google-site-verification: googledc28cebad391242f.html
20-40 خطبه ها شرح ابن ابی الحدیدخطبه ها شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

خطبه 26 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

26 و من خطبة له ع
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّداً ص نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ- وَ أَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ- وَ أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وَ فِي شَرِّ دَارٍ- مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ وَ حَيَّاتٍ صُمٍّ- تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ وَ تَأْكُلُونَ الْجَشِبَ- وَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَ تَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ- الْأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ وَ الآْثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ

يجوز أن يعني بقوله بين حجارة خشن و حيات صم- الحقيقة لا المجاز- و ذلك أن البادية بالحجاز و نجد و تهامة- و غيرها من أرض العرب ذات حيات و حجارة خشن- و قد يعني بالحجارة الخشن الجبال أيضا أو الأصنام- فيكون داخلا في قسم الحقيقة إذا فرضناه مرادا- و يكون المعني بذلك وصف ما كانوا عليه- من البؤس و شظف العيشة و سوء الاختيار في العبادة- فأبدلهم الله تعالى بذلك الريف- و لين المهاد و عبادة من يستحق العبادة- . و يجوز أن يعني به المجاز و هو الأحسن- يقال للأعداء حيات- و الحية الصماء أدهى من التي ليست بصماء- لأنها لا تنزجر بالصوت- و يقال للعدو أيضا إنه لحجر خشن المس إذا كان ألد الخصام- . و الجشب من الطعام الغليظ الخشن- .

و قال أبو البختري وهب بن وهب القاضي- كنت عند الرشيد يوما و استدعى ماء مبردا بالثلج- فلم يوجد في الخزانة ثلج فاعتذر إليه بذلك- و أحضر إليه ماء غير مثلوج- فضرب وجه الغلام بالكوز و استشاط غضبا- فقلت له أقول يا أمير المؤمنين و أنا آمن- فقال قل قلت يا أمير المؤمنين- قد رأيت ما كان من الغير بالأمس- يعني زوال دولة بني أمية- و الدنيا غير دائمة و لا موثوق بها- و الحزم ألا تعود نفسك الترفه و النعمة- بل تأكل اللين و الجشب و تلبس الناعم و الخشن- و تشرب الحار و القار فنفحني بيده- و قال لا و الله لا أذهب إلى ما تذهب إليه- بل ألبس النعمة ما لبستني- فإذا نابت نوبة الدهر عدت إلى نصاب غير خوار- . و قوله و الآثام بكم معصوبة استعارة كأنها مشدودة إليهم- . و عنى بقوله تسفكون دماءكم و تقطعون أرحامكم- ما كانوا عليه في الجاهلية من الغارات و الحروب: وَ مِنْهَا فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي مُعِينٌ إِلَّا أَهْلُ بَيْتِي- فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَوْتِ- وَ أَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى وَ شَرِبْتُ عَلَى الشَّجَا- وَ صَبَرْتُ عَلَى أَخْذِ الْكَظَمِ- وَ عَلَى أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ الْعَلْقَمِ‏ الكظم بفتح الظاء مخرج النفس و الجمع أكظام- و ضننت بالكسر بخلت و أغضيت على كذا غضضت طرفي- و الشجا ما يعترض في الحلق

 

حديث السقيفة

 

اختلفت الروايات في قصة السقيفة- فالذي تقوله الشيعة و قد قال قوم من المحدثين بعضه و رووا كثيرا منه- أن عليا ع امتنع من البيعة حتى أخرج كرها- و أن الزبير بن العوام امتنع من البيعة و قال- لا أبايع إلا عليا ع- و كذلك أبو سفيان بن حرب- و خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس- و العباس بن عبد المطلب و بنوه- و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب و جميع بني هاشم- و قالوا إن الزبير شهر سيفه- فلما جاء عمر و معه جماعة من الأنصار و غيرهم- قال في جملة ما قال خذوا سيف هذا فاضربوا به الحجر- و يقال إنه أخذ السيف من يد الزبير- فضرب به حجرا فكسره- و ساقهم كلهم بين يديه إلى أبي بكر- فحملهم على بيعته و لم يتخلف إلا علي ع وحده- فإنه اعتصم ببيت فاطمة ع- فتحاموا إخراجه منه قسرا- و قامت فاطمة ع إلى باب البيت- فأسمعت من جاء يطلبه- فتفرقوا و علموا أنه بمفرده لا يضر شيئا فتركوه- . و قيل إنهم أخرجوه فيمن أخرج و حمل إلى أبي بكر فبايعه- و قد روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري كثيرا من هذا- . فأما حديث التحريق و ما جرى مجراه من الأمور الفظيعة- و قول من قال إنهم أخذوا عليا ع- يقاد بعمامته و الناس حوله- فأمر بعيد- و الشيعة تنفرد به- على أن جماعة من أهل الحديث قد رووا نحوه و سنذكر ذلك- .

 

و قال أبو جعفر إن الأنصار لما فاتها ما طلبت من الخلافة- قالت أو قال بعضها لا نبايع إلا عليا- و ذكر نحو هذا علي بن عبد الكريم- المعروف بابن الأثير الموصلي في تاريخه- .فأما قوله لم يكن لي معين إلا أهل بيتي- فضننت بهم عن الموت فقول ما زال علي ع يقوله- و لقد قاله عقيب وفاة رسول الله ص- قال لو وجدت أربعين ذوي عزم- . ذكر ذلك نصر بن مزاحم في كتاب صفين- و ذكره كثير من أرباب السيرة- . و أما الذي يقوله جمهور المحدثين و أعيانهم- فإنه ع امتنع من البيعة ستة أشهر و لزم بيته- فلم يبايع حتى ماتت فاطمة ع فلما ماتت بايع طوعا- . و في صحيحي مسلم و البخاري- كانت وجوه الناس إليه و فاطمة باقية بعد- فلما ماتت فاطمة ع انصرفت وجوه الناس عنه- و خرج من بيته فبايع أبا بكر- و كانت مدة بقائها بعد أبيها ع ستة أشهر- . و روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ- عن ابن عباس رضي الله عنه- قال قال لي عبد الرحمن بن عوف و قد حججنا مع عمر- شهدت اليوم أمير المؤمنين بمنى-

 

و قال له رجل إني سمعت فلانا يقول- لو قد مات عمر لبايعت فلانا- فقال عمر إني لقائم العشية في الناس أحذرهم- هؤلاء الرهط الذين يريدون أن‏ يغتصبوا الناس أمرهم- قال عبد الرحمن فقلت يا أمير المؤمنين- إن الموسم يجمع رعاع الناس و غوغاءهم- و هم الذين يقربون من مجلسك و يغلبون عليه- و أخاف أن تقول مقالة لا يعونها- و لا يحفظونها فيطيروا بها- و لكن أمهل حتى تقدم المدينة- و تخلص بأصحاب رسول الله- فتقول ما قلت متمكنا فيسمعوا مقالتك- فقال و الله لأقومن بها أول مقام أقومه بالمدينة- . قال ابن عباس- فلما قدمناها هجرت يوم الجمعة لحديث عبد الرحمن- فلما جلس عمر على المنبر حمد الله و أثنى عليه-

 

ثم قال بعد أن ذكر الرجم و حد الزناء- إنه بلغني أن قائلا منكم يقول- لو مات أمير المؤمنين بايعت فلانا- فلا يغرن امرأ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة- فلقد كانت كذلك و لكن الله وقى شرها- و ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق كأبي بكر- و إنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله ص- أن عليا و الزبير تخلفا عنا في بيت فاطمة و من معهما- و تخلفت عنا الأنصار و اجتمع المهاجرون إلى أبي بكر- فقلت له انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار- فانطلقنا نحوهم- فلقينا رجلان صالحان من الأنصار قد شهدا بدرا- أحدهما عويم بن ساعدة و الثاني معن بن عدي- فقالا لنا ارجعوا فاقضوا أمركم بينكم- فأتينا الأنصار و هم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة- و بين أظهرهم رجل مزمل- فقلت من هذا قالوا سعد بن عبادة وجع- فقام رجل منهم فحمد الله و أثنى عليه فقال- أما بعد فنحن الأنصار و كتيبة الإسلام- و أنتم يا معشر قريش رهط نبينا- قد دفت إلينا دافة من قومكم- فإذا أنتم تريدون أن تغصبونا الأمر- . فلما سكت- و كنت قد زورت في نفسي مقالة أقولها بين يدي أبي بكر- فلما ذهبت أتكلم- قال أبو بكر على رسلك- فقام فحمد الله و أثنى عليه- فما ترك شيئا كنت زورت في نفسي إلا جاء به- أو بأحسن منه- و قال يا معشر الأنصار- إنكم لا تذكرون فضلا إلا و أنتم له أهل- و إن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش- أوسط العرب دارا و نسبا- و قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين- و أخذ بيدي و يد أبي عبيدة بن الجراح- و الله ما كرهت من كلامه غيرها- إن كنت لأقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم- أحب إلى من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر- .

 

فلما قضى أبو بكر كلامه قام رجل من الأنصار- فقال أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب- منا أمير و منكم أمير-و ارتفعت الأصوات و اللغط- فلما خفت الاختلاف قلت لأبي بكر- ابسط يدك أبايعك- فبسط يده فبايعته و بايعه الناس- ثم نزونا على سعد بن عبادة- فقال قائلهم قتلتم سعدا- فقلت اقتلوه قتله الله- و أنا و الله ما وجدنا أمرا هو أقوى من بيعة أبي بكر- خشيت إن فارقت القوم- و لم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة- فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى- أو نخالفهم فيكون فساد- .

 

هذا حديث متفق عليه من أهل السيرة- و قد وردت الروايات فيه بزيادات- روى المدائني قال لما أخذ أبو بكر بيد عمر و أبي عبيدة- و قال للناس قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين- قال أبو عبيدة لعمر امدد يدك نبايعك- فقال عمر ما لك في الإسلام فهة غيرها- أ تقول هذا و أبو بكر حاضر- ثم قال للناس أيكم يطيب نفسا- أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله ص للصلاة- رضيك رسول الله ص لديننا أ فلا نرضاك لدنيانا- ثم مد يده إلى أبي بكر فبايعه- . و هذه الرواية هي التي ذكرها قاضي القضاة- رحمه الله تعالى في كتاب المغني- . و قال الواقدي في روايته في حكاية كلام عمر- و الله لأن أقدم فأنحر كما ينحر البعير- أحب إلى من أن أتقدم على أبي بكر- . و قال شيخنا أبو القاسم البلخي- قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ- إن الرجل الذي قال لو قد مات عمر لبايعت فلانا- عمار بن ياسر- قال لو قد مات عمر لبايعت عليا ع- فهذا القول هو الذي هاج عمر أن خطب بما خطب به- . و قال غيره من أهل الحديث- إنما كان المعزوم على بيعته لو مات عمر طلحة بن عبيد الله- .

