين- قد فنيا و أنتم وقوف تنظرون- أ ما تخافون مقت الله ثم انفتل إلى القبلة- و رفعيديه إلى الله عز و جل و نادى- يا الله يا رحمان يا رحيم يا واحد يا أحد يا صمد- يا الله يا إله محمد اللهم إليك نقلت الأقدام- و أفضت القلوب و رفعت الأيدي- و مدت الأعناق و شخصت الأبصار- و طلبت الحوائج- اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا- و كثرة عدونا و تشتت أهوائنا- ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق- و أنت خير الفاتحين- سيروا على بركة الله- ثم نادى لا إله إلا الله و الله أكبر كلمة التقوى
قال فلا و الذي بعث محمدا بالحق نبيا- ما سمعنا رئيس قوم منذ خلق الله السموات و الأرض- أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب- إنه قتل فيما ذكر العادون- زيادة على خمسمائة من أعلام العرب- يخرج بسيفه منحنيا فيقول معذرة إلى الله و إليكم من هذا- لقد هممت أن أفلقه- و لكن يحجزني عنه أني سمعت رسول الله ص يقول لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي- و أنا أقاتل به دونه صقال فكنا نأخذه فنقومه- ثم يتناوله من أيدينا فيقتحم به في عرض الصف- فلا و الله ما ليث بأشد نكاية منه في عدوه ع- . قال نصر فحدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال- سمعت تميم بن حذيم يقول لما أصبحنا من ليلة الهرير- نظرنا فإذا أشباه الرايات- أمام أهل الشام في وسط الفيلق-حيال موقف علي و معاوية- فلما أسفرنا إذا هي المصاحف- قد ربطت في أطراف الرماح- و هي عظام مصاحف العسكر- و قد شدوا ثلاثة أرماح جميعا- و ربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم يمسكه عشرة رهط- .
قال نصر و قال أبو جعفر و أبو الطفيل- استقبلوا عليا بمائة مصحف- و وضعوا في كل مجنبة مائتي مصحف- فكان جميعها خمسمائة مصحف- . قال أبو جعفر ثم قام الطفيل بن أدهم حيال علي ع- و قام أبو شريح الجذامي حيال الميمنة- و قام ورقاء بن المعمر حيال الميسرة- ثم نادوا يا معشر العرب- الله الله في النساء و البنات و الأبناء من الروم- و الأتراك و أهل فارس غدا إذا فنيتم- الله الله في دينكم هذا كتاب الله بيننا و بينكم- .
فقال علي ع اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون- فاحكم بيننا و بينهم إنك أنت الحكم الحق المبينفاختلف أصحاب علي ع في الرأي- فطائفة قالت القتال- و طائفة قالت المحاكمة إلى الكتاب و لا يحل لنا الحرب- و قد دعينا إلى حكم الكتاب- فعند ذلك بطلت الحرب و وضعت أوزارها- .
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال حدثنا أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين قال لما كان اليوم الأعظم قال أصحاب معاوية- و الله لا نبرح اليوم العرصة حتى نموت أو يفتح لنا- و قال أصحاب علي ع- لا نبرح اليوم العرصة حتى نموت أو يفتح لنا- فبادروا القتال غدوة في يوم من أيام الشعرى- طويل شديد الحر- فتراموا حتى فنيت النبال- و تطاعنوا حتى تقصفت الرماح- ثم نزل القوم عن خيولهم- و مشى بعضهم إلى بعض بالسيوف حتى كسرت جفونها- و قام الفرسان في الركب- ثم اضطربوا بالسيوف و بعمد الحديد- فلم يسمع السامعون إلا تغمغم القوم- و صليل الحديد في الهام- و تكادم الأفواه و كسفت الشمس- و ثار القتام و ضلت الألوية و الرايات- و مرت مواقيت أربع صلوات- ما يسجد فيهن لله إلا تكبيرا- و نادت المشيخة في تلك الغمرات- يا معشر العرب- الله الله في الحرمات من النساء و البنات- قال جابر فبكى أبو جعفر و هو يحدثنا بهذا الحديث – .
قال نصر و أقبل الأشتر على فرس كميت محذوف- و قد وضع مغفره على قربوس السرج- و هو ينادي اصبروا يا معشر المؤمنين- فقد حمي الوطيس و رجعت الشمس من الكسوف- و اشتد القتال و أخذت السباع بعضها بعضا- فهم كما قال الشاعر
مضت و استأخر القرعاء عنها
و خلي بينهم إلا الوريع
قال يقول واحد لصاحبه في تلك الحال- أي رجل هذا لو كانت له نية فيقول له صاحبه- و أي نية أعظم من هذه ثكلتك أمك و هبلتك- إن رجلا كما ترى قد سبح في الدم- و ما أضجرته الحرب و قد غلت هام الكماة من الحر- و بلغت القلوب الحناجر- و هو كما تراه جزعا يقول هذه المقالة- اللهم لا تبقنا بعد هذا- . قلت لله أم قامت عن الأشتر- لو أن إنسانا يقسم أن الله تعالى ما خلق في العرب-و لا في العجم أشجع منه إلا أستاذه ع- لما خشيت عليه الإثم و لله در القائل- و قد سئل عن الأشتر- ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام- و هزم موته أهل العراق- . و بحق ماقال فيه أمير المؤمنين ع كان الأشتر لي كما كنت لرسول الله ص -.
قال نصر و روى الشعبي عن صعصعة قال- و قد كان الأشعث بن قيس بدر منه قول ليلة الهرير- نقله الناقلون إلى معاوية فاغتنمه و بنى عليه تدبيره- و ذلك أن الأشعث خطب أصحابه من كندة تلك الليلة- فقال الحمد لله أحمده و أستعينه- و أومن به و أتوكل عليه و أستنصره و أستغفره- و أستجيره و أستهديه و أستشيره و أستشهد به- فإن من هداه الله فلا مضل له- و من يضلل الله فلا هادي له- و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- و أشهد أن محمدا عبده و رسوله ص- . ثم قال قد رأيتم يا معشر المسلمين- ما قد كان في يومكم هذا الماضي- و ما قد فني فيه من العرب- فو الله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ- فما رأيت مثل هذا اليوم قط- ألا فليبلغ الشاهد الغائب- إنا نحن إن تواقفنا غدا- إنه لفناء العرب و ضيعة الحرمات- أما و الله ما أقول هذه المقالة جزعا من الحرب- و لكني رجل مسن- أخاف على النساء و الذراري غدا إذا فنينا- اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي- و لأهل ديني فلم آل- و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب- و الرأي يخطئ و يصيب- و إذا قضى الله أمرا أمضاه على ما أحب العباد أو كرهوا- أقول قولي هذا و أستغفر الله العظيم لي و لكم- .
قال الشعبي قال صعصعة- فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث- فقال أصاب و رب الكعبة- لئن نحن التقينا غدا- لتميلن على ذراري أهل الشام و نسائهم- و لتميلن فارس على ذراري أهل العراق و نسائهم- إنما يبصر هذا ذوو الأحلام و النهى- ثم قال لأصحابه اربطوا المصاحف على أطراف القنا- . فثار أهل الشام في سواد الليل- ينادون عن قول معاوية و أمره- يا أهل العراق من لذرارينا إن قتلتمونا- و من لذراريكم إذا قتلناكم- الله الله في البقية- و أصبحوا و قد رفعوا المصاحف على رءوس الرماح- و قد قلدوها الخيل- و الناس على الرايات قد اشتهوا ما دعوا إليه- و مصحف دمشق الأعظم- يحمله عشرة رجال على رءوس الرماح- و هم ينادون كتاب الله بيننا و بينكم- . و أقبل أبو الأعور السلمي على برذون أبيض- و قد وضع المصحف على رأسه ينادي- يا أهل العراق كتاب الله بيننا و بينكم- . قال فجاء عدي بن حاتم الطائي فقال يا أمير المؤمنين- إنه لم يصب منا عصبة إلا و قد أصيب منهم مثلها- و كل مقروح و لكنا أمثل بقية منهم- و قد جزع القوم- و ليس بعد الجزع إلا ما نحب فناجزهم- .
و قام الأشتر فقال يا أمير المؤمنين- إن معاوية لا خلف له من رجاله- و لكن بحمد الله لك الخلف- و لو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك و لا نصرك- فاقرع الحديد بالحديد و استعن بالله الحميد- . ثم قام عمرو بن الحمق فقال يا أمير المؤمنين- إنا و الله ما أجبناك و لا نصرناك على الباطل- و لا أجبنا إلا الله و لا طلبنا إلا الحق- و لو دعانا غيرك إلى ما دعوتنا إليه- لاستشرى فيه اللجاج و طالت فيه النجوى- و قد بلغ الحق مقطعه و ليس لنا معك رأي- . فقام الأشعث بن قيس مغضبا فقال يا أمير المؤمنين- إنا لك اليوم على ما كنا عليه أمس- و ليس آخر أمرنا كأوله- و ما من القوم أحد أحنى على أهل العراق- و لا أوتر لأهل الشام مني- فأجب القوم إلى كتاب الله عز و جل- فإنك أحق به منهم- و قد أحب الناس البقاء و كرهوا القتال- . فقال علي ع هذا أمر ينظر فيه- . فتنادى الناس من كل جانب الموادعة- .
فقال علي ع أيها الناس إني أحق من أجاب إلى كتاب الله- و لكن معاوية و عمرو بن العاص- و ابن أبي معيط و ابن أبي سرح و ابن مسلمة- ليسوا بأصحاب دين و لا قرآن- إني أعرف بهم منكم صحبتهم صغارا و رجالا- فكانوا شر صغار و شر رجال- ويحكم إنها كلمة حق يراد بها باطل- إنهم ما رفعوها أنهم يعرفونها و يعملون بها- و لكنها الخديعة و الوهن و المكيدة- أعيروني سواعدكم و جماجمكم ساعة واحدة- فقد بلغ الحق مقطعه- و لم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا – .
فجاءه من أصحابه زهاء عشرين ألفا- مقنعين في الحديد شاكي السلاح- سيوفهم على عواتقهم- و قد اسودت جباههم من السجود- يتقدمهم مسعر بن فدكي و زيد بن حصين- و عصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد- فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين يا علي- أجب القوم إلى كتاب الله إذ دعيت إليه- و إلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان- فو الله لنفعلنها إن لم تجبهم- فقال لهم ويحكم أنا أول من دعا إلى كتاب الله- و أول من أجاب إليه و ليس يحل لي- و لا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب الله فلا أقبله- إني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن- فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم- و نقضوا عهده و نبذوا كتابه- و لكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم- و أنهم ليس العمل بالقرآن يريدون- قالوا فابعث إلى الأشتر ليأتينك- و قد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير- أشرف على عسكر معاوية ليدخله- .