 

فأما حديث الفلتة- فقد كان سبق من عمر أن قال إن بيعة أبي بكر كانت فلتة- وقى الله شرها- فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه- . و هذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس و عبد الرحمن بن عوف- فيه حديث الفلتة- و لكنه منسوق على ما قاله أولا- أ لا تراه يقول فلا يغرن امرأ أن يقول- إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فلقد كانت كذلك- فهذا يشعر بأنه قد كان قال من قبل- إن بيعة أبي بكر كانت فلتة- . و قد أكثر الناس في حديث الفلتة- و ذكرها شيوخنا المتكلمون- فقال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى- الفلتة ليست الزلة و الخطيئة بل هي البغتة- و ما وقع فجأة من غير روية و لا مشاورة- و استشهد بقول الشاعر-

 

من يأمن الحدثان بعد
صبيرة القرشي ماتا

 

سبقت منيته المشيب‏
و كان ميتته افتلاتا

 

يعني بغتة- . و قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى- ذكر الرياشي أن العرب تسمي آخر يوم من شوال فلتة- من حيث إن كل من لم يدرك ثأره فيه فاته- لأنهم كانوا إذا دخلوا في الأشهر الحرم لا يطلبون الثأر- و ذو القعدة من الأشهر الحرم- فسموا ذلك اليوم فلتة- لأنهم إذا أدركوا فيه ثأرهم- فقد أدركوا ما كان يفوتهم- فأراد عمر أن بيعة أبي بكر تداركها بعد أن كادت تفوت- . و قوله وقى الله شرها دليل على تصويب البيعة- لأن المراد بذلك أن الله تعالى دفع شر الاختلاف فيها- .
فأما قوله فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه- فالمراد من عاد إلى أن يبايع من غير مشاورة- و لا عدد يثبت صحة البيعة به- و لا ضرورة داعية إلى البيعة- ثم بسط يده على المسلمين يدخلهم في البيعة قهرا- فاقتلوه- . قال قاضي القضاة رحمه الله تعالى- و هل يشك أحد في تعظيم عمر لأبي بكر و طاعته إياه- و معلوم ضرورة من حال عمر إعظامه له- و القول بإمامته و الرضا بالبيعة و الثناء عليه- فكيف يجوز أن يترك ما يعلم ضرورة- لقول محتمل ذي وجوه و تأويلات- و كيف يجوز أن تحمل هذه اللفظة من عمر- على الذم و التخطئة و سوء القول- . و اعلم أن هذه اللفظة من عمر مناسبة للفظات كثيرة- كان يقولها بمقتضى ما جبله الله تعالى عليه- من غلظ الطينة و جفاء الطبيعة و لا حيلة له فيها- لأنه مجبول عليها لا يستطيع تغييرها- و لا ريب عندنا أنه كان يتعاطى أن يتلطف- و أن يخرج ألفاظه مخارج حسنة لطيفة- فينزع به الطبع الجاسي و الغريزة الغليظة- إلى أمثال هذه اللفظات و لا يقصد بها سوءا- و لا يريد بها ذما و لا تخطئة- كما قدمنا من قبل في اللفظة- التي قالها في مرض رسول الله ص- و كاللفظات التي قالها عام الحديبية و غير ذلك- و الله تعالى لا يجازي المكلف إلا بما نواه- و لقد كانت نيته من أطهر النيات- و أخلصها لله سبحانه و للمسلمين- و من أنصف علم أن هذا الكلام حق- و أنه يغني عن تأويل شيخنا أبي علي- .

و نحن من بعد نذكر ما قاله المرتضى رحمه الله تعالى- في كتاب الشافي لما تكلم في هذا الموضع- قال أما ما ادعي من العلم الضروري- برضا عمر ببيعة أبي بكر و إمامته- فالمعلوم ضرورة بلا شبهة أنه كان راضيا بإمامته- و ليس كل من رضي شيئا كان متدينا به- معتقدا لصوابه- فإن كثيرا من الناس يرضون بأشياء- من حيث كانت دافعة لما هو أضر منها- و إن كانوا لا يرونها صوابا- و لو ملكوا الاختيار لاختاروا غيرها- و قد علمنا أن معاوية كان راضيا ببيعة يزيد- و ولاية العهد له من بعده- و لم يكن متدينا بذلك و معتقدا صحته- و إنما رضي عمر ببيعة أبي بكر- من حيث كانت حاجزة عن بيعة أمير المؤمنين ع- و لو ملك الاختيار- لكان مصير الأمر إليه أسر في نفسه- و أقر لعينه- و إن ادعي أن المعلوم ضرورة- تدين عمر بإمامة أبي بكر- و أنه أولى بالإمامة منه- فهذا مدفوع أشد دفع- مع أنه قد كان يبدر من عمر في وقت بعد آخر- ما يدل على ما أوردناه- روى الهيثم بن عدي- من عبد الله بن عياش الهمداني عن سعيد بن جبير قال- ذكر أبو بكر و عمر عند عبد الله بن عمر- فقال رجل كانا و الله شمسي هذه الأمة و نوريها- فقال ابن عمر و ما يدريك-

 

قال الرجل أ و ليس قد ائتلفا- قال ابن عمر بل اختلفا لو كنتم تعلمون- أشهد أني كنت عند أبي يوما- و قد أمرني أن أحبس الناس عنه- فاستأذن عليه عبد الرحمن بن أبي بكر- فقال عمر دويبة سوء و لهو خير من أبيه- فأوحشني ذلك منه- فقلت يا أبت عبد الرحمن خير من أبيه- فقال و من ليس بخير من أبيه لا أم لك ائذن لعبد الرحمن- فدخل عليه فكلمه في الحطيئة الشاعر أن يرضى عنه- و قد كان عمر حبسه في شعر قاله- فقال عمر إن في الحطيئة أودا فدعني أقومه بطول حبسه- فألح عليه عبد الرحمن و أبى عمر- فخرج عبد الرحمن فأقبل علي أبي و قال- أ في غفلة أنت إلى يومك هذا- عما كان من تقدم أحيمق بني تيم علي و ظلمه لي- فقلت لا علم لي بما كان من ذلك- قال يا بني فما عسيت أن تعلم- فقلت و الله لهو أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم- قال إن ذلك لكذلك على رغم أبيك و سخطه- قلت يا أبت أ فلا تجلي عن فعله- بموقف في الناس تبين ذلك لهم- قال و كيف لي بذلك مع ما ذكرت- أنه أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم- إذن يرضخ رأس أبيك بالجندل- قال ابن عمر ثم تجاسر و الله فجسر- فما دارت الجمعة حتى قام خطيبا في الناس- فقال أيها الناس- إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها- فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه- .

 

و روى الهيثم بن عدي عن مجالد بن سعيد قال- غدوت يوما إلى الشعبي و أنا أريد أن أسأله عن شي‏ء- بلغني عن ابن مسعود أنه كان يقوله- فأتيته و هو في مسجد حيه و في المسجد قوم ينتظرونه- فخرج فتعرفت إليه و قلت أصلحك الله- كان ابن مسعود يقول ما كنت محدثا قوما حديثا- لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة قال نعم- كان ابن مسعود يقول ذلك- و كان ابن عباس يقوله أيضا- و كان عند ابن عباس دفائن علم يعطيها أهلها- و يصرفها عن غيرهم- فبينا نحن كذلك إذ أقبل رجل من الأزد- فجلس إلينا فأخذنا في ذكر أبي بكر و عمر- فضحك الشعبي و قال- لقد كان في صدر عمر ضب على أبي بكر- فقال الأزدي و الله ما رأينا و لا سمعنا برجل قط- كان أسلس قيادا لرجل
و لا أقول فيه بالجميل- من عمر في أبي بكر- فأقبل على الشعبي و قال هذا مما سألت عنه- ثم أقبل على الرجل و قال يا أخا الأزد- فكيف تصنع بالفلتة التي وقى الله شرها- أ ترى عدوا يقول في عدو- يريد أن يهدم ما بنى لنفسه في الناس- أكثر من قول عمر في أبي بكر- فقال الرجل سبحان الله- أنت تقول ذلك يا أبا عمرو- فقال الشعبي- أنا أقوله قاله عمر بن الخطاب على رءوس الأشهاد- فلمه أو دع- فنهض الرجل مغضبا- و هو يهمهم في الكلام بشي‏ء لم أفهمه- قال مجالد فقلت للشعبي- ما أحسب هذا الرجل- إلا سينقل عنك هذا الكلام إلى الناس و يبثه فيهم- قال إذن و الله لا أحفل به- و شي‏ء لم يحفل به عمر حين قام على رءوس الأشهاد- من المهاجرين و الأنصار- أحفل به أنا أذيعوه أنتم عني أيضا ما بدا لكم- .

 

و روى شريك بن عبد الله النخعي- عن محمد بن عمرو بن مرة عن أبيه- عن عبد الله بن سلمة عن أبي موسى الأشعري- قال حججت مع عمر- فلما نزلنا و عظم الناس خرجت من رحلي أريده- فلقيني المغيرة بن شعبة فرافقني- ثم قال أين تريد- فقلت أمير المؤمنين فهل لك قال نعم- فانطلقنا نريد رحل عمر- فإنا لفي طريقنا إذ ذكرنا تولى عمر و قيامه بما هو فيه- و حياطته على الإم و نهوضه بما قبله من ذلك- ثم خرجنا إلى ذكر أبي بكر- فقلت للمغيرة يا لك الخير- لقد كان أبو بكر مسددا في عمر- لكأنه ينظر إلى قيامه من بعده- و جده و اجتهاده و غنائه في الإسلام- فقال المغيرة لقد كان ذلك- و إن كان قوم كرهوا ولاية عمر ليزووها عنه- و ما كان لهم في ذلك من حظ- فقلت له لا أبا لك و من القوم الذين كرهوا ذلك لعمر- فقال المغيرة لله أنت- كأنك‏ لا تعرف هذا الحي من قريش- و ما خصوا به من الحسد- فو الله لو كان هذا الحسد يدرك بحساب- لكان لقريش تسعة أعشاره و للناس كلهم عشر- فقلت مه يا مغيرة فإن قريشا بانت بفضلها على الناس- فلم نزل في مثل ذلك حتى انتهينا إلى رحل عمر فلم نجده- فسألنا عنه فقيل قد خرج آنفا- فمضينا نقفو أثره حتى دخلنا المسجد- فإذا عمر يطوف بالبيت فطفنا معه- فلما فرغ دخل بيني و بين المغيرة- فتوكأ على المغيرة و قال من أين جئتما- فقلنا خرجنا نريدك يا أمير المؤمنين- فأتينا رحلك فقيل لنا خرج إلى المسجد فاتبعناك- فقال اتبعكما الخير ثم نظر المغيرة إلي و تبسم- فرمقه عمر فقال مم تبسمت أيها العبد-

 

فقال من حديث كنت أنا و أبو موسى فيه آنفا- في طريقنا إليك- قال و ما ذاك الحديث- فقصصنا عليه الخبر حتى بلغنا ذكر حسد قريش- و ذكر من أراد صرف أبي بكر عن استخلاف عمر- فتنفس الصعداء ثم قال ثكلتك أمك يا مغيرة- و ما تسعة أعشار الحسد بل و تسعة أعشار العشر- و في الناس كلهم عشر العشر- بل و قريش شركاؤهم أيضا فيه- و سكت مليا و هو يتهادى بيننا- ثم قال أ لا أخبركما بأحسد قريش كلها- قلنا بلى يا أمير المؤمنين- قال و عليكما ثيابكما قلنا نعم- قال و كيف بذلك و أنتما ملبسان ثيابكما- قلنا يا أمير المؤمنين و ما بال الثياب- قال خوف الإذاعة منها- قلنا له أ تخاف الإذاعة من الثياب أنت- و أنت من ملبس الثياب أخوف- و ما الثياب أردت قال هو ذاك- ثم انطلق و انطلقنا معه حتى انتهينا إلى رحله- فخلى أيدينا من يده- ثم قال لا تريما و دخل- فقلت للمغيرة لا أبا لك لقد عثرنا بكلامنا معه- و ما كنا فيه و ما نراه حبسنا إلا ليذاكرنا إياها- قال فإنا لكذلك إذ أخرج إذنه إلينا- فقال ادخلا- فدخلنا فوجدناه مستلقيا على برذعة برحل- فلما رآنا تمثل بقول كعب بن زهير-

 

لا تفش سرك إلا عند ذي ثقة
أولى و أفضل ما استودعت أسرارا
صدرا رحيبا و قلبا واسعا قمنا
ألا تخاف متى أودعت إظهارا

 

فعلمنا أنه يريد أن نضمن له كتمان حديثه- فقلت أنا له يا أمير المؤمنين الزمنا و خصنا و صلنا- قال بما ذا يا أخا الأشعرين- فقلت بإفشاء سرك و أن تشركنا في همتك- فنعم المستشاران نحن لك- قال إنكما كذلك فاسألا عما بدا لكما- ثم قام إلى الباب ليعلقه- فإذا الآذن الذي أذن لنا عليه في الحجرة- فقال امض عنا لا أم لك- فخرج و أغلق الباب خلفه- ثم أقبل علينا فجلس معنا- و قال سلا تخبرا- قلنا نريد أن يخبرنا أمير المؤمنين بأحسد قريش- الذي لم يأمن ثيابنا على ذكره لنا- فقال سألتما عن معضلة و سأخبركما- فليكن عندكما في ذمة منيعة و حرز ما بقيت- فإذا مت فشأنكما و ما شئتما من إظهار أو كتمان- قلنا فإن لك عندنا ذلك- قال أبو موسى و أنا أقول في نفسي- ما يريد إلا الذين كرهوا استخلاف أبي بكر له- كطلحة و غيره- فإنهم قالوا لأبي بكر أ تستخلف علينا فظا غليظا- و إذا هو يذهب إلى غير ما في نفسي- فعاد إلى التنفس ثم قال من تريانه-

 

قلنا و الله ما ندري إلا ظنا- قال و ما تظنان- قلنا عساك تريد القوم الذين أرادوا أبا بكر- على صرف هذا الأمر عنك- قال كلا و الله بل كان أبو بكر أعق- و هو الذي سألتما عنه كان و الله أحسد قريش كلها- ثم أطرق طويلا فنظر المغيرة إلي و نظرت إليه- و أطرقنا مليا لإطراقه و طال السكوت منا و منه- حتى ظننا أنه قد ندم على ما بدا منه- ثم قال وا لهفاه على ضئيل بني تيم بن مرة- لقد تقدمني ظالما و خرج إلي منها آثما- فقال المغيرة- أما تقدمه عليك يا أمير المؤمنين ظالما فقد عرفناه- كيف خرج إليك منها آثما- قال ذاك لأنه لم يخرج إلي منها إلا بعد يأس منها- أما و الله لو كنت أطعت يزيد بن الخطاب و أصحابه- لم يتلمظ من حلاوتها بشي‏ء أبدا- و لكني قدمت و أخرت و صعدت و صوبت- و نقضت و أبرمت- فلم أجد إلا الإغضاء على ما نشب به منها و التلهف على نفسي- و أملت إنابته و رجوعه- فو الله ما فعل حتى نغر بها بشما-
قال المغيرة فما منعك منها يا أمير المؤمنين- و قد عرضك لها يوم السقيفة بدعائك إليها- ثم أنت الآن تنقم و تتأسف- قال ثكلتك أمك يا مغيرة- إني كنت لأعدك من دهاة العرب- كأنك كنت غائبا عما هناك- إن الرجل ماكرني فماكرته و ألفاني أحذر من قطاة- إنه لما رأى شغف الناس به و إقبالهم بوجوههم عليه- أيقن أنهم لا يريدون به بدلا- فأحب لما رأى من حرص الناس عليه- و ميلهم إليه أن يعلم ما عندي- و هل تنازعني نفسي إليها- و أحب أن يبلوني بإطماعي فيها و التعريض لي بها- و قد علم و علمت لو قبلت ما عرضه علي- لم يجب الناس إلى ذلك- فألفاني قائما على أخمصي مستوفزا حذرا- و لو أجبته إلى قبولها لم يسلم الناس إلي ذلك- و اختبأها ضغنا علي في قلبه و لم آمن غائلته و لو بعد حين- مع ما بدا لي من كراهة الناس لي- أ ما سمعت نداءهم من كل ناحية عند عرضها علي- لا نريد سواك يا أبا بكر أنت لها- فرددتها إليه عند ذلك- فلقد رأيته التمع وجهه لذلك سرورا- و لقد عاتبني مرة على كلام بلغه عني- و ذلك لما قدم عليه بالأشعث أسيرا- فمن عليه و أطلقه و زوجه أخته أم فروة- فقلت للأشعث و هو قاعد بين يديه- يا عدو الله أ كفرت بعد إسلامك- و ارتددت ناكصا على عقبيك- فنظر إلي نظرا علمت أنه يريد أن يكلمني بكلام في نفسه- ثم لقيني بعد ذلك في سكك المدينة- فقال لي أنت صاحب الكلام يا ابن الخطاب- فقلت نعم يا عدو الله و لك عندي شر من ذلك- فقال بئس الجزاء هذا لي منك- قلت و علام تريد مني حسن الجزاء-

 

قال لأنفتي لك من اتباع هذا الرجل- و الله ما جرأني على الخلاف عليه إلا تقدمه عليك- و تخلفك عنها- و لو كنت صاحبها لما رأيت مني خلافا عليك- قلت لقد كان ذلك فما تأمر الآن- قال إنه ليس بوقت أمر بل وقت صبر و مضى و مضيت- و لقي الأشعث الزبرقان بن بدر- فذكر له ما جرى بيني و بينه فنقل ذلك إلى أبي بكر- فأرسل إلي بعتاب مؤلم- فأرسلت إليه أما و الله لتكفن أو لأقولن- كلمة بالغة بي و بك في الناس- تحملها الركبان حيث ساروا- و إن شئت استدمنا ما نحن فيه عفوا- فقال بل نستديمه و إنها لصائرة إليك بعد أيام- فظننت أنه لا يأتي عليه جمعة حتى يردها علي فتغافل- و الله ما ذاكرني بعد ذلك حرفا حتى هلك- . و لقد مد في أمدها عاضا على نواجذه حتى حضره الموت- و أيس منها فكان منه ما رأيتما- فاكتما ما قلت لكما عن الناس كافة و عن بني هاشم خاصة- و ليكن منكما بحيث أمرتكما- قوما إذا شئتما على بركة الله فقمنا و نحن نعجب من قوله- فو الله ما أفشينا سره حتى هلك- .

 

قال المرتضى- و ليس في طعن عمر على أبي بكر ما يؤدي إلى فساد خلافته- إذ له أن يثبت إمامة نفسه بالإجماع- لا بنص أبي بكر عليه- و أما الفلتة فإنها و إن كانت محتملة للبغتة- كما قاله أبو علي رحمه الله تعالى- إلا أن قوله وقى الله شرها- يخصصها بأن مخرجها مخرج الذم- و كذلك قوله فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه- و قوله المراد وقى الله شر الاختلاف فيها عدول عن الظاهر- لأن الشر في الكلام مضاف إليها دون غيرها- و أبعد من هذا التأويل قوله- إن المراد من عاد إلى مثلها من غير ضرورة- و أكره المسلمين عليها فاقتلوه- لأن ما جرى هذا المجرى- لا يكون مثلا لبيعة أبي بكر عندهم- لأن كل ذلك ما جرى فيها على مذاهبهم- و قد كان يجب على هذا أن يقول- فمن عاد إلى خلافها فاقتلوه- . و ليس له أن يقول إنما أراد بالمثل وجها واحدا- و هو وقوعها من غير مشاورة- لأن ذلك إنما تم في أبي بكر خاصة- بظهور أمره و اشتهار فضله- و لأنهم بادروا إلى العقد خوفا من الفتنة- و ذلك لأنه غير منكر أن يتفق- من ظهور فضل غير أبي بكر- و اشتهار أمره و خوف الفتنة- ما اتفق لأبي بكر- فلا يستحق قتلا و لا ذما- على أن قوله مثلها- يقتضي وقوعها على الوجه الذي وقعت عليه- فكيف يكون ما وقع من غير مشاورة- لضرورة داعية و أسباب موجبة- مثلا لما وقع بلا مشاورة و من غير ضرورة و لا أسباب- و الذي رواه عن أهل اللغة- من أن آخر يوم من شوال يسمى فلتة- من حيث إن من لم يدرك فيه الثأر- فإنه قول لا نعرفه- و الذي نعرفه- أنهم يسمون الليلة التي ينقضي بها آخر الأشهر الحرم- و يتم فلتة و هي آخر ليلة من ليالي الشهر- لأنه ربما رأى الهلال قوم لتسع و عشرين- و لم يبصره الباقون- فيغير هؤلاء على أولئك و هم غارون- فلهذا سميت تلك الليلة فلتة- على أنا قد بينا أن مجموع الكلام- يقتضي ما ذكرناه من المعنى- لو سلم له ما رواه عن أهل اللغة في احتمال هذه اللفظة- .

 

قال و قد ذكر صاحب كتاب العين- أن الفلتة الأمر الذي يقع على غير إحكام- فقد صح أنها موضوعة في اللغة لهذا- و إن جاز ألا تختص به بل تكون لفظة مشتركة- . و بعد فلو كان عمر لم يرد بقوله توهين بيعة أبي بكر- بل أراد ما ظنه المخالفون- لكان ذلك عائدا عليه بالنقص- لأنه وضع كلامه في غير موضعه- و أراد شيئا فعبر عن خلافه- فليس يخرج هذا الخبر من أن يكون طعنا على أبي بكر- إلا بأن يكون طعنا على عمر- .