قال نصر فحدثني فضيل بن خديج عن رجل من النخع- قال سأل مصعب إبراهيم بن الأشتر- عن الحال كيف كانت- فقال كنت عند علي ع حين بعث إلى الأشتر ليأتيه- و قد كان الأشتر أشرف على معسكر معاوية ليدخله- فأرسل إليه علي ع يزيد بن هانئ- أن ائتني فأتاه فأبلغه- فقال الأشتر ائته فقل له- ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي-إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني- فرجع يزيد بن هانئ إلى علي ع فأخبره- فما هو إلا أن انتهى إلينا حتى ارتفع الرهج- و علت الأصوات من قبل الأشتر- و ظهرت دلائل الفتح و النصر لأهل العراق- و دلائل الخذلان و الإدبار على أهل الشام- فقال القوم لعلي و الله ما نراك أمرته إلا بالقتال-
قال أ رأيتموني ساررت رسولي إليه- أ ليس إنما كلمته على رءوسكم علانية و أنتم تسمعون- قالوا فابعث إليه فليأتك و إلا فو الله اعتزلناك- فقال ويحك يا يزيد- قل له أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت- فأتاه فأخبره- فقال الأشتر أ برفع هذه المصاحف قال نعم- قال أما و الله لقد ظننت أنها حين رفعت- ستوقع خلافا و فرقة- إنها مشورة ابن النابغة- ثم قال ليزيد بن هانئ ويحك أ لا ترى إلى الفتح- أ لا ترى إلى ما يلقون أ لا ترى الذي يصنع الله لنا- أ ينبغي أن ندع هذا و ننصرف عنه- فقال له يزيد أ تحب أنك ظفرت هاهنا- و أن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه- و يسلم إلى عدوه-
قال سبحان الله لا و الله لا أحب ذلك- قال فإنهم قد قالوا له و حلفوا عليه- لترسلن إلى الأشتر فليأتينك- أو لنقتلنك بأسيافنا كما قتلنا عثمان- أو لنسلمنك إلى عدوك- .فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم- فصاح يا أهل الذل و الوهن- أ حين علوتم القوم و ظنوا أنكم لهم قاهرون- رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها- و قد و الله تركوا ما أمر الله به فيها- و تركوا سنة من أنزلت عليه- فلا تجيبوهم أمهلوني فواقا- فإنيقد أحسست بالفتح- قالوا لا نمهلك- قال فأمهلوني عدوة الفرس- فإني قد طمعت في النصر- قالوا إذن ندخل معك في خطيئتك- . قال فحدثوني عنكم و قد قتل أماثلكم و بقي أراذلكم- متى كنتم محقين أ حين كنتم تقتلون أهل الشام- فأنتم الآن حين أمسكتم عن قتالهم مبطلون- أم أنتم الآن في إمساككم عن القتال محقون- فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم- و أنهم خير منكم في النار- قالوا دعنا منك يا أشتر- قاتلناهم في الله و ندع قتالهم في الله- إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا-
فقال خدعتم و الله فانخدعتم- و دعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم- يا أصحاب الجباه السود- كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا و شوقا إلى لقاء الله- فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت- ألا فقبحا يا أشباه النيب الجلالة- ما أنتم براءين بعدها عزا أبدا- فابعدوا كما بعد القوم الظالمون- . فسبوه و سبهم و ضربوا بسياطهم وجه دابته- و ضرب بسوطه وجوه دوابهم- و صاح بهم علي ع فكفوا- و قال الأشتر يا أمير المؤمنين- احمل الصف على الصف تصرع القوم- فتصايحوا أن أمير المؤمنين قد قبل الحكومة- و رضي بحكم القرآن- فقال الأشتر إن كان أمير المؤمنين قد قبل و رضي- فقد رضيت بما رضي به أمير المؤمنين- فأقبل الناس يقولون قد رضي أمير المؤمنين- قد قبل أمير المؤمنين- و هو ساكت لا يبض بكلمة مطرق إلى الأرض- . ثم قال فسكت الناس كلهم-
فقال أيها الناس إن أمري لم يزل معكم على ما أحب- إلى أن أخذت منكم الحرب- و قد و الله أخذت منكم و تركت- و أخذت من عدوكم فلم تترك- و إنها فيهم أنكى و أنهك- ألا إني كنت أمس أمير المؤمنين- فأصبحت اليوم مأمورا- و كنت ناهيا فأصبحت منهيا و قد أحببتم البقاء- و ليس لي أن أحملكم على ما تكرهون- ثم قعد- .
قال نصر ثم تكلم رؤساء القبائل- فكل قال ما يراه و يهواه- إما من الحرب أو من السلم- فقام كردوس بن هانئ البكري فقال أيها الناس- إنا و الله ما تولينا معاوية منذ تبرأنا منه- و لا تبرأنا من علي منذ توليناه- و إن قتلانا لشهداء و إن أحياءنا لأبرار- و إن عليا لعلى بينة من ربه و ما أحدث إلا الإنصاف- فمن سلم له نجا و من خالفه هلك- ثم قام شقيق بن ثور البكري فقال أيها الناس- إنا دعونا أهل الشام إلى كتاب الله فردوه علينا- فقاتلناهم عليه و إنهم قد دعونا اليوم إليه- فإن رددناه عليهم حل لهم منا ما حل لنا منهم- و لسنا نخاف أن يحيف الله علينا و رسوله- ألا إن عليا ليس بالراجع الناكس و لا الشاك الواقف- و هو اليوم على ما كان عليه أمس- و قد أكلتنا هذه الحرب و لا نرى البقاء إلا في الموادعة- . قال نصر- ثم إن أهل الشام لما أبطأ عنهم علم حال أهل العراق- هل أجابوا إلى الموادعة أم لا- جزعوا فقالوا يا معاوية- ما نرى أهل العراق أجابوا إلى ما دعوناهم إليه- فأعدها جذعة- فإنك قد غمرت بدعائك القوم و أطمعتهم فيك- .
فدعا معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص- فأمره أن يكلم أهل العراق و يستعلم له ما عندهم- فأقبل حتى إذا كان بين الصفين نادى يا أهل العراق- أنا عبد الله بن عمرو بن العاص- إنه قد كانت بيننا و بينكم أمور للدين أو الدنيا- فإن تكن للدين فقد و الله أعذرنا و أعذرتم- و إن تكن للدنيا فقد و الله أسرفنا و أسرفتم- و قد دعوناكم إلى أمر لو دعوتمونا إليه لأجبناكم- فإن يجمعنا و إياكم الرضا فذاك من الله- فاغتنموا هذه الفرصة- عسى أن يعيش فيها المحترف و ينسى فيها القتيل- فإن بقاء المهلك بعد الهالك قليل- . فأجابه سعد بن قيس الهمداني- فقال أما بعد يا أهل الشام- إنه قد كانت بيننا و بينكم أمور- حامينا فيها على الدين و الدنيا- و سميتموها غدرا و سرفا- و قد دعوتمونا اليوم إلى ما قاتلناكم عليه أمس- و لم يكن ليرجع أهل العراق إلى عراقهم- و أهل الشام إلى شامهم- بأمر أجمل من أن يحكم فيه بما أنزل الله سبحانه- فالأمر في أيدينا دونكم و إلا فنحن نحن و أنتم أنتم- . فقام الناس إلى علي ع- فقالوا له أجب القوم إلى المحاكمة- قال و نادى إنسان من أهل الشام في جوف الليل- بشعر سمعه الناس و هو-
رءوس العراق أجيبوا الدعاء
فقد بلغت غاية الشده
و قد أودت الحرب بالعالمين
و أهل الحفائظ و النجده
فلسنا و لستم من المشركين
و لا المجمعين على الرده
و لكن أناس لقوا مثلهم
لنا عدة و لكم عده
فقاتل كل على وجهه
يقحمه الجد و الحده
فإن تقبلوها ففيها البقاء
و أمن الفريقين و البلده
و إن تدفعوها ففيها الفناء
و كل بلاء إلى مده
فحتى متى مخض هذا السقاء
و لا بد أن تخرج الزبده
ثلاثة رهط هم أهلها
و إن يسكتوا تخمد الوقده
سعيد بن قيس و كبش العراق
و ذاك المسود من كنده
قال فأما المسود من كندة و هو الأشعث- فإنه لم يرض بالسكوت- بل كان من أعظم الناس قولا في إطفاء الحرب- و الركون إلى الموادعة- و أما كبش العراق و هو الأشتر- فلم يكن يرى إلا الحرب و لكنه سكت على مضض- و أما سعيد بن قيس فكان تارة هكذا و تارة هكذا- . و ذكر ابن ديزيل الهمداني في كتاب صفين قال- خرج عبد الرحمن بن خالد بن الوليد و معه لواء معاوية- فارتجز فخرج إليه جارية بن قدامة السعدي- فارتجز أيضا مجيبا له ثم اطعنا فلم يصنعا شيئا- و انصرف كل واحد منهما عن صاحبه- فقال عمرو بن العاص لعبد الرحمن اقحم يا ابن سيف الله- فتقدم عبد الرحمن بلوائه و تقدم أصحابه- فأقبل علي ع على الأشتر- فقال له قد بلغ لواء معاوية حيث ترى فدونك القوم- فأخذ الأشتر لواء علي ع و قال-
إني أنا الأشتر معروف الشتر
إني أنا الأفعى العراقي الذكر
لست ربيعيا و لست من مضر
لكنني من مذحج الشم الغرر
فضارب القوم حتى ردهم- فانتدب له همام بن قبيصة الطائي و كان مع معاوية- فشد عليه في مذحج- فانتصر عدي بن حاتم الطائي للأشتر- فحمل عليه في طيء فاشتد القتال جدا- فدعا علي ببغلة رسول الله ص فركبها- ثم تعصب بعمامة رسول الله- و نادى أيها الناس من يشري نفسه لله- إن هذا يوم له ما بعده- فانتدب معه ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفا- فتقدمهم علي ع و قال-
دبوا دبيب النمل لا تفوتوا
و أصبحوا أمركم أو بيتوا
حتى تنالوا الثأر أو تموتوا
و حمل و حمل الناس كلهم حملة واحدة- فلم يبق لأهل الشام صف إلا أزالوه- حتى أفضوا إلى معاوية فدعا معاوية بفرسه ليفر عليه- . و كان معاوية بعد ذلك يحدث فيقول- لما وضعت رجلي في الركاب- ذكرت قول عمرو بن الإطنابة-
أبت لي عفتي و أبى بلائي
و أخذي الحمد بالثمن الربيح
و إقدامي على المكروه نفسي
و ضربي هامة البطل المشيح
و قولي كلما جشأت و جاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
فأخرجت رجلي من الركاب و أقمت- و نظرت إلى عمرو فقلت له اليوم صبر و غدا فخر- فقال صدقت- . قال إبراهيم بن ديزيل- روى عبد الله بن أبي بكر عن عبد الرحمن بن حاطب- عن معاوية قال أخذت بمعرفة فرسي- و وضعت رجلي في الركاب للهرب- حتى ذكرت شعر ابن الإطنابة- فعدت إلى مقعدي فأصبت خير الدنيا- و إني لراج أن أصيب خير الآخرة- . قال إبراهيم بن ديزيل فكان ذلك يوم الهرير- ثم رفعت المصاحف بعده- . و روى إبراهيم عن ابن لهيعة- عن يزيد بن أبي حبيب عن ربيعة بن لقيط- قال شهدنا صفين فمطرت السماء علينا دما عبيطا- . و قال و في حديث الليث بن سعد- أن كانوا ليأخذونه بالصحاف و الآنية- و في حديث ابن لهيعة- حتى إن الصحاف و الآنية لتمتلئ و نهريقها- . قال إبراهيم و روى عبد الرحمن بن زياد- عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب- عمن حدثه ممن حضر صفين أنهم مطروا دما عبيطا- فتلقاه الناس بالقصاع و الآنية- و ذلك في يوم الهرير- و فزع أهل الشام و هموا أن يتفرقوا- فقام عمرو بن العاص فيهم- فقال أيها الناس إنما هذه آية من آيات الله- فأصلح امرؤ ما بينه و بين الله- ثم لا عليه أن ينتطح هذان الجبلان- فأخذوا في القتال-
قال إبراهيم و روى أبو عبد الله المكي- قال حدثنا سفيان بن عاصم بن كليب الحارثي عن أبيه- قال أخبرني ابن عباس قال لقد حدثني معاوية أنه كان يومئذ- قد قرب إليه فرسا له أنثى- بعيدة البطن من الأرض ليهرب عليها- حتى أتاه آت من أهل العراق- فقال له إني تركت أصحاب علي- في مثل ليلة الصدر من منى فأقمت- قال فقلنا له فأخبرنا من هو ذلك الرجل- فأبى و قال لا أخبركم من هو- . قال نصر و إبراهيم أيضا و كتب معاوية إلى علي ع- أما بعد فإن هذا الأمر قد طال بيننا و بينك- و كل واحد منا يرى أنه على الحق- فيما يطلب من صاحبه- و لن يعطي واحد منا الطاعة للآخر- و قد قتل فيما بيننا بشر كثير- و أنا أتخوف أن يكون ما بقي أشد مما مضى- و إنا سوف نسأل عن ذلك الموطن- و لا يحاسب به غيري و غيرك- و قد دعوتك إلى أمر لنا و لك فيه حياة و عذر- و براءة و صلاح للأمة و حقن للدماء و ألفة للدين- و ذهاب للضغائن و الفتن- أن نحكم بيني و بينكم حكمين مرضيين- أحدهما من أصحابي و الآخر من أصحابك- فيحكمان بيننا بما أنزل الله فهو خير لي و لك- و أقطع لهذه الفتن- فاتق الله فيما دعيت إليه- و ارض بحكم القرآن إن كنت من أهله و السلام- .