 

و اعلم أنه لا يبعد أن يقال- إن الرضا و السخط و الحب و البغض و ما شاكل ذلك- من الأخلاق النفسانية و إن كانت أمورا باطنة- فإنها قد تعلم و يضطر الحاضرون إلى تحصيلها- بقرائن أحوال تفيدهم العلم الضروري- كما يعلم خوف الخائف و سرور المبتهج- و قد يكون الإنسان عاشقا لآخر- فيعلم المخالطون لهما ضرورة أنه يعشقه- لما يشاهدونه من قرائن الأحوال- و كذلك يعلم من قرائن أحوال العابد المجتهد في العبادة- و صوم الهواجر و ملازمة الأوراد و سهر الليل- أنه يتدين بذلك- فغير منكر أن يقول قاضي القضاة رحمه الله تعالى- إن المعلوم ضرورة من حال عمر تعظيم أبي بكر- و رضاه بخلافته و تدينه بذلك- فالذي اعترضه رحمه الله تعالى به غير وارد عليه- و أما الأخبار التي رواها عن عمر فأخبار غريبة- ما رأيناها في الكتب المدونة- و ما وقفنا عليها إلا من كتاب المرتضى- و كتاب آخر يعرف بكتاب المسترشد- لمحمد بن جرير الطبري- و ليس هو محمد بن جرير صاحب التاريخ- بل هو من رجال الشيعة- و أظن أن أمه من بني جرير من مدينة آمل طبرستان- و بنو جرير الآمليون شيعة مستهترون بالتشيع- فنسب إلى أخواله- و يدل على ذلك شعر مروي له و هو-

 

بآمل مولدي و بنو جرير
فأخوالي و يحكي المرء خاله‏

 

فمن يك رافضيا عن أبيه‏
فإني رافضي عن كلاله‏
و أنت تعلم حال الأخبار الغريبة- التي لا توجد في الكتب المدونة كيف هي- فأما إنكاره ما ذكره شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى- من أن الفلتة هي آخر يوم من شوال- و قوله إنا لا نعرفه- فليس الأمر كذلك بل هو تفسير صحيح- ذكره الجوهري في كتاب الصحاح- قال الفلتة آخر ليلة من كل شهر- و يقال هي آخر يوم من الشهر الذي بعده الشهر الحرام- و هذا يدل على أن آخر يوم من شوال يسمى فلتة- و كذلك آخر يوم من جمادى الآخرة- و إنما التفسير الذي ذكره المرتضى- غير معروف عند أهل اللغة- . و أما ما ذكره من إفساد حمل الفلتة في الخبر- على هذه الوجوه المتأولة فجيد- إلا أن الإنصاف أن عمر لم يخرج الكلام- مخرج الذم لأمر أبي بكر- و إنما أراد باللفظة محض حقيقتها في اللغة- ذكر صاحب الصحاح- أن الفلتة الأمر الذي يعمل فجأة- من‏ غير تردد و لا تدبر- و هكذا كانت بيعة أبي بكر- لأن الأمر لم يكن فيها شورى بين المسلمين- و إنما وقعت بغتة لم تمحص فيها الآراء- و لم يتناظر فيها الرجال- و كانت كالشي‏ء المستلب المنتهب- و كان عمر يخاف أن يموت عن غير وصية أو يقتل قتلا- فيبايع أحد من المسلمين بغتة كبيعة أبي بكر- فخطب بما خطب به و قال معتذرا- إلا أنه ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق كأبي بكر- .

 

و أيضا قول المرتضى- قد يتفق من ظهور فضل غير أبي بكر و خوف الفتنة- مثل ما اتفق لأبي بكر- فلا يستحق القتل- فإن لقائل أن يقول- إن عمر لم يخاطب بهذا إلا أهل عصره- و كان هو رحمه الله يذهب إلى أنه ليس فيهم كأبي بكر- و لا من يحتمل له أن يبايع فلتة- كما احتمل ذلك لأبي بكر- فإن اتفق أن يكون في عصر آخر بعد عصره من يظهر فضله- و يكون في زمانه كأبي بكر في زمانه- فهو غير داخل في نهي عمر و تحريمه- . و اعلم أن الشيعة لم تسلم لعمر- أن بيعة أبي بكر كانت فلتة- قال محمد بن هانئ المغربي-

 

و لكن أمرا كان أبرم بينهم
و إن قال قوم فلتة غير مبرم‏

 

و قال آخر-

 

زعموها فلتة فاجئة
لا و رب البيت و الركن المشيد

 

إنما كانت أمورا نسجت‏
بينهم أسبابها نسج البرود

 

و روى أبو جعفر أيضا في التاريخ- أن رسول الله ص لما قبض- اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة- و أخرجوا سعد بن عبادة ليولوه الخلافة- و كان‏ مريضا- فخطبهم و دعاهم إلى إعطائه الرئاسة و الخلافة فأجابوه- ثم ترادوا الكلام فقالوا فإن أبى المهاجرون- و قالوا نحن أولياؤه و عترته- فقال قوم من الأنصار نقول منا أمير و منكم أمير- فقال سعد فهذا أول الوهن- و سمع عمر الخبر فأتى منزل رسول الله ص و فيه أبو بكر- فأرسل إليه أن اخرج إلي فأرسل أني مشغول- فأرسل إليه عمر أن اخرج- فقد حدث أمر لا بد أن تحضره- فخرج فأعلمه الخبر فمضيا مسرعين نحوهم- و معهما أبو عبيدة- فتكلم أبو بكر- فذكر قرب المهاجرين من رسول الله ص- و أنهم أولياؤه و عترته- ثم قال نحن الأمراء و أنتم الوزراء- لا نفتات عليكم بمشورة و لا نقضي دونكم الأمور- .

 

فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال- يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم- فإن الناس في ظلكم- و لن يجترئ مجترئ على خلافكم- و لا يصدر أحد إلا عن رأيكم- أنتم أهل العزة و المنعة و أولو العدد و الكثرة- و ذوو البأس و النجدة- و إنما ينظر الناس ما تصنعون- فلا تختلفوا فتفسد عليكم أموركم- فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم- فمنا أمير و منهم أمير- . فقال عمر هيهات لا يجتمع سيفان في غمد- و الله لا ترضى العرب أن تؤمركم و نبيها من غيركم- و لا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة منهم- من ينازعنا سلطان محمد و نحن أولياؤه و عشيرته- . فقال الحباب بن المنذر- يا معشر الأنصار املكوا أيديكم- و لا تسمعوا مقالة هذا و أصحابه- فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر- فإن أبوا عليكم فأجلوهم من هذه البلاد- فأنتم أحق بهذا الأمر منهم- فإنه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين- أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب- أنا أبو شبل في عريسة الأسد- و الله إن شئتم لنعيدنها جذعة- . فقال عمر إذن يقتلك الله قال بل إياك يقتل- . فقال أبو عبيدة يا معشر الأنصار- إنكم أول من نصر و آزر- فلا تكونوا أول من بدل و غير- . فقام بشير بن سعد والد النعمان بن بشير- فقال يا معشر الأنصار- ألا إن محمدا من قريش و قومه أولى به- و ايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر- .

 

 

فقال أبو بكر هذا عمر و أبو عبيدة بايعوا أيهما شئتم- فقالا و الله لا نتولى هذا الأمر عليك- و أنت أفضل المهاجرين- و خليفة رسول الله ص في الصلاة و هي أفضل الدين- ابسط يدك- فلما بسط يده ليبايعاه- سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه- فناداه الحباب بن المنذر يا بشير- عققت عقاق أ نفست على ابن عمك الإمارة- . فقال أسيد بن حضير رئيس الأوس لأصحابه- و الله لئن لم تبايعوا- ليكونن للخزرج عليكم الفضيلة أبدا- فقاموا فبايعوا أبا بكر- . فانكسر على سعد بن عبادة و الخزرج ما اجتمعوا عليه- و أقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب- ثم حمل سعد بن عبادة إلى داره- فبقي أياما و أرسل إليه أبو بكر ليبايع- فقال لا و الله حتى أرميكم بما في كنانتي- و أخضب سنان رمحي و أضرب بسيفي ما أطاعني- و أقاتلكم بأهل بيتي و من تبعني- و لو اجتمع معكم الجن و الإنس- ما بايعتكم حتى أعرض على ربي- . فقال عمر لا تدعه حتى يبايع- فقال بشير بن سعد إنه قد لج- و ليس بمبايع لكم‏ حتى يقتل- و ليس بمقتول حتى يقتل معه أهله و طائفة من عشيرته- و لا يضركم تركه- إنما هو رجل واحد فتركوه- .

 

و جاءت أسلم فبايعت- فقوي بهم جانب أبي بكر و بايعه الناس- . و في كتب غريب الحديث في تتمة كلام عمر- فأيما رجل بايع رجلا بغير مشورة من الناس- فلا يؤمر واحد منهما تغرة أن يقتلا- . قالوا غرر تغريرا و تغرة- كما قالوا حلل تحليلا و تحلة و علل تعليلا و تعلة- و انتصب تغرة هاهنا لأنه مفعول له- و معنى الكلام أنه إذا بايع واحد لآخر بغتة عن غير شورى- فلا يؤمر واحد منهما- لأنهما قد غررا بأنفسهما تغرة و عرضاهما لأن تقتلا- . و روى جميع أصحاب السيرة- أن رسول الله ص لما توفي كان أبو بكر في منزله بالسنح- فقال عمر بن الخطاب فقال- ما مات رسول الله ص و لا يموت- حتى يظهر دينه على الدين كله- و ليرجعن فليقطعن أيدي رجال و أرجلهم- ممن أرجف بموته- لا أسمع رجلا يقول مات رسول الله إلا ضربته بسيفي- فجاء أبو بكر و كشف عن وجه رسول الله ص- و قال بأبي و أمي طبت حيا و ميتا- و الله لا يذيقك الله الموتتين أبدا- ثم خرج و الناس حول عمر-

 

و هو يقول لهم إنه لم يمت و يحلف- فقال له أيها الحالف على رسلك- ثم قال من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات- و من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت- قال الله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ- و قال أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ- قال عمر فو الله‏ ما ملكت نفسي حيث سمعتها- أن سقطت إلى الأرض- و علمت أن رسول الله ص قد مات- و قد تكلمت الشيعة في هذا الموضع- و قالوا إنه بلغ من قلة علمه- أنه لم يعلم أن الموت يجوز على رسول الله ص- و أنه أسوة الأنبياء في ذلك- و قال لما تلا أبو بكر الآيات أيقنت الآن بوفاته- كأني لم أسمع هذه الآية- فلو كان يحفظ القرآن أو يتفكر فيه ما قال ذلك- و من هذه حاله لا يجوز أن يكون إماما- .
و أجاب قاضي القضاة رحمه الله تعالى في المغني عن هذا- فقال إن عمر لم يمنع من جواز موته ع- و لا نفى كونه ممكنا- و لكنه تأول في ذلك قوله تعالى- هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ- لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ- و قال كيف يموت و لم يظهر ص على الدين كله- فقال أبو بكر إذا ظهر دينه فقد ظهر هو- و سيظهر دينه بعد وفاته- . فحمل عمر قوله تعالى أَ فَإِنْ ماتَ على تأخر الموت- لا على نفيه بالكلية- قال و لا يجب فيمن ذهل عن بعض أحكام القرآن- ألا يحفظ القرآن- لأن الأمر لو كان كذلك- لوجب ألا يحفظ القرآن إلا من عرف جميع أحكامه- على أن حفظ جميع القرآن غير واجب- و لا يقدح الإخلال به في الفضل- .

 

و اعترض المرتضى رحمه الله تعالى في كتاب الشافي- هذا الكلام- فقال لا يخلو خلاف عمر في وفاة رسول الله ص- من أن يكون على سبيل الإنكار لموته على كل حال- و الاعتقاد أن الموت لا يجوز عليه على كل وجه- أو يكون منكرا لموته في‏ تلك الحال- من حيث لم يظهر على الدين كله- فإن كان الأول فهو مما لا يجوز خلاف عاقل فيه- و العلم بجواز الموت على جميع البشر ضروري- و ليس يحتاج في حصول هذا العلم إلى تلاوة الآيات- التي تلاها أبو بكر- و إن كان الثاني- فأول ما فيه أن هذا الاختلاف- لا يليق بما احتج به أبو بكر عليه من قوله إِنَّكَ مَيِّتٌ- لأن عمر لم ينكر على هذا الوجه جواز الموت عليه و صحته- و إنما خالف في وقته- فكان يجب أن يقول لأبي بكر- و أي حجة في هذه الآيات علي- فإني لم أمنع جواز موته- و إنما منعت وقوع موته الآن و جوزته في المستقبل- و الآيات إنما تدل على جواز الموت فقط- لا على تخصيصه بحال معينة- .

 

و بعد فكيف دخلت هذه الشبهة البعيدة على عمر- من بين سائر الخلق- و من أين زعم أنه سيعود فيقطع أيدي رجال و أرجلهم- و كيف لم يحصل له من اليقين لما رأى من الواعية- و كآبة الخلق و إغلاق الباب و صراخ النساء- ما يدفع به ذلك الوهم و الشبهة البعيدة- فلم يحتج إلى موقف- . و بعد فيجب إن كانت هذه شبهته- أن يقول في مرض النبي ص- و قد رأى جزع أهله و خوفهم عليه الموت- و قول أسامة صاحب الجيش- لم أكن لأرحل و أنت هكذا و أسأل عنك الركب- يا هؤلاء لا تخافوا و لا تجزعوا و لا تخف أنت يا أسامة- فإن رسول الله ص لا يموت الآن- لأنه لم يظهر على الدين كله- . و بعد فليس هذا من أحكام الكتاب- التي يعذر من لا يعرفها على ما ظن المعتذر له- . و نحن نقول إن عمر كان أجل قدرا- من أن يعتقد ما ظهر عنه في هذه الواقعة-
و لكنه لما علم أن رسول الله ص قد مات- خاف من وقوع فتنة في الإمامة و تقلب أقوام عليها- إما من الأنصار أو غيرهم- و خاف أيضا من حدوث ردة و رجوع عن الإسلام- فإنه كان ضعيفا بعد لم يتمكن- و خاف من ترات تشن و دماء تراق- فإن أكثر العرب كان موتورا في حياة رسول الله ص- لقتل من قتل أصحابه منهم- و في مثل ذلك الحال تنتهز الفرصة و تهتبل الغرة- فاقتضت المصلحة عنده تسكين الناس- بأن أظهر ما أظهره من كون رسول الله ص لم يمت- و أوقع تلك الشبهة في قلوبهم- فكسر بها شرة كثير منهم و ظنوها حقا- فثناهم بذلك عن حادث يحدثونه- تخيلا منهم أن رسول الله ص ما مات- و إنما غاب كما غاب موسى عن قومه- و هكذا كان عمر يقول لهم- إنه قد غاب عنكم كما غاب موسى عن قومه- و ليعودن فليقطعن أيدي قوم أرجفوا بموته- .

 

 

و مثل هذا الكلام يقع في الوهم- فيصد عن كثير من العزم- أ لا ترى أن الملك إذا مات في مدينة- وقع فيها في أكثر الأمر نهب و فساد و تحريق- و كل من في نفسه حقد على آخر بلغ منه غرضه- إما بقتل أو جرح أو نهب مال- إلى أن تتمهد قاعدة الملك الذي يلي بعده- فإذا كان في المدينة وزير حازم الرأي- كتم موت الملك و سجن قوما ممن أرجف نداء بموته- و أقام فيهم السياسة و أشاع أن الملك حي- و أن أوامره و كتبه نافذة- و لا يزال يلزم ذلك الناموس- إلى أن يمهد قاعدة الملك للوالي بعده- و كذلك عمر أظهر ما أظهر حراسة للدين و الدولة- إلى أن جاء أبو بكر و كان غائبا بالسنح- و هو منزل بعيد عن المدينة- فلما اجتمع بأبي بكر قوي به جأشه و اشتد به أزره- و عظم طاعة الناس له و ميلهم إليه- فسكت حينئذ عن تلك الدعوى التي كان ادعاها- لأنه قد أمن بحضور أبي بكر من خطب يحدث- أو فساد يتجدد- و كان أبو بكر محببا إلى الناس لا سيما المهاجرين- .

 

 

و يجوز عند الشيعة و عند أصحابنا أيضا- أن يقول الإنسان كلاما ظاهر الكذب على جهة المعاريض- فلا وصمة على عمر إذا كان حلف أن رسول الله ص لم يمت- و لا وصمة عليه في قوله بعد حضور أبي بكر و تلاوة ما تلا- كأني لم أسمعها أو قد تيقنت الآن وفاته ص- لأنه أراد بهذا القول الأخير تشييد القول الأول- و كان هو الصواب- و كان من سيئ الرأي و قبيحه أن يقول- إنما قلته تسكينا لكم و لم أقله عن اعتقاد- فالذي بدا به حسن و صواب- و الذي ختم به أحسن و أصوب- . و روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري- في كتاب السقيفة عن عمر بن شبة- عن محمد بن منصور عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار- قال كان النبي ص قد بعث أبا سفيان ساعيا- فرجع من سعايته و قد مات رسول الله ص- فلقيه قوم فسألهم فقالوا مات رسول الله ص- فقال من ولي بعده قيل أبو بكر- قال أبو فصيل قالوا نعم- قال فما فعل المستضعفان علي و العباس- أما و الذي نفسي بيده‏ لا تعرف هذا الحي من قريش- و ما خصوا به من الحسد- فو الله لو كان هذا الحسد يدرك بحساب- لكان لقريش تسعة أعشاره و للناس كلهم عشر- فقلت مه يا مغيرة فإن قريشا بانت بفضلها على الناس- فلم نزل في مثل ذلك حتى انتهينا إلى رحل عمر فلم نجده- فسألنا عنه فقيل قد خرج آنفا- فمضينا نقفو أثره حتى دخلنا المسجد- فإذا عمر يطوف بالبيت فطفنا معه- فلما فرغ دخل بيني و بين المغيرة- فتوكأ على المغيرة و قال من أين جئتما- فقلنا خرجنا نريدك يا أمير المؤمنين- فأتينا رحلك فقيل لنا خرج إلى المسجد فاتبعناك- فقال اتبعكما الخير ثم نظر المغيرة إلي و تبسم- فرمقه عمر فقال مم تبسمت أيها العبد-

 

فقال من حديث كنت أنا و أبو موسى فيه آنفا- في طريقنا إليك- قال و ما ذاك الحديث- فقصصنا عليه الخبر حتى بلغنا ذكر حسد قريش- و ذكر من أراد صرف أبي بكر عن استخلاف عمر- فتنفس الصعداء ثم قال ثكلتك أمك يا مغيرة- و ما تسعة أعشار الحسد بل و تسعة أعشار العشر- و في الناس كلهم عشر العشر- بل و قريش شركاؤهم أيضا فيه- و سكت مليا و هو يتهادى بيننا- ثم قال أ لا أخبركما بأحسد قريش كلها- قلنا بلى يا أمير المؤمنين- قال و عليكما ثيابكما قلنا نعم- قال و كيف بذلك و أنتما ملبسان ثيابكما- قلنا يا أمير المؤمنين و ما بال الثياب- قال خوف الإذاعة منها- قلنا له أ تخاف الإذاعة من الثياب أنت- و أنت من ملبس الثياب أخوف- و ما الثياب أردت قال هو ذاك- ثم انطلق و انطلقنا معه حتى انتهينا إلى رحله- فخلى أيدينا من يده- ثم قال لا تريما و دخل- فقلت للمغيرة لا أبا لك لقد عثرنا بكلامنا معه- و ما كنا فيه و ما نراه حبسنا إلا ليذاكرنا إياها- قال فإنا لكذلك إذ أخرج إذنه إلينا- فقال ادخلا- فدخلنا فوجدناه مستلقيا على برذعة برحل- فلما رآنا تمثل بقول كعب بن زهير-
لا تفش سرك إلا عند ذي ثقة
أولى و أفضل ما استودعت أسرارا

 

صدرا رحيبا و قلبا واسعا قمنا
ألا تخاف متى أودعت إظهارا
فعلمنا أنه يريد أن نضمن له كتمان حديثه- فقلت أنا له يا أمير المؤمنين الزمنا و خصنا و صلنا- قال بما ذا يا أخا الأشعرين- فقلت بإفشاء سرك و أن تشركنا في همتك- فنعم المستشاران نحن لك- قال إنكما كذلك فاسألا عما بدا لكما- ثم قام إلى الباب ليعلقه- فإذا الآذن الذي أذن لنا عليه في الحجرة- فقال امض عنا لا أم لك- فخرج و أغلق الباب خلفه- ثم أقبل علينا فجلس معنا- و قال سلا تخبرا- قلنا نريد أن يخبرنا أمير المؤمنين بأحسد قريش- الذي لم يأمن ثيابنا على ذكره لنا- فقال سألتما عن معضلة و سأخبركما- فليكن عندكما في ذمة منيعة و حرز ما بقيت- فإذا مت فشأنكما و ما شئتما من إظهار أو كتمان-

 

قلنا فإن لك عندنا ذلك- قال أبو موسى و أنا أقول في نفسي- ما يريد إلا الذين كرهوا استخلاف أبي بكر له- كطلحة و غيره- فإنهم قالوا لأبي بكر أ تستخلف علينا فظا غليظا- و إذا هو يذهب إلى غير ما في نفسي- فعاد إلى التنفس ثم قال من تريانه- قلنا و الله ما ندري إلا ظنا- قال و ما تظنان- قلنا عساك تريد القوم الذين أرادوا أبا بكر- على صرف هذا الأمر عنك- قال كلا و الله بل كان أبو بكر أعق- و هو الذي سألتما عنه كان و الله أحسد قريش كلها- ثم أطرق طويلا فنظر المغيرة إلي و نظرت إليه- و أطرقنا مليا لإطراقه و طال السكوت منا و منه- حتى ظننا أنه قد ندم على ما بدا منه- ثم قال وا لهفاه على ضئيل بني تيم بن مرة- لقد تقدمني ظالما و خرج إلي منها آثما-

 