فكتب إليه علي ع من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان- أما بعد فإن أفضل ما شغل به المرء نفسه- اتباع ما حسن به فعله- و استوجب فضله و سلم من عيبه- و إن البغي و الزور يزريان بالمرء في دينه و دنياه- فاحذر الدنيا فإنه لا فرح في شيء وصلت إليه منها- و لقد علمت أنك غير مدرك ما قضى فواته- و قد رام قوم أمرا بغير الحق- و تأولوه على الله جل و عز- فأكذبهم و متعهم قليلا- ثم اضطرهم إلى عذاب غليظ- فاحذر يوما يغتبط فيه من حمد عاقبة عمله- و يندم فيه من أمكن الشيطان من قياده و لم يحاده- و غرته الدنيا و اطمأن إليها- ثم إنك قد دعوتني إلى حكم القرآن- و لقد علمت أنك لست من أهل القرآن و لا حكمه تريد- و الله المستعان- فقد أجبنا القرآن إلى حكمه و لسنا إياك أجبنا- و من لم يرض بحكم القرآن فقد ضل ضلالا بعيدا
فكتب معاوية إلى علي ع- أما بعد عافانا الله و إياك- فقد آن لك أن تجيب إلى ما فيه صلاحنا و ألفة بيننا- و قد فعلت الذي فعلت و أنا أعرف حقي- و لكني اشتريت بالعفو صلاح الأمة- و لم أكثر فرحا بشيء جاء و لا ذهب- و إنما أدخلني في هذا الأمر القيام بالحق- فيما بين الباغي و المبغي عليه- و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- فدعوت إلى كتاب الله فيما بيننا و بينك- فإنه لا يجمعنا و إياك إلا هو- نحيي ما أحيا القرآن و نميت ما أمات القرآن و السلام- .
قال نصر فكتب علي ع إلى عمرو بن العاص يعظه و يرشده-أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها- و لن يصيب صاحبها منها شيئا- إلا فتحت له حرصا يزيده فيها رغبة- و لن يستغني صاحبها بما نال عما لم يبلغ- و من وراء ذلك فراق ما جمع- و السعيد من وعظ بغيره- فلا تحبط أبا عبد الله أجرك- و لا تجار معاوية في باطله و السلام
فكتب إليه عمرو الجواب أما بعد أقول- فالذي فيه صلاحنا و ألفتنا الإنابة إلى الحق- و قد جعلنا القرآن بيننا حكما و أجبنا إليه- فصبر الرجل منا نفسه على ما حكم عليه القرآن- و عذره الناس بعد المحاجزة و السلام- .
فكتب إليه علي ع أما بعد- فإن الذي أعجبك من الدنيا مما نازعتك إليه نفسك- و وثقت به منها لمنقلب عنك و مفارق لك- فلا تطمئن إلى الدنيا فإنها غرارة- و لو اعتبرت بما مضى لحفظت ما بقي- و انتفعت منها بما وعظت به و السلام فأجابه عمرو أما بعد- فقد أنصف من جعل القرآن إماما- و دعا الناس إلى أحكامه- فاصبر أبا حسن- فإنا غير منيليك إلا ما أنالك القرآن و السلام- . قال نصر و جاء الأشعث إلى علي ع- فقال يا أمير المؤمنين ما أرى الناس إلا قد رضوا- و سرهم أن يجيبوا القوم- إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن-فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد- و نظرت ما الذي يسأل- قال فأته إن شئت فأتاه- فسأله يا معاوية لأي شيء رفعتم هذه المصاحف- قال لنرجع نحن و أنتم إلى ما أمر الله به فيها- فابعثوا رجلا منكم ترضون به- و نبعث منا رجلا- و نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله و لا يعدوانه- ثم نتبع ما اتفقا عليه- فقال الأشعث هذا هو الحق- . و انصرف إلى علي ع فأخبره- فبعث علي ع قراء من أهل العراق- و بعث معاوية قراء من أهل الشام- فاجتمعوا بين الصفين و معهم المصحف- فنظروا فيه و تدارسوا- و اجتمعوا على أن يحيوا ما أحيا القرآن- و يميتوا ما أمات القرآن- و رجع كل فريق إلى صاحبه-
فقال أهل الشام إنا قد رضينا و اخترنا عمرو بن العاص- و قال الأشعث و القراء الذين صاروا خوارج فيما بعد- قد رضينا نحن و اخترنا أبا موسى الأشعري- فقال لهم علي ع فإني لا أرضى بأبي موسى و لا أرى أن أوليه- فقال الأشعث و زيد بن حصين و مسعر بن فدكي- في عصابة من القراء- إنا لا نرضى إلا به فإنه قد كان حذرنا ما وقعنا فيه- فقال علي ع فإنه ليس لي برضا- و قد فارقني و خذل الناس عني- و هرب مني حتى أمنته بعد أشهر- و لكن هذا ابن عباس أوليه ذلك- قالوا و الله ما نبالي أ كنت أنت أو ابن عباس- و لا نريد إلا رجلا هو منك و من معاوية سواء- ليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر- قال علي ع فإني أجعل الأشتر- فقال الأشعث و هل سعر الأرض علينا إلا الأشتر- و هل نحن إلا في حكم الأشتر- قال علي ع و ما حكمه- قال حكمه أن يضرب بعضنا بعضا بالسيف- حتى يكون ما أردت و ما أراد- .
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر محمد بن علي قال لما أراد الناس عليا أن يضع الحكمين- قال لهم إن معاوية لم يكن ليضع لهذا الأمر أحدا- هو أوثق برأيه و نظره من عمرو بن العاص- و إنه لا يصلح للقرشي إلا مثله- فعليكم بعبد الله بن العباس فارموه به- فإن عمرا لا يعقد عقدة إلا حلها عبد الله- و لا يحل عقدة إلا عقدها- و لا يبرم أمرا إلا نقضه و لا ينقض أمرا إلا أبرمه- فقال الأشعث لا و الله- لا يحكم فينا مضريان حتى تقوم الساعة- و لكن اجعل رجلا من أهل اليمن- إذ جعلوا رجلا من مضر- فقال علي ع إني أخاف أن يخدع يمنيكم- فإن عمرا ليس من الله في شيء إذا كان له في أمر هوى- فقال الأشعث- و الله لأن يحكما ببعض ما نكره و أحدهما من أهل اليمن- أحب إلينا من أن يكون بعض ما نحب في حكمهما- و هما مضريان- .
قال و ذكر الشعبي أيضا مثل ذلك- . قال نصر فقال علي ع قد أبيتم إلا أبا موسى قالوا نعم- قال فاصنعوا ما شئتم فبعثوا إلى أبي موسى- و هو بأرض من أرض الشام يقال لها عرض- قد اعتزل القتال- فأتاه مولى له فقال إن الناس قد اصطلحوا- فقال الحمد لله رب العالمين- قال و قد جعلوك حكما- فقال إنا لله و إنا إليه راجعون- . فجاء أبو موسى حتى دخل عسكر علي ع- و جاء الأشتر عليا فقال يا أمير المؤمنين- ألزني بعمرو بن العاص- فو الذي لا إله غيره لئن ملأت عيني منه لأقتلنه-
و جاء الأحنف بن قيس عليا فقال يا أمير المؤمنين- إنك قد رميت بحجر الأرض- و من حارب الله و رسوله أنف الإسلام- و إني قد عجمت هذا الرجل يعني أبا موسى- و حلبت أشطره فوجدته كليل الشفرة قريب القعر- و إنه لا يصلح لهؤلاء القوم- إلا رجل يدنو منهم حتى يكون في أكفهم- و يتباعد منهم حتى يكون بمنزلة النجم منهم- فإن شئت أن تجعلني حكما فاجعلني- و إن شئت أن تجعلني ثانيا أو ثالثا- فإن عمرا لا يعقد عقدة إلا حللتها- و لا يحل عقدة إلا عقدت لك أشد منها- . فعرض علي ع ذلك على الناس فأبوه- و قالوا لا يكون إلا أبا موسى- . قال نصر مال الأحنف إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين- إني خيرتك يوم الجمل أن آتيك فيمن أطاعني- أو أكف عنك بني سعد فقلت كف قومك- فكفى بكفك نصيرا فأقمت بأمرك- و إن عبد الله بن قيس رجل قد حلبت أشطره- فوجدته قريب القعر كليل المدية- و هو رجل يمان و قومه مع معاوية- و قد رميت بحجر الأرض و بمن حارب الله و رسوله- و إن صاحب القوم من ينأى حتى يكون مع النجم- و يدنو حتى يكون في أكفهم فابعثني- فو الله لا يحل عنك عقدة إلا عقدت لك أشد منها- فإن قلت إني لست من أصحاب رسول الله- فابعث رجلا من أصحاب رسول الله و ابعثني معه- .