فقال المغيرة- أما تقدمه عليك يا أمير المؤمنين ظالما فقد عرفناه- كيف خرج إليك منها آثما- قال ذاك لأنه لم يخرج إلي منها إلا بعد يأس منها- أما و الله لو كنت أطعت يزيد بن الخطاب و أصحابه- لم يتلمظ من حلاوتها بشي‏ء أبدا- و لكني قدمت و أخرت و صعدت و صوبت- و نقضت و أبرمت- فلم أجد إلا الإغضاء على ما نشب به منها و التلهف على نفسي- و أملت إنابته و رجوعه- فو الله ما فعل حتى نغر بها بشما-

قال المغيرة فما منعك منها يا أمير المؤمنين- و قد عرضك لها يوم السقيفة بدعائك إليها- ثم أنت الآن تنقم و تتأسف- قال ثكلتك أمك يا مغيرة- إني كنت لأعدك من دهاة العرب- كأنك كنت غائبا عما هناك- إن الرجل ماكرني فماكرته و ألفاني أحذر من قطاة- إنه لما رأى شغف الناس به و إقبالهم بوجوههم عليه- أيقن أنهم لا يريدون به بدلا- فأحب لما رأى من حرص الناس عليه- و ميلهم إليه أن يعلم ما عندي- و هل تنازعني نفسي إليها- و أحب أن يبلوني بإطماعي فيها و التعريض لي بها- و قد علم و علمت لو قبلت ما عرضه علي- لم يجب الناس إلى ذلك- فألفاني قائما على أخمصي مستوفزا حذرا- و لو أجبته إلى قبولها لم يسلم الناس إلي ذلك- و اختبأها ضغنا علي في قلبه و لم آمن غائلته و لو بعد حين- مع ما بدا لي من كراهة الناس لي- أ ما سمعت نداءهم من كل ناحية عند عرضها علي- لا نريد سواك يا أبا بكر أنت لها- فرددتها إليه عند ذلك- فلقد رأيته التمع وجهه لذلك سرورا- و لقد عاتبني مرة على كلام بلغه عني- و ذلك لما قدم عليه بالأشعث أسيرا- فمن عليه و أطلقه و زوجه أخته أم فروة-

فقلت للأشعث و هو قاعد بين يديه- يا عدو الله أ كفرت بعد إسلامك- و ارتددت ناكصا على عقبيك- فنظر إلي نظرا علمت أنه يريد أن يكلمني بكلام في نفسه- ثم لقيني بعد ذلك في سكك المدينة- فقال لي أنت صاحب الكلام يا ابن الخطاب- فقلت نعم يا عدو الله و لك عندي شر من ذلك- فقال بئس الجزاء هذا لي منك- قلت و علام تريد مني حسن الجزاء- قال لأنفتي لك من اتباع هذا الرجل- و الله ما جرأني على الخلاف عليه إلا تقدمه عليك- و تخلفك عنها- و لو كنت صاحبها لما رأيت مني خلافا عليك- قلت لقد كان ذلك فما تأمر الآن- قال إنه ليس بوقت أمر بل وقت صبر و مضى و مضيت- و لقي الأشعث الزبرقان بن بدر- فذكر له ما جرى بيني و بينه فنقل ذلك إلى أبي بكر- فأرسل إلي بعتاب مؤلم- فأرسلت إليه أما و الله لتكفن أو لأقولن- كلمة بالغة بي و بك في الناس- تحملها الركبان حيث ساروا- و إن شئت استدمنا ما نحن فيه عفوا- فقال بل نستديمه و إنها لصائرة إليك بعد أيام- فظننت أنه لا يأتي عليه جمعة حتى يردها علي فتغافل- و الله ما ذاكرني بعد ذلك حرفا حتى هلك- . و لقد مد في أمدها عاضا على نواجذه حتى حضره الموت- و أيس منها فكان منه ما رأيتما- فاكتما ما قلت لكما عن الناس كافة و عن بني هاشم خاصة- و ليكن منكما بحيث أمرتكما- قوما إذا شئتما على بركة الله فقمنا و نحن نعجب من قوله- فو الله ما أفشينا سره حتى هلك- . قال المرتضى- و ليس في طعن عمر على أبي بكر ما يؤدي إلى فساد خلافته- إذ له أن يثبت إمامة نفسه بالإجماع- لا بنص أبي بكر عليه- و أما الفلتة فإنها و إن كانت محتملة للبغتة- كما قاله أبو علي رحمه الله تعالى- إلا أن قوله وقى الله شرها- يخصصها بأن مخرجها مخرج الذم- و كذلك قوله فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه- و قوله المراد وقى الله شر الاختلاف فيها عدول عن الظاهر- لأن الشر في الكلام مضاف إليها دون غيرها- و أبعد من هذا التأويل قوله- إن المراد من عاد إلى مثلها من غير ضرورة- و أكره المسلمين عليها فاقتلوه- لأن ما جرى هذا المجرى- لا يكون مثلا لبيعة أبي بكر عندهم- لأن كل ذلك ما جرى فيها على مذاهبهم- و قد كان يجب على هذا أن يقول- فمن عاد إلى خلافها فاقتلوه- .

 

و ليس له أن يقول إنما أراد بالمثل وجها واحدا- و هو وقوعها من غير مشاورة- لأن ذلك إنما تم في أبي بكر خاصة- بظهور أمره و اشتهار فضله- و لأنهم بادروا إلى العقد خوفا من الفتنة- و ذلك لأنه غير منكر أن يتفق- من ظهور فضل غير أبي بكر- و اشتهار أمره و خوف الفتنة- ما اتفق لأبي بكر- فلا يستحق قتلا و لا ذما- على أن قوله مثلها- يقتضي وقوعها على الوجه الذي وقعت عليه- فكيف يكون ما وقع من غير مشاورة- لضرورة داعية و أسباب موجبة- مثلا لما وقع بلا مشاورة و من غير ضرورة و لا أسباب- و الذي رواه عن أهل اللغة- من أن آخر يوم من شوال يسمى فلتة- من حيث إن من لم يدرك فيه الثأر- فإنه قول لا نعرفه- و الذي نعرفه- أنهم يسمون الليلة التي ينقضي بها آخر الأشهر الحرم- و يتم فلتة و هي آخر ليلة من ليالي الشهر- لأنه ربما رأى الهلال قوم لتسع و عشرين- و لم يبصره الباقون- فيغير هؤلاء على أولئك و هم غارون- فلهذا سميت تلك الليلة فلتة- على أنا قد بينا أن مجموع الكلام- يقتضي ما ذكرناه من المعنى- لو سلم له ما رواه عن أهل اللغة في احتمال هذه اللفظة- .

 

قال و قد ذكر صاحب كتاب العين- أن الفلتة الأمر الذي يقع على غير إحكام- فقد صح أنها موضوعة في اللغة لهذا- و إن جاز ألا تختص به بل تكون لفظة مشتركة- . و بعد فلو كان عمر لم يرد بقوله توهين بيعة أبي بكر- بل أراد ما ظنه المخالفون- لكان ذلك عائدا عليه بالنقص- لأنه وضع كلامه في غير موضعه- و أراد شيئا فعبر عن خلافه- فليس يخرج هذا الخبر من أن يكون طعنا على أبي بكر- إلا بأن يكون طعنا على عمر- . و اعلم أنه لا يبعد أن يقال- إن الرضا و السخط و الحب و البغض و ما شاكل ذلك- من الأخلاق النفسانية و إن كانت أمورا باطنة- فإنها قد تعلم و يضطر الحاضرون إلى تحصيلها- بقرائن أحوال تفيدهم العلم الضروري- كما يعلم خوف الخائف و سرور المبتهج- و قد يكون الإنسان عاشقا لآخر- فيعلم المخالطون لهما ضرورة أنه يعشقه- لما يشاهدونه من قرائن الأحوال- و كذلك يعلم من قرائن أحوال العابد المجتهد في العبادة- و صوم الهواجر و ملازمة الأوراد و سهر الليل- أنه يتدين بذلك- فغير منكر أن يقول قاضي القضاة رحمه الله
تعالى- إن المعلوم ضرورة من حال عمر تعظيم أبي بكر- و رضاه بخلافته و تدينه بذلك- فالذي اعترضه رحمه الله تعالى به غير وارد عليه- و أما الأخبار التي رواها عن عمر فأخبار غريبة- ما رأيناها في الكتب المدونة- و ما وقفنا عليها إلا من كتاب المرتضى- و كتاب آخر يعرف بكتاب المسترشد- لمحمد بن جرير الطبري- و ليس هو محمد بن جرير صاحب التاريخ- بل هو من رجال الشيعة- و أظن أن أمه من بني جرير من مدينة آمل طبرستان- و بنو جرير الآمليون شيعة مستهترون بالتشيع- فنسب إلى أخواله- و يدل على ذلك شعر مروي له و هو-

 

بآمل مولدي و بنو جرير
فأخوالي و يحكي المرء خاله‏

 

فمن يك رافضيا عن أبيه‏
فإني رافضي عن كلاله‏

 

 و أنت تعلم حال الأخبار الغريبة- التي لا توجد في الكتب المدونة كيف هي- فأما إنكاره ما ذكره شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى- من أن الفلتة هي آخر يوم من شوال- و قوله إنا لا نعرفه- فليس الأمر كذلك بل هو تفسير صحيح- ذكره الجوهري في كتاب الصحاح- قال الفلتة آخر ليلة من كل شهر- و يقال هي آخر يوم من الشهر الذي بعده الشهر الحرام- و هذا يدل على أن آخر يوم من شوال يسمى فلتة- و كذلك آخر يوم من جمادى الآخرة- و إنما التفسير الذي ذكره المرتضى- غير معروف عند أهل اللغة- . و أما ما ذكره من إفساد حمل الفلتة في الخبر- على هذه الوجوه المتأولة فجيد- إلا أن الإنصاف أن عمر لم يخرج الكلام- مخرج الذم لأمر أبي بكر- و إنما أراد باللفظة محض حقيقتها في اللغة- ذكر صاحب الصحاح- أن الفلتة الأمر الذي يعمل فجأة- من‏ غير تردد و لا تدبر- و هكذا كانت بيعة أبي بكر- لأن الأمر لم يكن فيها شورى بين المسلمين-

 

و إنما وقعت بغتة لم تمحص فيها الآراء- و لم يتناظر فيها الرجال- و كانت كالشي‏ء المستلب المنتهب- و كان عمر يخاف أن يموت عن غير وصية أو يقتل قتلا- فيبايع أحد من المسلمين بغتة كبيعة أبي بكر- فخطب بما خطب به و قال معتذرا- إلا أنه ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق كأبي بكر- . و أيضا قول المرتضى- قد يتفق من ظهور فضل غير أبي بكر و خوف الفتنة- مثل ما اتفق لأبي بكر- فلا يستحق القتل- فإن لقائل أن يقول- إن عمر لم يخاطب بهذا إلا أهل عصره- و كان هو رحمه الله يذهب إلى أنه ليس فيهم كأبي بكر- و لا من يحتمل له أن يبايع فلتة- كما احتمل ذلك لأبي بكر- فإن اتفق أن يكون في عصر آخر بعد عصره من يظهر فضله- و يكون في زمانه كأبي بكر في زمانه- فهو غير داخل في نهي عمر و تحريمه- . و اعلم أن الشيعة لم تسلم لعمر- أن بيعة أبي بكر كانت فلتة- قال محمد بن هانئ المغربي-

 

و لكن أمرا كان أبرم بينهم
و إن قال قوم فلتة غير مبرم‏

 

 و قال آخر-

 

زعموها فلتة فاجئة
لا و رب البيت و الركن المشيد

إنما كانت أمورا نسجت‏
بينهم أسبابها نسج البرود

 

و روى أبو جعفر أيضا في التاريخ- أن رسول الله ص لما قبض- اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة- و أخرجوا سعد بن عبادة ليولوه الخلافة- و كان‏ مريضا- فخطبهم و دعاهم إلى إعطائه الرئاسة و الخلافة فأجابوه- ثم ترادوا الكلام فقالوا فإن أبى المهاجرون- و قالوا نحن أولياؤه و عترته- فقال قوم من الأنصار نقول منا أمير و منكم أمير- فقال سعد فهذا أول الوهن- و سمع عمر الخبر فأتى منزل رسول الله ص و فيه أبو بكر- فأرسل إليه أن اخرج إلي فأرسل أني مشغول- فأرسل إليه عمر أن اخرج- فقد حدث أمر لا بد أن تحضره- فخرج فأعلمه الخبر فمضيا مسرعين نحوهم- و معهما أبو عبيدة- فتكلم أبو بكر- فذكر قرب المهاجرين من رسول الله ص- و أنهم أولياؤه و عترته- ثم قال نحن الأمراء و أنتم الوزراء- لا نفتات عليكم بمشورة و لا نقضي دونكم الأمور- . فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال- يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم- فإن الناس في ظلكم- و لن يجترئ مجترئ على خلافكم- و لا يصدر أحد إلا عن رأيكم- أنتم أهل العزة و المنعة و أولو العدد و الكثرة- و ذوو البأس و النجدة- و إنما ينظر الناس ما تصنعون- فلا تختلفوا فتفسد عليكم أموركم- فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم- فمنا أمير و منهم أمير- . فقال عمر هيهات لا يجتمع سيفان في غمد- و الله لا ترضى العرب أن تؤمركم و نبيها من غيركم- و لا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة منهم- من ينازعنا سلطان محمد و نحن أولياؤه و عشيرته- . فقال الحباب بن المنذر- يا معشر الأنصار املكوا أيديكم- و لا تسمعوا مقالة هذا و أصحابه- فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر- فإن أبوا عليكم فأجلوهم من هذه البلاد- فأنتم أحق بهذا الأمر منهم- فإنه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين- أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب-

 

أنا أبو شبل في عريسة الأسد- و الله إن شئتم لنعيدنها جذعة- . فقال عمر إذن يقتلك الله قال بل إياك يقتل- . فقال أبو عبيدة يا معشر الأنصار- إنكم أول من نصر و آزر- فلا تكونوا أول من بدل و غير- . فقام بشير بن سعد والد النعمان بن بشير- فقال يا معشر الأنصار- ألا إن محمدا من قريش و قومه أولى به- و ايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر- . فقال أبو بكر هذا عمر و أبو عبيدة بايعوا أيهما شئتم- فقالا و الله لا نتولى هذا الأمر عليك- و أنت أفضل المهاجرين- و خليفة رسول الله ص في الصلاة و هي أفضل الدين- ابسط يدك- فلما بسط يده ليبايعاه- سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه- فناداه الحباب بن المنذر يا بشير- عققت عقاق أ نفست على ابن عمك الإمارة- . فقال أسيد بن حضير رئيس الأوس لأصحابه- و الله لئن لم تبايعوا- ليكونن للخزرج عليكم الفضيلة أبدا- فقاموا فبايعوا أبا بكر- . فانكسر على سعد بن عبادة و الخزرج ما اجتمعوا عليه- و أقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب- ثم حمل سعد بن عبادة إلى داره- فبقي أياما و أرسل إليه أبو بكر ليبايع- فقال لا و الله حتى أرميكم بما في كنانتي- و أخضب سنان رمحي و أضرب بسيفي ما أطاعني- و أقاتلكم بأهل بيتي و من تبعني- و لو اجتمع معكم الجن و الإنس- ما بايعتكم حتى أعرض على ربي- .

 

فقال عمر لا تدعه حتى يبايع- فقال بشير بن سعد إنه قد لج- و ليس بمبايع لكم‏ حتى يقتل- و ليس بمقتول حتى يقتل معه أهله و طائفة من عشيرته- و لا يضركم تركه- إنما هو رجل واحد فتركوه- .و جاءت أسلم فبايعت- فقوي بهم جانب أبي بكر و بايعه الناس- . و في كتب غريب الحديث في تتمة كلام عمر- فأيما رجل بايع رجلا بغير مشورة من الناس- فلا يؤمر واحد منهما تغرة أن يقتلا- . قالوا غرر تغريرا و تغرة- كما قالوا حلل تحليلا و تحلة و علل تعليلا و تعلة- و انتصب تغرة هاهنا لأنه مفعول له- و معنى الكلام أنه إذا بايع واحد لآخر بغتة عن غير شورى- فلا يؤمر واحد منهما- لأنهما قد غررا بأنفسهما تغرة و عرضاهما لأن تقتلا- . و روى جميع أصحاب السيرة- أن رسول الله ص لما توفي كان أبو بكر في منزله بالسنح-

 

فقال عمر بن الخطاب فقال- ما مات رسول الله ص و لا يموت- حتى يظهر دينه على الدين كله- و ليرجعن فليقطعن أيدي رجال و أرجلهم- ممن أرجف بموته- لا أسمع رجلا يقول مات رسول الله إلا ضربته بسيفي- فجاء أبو بكر و كشف عن وجه رسول الله ص- و قال بأبي و أمي طبت حيا و ميتا- و الله لا يذيقك الله الموتتين أبدا- ثم خرج و الناس حول عمر- و هو يقول لهم إنه لم يمت و يحلف- فقال له أيها الحالف على رسلك- ثم قال من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات- و من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت- قال الله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ- و قال أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ- قال عمر فو الله‏ ما ملكت نفسي حيث سمعتها- أن سقطت إلى الأرض- و علمت أن رسول الله ص قد مات- و قد تكلمت الشيعة في هذا الموضع- و قالوا إنه بلغ من قلة علمه- أنه لم يعلم أن الموت يجوز على رسول الله ص- و أنه أسوة الأنبياء في ذلك- و قال لما تلا أبو بكر الآيات أيقنت الآن بوفاته- كأني لم أسمع هذه الآية- فلو كان يحفظ القرآن أو يتفكر فيه ما قال ذلك- و من هذه حاله لا يجوز أن يكون إماما- .

 

و أجاب قاضي القضاة رحمه الله تعالى في المغني عن هذا- فقال إن عمر لم يمنع من جواز موته ع- و لا نفى كونه ممكنا- و لكنه تأول في ذلك قوله تعالى- هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ- لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ- و قال كيف يموت و لم يظهر ص على الدين كله- فقال أبو بكر إذا ظهر دينه فقد ظهر هو- و سيظهر دينه بعد وفاته- . فحمل عمر قوله تعالى أَ فَإِنْ ماتَ على تأخر الموت- لا على نفيه بالكلية- قال و لا يجب فيمن ذهل عن بعض أحكام القرآن- ألا يحفظ القرآن- لأن الأمر لو كان كذلك- لوجب ألا يحفظ القرآن إلا من عرف جميع أحكامه- على أن حفظ جميع القرآن غير واجب- و لا يقدح الإخلال به في الفضل- . و اعترض المرتضى رحمه الله تعالى في كتاب الشافي- هذا الكلام- فقال لا يخلو خلاف عمر في وفاة رسول الله ص- من أن يكون على سبيل الإنكار لموته على كل حال- و الاعتقاد أن الموت لا يجوز عليه على كل وجه- أو يكون منكرا لموته في‏ تلك الحال- من حيث لم يظهر على الدين كله- فإن كان الأول فهو مما لا يجوز خلاف عاقل فيه- و العلم بجواز الموت على جميع البشر ضروري- و ليس يحتاج في حصول هذا العلم إلى تلاوة الآيات- التي تلاها أبو بكر- و إن كان الثاني- فأول ما فيه أن هذا الاختلاف- لا يليق بما احتج به أبو بكر عليه من قوله إِنَّكَ مَيِّتٌ- لأن عمر لم ينكر على هذا الوجه جواز الموت عليه و صحته- و إنما خالف في وقته- فكان يجب أن يقول لأبي بكر- و أي حجة في هذه الآيات علي- فإني لم أمنع جواز موته- و إنما منعت وقوع موته الآن و جوزته في المستقبل- و الآيات إنما تدل على جواز الموت فقط- لا على تخصيصه بحال معينة- .
و بعد فكيف دخلت هذه الشبهة البعيدة على عمر- من بين سائر الخلق- و من أين زعم أنه سيعود فيقطع أيدي رجال و أرجلهم- و كيف لم يحصل له من اليقين لما رأى من الواعية- و كآبة الخلق و إغلاق الباب و صراخ النساء- ما يدفع به ذلك الوهم و الشبهة البعيدة- فلم يحتج إلى موقف- . و بعد فيجب إن كانت هذه شبهته- أن يقول في مرض النبي ص- و قد رأى جزع أهله و خوفهم عليه الموت- و قول أسامة صاحب الجيش- لم أكن لأرحل و أنت هكذا و أسأل عنك الركب- يا هؤلاء لا تخافوا و لا تجزعوا و لا تخف أنت يا أسامة- فإن رسول الله ص لا يموت الآن- لأنه لم يظهر على الدين كله- . و بعد فليس هذا من أحكام الكتاب- التي يعذر من لا يعرفها على ما ظن المعتذر له- . و نحن نقول إن عمر كان أجل قدرا- من أن يعتقد ما ظهر عنه في هذه الواقعة-

 
و لكنه لما علم أن رسول الله ص قد مات- خاف من وقوع فتنة في الإمامة و تقلب أقوام عليها- إما من الأنصار أو غيرهم- و خاف أيضا من حدوث ردة و رجوع عن الإسلام- فإنه كان ضعيفا بعد لم يتمكن- و خاف من ترات تشن و دماء تراق- فإن أكثر العرب كان موتورا في حياة رسول الله ص- لقتل من قتل أصحابه منهم- و في مثل ذلك الحال تنتهز الفرصة و تهتبل الغرة- فاقتضت المصلحة عنده تسكين الناس- بأن أظهر ما أظهره من كون رسول الله ص لم يمت- و أوقع تلك الشبهة في قلوبهم- فكسر بها شرة كثير منهم و ظنوها حقا- فثناهم بذلك عن حادث يحدثونه- تخيلا منهم أن رسول الله ص ما مات- و إنما غاب كما غاب موسى عن قومه- و هكذا كان عمر يقول لهم- إنه قد غاب عنكم كما غاب موسى عن قومه- و ليعودن فليقطعن أيدي قوم أرجفوا بموته- .