فقال علي ع- إن القوم أتوني بعبد الله بن قيس مبرنسا- فقالوا ابعث هذا رضينا به و الله بالغ أمره- . قال نصر و روى أن ابن الكواء قام إلى علي ع فقال- هذا عبد الله بن قيس وافد أهل اليمن إلى رسول الله ص- و صاحب مقاسم أبي بكر و عامل عمر- و قد رضي به القوم و عرضنا عليهم ابن عباس- فزعموا أنه قريب القرابة منك ظنون في أمرك- . فبلغ ذلك أهل الشام- فبعث أيمن بن خزيم الأسدي- و كان معتزلا لمعاوية بهذه الأبيات- و كان هواه أن يكون الأمر لأهل العراق-
لو كان للقوم رأي يعصمون به
من الضلال رموكم بابن عباس
لله در أبيه أيما رجل
ما مثله لفصال الخطب في الناس
لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن
لا يهتدي ضرب أخماس لأسداس
إن يخل عمرو به يقذفه في لجج
يهوي به النجم تيسا بين أتياس
أبلغ لديك عليا غير عاتبه
قول امرئ لا يرى بالحق من باس
ما الأشعري بمأمون أبا حسن
فاعلم هديت و ليس العجز كالرأس
فاصدم بصاحبك الأدنى زعيمهم
إن ابن عمك عباس هو الآسي
فلما بلغ الناس هذا الشعر- طارت أهواء قوم من أولياء علي ع و شيعته إلى ابن عباس- و أبت القراء إلا أبا موسى- .قال نصر و كان أيمن بن خزيم رجلا عابدا مجتهدا- و قد كان معاوية جعل له فلسطين- على أن يتابعه و يشايعه على قتال علي ع- فقال أيمن و بعث بها إليه-
و لست مقاتلا رجلا يصلي
على سلطان آخر من قريش
له سلطانه و علي إثمي
معاذ الله من سفه و طيش
أ أقتل مسلما في غير جرم
فليس بنافعي ما عشت عيشي
قال نصر فلما رضي أهل الشام بعمرو- و أهل العراق بأبي موسى- أخذوا في سطر كتاب الموادعة و كانت صورته- هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين- و معاوية بن أبي سفيان- فقال معاوية بئس الرجل أنا- إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم قاتلته- و قال عمرو بل نكتب اسمه و اسم أبيه- إنما هو أميركم فأما أميرنا فلا- فلما أعيد إليه الكتاب أمر بمحوه- فقال الأحنف لا تمح اسم أمير المؤمنين عنك- فإني أتخوف إن محوتها ألا ترجع إليك أبدا فلا تمحها-
فقال علي ع إن هذا اليوم كيوم الحديبية- حين كتب الكتاب عن رسول الله ص- هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو- فقال سهيل- لو أعلم أنك رسول الله لم أقاتلك و لم أخالفك- إني إذا لظالم لك إن منعتك- أن تطوف ببيت الله الحرام و أنت رسوله- و لكن اكتب من محمد بن عبد الله- فقال لي رسول الله ص- يا علي إني لرسول الله و أنا محمد بن عبد الله- و لن يمحو عني الرسالة كتابي لهم من محمد بن عبد الله- فاكتبها و امح ما أراد محوه- أما إن لك مثلها ستعطيها و أنت مضطهد
قال نصر و قد روي أن عمرو بن العاص- عاد بالكتاب إلى علي ع- فطلب منه أن يمحو اسمه من إمرة المؤمنين- فقص عليه و على من حضر قصة صلح الحديبية-
قال إن ذلك الكتاب أنا كتبته بيننا و بين المشركين- و اليوم أكتبه إلى أبنائهم- كما كان رسول الله ص كتبه إلى آبائهم شبها و مثلا- فقال عمرو سبحان الله أ تشبهنا بالكفار و نحن مسلمون- فقال علي ع يا ابن النابغة- و متى لم تكن للكافرين وليا و للمسلمين عدوا- فقام عمرو و قال- و الله لا يجمع بيني و بينك مجلس بعد اليوم- فقال علي- أما و الله إني لأرجو أن يظهر الله عليك و على أصحابك – . و جاءت عصابة قد وضعت سيوفها على عواتقها- فقالوا يا أمير المؤمنين مرنا بما شئت- فقال لهم سهل بن حنيف أيها الناس اتهموا رأيكم- فلقد شهدنا صلح رسول الله ص يوم الحديبية- و لو نرى قتالا لقاتلنا- . و زاد إبراهيم بن ديزيل- لقد رأيتني يوم أبي جندل يعني الحديبية- و لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله ص لرددته- ثم لم نر في ذلك الصلح إلا خيرا- . قال نصر و قد روى أبو إسحاق الشيباني قال- قرأت كتاب الصلح عند سعيد بن أبي بردة في صحيفة صفراء- عليها خاتمان خاتم من أسفلها و خاتم من أعلاها- على خاتم علي ع محمد رسول الله- و على خاتم معاوية محمد رسول الله- و قيل لعلي ع- حين أراد أن يكتب الكتاب- بينه و بين معاوية و أهل الشام- أ تقر أنهم مؤمنون مسلمون- فقال علي ع- ما أقر لمعاوية و لا لأصحابه أنهم مؤمنون و لا مسلمون- و لكن يكتب معاوية ما شاء بما شاء- و يقر بما شاء لنفسه و لأصحابه- و يسمي نفسه بما شاء و أصحابه- فكتبوا هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان- قاضى علي بن أبي طالب على أهل العراق- و من كان معه من شيعته من المؤمنين و المسلمين- و قاضى معاوية بن أبي سفيان على أهل الشام- و من كان معه من شيعته من المؤمنين و المسلمين- إننا ننزل عند حكم الله تعالى و كتابه- و لا يجمع بيننا إلا إياه- و إن كتاب الله سبحانه و تعالى بيننا- من فاتحته إلى خاتمته- نحيي ما أحيا القرآن و نميت ما أمات القرآن- فإن وجد الحكمان ذلك في كتاب الله اتبعاه- و إن لم يجداه أخذا بالسنة العادلة غير المفرقة- و الحكمان عبد الله بن قيس و عمرو بن العاص- و قد أخذ الحكمان من علي و معاوية و من الجندين- أنهما آمنان على أنفسهما و أموالهما و أهلهما- و الأمة لهما أنصار- و على الذي يقضيان عليه- و على المؤمنين و المسلمين من الطائفتين عهد الله- أن يعملوا بما يقضيان عليه- مما وافق الكتاب و السنة- و إن الأمن و الموادعة و وضع السلاح- متفق عليه بين الطائفتين- إلى أن يقع الحكم- و على كل واحد من الحكمين عهد الله- ليحكمن بين الأمة بالحق لا بالهوى- و أجل الموادعة سنة كاملة- فإن أحب الحكمان أن يعجلا الحكم عجلاه- و إن توفي أحدهما فلأمير شيعته أن يختار مكانه رجلا- لا يألو الحق و العدل- و إن توفي أحد الأميرين- كان نصب غيره إلى أصحابه ممن يرضون أمره- و يحمدون طريقته- اللهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة- و أراد فيها إلحادا و ظلما- .
قال نصر هذه رواية محمد بن علي بن الحسين و الشعبي- و روى جابر عن زيد بن الحسن بن الحسن زيادات على هذه النسخة- هذا ما تقاضى عليه ابن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان- و شيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله و سنة رسوله- قضية علي على أهل العراق- و من كان من شيعته من شاهد أو غائب- و قضية معاوية على أهل الشام- و من كان من شيعته من شاهد أو غائب- إننا رضينا أن ننزل عند حكم القرآن فيما حكم- و أن نقف عند أمره فيما أمر- فإنه لا يجمع بيننا إلا ذلك- و إنا جعلنا كتاب الله سبحانه حكما بيننا فيما اختلفنا فيه- من فاتحته إلى خاتمته- نحيي ما أحيا القرآن و نميت ما أماته- على ذلك تقاضينا و به تراضينا- و إن عليا و شيعته رضوا- أن يبعثوا عبد الله بن قيس ناظرا و محاكما- و رضي معاوية و شيعته- أن يبعثوا عمرو بن العاص ناظرا و محاكما- على أنهم أخذوا عليهما عهد الله و ميثاقه- و أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه- ليتخذان الكتاب إماما فيما بعثا إليه- لا يعدوانه إلى غيره ما وجداه فيه مسطورا- و ما لم يجداه مسمى في الكتاب- رداه إلى سنة رسول الله ص الجامعة- لا يتعمدان لها خلافا و لا يتبعان هوى- و لا يدخلان في شبهة- و قد أخذ عبد الله بن قيس و عمرو بن العاص- على علي و معاوية عهد الله و ميثاقه بالرضا بما حكما به- من كتاب الله و سنة نبيه- و ليس لهما أن ينقضا ذلك و لا يخالفاه إلى غيره- و أنهما آمنان في حكمهما- على دمائهما و أموالهما و أهلهما- ما لم يعدوا الحق- رضي بذلك راض أو أنكره منكر- و أن الأمة أنصار لهما على ما قضيا به من العدل- فإن توفي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة- فأمير شيعته و أصحابه يختارون مكانه رجلا- لا يألون عن أهل المعدلة و الإقساط- على ما كان عليه صاحبه من العهد و الميثاق- و الحكم بكتاب الله و سنة رسوله- و له مثل شرط صاحبه- و إن مات أحد الأميرين قبل القضاء- فلشيعته أن يولوا مكانه رجلا يرضون عدله- و قد وقعت هذه القضية و معها الأمن و التفاوض- و وضع السلاح و السلام و الموادعة- و على الحكمين عهد الله و ميثاقه ألا يألوا اجتهادا- و لا يتعمدا جورا و لا يدخلا في شبهة- و لا يعدوا حكم الكتاب- فإن لم يقبلا برئت الأمة من حكمهما- و لا عهد لهما و لا ذمة- و قد وجبت القضية على ما قد سمي في هذا الكتاب- من مواقع الشروط على الحكمين- و الأميرين و الفريقين- و الله أقرب شهيدا و أدنى حفيظا- و الناس آمنون على أنفسهم و أهلهم و أموالهم- إلى انقضاء مدة الأجل- و السلاح موضوع و السبل مخلاة- و الشاهد و الغائب من الفريقين سواء في الأمن- و للحكمين أن ينزلا منزلا عدلا- بين أهل العراق و الشام- لا يحضرهما فيه إلا من أحبا عن ملإ منهما و تراض- و إن المسلمين قد أجلوا هذين القاضيين- إلى انسلاخ شهر رمضان- فإن رأيا تعجيل الحكومة فيما وجها له عجلاها- و إن أرادا تأخيرها بعد شهر رمضان إلى انقضاء الموسم- فذلك إليهما- و إن هما لم يحكما بكتاب الله و سنة نبيه إلى انقضاء الموسم- فالمسلمون على أمرهم الأول في الحرب- و لا شرط بين الفريقين- و على الأمة عهد الله و ميثاقه على التمام و الوفاء- بما في هذا الكتاب- و هم يد على من أراد فيه إلحادا و ظلما- أو حاول له نقضا- و شهد فيه من أصحاب علي عشرة- و من أصحاب معاوية عشرة- و تاريخ كتابته لليلة بقيت من صفر سنة سبع و ثلاثين- .
قال نصر و حدثنا عمرو بن سعيد قال- حدثني أبو جناب عن ربيعة الجرمي قال- لما كتبت الصحيفة دعي لها الأشتر- ليشهد مع الشهود عليه- فقال لا صحبتني يميني و لا نفعني بعدها الشمال- إن كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلح أو موادعة- أ و لست على بينة من أمري و يقين من ضلالة عدوي- أ و لستم قد رأيتم الظفر إن لم تجمعوا على الخور- فقال له رجل من الناس- و الله ما رأيت ظفرا و لا خورا- هلم فأشهد على نفسك- و أقرر بما كتب في هذه الصحيفة- فإنه لا رغبة لك عن الناس- فقال بلى و الله- إن لي لرغبة عنك في الدنيا للدنيا- و في الآخرة للآخرة- و لقد سفك الله بسيفي هذا دماء رجال- ما أنت عندي بخير منهم و لا أحرم دما- . قال نصر بن مزاحم الرجل هو الأشعث بن قيس- قال فكأنما قصع على أنه الحميم- ثم قال و لكني قد رضيت بما يرضى به أمير المؤمنين- و دخلت فيما دخل فيه و خرجت مما خرج منه- فإنه لا يدخل إلا في الهدى و الصواب- .
قال نصر فحدثنا عمر بن سعد- عن أبي جناب الكلبي عن إسماعيل بن شفيع- عن سفيان بن سلمة قال- فلما تم الكتاب و شهدت فيه الشهود- و تراضى الناس خرج الأشعث- و معه ناس بنسخة الكتاب يقرؤها على الناس- و يعرضها عليهم- فمر به على صفوف من أهل الشام- و هم على راياتهم فأسمعهم إياه فرضوا به- ثم مر به على صفوف من أهل العراق- و هم على راياتهم فأسمعهم إياه فرضوا به- حتى مر برايات عنزة- و كان مع علي ع من عنزة بصفين- أربعة آلاف مجفف- فلما مر بهم الأشعث يقرؤه عليهم- قال فتيان منهم لا حكم إلا لله- ثم حملا على أهل الشام بسيوفهما- فقاتلا حتى قتلا على باب رواق معاوية- فهما أول من حكم- و اسماهما جعد و معدان ثم مر بهما على مراد- فقال صالح بن شقيق و كان من رءوسهم-
ما لعلي في الدماء قد حكم
لو قاتل الأحزاب يوما ما ظلم
لا حكم إلا لله و لو كره المشركون- ثم مر على رايات بني راسب فقرأها عليهم- فقال رجل منهم لا حكم إلا لله- لا نرضى و لا نحكم الرجال في دين الله- ثم مر على رايات تميم فقرأها عليهم- فقال رجل منهم لا حكم إلا لله- يقضي بالحق و هو خير الفاصلين- فقال رجل منهم لآخر- أما هذا فقد طعن طعنة نافذة- و خرج عروة بن أدية أخو مرداس بن أدية التميمي- فقال أ تحكمون الرجال في أمر الله لا حكم إلا لله- فأين قتلانا يا أشعث- ثم شد بسيفه ليضرب به الأشعث فأخطأه- و ضرب عجز دابته ضربة خفيفة- فصاح به الناس أن أملك يدك- فكف و رجع الأشعث إلى قومه- فمشى الأحنف إليه و معقل بن قيس و مسعر بن فدكي- و رجال من بني تميم- فتنصلوا و اعتذروا- فقبل منهم ذلك و انطلق إلى علي ع- فقال يا أمير المؤمنين- إني عرضت الحكومة- على صفوف أهل الشام و أهل العراق- فقالوا جميعا رضينا- حتى مررت برايات بني راسب- و نبذ من الناس سواهم- فقالوا لا نرضى لا حكم إلا لله- فمل بأهل العراق و أهل الشام عليهم حتى نقتلهم- فقال علي ع هل هي غير راية أو رايتين و نبذ من الناس- قال لا قال فدعهم- .
قال نصر فظن علي ع أنهم قليلون لا يعبأ بهم- فما راعه إلا نداء الناس من كل جهة و من كل ناحية- لا حكم إلا لله الحكم لله يا علي لا لك- لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين الله- إن الله قد أمضى حكمه في معاوية و أصحابه- أن يقتلوا أو يدخلوا تحت حكمنا عليهم- و قد كنا زللنا و أخطأنا حين رضينا بالحكمين- و قد بان لنا زللنا و خطؤنا فرجعنا إلى الله و تبنا- فارجع أنت يا علي كما رجعنا- و تب إلى الله كما تبنا و إلا برئنا منك- فقال علي ع ويحكم- أ بعد الرضا و الميثاق و العهد نرجع- أ ليس الله تعالى قد قال أَوْفُوا بِالْعُقُودِ- و قال وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ- وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها- وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا- فأبى علي أن يرجع- و أبت الخوارج إلا تضليل التحكيم و الطعن فيه- فبرئت من علي ع و برئ علي ع منهم- .
قال نصر و قام إلى علي ع محمد بن جريش- فقال يا أمير المؤمنين- أ ما إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل- فو الله إني لأخاف أن يورث ذلا- فقال علي ع أ بعد أن كتبناه ننقضه إن هذا لا يحل قال نصر و حدثني عمر بن نمير بن وعلة عن أبي الوداك قال لما تداعى الناس إلى المصاحف- و كتبت صحيفة الصلح و التحكيم- قال علي ع إنما فعلت ما فعلت- لما بدا فيكم من الخور و الفشل عن الحرب- فجاءت إليه همدان كأنها ركن حصير- فيهم سعيد بن قيس و ابنه عبد الرحمن غلام له ذؤابة- فقال سعيد ها أنا ذا و قومي لا نرد أمرك- فقل ما شئت نعمله- فقال أما لو كان هذا قبل سطر الصحيفة- لأزلتهم عن عسكرهم- أو تنفرد سالفتي قبل ذلك- و لكن انصرفوا راشدين- فلعمري ما كنت لأعرض قبيلة واحدة للناس
قال نصر و روى الشعبي أن عليا ع- قال يوم صفين حين أقر الناس بالصلح- إن هؤلاء القوم لم يكونوا لينيبوا إلى الحق- و لا ليجيبوا إلى كلمة سواء- حتى يرموا بالمناسر تتبعها العساكر- و حتى يرجموا بالكتائب تقفوها الجلائب-و حتى يجر ببلادهم الخميس يتلوه الخميس- و حتى يدعوا الخيول في نواحي أرضهم- و بأحناء مساربهم و مسارحهم- و حتى تشن عليهم الغارات من كل فج- و حتى يلقاهم قوم صدق صبر- لا يزيدهم هلاك من هلك- من قتلاهم و موتاهم في سبيل الله- إلا جدا في طاعة الله و حرصا على لقاء الله- و لقد كنا مع رسول الله ص- نقتل آباءنا و أبناءنا و إخواننا و أخوالنا و أعمامنا- لا يزيدنا ذلك إلا إيمانا و تسليما- و مضيا على أمض الألم- و جدا على جهاد العدو و الاستقلال بمبارزة الأقران- و لقد كان الرجل منا و الآخر من عدونا- يتصاولان تصاول الفحلين- يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون- فمرة لنا من عدونا و مرة لعدونا منا- فلما رآنا الله صدقا صبرا أنزل بعدونا الكبت- و أنزل علينا النصر- و لعمري لو كنا نأتي مثل الذي أتيتم ما قام الدين و لا عز الإسلام- و ايم الله لتحلبنها دما فاحفظوا ما أقول لكم و روى نصر عن عمرو بن شمر عن فضيل بن خديج قال قيل لعلي ع لما كتبت الصحيفة- أن الأشتر لم يرض بما في الصحيفة- و لا يرى إلا قتال القوم- فقال علي ع بلى إن الأشتر ليرضى إذا رضيت- و قد رضيت و رضيتم- و لا يصلح الرجوع بعد الرضا- و لا التبديل بعد الإقرار- إلا أن يعصى الله أو يتعدى ما في كتابه- و أما الذي ذكرتم من تركه أمري و ما أنا عليه- فليس من أولئك و لا أعرفه على ذلك- و ليت فيكم مثله اثنين بل ليت فيكم مثله واحدا- يرى في عدوي مثل رأيه إذا لخفت مئونتكم علي- و رجوت أن يستقيم لي بعض أودكم
قال نصر و روى أبو عبد الله زيد الأودي- أن رجلا منهم يقال له عمرو بن أوس- قاتل مع علي ع يوم صفين- فأسره معاوية في أسرى كثيرة- فقال له عمرو بن العاص اقتلهم- فقال له عمرو بن أوس لا تقتلني يا معاوية فإنك خالي- فقامت إليه بنو أود فاستوهبوه- فقال دعوه- فلعمري إن كان صادقا فيما ادعاه من خئولتي إياه- ليستغنين عن شفاعتكم- و إلا فشفاعتكم من ورائه ثم استدناه- فقال من أين أنا خالك- فو الله ما بين بني عبد شمس و بين أود من مصاهرة- قال فإن أخبرتك فعرفت فهو أمان عندك قال نعم- قال أ ليست أم حبيبة أختك أم المؤمنين- فأنا ابنها و أنت أخوها فأنت إذا خالي- فقال معاوية لله أبوه- أ ما كان في هؤلاء الأسرى من يفطن إلى هذا غيره ثم خلى سبيله- . و روى إبراهيم بن الحسين بن علي الكسائي- المعروف بابن ديزيل الهمداني في كتاب صفين- قال حدثنا عبد الله بن عمر قال حدثنا عمرو بن محمد- قال دعا معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص ليبعثه حكما- فجاء و هو متحزم عليه ثيابه و سيفه- و حوله أخوه و ناس من قريش-
فقال له معاوية يا عمرو- إن أهل الكوفة أكرهوا عليا على أبي موسى- و هو لا يريده و نحن بك راضون- و قد ضم إليك رجل طويل اللسان كليل المدية- و له بعد حظ من دين- فإذا قال فدعه يقل ثم قل فأوجز- و اقطع المفصل و لا تلقه بكل رأيك- و اعلم أن خبء الرأي زيادة في العقل- فإن خوفك بأهل العراق فخوفه بأهل الشام- و إن خوفك بعلي فخوفه بمعاوية- و إن خوفك بمصر فخوفه باليمن- و إن أتاك بالتفصيل فأته بالجمل- فقال له عمرو يا معاوية أنت و علي رجلا قريش- و لم تنل في حربك ما رجوت و لم تأمن ما خفت- ذكرت أن لعبد الله دينا و صاحب الدين منصور- و ايم الله لأفنين عليه علله و لأستخرجن خبأه- و لكن إذا جاءني بالإيمان و الهجرة و مناقب علي- ما عسيت أن أقول قال قل ما ترى- فقال عمرو و هل تدعني و ما أرى- و خرج مغضبا كأنه كره أن يوصى ثقة بنفسه- و قال لأصحابه حين خرج- إنما أراد معاوية أن يصغر أمر أبي موسى- لأنه علم أني خادعه غدا- فأحب أن يقول إن عمرا لم يخدع أريبا- فقد كدته بالخلاف عليه- و قال في ذلك-
يشجعني معاوية بن حرب
كأني للحوادث مستكين
و إني عن معاوية غني
بحمد الله و الله المعين
و هون أمر عبد الله عمدا
و قال له على ما كان دين
فقلت له و لم أردد عليه
مقالته و للشاكي أنين
ترى أهل العراق يذب عنهم
و عن جيرانهم رجل مهين
فلو جهلوه لم يجهل علي
و غث القول يحمله السمين
و لكن خطبه فيهم عظيم
و فضل المرء فيهم مستبين
فإن أظفر فلم أظفر بوغد
و إن يظفر فقد قطع الوتين
فلما بلغ معاوية شعره غضب من ذلك- و قال لو لا مسيره لكان لي فيه رأي- فقال له عبد الرحمن بن أم الحكم- أما و الله إن أمثاله في قريش لكثير- و لكنك ألزمت نفسك الحاجة إليه- فألزمها الغناء عنه- فقال له معاوية فأجبه عن شعره- فقال عبد الرحمن يعيره بفراره من علي يوم صفين-
ألا يا عمرو عمرو قبيل سهم
أ من طب أصابك ذا الجنون
دع البغي الذي أصبحت فيه
فإن البغي صاحبه لعين
أ لم تهرب بنفسك من علي
بصفين و أنت بها ضنين
حذارا أن تلاقيك المنايا
و كل فتى سيدركه المنون
و لسنا عائبين عليك إلا
لقولك إنني لا أستكين
قال نصر ثم إن الناس أقبلوا على قتلاهم فدفنوهم- قال و قد كان عمر بن الخطاب دعا في خلافته- حابس بن سعد الطائي- فقال له إني أريد أن أوليك قضاء حمص- فكيف أنت صانع- قال أجتهد رأيي و أستشير جلسائي- قال فانطلق إليها فلم يمش إلا يسيرا حتى رجع- فقال يا أمير المؤمنين- إني رأيت رؤيا أحببت أن أقصها عليك- قال هاتها- قال رأيت كأن الشمس أقبلت من المشرق- و معها جمع عظيم- و كأن القمر قد أقبل من المغرب و معه جمع عظيم-
فقال له عمر مع أيهما كنت- قال كنت مع القمر- قال كنت مع الآية الممحوة- اذهب فلا و الله لا تلي لي عملا و رده- فشهد مع معاوية صفين و كانت راية طيء معه- فقتل يومئذ فمر به عدي بن حاتم- و معه ابنه زيد فرآه قتيلا- فقال له يا أبت هذا و الله خالي- قال نعم لعن الله خالك- فبئس و الله المصرع مصرعه- فوقف زيد و قال من قتل هذا الرجل مرارا- فخرج إليه رجل من بكر بن وائل طوال يخضب- فقال أنا قتلته- فقال له كيف صنعت به- فجعل يخبره فطعنه زيد بالرمح فقتله- و ذلك بعد أن وضعت الحرب أوزارها- فحمل عليه عدي أبوه يسبه و يشتم أمه- و يقول يا ابن المائقة لست على دين محمد إن لم أدفعك إليهم- فضرب زيد فرسه فلحق بمعاوية- فأكرمه و حمله و أدنى مجلسه- فرفع عدي يديه فدعا عليه- و قال اللهم إن زيدا قد فارق المسلمين- و لحق بالملحدين- اللهم فارمه بسهم من سهامك لا يشوي- أو قال لا يخطئ فإن رميتك لا تنمي- و الله لا أكلمه من رأسي كلمة أبدا- و لا يظلني و إياه سقف أبدا- و قال زيد في قتل البكري-
من مبلغ أبناء طي بأنني
ثأرت بخالي ثم لم أتأثم
تركت أخا بكر ينوء بصدره
بصفين مخضوب الجبين من الدم
و ذكرني ثأري غداة رأيته
فأوجرته رمحي فخر على الفم
لقد غادرت أرماح بكر بن وائل
قتيلا عن الأهوال ليس بمحجم
قتيلا يظل الحي يثنون بعده
عليه بأيد من نداه و أنعم
لقد فجعت طي بحلم و نائل
و صاحب غارات و نهب مقسم
لقد كان خالي ليس خال كمثله
دفاعا لضيم و احتمالا لمغرم
قال نصر و روى الشعبي عن زياد بن النضر- أن عليا ع بعث أربعمائة- عليهم شريح بن هانئ الحارثي- و معه عبد الله بن عباس يصلي بهم و يلي أمورهم- و معهم أبو موسى الأشعري- و بعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة- ثم إنهم خلوا بين الحكمين- فكان رأي عبد الله بن قيس أبو موسى- في عبد الله بن عمرو بن الخطاب- و كان يقول و الله إن استطعت لأحيين سنة عمر- . قال نصر و في حديث محمد بن عبيد الله عن الجرجاني
قال- لما أراد أبو موسى المسير قام إليه شريح بن هانئ- فأخذ بيده و قال يا أبا موسى- إنك قد نصبت لأمر عظيم- لا يجبر صدعه و لا تستقال فتنته- و مهما تقل من شيء عليك أو لك- يثبت حقه و تر صحته و إن كان باطلا- و إنه لا بقاء لأهل العراق إن ملكهم معاوية- و لا بأس على أهل الشام إن ملكهم علي- و قد كانت منك تثبيطة أيام الكوفة و الجمل- فإن تشفعها بمثلها يكن الظن بك يقينا- و الرجاء منك يأسا- ثم قال له شريح في ذلك-
أبا موسى رميت بشر خصم
فلا تضع العراق فدتك نفسي
و أعط الحق شامهم و خذه
فإن اليوم في مهل كأمس
و إن غدا يجيء بما عليه
كذاك الدهر من سعد و نحس
و لا يخدعك عمرو إن عمرا
عدو الله مطلع كل شمس
له خدع يحار العقل منها
مموهة مزخرفة بلبس
فلا تجعل معاوية بن حرب
كشيخ في الحوادث غير نكس
هداه الله للإسلام فردا
سوى عرس النبي و أي عرس
فقال أبو موسى- ما ينبغي لقوم اتهموني أن يرسلوني لأدفع عنهم باطلا- أو أجر إليهم حقا-و روى المدائني في كتاب صفين قال- لما أجمع أهل العراق على طلب أبي موسى- و أحضروه للتحكيم على كره من علي ع- أتاه عبد الله بن العباس و عنده وجوه الناس و أشرافهم- فقال له يا أبا موسى إن الناس لم يرضوا بك- و لم يجتمعوا عليك لفضل لا تشارك فيه- و ما أكثر أشباهك من المهاجرين و الأنصار- و المتقدمين قبلك- و لكن أهل العراق أبوا إلا أن يكون الحكم يمانيا- و رأوا أن معظم أهل الشام يمان- و ايم الله إني لأظن ذلك شرا لك و لنا- فإنه قد ضم إليك داهية العرب- و ليس في معاوية خلة يستحق بها الخلافة- فإن تقذف بحقك على باطله تدرك حاجتك منه- و إن يطمع باطله في حقك يدرك حاجته منك- و اعلم يا أبا موسى أن معاوية طليق الإسلام- و أن أباه رأس الأحزاب- و أنه يدعي الخلافة من غير مشورة و لا بيعة- فإن زعم لك أن عمر و عثمان استعملاه فلقد صدق استعمله عمر و هو الوالي عليه- بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي- و يؤجره ما يكره- ثم استعمله عثمان برأي عمر- و ما أكثر من استعملا ممن لم يدع الخلافة- و اعلم أن لعمرو مع كل شيء يسرك خبيئا يسوءك- و مهما نسيت فلا تنس أن عليا بايعه القوم- الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان- و أنها بيعة هدى و أنه لم يقاتل إلا العاصين و الناكثين- فقال أبو موسى رحمك الله- و الله ما لي إمام غير علي- و إني لواقف عند ما رأى- و إن حق الله أحب إلي من رضا معاوية و أهل الشام- و ما أنت و أنا إلا بالله- . و روى البلاذري في كتاب أنساب الأشراف- قال قيل لعبد الله بن عباس-ما منع عليا أن يبعثك مع عمرو يوم التحكيم-
فقال منعه حاجز القدر و محنة الابتلاء و قصر المدة- أما و الله لو كنت لقعدت على مدارج أنفاسه- ناقضا ما أبرم و مبرما ما نقض- أطير إذا أسف و أسف إذا طار- و لكن قد سبق قدر و بقي أسف- و مع اليوم غد و الآخرة خير لأمير المؤمنين- . و ذكر البلاذري أيضا قال- قام عمرو بن العاص بالموسم- فأطرى معاوية و بني أمية و تناول بني هاشم- و ذكر مشاهده بصفين و يوم أبي موسى- فقام إليه ابن عباس فقال يا عمرو- إنك بعت دينك من معاوية- فأعطيته ما في يدك و مناك ما في يد غيره- فكان الذي أخذه منك فوق الذي أعطاك- و كان الذي أخذت منه دون ما أعطيته- و كل راض بما أخذ و أعطى- فلما صارت مصر في يدك- تتبعك بالنقض عليك و التعقب لأمرك- ثم بالعزل لك- حتى لو أن نفسك في يدك لأرسلتها- و ذكرت يومك مع أبي موسى- فلا أراك فخرت إلا بالغدر- و لا منيت إلا بالفجور و الغش- و ذكرت مشاهدك بصفين- فو الله ما ثقلت علينا وطأتك- و لا نكأت فينا جرأتك- و لقد كنت فيها طويل اللسان قصير البنان- آخر الحرب إذا أقبلت و أولها إذا أدبرت- لك يدان يد لا تقبضها عن شر و يد لا تبسطها إلى خير- و وجهان وجه مؤنس و وجه موحش- و لعمري إن من باع دينه بدنيا غيره- لحري حزنه على ما باع و اشترى- أما إن لك بيانا و لكن فيك خطل- و إن لك لرأيا و لكن فيك فشل- و إن أصغر عيب فيك لأعظم عيب في غيرك- . قال نصر و كان النجاشي الشاعر صديقا لأبي موسى- فكتب إليه يحذره من عمرو بن العاص-
يؤمل أهل الشام عمرا و إنني
لآمل عبد الله عند الحقائق
و إن أبا موسى سيدرك حقنا
إذا ما رمى عمرا بإحدى البوائق
فلله ما يرمى العراق و أهله
به منه إن لم يرمه بالصواعق
فكتب إليه أبو موسى- إني لأرجو أن ينجلي هذا الأمر- و أنا فيه على رضا الله سبحانه- . قال نصر ثم إن شريح بن هانئ جهز أبا موسى جهازا حسنا- و عظم أمره في الناس ليشرف في قومه- فقال الأعور الشني في ذلك يخاطب شريحا- .
زففت ابن قيس زفاف العروس
شريح إلى دومة الجندل
و في زفك الأشعري البلاء
و ما يقض من حادث ينزل
و ما الأشعري بذي إربة
و لا صاحب الخطة الفيصل
و لا آخذا حظ أهل العراق
و لو قيل ها خذه لم يفعل
يحاول عمرا و عمرو له
خدائع يأتي بها من علي
فإن يحكما بالهدى يتبعا
و إن يحكما بالهوى الأميل
يكونا كتيسين في قفرة
أكيلي نقيف من الحنظل
فقال شريح- و الله لقد تعجلت رجال مساءتنا في أبي موسى- و طعنوا عليه بأسوإ الطعن- و ظنوا فيه ما الله عصمه منه إن شاء الله-قال- و سار مع عمرو بن العاص شرحبيل بن السمط في خيل عظيمة- حتى إذا أمن عليه خيل أهل العراق ودعه- ثم قال له يا عمرو إنك رجل قريش- و إن معاوية لم يبعثك- إلا لعلمه أنك لا تؤتى من عجز و لا مكيدة- و قد عرفت أني وطئت هذا الأمر لك و لصاحبك- فكن عند ظني بك- ثم انصرف و انصرف شريح بن هانئ- حين أمن خيل أهل الشام على أبي موسى و ودعه- . و كان آخر من ودع أبا موسى الأحنف بن قيس- أخذ بيده ثم قال له يا أبا موسى- اعرف خطب هذا الأمر و اعلم أن له ما بعده- و أنك إن أضعت العراق فلا عراق- اتق الله فإنها تجمع لك دنياك و آخرتك- و إذا لقيت غدا عمرا فلا تبدأه بالسلام- فإنها و إن كانت سنة إلا أنه ليس من أهلها- و لا تعطه يدك فإنها أمانة- و إياك أن يقعدك على صدر الفراش فإنها خدعة- و لا تلقه إلا وحده- و احذر أن يكلمك في بيت فيه مخدع- تخبأ لك فيه الرجال و الشهود- ثم أراد أن يثور ما في نفسه لعلي- فقال له فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي- فليختر أهل العراق من قريش الشام من شاءوا- أو فليختر أهل الشام من قريش العراق من شاءوا- . فقال أبو موسى قد سمعت ما قلت- و لم ينكر ما قاله من زوال الأمر عن علي- . فرجع الأحنف إلى علي ع- فقال له أخرج أبو موسى و الله زبدة سقائه في أول مخضه- لا أرانا إلا بعثنا رجلا لا ينكر خلعك- فقال علي الله غالب على أمره- . قال نصر و شاع و فشا أمر الأحنف و أبي موسى في الناس- فبعث الصلتان العبدي- و هو بالكوفة إلى دومة الجندل بهذه الأبيات-
لعمرك لا ألفي مدى الدهر خالعا
عليا بقول الأشعري و لا عمرو
فإن يحكما بالحق نقبله منهما
و إلا أثرناها كراغية البكر
و لسنا نقول الدهر ذاك إليهما
و في ذاك لو قلناه قاصمة الظهر
و لكن نقول الأمر و النهي كله
إليه و في كفيه عاقبة الأمر
و ما اليوم إلا مثل أمس و إننا
لفي وشل الضحضاح أو لجة البحر
قال فلما سمع الناس قول الصلتان- شحذهم ذلك على أبي موسى- و استبطأه القوم و ظنوا به الظنون- و مكث الرجلان بدومة الجندل لا يقولان شيئا- و كان سعد بن أبي وقاص قد اعتزل عليا و معاوية- و نزل على ماء لبني سليم بأرض البادية- يتشوف الأخبار- و كان رجلا له بأس و رأي و مكان في قريش- و لم يكن له هوى في علي و لا في معاوية- فأقبل راكب يوضع من بعيد- فإذا هو ابنه عمر- فقال له أبوه مهيم- فقال التقى الناس بصفين- فكان بينهم ما قد بلغك حتى تفانوا- ثم حكموا عبد الله بن قيس و عمرو بن العاص- و قد حضر ناس من قريش عندهما- و أنت من أصحاب رسول الله ص و من أهل الشورى- و من قال له النبي ص اتقوا دعوته- و لم تدخل في شيء مما تكره الأمة- فاحضر دومة الجندل فإنك صاحبها غدا- فقال مهلا يا عمر- إني سمعت رسول الله ص يقول تكون بعدي فتنة- خير الناس فيها التقي الخفي – و هذا أمر لم أشهد أوله فلا أشهد آخره-و لو كنت غامسا يدي في هذا الأمر- لغمستها مع علي بن أبي طالب- و قد رأيت أباك كيف وهب حقه من الشورى- و كره الدخول في الأمر- فارتحل عمر و قد استبان له أمر أبيه- .
قال نصر و قد كان الأجناد أبطأت على معاوية- فبعث إلى رجال من قريش كانوا كرهوا أن يعينوه في حربه- إن الحرب قد وضعت أوزارها- و التقى هذان الرجلان في دومة الجندل فاقدموا علي- . فأتاه عبد الله بن الزبير و عبد الله بن عمر بن الخطاب- و أبو الجهم بن حذيفة العدوي- و عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري- و عبد الله بن صفوان الجمحي و أتاه المغيرة بن شعبة- و كان مقيما بالطائف لم يشهد الحرب- فقال له يا مغيرة ما ترى- قال يا معاوية لو وسعني أن أنصرك لنصرتك- و لكن علي أن آتيك بأمر الرجلين- فرحل حتى أتى دومة الجندل- فدخل على أبي موسى كالزائر له- فقال يا أبا موسى- ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر و كره الدماء- قال أولئك خير الناس- خفت ظهورهم من دمائهم- و خمصت بطونهم من أموالهم- ثم أتى عمرا فقال يا أبا عبد الله- ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر و كره الدماء- قال أولئك شرار الناس- لم يعرفوا حقا و لم ينكروا باطلا- فرجع المغيرة إلى معاوية- فقال له قد ذقت الرجلين- أما عبد الله بن قيس فخالع صاحبه- و جاعلها لرجل لم يشهد هذا الأمر- و هواه في عبد الله بن عمر- و أما عمرو بن العاص فهو صاحب الذي تعرف- و قد ظن الناس أنه يرومها لنفسه- و أنه لا يرى أنك أحق بهذا الأمر منه-
قال نصر في حديث عمرو بن شمر قال- أقبل أبو موسى على عمرو فقال يا عمرو- هل لك في أمر هو للأمة صلاح و لصلحاء الناس رضا- نولي هذا الأمر عبد الله بن عمر بن الخطاب- الذي لم يدخل في شيء من هذه الفتنة و لا هذه الفرقة- قال و كان عبد الله بن عمرو بن العاص- و عبد الله بن الزبير قريبين يسمعان هذا الكلام- فقال عمرو فأين أنت يا أبا موسى عن معاوية- فأبى عليه أبو موسى- قال و شهدهم عبد الله بن هشام- و عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث- و أبو الجهم بن حذيفة العدوي و المغيرة بن شعبة- فقال عمرو أ لست تعلم أن عثمان قتل مظلوما- قال بلى- قال اشهدوا- ثم قال فما يمنعك من معاوية و هو ولي عثمان- و قد قال الله تعالى- وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً- ثم إن بيت معاوية من قريش ما قد علمت- فإن خشيت أن يقول الناس- ولى معاوية و ليست له سابقة- فإن لك حجة أن تقول- وجدته ولي عثمان الخليفة المظلوم و الطالب بدمه- الحسن السياسة الحسن التدبير- و هو أخو أم حبيبة أم المؤمنين و زوج النبي ص- و قد صحبه و هو أحد الصحابة- ثم عرض له بالسلطان- فقال له إن هو ولي الأمر أكرمك كرامة- لم يكرمك أحد قط مثلها-
فقال أبو موسى اتق الله يا عمرو- أما ما ذكرت من شرف معاوية- فإن هذا الأمر ليس على الشرف يولاه أهله- لو كان على الشرف- كان أحق الناس بهذا الأمر أبرهة بن الصباح- إنما هو لأهل الدين و الفضل- مع أني لو كنت أعطيه أفضل قريش شرفا- لأعطيته علي بن أبي طالب- و أما قولك إن معاوية ولي عثمان فوله هذا الأمر- فإني لم أكن أوليه إياه لنسبته من عثمان- و أدع المهاجرين الأولين- و أما تعريضك لي بالإمرة و السلطان- فو الله لو خرج لي من سلطانه ما وليته- و ما كنت أرتشي في الله- و لكنك إن شئت أحيينا سنة عمر بن الخطاب- . قال نصر و حدثني عمر بن سعد عن أبي جناب- أن أبا موسى قال غير مرة- و الله إن استطعت لأحيين اسم عمر بن الخطاب- قال فقال عمرو بن العاص- إن كنت إنما تريد أن تبايع ابن عمر لدينه- فما يمنعك من ابني عبد الله- و أنت تعرف فضله و صلاحه- فقال إن ابنك لرجل صدق- و لكنك قد غمسته في هذه الفتنة- .
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن محمد بن إسحاق عن نافع قال- قال أبو موسى لعمرو يا عمرو- إن شئت ولينا هذا الأمر الطيب ابن الطيب- عبد الله بن عمر فقال له عمرو يا أبا موسى- إن هذا الأمر لا يصلح له إلا رجل له ضرس- يأكل و يطعم- و إن عبد الله ليس هناك- . قال نصر و قد كان في أبي موسى غفلة- فقال ابن الزبير لابن عمر- اذهب إلى عمرو بن العاص فارشه- فقال ابن عمر لا و الله لا أرشو عليها بشيء أبدا ما عشت- و لكنه قال له- إن العرب قد أسندت إليك أمرها- بعد ما تقارعت بالسيوف- و تطاعنت بالرماح- فلا تردهم في فتنة و اتق الله- .
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن أزهر العبسي عن النضر بن صالح- قال كنت مع شريح بن هانئ في غزوة سجستان- فحدثني أن عليا ع- أوصاه بكلمات إلى عمرو بن العاص- و قال له قل لعمرو إذا لقيته- إن عليا يقول لك- إن أفضل الخلق عند الله- من كان العمل بالحق أحب إليه و إن نقصه- و إن أبعد الخلق من الله من كان العمل بالباطل- أحب إليه و إن زاده- و الله يا عمرو إنك لتعلم أين موضع الحق- فلم تتجاهل- أ بأن أوتيت طمعا يسيرا صرت لله و لأوليائه عدوا- فكان و الله ما قد أوتيت قد زال عنك- فلا تكن للخائنين خصيما و لا للظالمين ظهيرا- أما إني أعلم أن يومك الذي أنت فيه- نادم هو يوم وفاتك- و سوف تتمنى أنك لم تظهر لي عداوة- و لم تأخذ على حكم الله رشوة- قال شريح فأبلغته ذلك يوم لقيته- فتمعر وجهه و قال- متى كنت قابلا مشورة علي- أو منيبا إلى رأيه أو معتدا بأمره- فقلت و ما يمنعك يا ابن النابغة- أن تقبل من مولاك و سيد المسلمين بعد نبيهم مشورته- لقد كان من هو خير منك- أبو بكر و عمر يستشيرانه و يعملان برأيه- فقال إن مثلي لا يكلم مثلك- فقلت بأي أبويك ترغب عن كلامي- بأبيك الوشيظ أم بأمك النابغة- فقام من مكانه و قمت- .
قال نصر و روى أبو جناب الكلبي- أن عمرا و أبا موسى لما التقيا بدومة الجندل- أخذ عمرو يقدم أبا موسى في الكلام- و يقول إنك صحبت رسول الله ص قبلي- و أنت أكبر مني سنا- فتكلم أنت ثم أتكلم أنا- فجعل ذلك سنة و عادة بينهما-و إنما كان مكرا و خديعة و اغترارا له أن يقدمه- فيبدأ بخلع علي ثم يرى رأيه- . و قال ابن ديزيل في كتاب صفين- أعطاه عمرو صدر المجلس- و كان لا يتكلم قبله- و أعطاه التقدم في الصلاة و في الطعام- لا يأكل حتى يأكل- و إذا خاطبه فإنما يخاطبه بأجل الأسماء- و يقول له يا صاحب رسول الله- حتى اطمأن إليه و ظن أنه لا يغشه- .
قال نصر فلما انمخضت الزبدة بينهما- قال له عمرو أخبرني ما رأيك يا أبا موسى- قال أرى أن أنخلع هذين الرجلين- و نجعل الأمر شورى بين المسلمين- يختارون من شاءوا- فقال عمرو الرأي و الله ما رأيت- فأقبلا إلى الناس و هم مجتمعون- فتكلم أبو موسى فحمد الله و أثنى عليه- ثم قال إن رأيي و رأي عمرو قد اتفق على أمر- نرجو أن يصلح الله به شأن هذه الأمة- فقال عمرو صدق- ثم قال له تقدم يا أبا موسى فتكلم- فقام ليتكلم فدعاه ابن عباس- فقال له ويحك و الله إني لأظنه خدعك- إن كنتما قد اتفقتما على أمر- فقدمه قبلك ليتكلم به ثم تكلم أنت بعده- فإنه رجل غدار- و لا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك و بينه- فإذا قمت قمت به في الناس خالفك- و كان أبو موسى رجلا مغفلا فقال إيها عنك إنا قد اتفقنا- . فتقدم أبو موسى فحمد الله و أثنى عليه- ثم قال أيها الناس- إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة- فلم نر شيئا هو أصلح لأمرها- و لا ألم لشعثها من ألا تتباين أمورها- و قد أجمع رأيي و رأي صاحبي على خلع علي و معاوية- و أن يستقبل هذا الأمر- فيكون شورى بين المسلمين- يولون أمورهم من أحبوا- و إني قد خلعت عليا و معاوية- فاستقبلواأموركم و ولوا من رأيتموه لهذا الأمر أهلا- ثم تنحى- . فقام عمرو بن العاص في مقامه فحمد الله و أثنى عليه- ثم قال إن هذا قد قال ما سمعتم و خلع صاحبه- و أنا أخلع صاحبه كما خلعه- و أثبت صاحبي معاوية في الخلافة- فإنه ولي عثمان و الطالب بدمه- و أحق الناس بمقامه- . فقال له أبو موسى- ما لك لا وفقك الله قد غدرت و فجرت- إنما مثلك كمثل الكلب- إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث- فقال له عمرو- إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا- . و حمل شريح بن هانئ على عمرو فقنعه بالسوط- و حمل ابن عمرو على شريح فقنعه بالسوط- و قام الناس فحجزوا بينهما- فكان شريح يقول بعد ذلك- ما ندمت على شيء ندامتي- ألا أكون ضربت عمرا بالسيف بدل السوط- أتى الدهر بما أتى به- . و التمس أصحاب علي ع أبا موسى- فركب ناقته و لحق بمكة- و كان ابن عباس يقول قبح الله أبا موسى- لقد حذرته و هديته إلى الرأي فما عقل- و كان أبو موسى يقول- لقد حذرني ابن عباس غدرة الفاسق- و لكني اطمأننت إليه- و ظننت أنه لا يؤثر شيئا على نصيحة الأمة- . قال نصر و رجع عمرو إلى منزله من دومة الجندل- فكتب إلى معاوية-
أتتك الخلافة مزفوفة
هنيئا مريئا تقر العيونا
تزف إليك زفاف العروس
بأهون من طعنك الدارعينا
و ما الأشعري بصلد الزناد
و لا خامل الذكر في الأشعرينا
و لكن أتيحت له حية
يظل الشجاع لها مستكينا
فقالوا و قلت و كنت امرأ
أجهجه بالخصم حتى يلينا
فخذها ابن هند على بعدها
فقد دافع الله ما تحذرونا
و قد صرف الله عن شامكم
عدوا مبينا و حربا زبونا
قال نصر فقام سعد بن قيس الهمداني- و قال و الله لو اجتمعتما على الهدى- ما زدتمانا على ما نحن الآن عليه- و ما ضلالكما بلازم لنا و ما رجعتما إلا بما بدأتما به- و إنا اليوم لعلى ما كنا عليه أمس- . و قام كردوس بن هانئ مغضبا فقال-
ألا ليت من يرضى من الناس كلهم
بعمرو و عبد الله في لجة البحر
رضينا بحكم الله لا حكم غيره
و بالله ربا و النبي و بالذكر
و بالأصلع الهادي علي إمامنا
رضينا بذاك الشيخ في العسر و اليسر
رضينا به حيا و ميتا و إنه
إمام هدى في الحكم و النهي و الأمر
فمن قال لا قلنا بلى إن أمره
لأفضل ما نعطاه في ليلة القدر
و ما لابن هند بيعة في رقابنا
و ما بيننا غير المثقفة السمر
و ضرب يزيل الهام عن مستقره
و هيهات هيهات الرضا آخر الدهر
أبت لي أشياخ الأراقم سبة
أسب بها حتى أغيب في القبر
و تكلم يزيد بن أسد القسري و هو من قواد معاوية- فقال يا أهل العراق اتقوا الله- فإن أهون ما تردنا و إياكم إليه الحرب- ما كنا عليه بالأمس و هو الفناء- و قد شخصت الأبصار إلى الصلح- و أشرفت الأنفس على الفناء- و أصبح كل امرئ يبكي على قتيل- ما لكم رضيتم بأول أمر صاحبكم و كرهتم آخره- إنه ليس لكم وحدكم الرضا- . قال و قال بعض الأشعريين لأبي موسى-
أبا موسى خدعت و كنت شيخا
قريب القعر مدهوش الجنان
رمى عمرو صفاتك يا ابن قيس
بأمر لا تنوء به اليدان
و قد كنا نجمجم عن ظنون
فصرحت الظنون عن العيان
فعض الكف من ندم و ما ذا
يرد عليك عضك بالبنان
قال و شمت أهل الشام بأهل العراق- و قال كعب بن جعيل شاعر معاوية-
كأن أبا موسى عشية أذرح
يطوف بلقمان الحكيم يواربه
و لما تلاقوا في تراث محمد
نمت بابن هند في قريش مناسبه
سعى بابن عفان ليدرك ثأره
و أولى عباد الله بالثأر طالبه
و قد غشيتنا في الزبير غضاضة
و طلحة إذ قامت عليه نوادبه
فرد ابن هند ملكه في نصابه
و من غالب الأقدار فالله غالبه
و ما لابن هند من لؤي بن غالب
نظير و إن جاشت عليه أقاربه
فهذاك ملك الشام واف سنامه
و هذاك ملك القوم قد جب غاربه
يحاول عبد الله عمرا و إنه
ليضرب في بحر عريض مذاهبه
دحا دحوة في صدره فهوت به
إلى أسفل الجب الظنون كواذبه
قال نصر و كان علي ع لما خدع عمرو أبا موسى بالكوفة- كان قد دخلها منتظرا ما يحكم به الحكمان- فلما تم على أبي موسى ما تم من الحيلة- غم ذلك عليا و ساءه و وجم له- و خطب الناس فقال- الحمد لله و إن أتى الدهر بالخطب الفادح- و الحدث الجليل…- الخطبة التي ذكرها الرضي رحمه الله تعالى- و هي التي نحن في شرحها- و زاد في آخرها بعد الاستشهاد ببيت دريد- ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما- قد نبذا حكم الكتاب و أحييا ما أمات- و اتبع كل واحد منهما هواه- و حكم بغير حجة و لا بينة و لا سنة ماضية- و اختلفا فيما حكما- فكلاهما لم يرشد الله فاستعدوا للجهاد- و تأهبوا للمسير و أصبحوا في معسكركم يوم كذا
قال نصر فكان علي ع بعد الحكومة إذا صلى الغداة و المغرب- و فرغ من الصلاة و سلم قال- اللهم العن معاوية و عمرا و أبا موسى- و حبيب بن مسلمة و عبد الرحمن بن خالد- و الضحاك بن قيس و الوليد بن عقبة – فبلغ ذلك معاوية فكان إذا صلى لعن عليا- و حسنا و حسينا و ابن عباس- و قيس بن سعد بن عبادة و الأشتر- و زاد ابن ديزيل في أصحاب معاوية أبا الأعور السلمي- . و روى ابن ديزيل أيضا أن أبا موسى- كتب من مكة إلى علي ع أما بعد- فإني قد بلغني أنك تلعنني في الصلاة- و يؤمن خلفك الجاهلون- و إني أقول كما قال موسى ع- رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ- .
و روى ابن ديزيل عن وكيع عن فضل بن مرزوق عن عطية عن عبد الرحمن بن حبيب عن علي ع أنه قال يؤتى بي و بمعاوية يوم القيامة- فنجيء و نختصم عند ذي العرش- فأينا فلج فلج أصحابه
و روى أيضا عن عبد الرحمن بن نافع القارئ عن أبيه قال سئل علي ع عن قتلى صفين- فقال إنما الحساب علي و على معاوية
و روي أيضا عن الأعمش عن موسى بن طريف عن عباية قال سمعت عليا ع و هو يقول أنا قسيم النار هذا لي و هذا لك
و روي أيضا عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ص لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان- دعوتهما واحدة- فبينما هم كذلك مرقت منهم مارقة- يقتلهم أولى الطائفتين بالحق
قال إبراهيم بن ديزيل و حدثنا سعيد بن كثير- عن عفير قال حدثنا ابن لهيعة- عن ابن هبيرة عن حنش الصنعاني- قال جئت إلى أبي سعيد الخدري و قد عمي- فقلت أخبرني عن هذه الخوارج- فقال تأتوننا فنخبركم- ثم ترفعون ذلك إلى معاوية- فيبعث إلينا بالكلام الشديد- قال قلت أنا حنش فقال مرحبا بك يا حنش المصري- سمعت رسول الله ص يقول يخرج ناس يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم- يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية- ينظر أحدكم في نصله فلا يرى شيئا- فينظر في قذذه فلا يرى شيئا- سبق الفرث و الدم- يصلى بقتالهم أولى الطائفتين بالله – فقال حنش فإن عليا صلي بقتالهم- فقال أبو سعيد- و ما يمنع عليا أن يكون أولى الطائفتين بالله- . و ذكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في أماليه-
قال قال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد- حضرت الحكومة- فلما كان يوم الفصل جاء عبد الله بن عباس- فقعد إلى جانب أبي موسى و قد نشر أذنيه- حتى كاد أن ينطق بهما- فعلمت أن الأمر لا يتم لنا ما دام هناك- و أنه سيفسد على عمرو حيلته- فأعملت المكيدة في أمره- فجئت حتى قعدت عنده- و قد شرع عمرو و أبو موسى في الكلام- فكلمت ابن عباس كلمة استطعمته جوابها فلم يجب- فكلمته أخرى فلم يجب- فكلمته ثالثة فقال إني لفي شغل عن حوارك الآن- فجبهته و قلت يا بني هاشم- لا تتركون بأوكم و كبركم أبدا- أما و الله لو لا مكان النبوة لكان لي و لك شأن- قال فحمي و غضب و اضطرب فكره و رأيه- و أسمعني كلاما يسوء سماعه- فأعرضت عنه و قمت- فقعدت إلى جانب عمرو بن العاص- فقلت قد كفيتك التقوالة- إني قد شغلت باله بما دار بيني و بينه- فأحكم أنت أمرك-
قال فذهل- و الله ابن عباس عن الكلام الدائر بين الرجلين- حتى قام أبو موسى فخلع عليا- . و روى الزبير بن بكار في الموفقيات- و رواه جميع الناس ممن عني بنقل الآثار و السير- عن الحسن البصري قال- أربع خصال كن في معاوية- لو لم يكن فيه إلا واحدة منهن لكانت موبقة- انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء- حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم- و فيهم بقايا الصحابة و ذوو الفضيلة- و استخلافه بعده ابنه يزيد سكيرا خميرا- يلبس الحرير و يضرب بالطنابير و ادعاؤه زيادا- و قد قال رسول الله ص الولد للفراش و للعاهر الحجر
– و قتله حجر بن عدي و أصحابه- فيا ويله من حجر و أصحاب حجر- . و روى في الموفقيات أيضا الخبر الذي رواه المدائني- و قد ذكرناه آنفا من كلام ابن عباس لأبي موسى- و قوله إن الناس لم يرتضوك لفضل عندك لم تشارك فيه- و ذكر في آخره فقال بعض شعراء قريش-
و الله ما كلم الأقوام من بشر
بعد الوصي علي كابن عباس
أوصى ابن قيس بأمر فيه عصمته
لو كان فيها أبو موسى من الناس
إني أخاف عليه مكر صاحبه
أرجو رجاء مخوف شيب بالياس
و ذكر الزبير أيضا في الموفقيات- أن يزيد بن حجية التيمي- شهد الجمل و صفين و نهروان مع علي ع- ثم ولاه الري و دستبى- فسرق من أموالهما و لحق بمعاوية- و هجا عليا و أصحابه و مدح معاوية و أصحابه- فدعا عليه علي ع و رفع أصحابه أيديهم فأمنوا- و كتب إليه رجل من بني عمه كتابا يقبح إليه ما صنع- و كان الكتاب شعرا- فكتب يزيد بن حجية إليه- لو كنت أقول شعرا لأجبتك- و لكن قد كان منكم خلال ثلاث- لا ترون معهن شيئا مما تحبون- أما الأولى فإنكم سرتم إلى أهل الشام- حتى إذا دخلتم بلادهم و طعنتموهم بالرماح- و أذقتموهم ألم الجراح- رفعوا المصاحف فسخروا منكم و ردوكم عنهم- فو الله و و الله- لا دخلتموها بمثل تلك الشوكة و الشدة أبدا- و الثانية أن القوم بعثوا حكما و بعثتم حكما- فأما حكمهم فأثبتهم و أما حكمكم فخلعكم- و رجع صاحبهم يدعي أمير المؤمنين و رجعتم متضاغنين- و الثالثة أن قراءكم و فقهاءكم و فرسانكم خالفوكم- فعدوتم عليهم فقتلتموهم- ثم كتب في آخر الكتاب- بيتين لعفان بن شرحبيل التميمي-
أحببت أهل الشام من بين الملا
و بكيت من أسف على عثمان
أرضا مقدسة و قوما منهم
أهل اليقين و تابعو الفرقان
و ذكر أبو أحمد العسكري في كتاب الأمالي- أن سعد بن أبي وقاص دخل على معاوية عام الجماعة- فلم يسلم عليه بإمرة المؤمنين- فقال له معاوية لو شئت أن تقول في سلامك غير هذا لقلت- فقال سعد نحن المؤمنون و لم نؤمرك- كأنك قد بهجت بما أنت فيه يا معاوية- و الله ما يسرني ما أنت فيه و أني هرقت المحجمة دم- قال و لكني و ابن عمك عليا يا أبا إسحاق- قد هرقنا أكثر من محجمة و محجمتين- هلم فاجلس معي على السرير- فجلس معه فذكر له معاوية اعتزاله الحرب يعاتبه- فقال سعد- إنما كان مثلي و مثل الناس كقوم أصابتهم ظلمة- فقال واحد منهم لبعيره إخ فأناخ حتى أضاء له الطريق-
فقال معاوية و الله يا أبا إسحاق ما في كتاب الله إخ- و إنما فيه وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما- فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي- حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ- فو الله ما قاتلت الباغية و لا المبغي عليها فأفحمه- . و زاد ابن ديزيل في هذا الخبر زيادة- ذكرها في كتاب صفين- قال فقال سعد أ تأمرني أن أقاتل رجلا قال له رسول الله ص- : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي – فقال معاوية من سمع هذا معك- قال فلان و فلان و أم سلمة- فقال معاوية لو كنت سمعت هذا لما قاتلته
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 2