 

و مثل هذا الكلام يقع في الوهم- فيصد عن كثير من العزم- أ لا ترى أن الملك إذا مات في مدينة- وقع فيها في أكثر الأمر نهب و فساد و تحريق- و كل من في نفسه حقد على آخر بلغ منه غرضه- إما بقتل أو جرح أو نهب مال- إلى أن تتمهد قاعدة الملك الذي يلي بعده- فإذا كان في المدينة وزير حازم الرأي- كتم موت الملك و سجن قوما ممن أرجف نداء بموته- و أقام فيهم السياسة و أشاع أن الملك حي- و أن أوامره و كتبه نافذة- و لا يزال يلزم ذلك الناموس- إلى أن يمهد قاعدة الملك للوالي بعده- و كذلك عمر أظهر ما أظهر حراسة للدين و الدولة- إلى أن جاء أبو بكر و كان غائبا بالسنح- و هو منزل بعيد عن المدينة- فلما اجتمع بأبي بكر قوي به جأشه و اشتد به أزره- و عظم طاعة الناس له و ميلهم إليه- فسكت حينئذ عن تلك الدعوى التي كان ادعاها- لأنه قد أمن بحضور أبي بكر من خطب يحدث- أو فساد يتجدد- و كان أبو بكر محببا إلى الناس لا سيما المهاجرين- .

 

و يجوز عند الشيعة و عند أصحابنا أيضا- أن يقول الإنسان كلاما ظاهر الكذب على جهة المعاريض- فلا وصمة على عمر إذا كان حلف أن رسول الله ص لم يمت- و لا وصمة عليه في قوله بعد حضور أبي بكر و تلاوة ما تلا- كأني لم أسمعها أو قد تيقنت الآن وفاته ص- لأنه أراد بهذا القول الأخير تشييد القول الأول- و كان هو الصواب- و كان من سيئ الرأي و قبيحه أن يقول- إنما قلته تسكينا لكم و لم أقله عن اعتقاد- فالذي بدا به حسن و صواب- و الذي ختم به أحسن و أصوب- . و روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري- في كتاب السقيفة عن عمر بن شبة- عن محمد بن منصور عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار- قال كان النبي ص قد بعث أبا سفيان ساعيا- فرجع من سعايته و قد مات رسول الله ص- فلقيه قوم فسألهم فقالوا مات رسول الله ص- فقال من ولي بعده قيل أبو بكر- قال أبو فصيل قالوا نعم- قال فما فعل المستضعفان علي و العباس- أما و الذي نفسي بيده لأرفعن لهما من أعضادهما- . قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز- و ذكر الراوي و هو جعفر بن سليمان- أن أبا سفيان قال شيئا آخر لم تحفظه الرواة- فلما قدم المدينة قال إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم- قال فكلم عمر أبا بكر فقال- إن أبا سفيان قد قدم و أنا لا نأمن شره- فدع له ما في يده فتركه فرضي- . و روى أحمد بن عبد العزيز أن أبا سفيان قال لما بويع عثمان- كان هذا الأمر في تيم و أنى لتيم هذا الأمر- ثم صار إلى عدي فأبعد و أبعد- ثم رجعت إلى منازلها و استقر الأمر قراره- فتلقفوها تلقف الكرة- .

 

قال أحمد بن عبد العزيز- و حدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال- ذاكرت إسماعيل بن إسحاق القاضي بهذا الحديث- و أن أبا سفيان قال لعثمان بأبي أنت- أنفق و لا تكن كأبي حجر- و تداولوها يا بني أمية تداول الولدان الكرة- فو الله ما من جنة و لا نار و كان الزبير حاضرا- فقال عثمان لأبي سفيان اعزب- فقال يا بني أ هاهنا أحد- قال الزبير نعم و الله لا كتمتها عليك- قال فقال إسماعيل هذا باطل قلت و كيف ذلك- قال ما أنكر هذا من أبي سفيان- و لكن أنكر أن يكون سمعه عثمان و لم يضرب عنقه- .

 

و روى أحمد بن عبد العزيز قال جاء أبو سفيان إلى علي ع فقال- وليتم على هذا الأمر أذل بيت في قريش- أ ما و الله لئن شئت لأملأنها على أبي فصيل خيلا و رجلا- فقال علي ع طالما غششت الإسلام و أهله فما ضررتهم شيئا- لا حاجة لنا إلى خيلك و رجلك- لو لا أنا رأينا أبا بكر لها أهلا لما تركناه و روى أحمد بن عبد العزيز- قال لما بويع لأبي بكر كان الزبير و المقداد يختلفان- في جماعة من الناس إلى علي و هو في بيت فاطمة- فيتشاورون و يتراجعون أمورهم- فخرج عمر حتى دخل على فاطمة ع- و قال يا بنت رسول الله- ما من أحد من الخلق أحب إلينا من أبيك- و ما من أحد أحب إلينا منك بعد أبيك- و ايم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك- أن آمر بتحريق البيت عليهم- فلما خرج عمر جاءوها فقالت- تعلمون أن عمر جاءني و حلف لي بالله- إن عدتم ليحرقن عليكم البيت- و ايم الله ليمضين لما حلف له- فانصرفوا عنا راشدين- فلم يرجعوا إلى بيتها و ذهبوا فبايعوا لأبي بكر- . و روى أحمد و روى المبرد في الكامل- صدر هذا الخبر عن عبد الرحمن‏ بن عوف قال- دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي مات فيه- فسلمت و سألته كيف به فاستوى جالسا-

 

فقلت لقد أصبحت بحمد الله بارئا- فقال أما إني على ما ترى لوجع- و جعلتم لي معشر المهاجرين شغلا مع وجعي- و جعلت لكم عهدا مني من بعدي- و اخترت لكم خيركم في نفسي- فكلكم ورم لذلك أنفه رجاء أن يكون الأمر له- و رأيتم الدنيا قد أقبلت- و الله لتتخذن ستور الحرير و نضائد الديباج- و تألمون ضجائع الصوف الأذربي- كأن أحدكم على حسك السعدان- و الله لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد- خير له من أن يسبح في غمرة الدنيا- و إنكم غدا لأول ضال بالناس- يجورون عن الطريق يمينا و شمالا- يا هادي الطريق جرت إنما هو البجر أو الفجر- فقال له عبد الرحمن لا تكثر على ما بك فيهيضك- و الله ما أردت إلا خيرا و إن صاحبك لذو خير- و ما الناس إلا رجلان- رجل رأى ما رأيت فلا خلاف عليك منه- و رجل رأى غير ذلك و إنما يشير عليك برأيه- فسكن و سكت هنيهة- فقال عبد الرحمن ما أرى بك بأسا و الحمد لله- فلا تأس على الدنيا- فو الله إن علمناك إلا صالحا مصلحا- فقال أما إني لا آسى إلا على ثلاث فعلتهن- وددت أني لم أفعلن- و ثلاث لم أفعلهن وددت أني فعلتهن- و ثلاث وددت أني سألت رسول الله ص عنهن- فأما الثلاث التي فعلتها و وددت أني لم أكن فعلتها- فوددت أني لم أكن كشفت عن بيت فاطمة- و تركته و لو أغلق على حرب- و وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت- قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين عمر أو أبي عبيدة- فكان أميرا و كنت وزيرا- و وددت أني إذ أتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته- و كنت قتلته بالحديد أو أطلقته- .

 

و أما الثلاث التي تركتها و وددت أني فعلتها- فوددت أني يوم أتيت بالأشعث كنت ضربت عنقه- فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه- و وددت أني حيث وجهت خالدا إلى أهل الردة- أقمت بذي القصة- فإن ظفر المسلمون و إلا كنت ردءا لهم- و وددت حيث وجهت خالدا إلى الشام- كنت وجهت عمر إلى العراق- فأكون قد بسطت كلتا يدي- اليمين و الشمال في سبيل الله- . و أما الثلاث اللواتي وددت- أني كنت سألت رسول الله ص عنهن- فوددت أني سألته فيمن هذا الأمر- فكنا لا ننازعه أهله- و وددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب- و وددت أني سألته عن ميراث العمة و ابنة الأخت- فإن في نفسي منهما حاجة- . و من كتاب معاوية المشهور إلى علي ع- و أعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار- و يداك في يدي ابنيك الحسن و الحسين- يوم بويع أبو بكر الصديق- فلم تدع أحدا من أهل بدر و السوابق إلا دعوتهم إلى نفسك- و مشيت إليهم بامرأتك و أدليت إليهم بابنيك- و استنصرتهم على صاحب رسول الله- فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة- و لعمري لو كنت محقا لأجابوك و لكنك ادعيت باطلا- و قلت ما لا تعرف و رمت ما لا يدرك- و مهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حركك و هيجك- لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم- فما يوم المسلمين منك بواحد- و لا بغيك على الخلفاء بطريف و لا مستبدع- .

 

و سنذكر تمام هذا الكتاب و أوله عند انتهائنا- إلى كتب علي ع- . و روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري- عن أبي المنذر و هشام بن محمد بن السائب عن أبيه- عن أبي صالح عن ابن عباس قال- كان بين العباس و علي مباعدة- فلقي ابن عباس عليا فقال- إن كان لك في النظر إلى عمك حاجة فأته- و ما أراك تلقاه بعدها- فوجم لها و قال تقدمني و استأذن- فتقدمته و استأذنت له فأذن فدخل- فاعتنق كل واحد منهما صاحبه- و أقبل علي ع على يده و رجله يقبلهما- و يقول يا عم ارض عني رضي الله عنك- قال قد رضيت عنك- . ثم قال يا ابن أخي- قد أشرت عليك بأشياء ثلاثة فلم تقبل- و رأيت في عاقبتها ما كرهت- و ها أنا ذا أشير عليك برأي رابع- فإن قبلته و إلا نالك ما نالك مما كان قبله- قال و ما ذاك يا عم- قال أشرت عليك في مرض رسول الله ص أن تسأله- فإن كان الأمر فينا أعطاناه و إن كان في غيرنا أوصى بنا- فقلت أخشى إن منعناه لا يعطيناه أحد بعده- فمضت تلك فلما قبض رسول الله ص- أتانا أبو سفيان بن حرب تلك الساعة- فدعوناك إلى أن نبايعك- و قلت لك ابسط يدك أبايعك و يبايعك هذا الشيخ- فإنا إن بايعناك- لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف- و إذا بايعك بنو عبد مناف- لم يختلف عليك أحد من قريش- و إذا بايعتك قريش لم يختلف عليك أحد من العرب- فقلت لنا بجهاز رسول الله ص شغل- و هذا الأمر فليس نخشى عليه- فلم نلبث أن سمعنا التكبير من سقيفة بني ساعدة-

 

فقلت يا عم ما هذا- قلت ما دعوناك إليه فأبيت- قلت سبحان الله أ و يكون هذا قلت نعم- قلت أ فلا يرد قلت لك- و هل رد مثل هذا قط- ثم أشرت عليك حين طعن عمر فقلت- لا تدخل نفسك في الشورى- فإنك إن اعتزلتهم قدموك و إن ساويتهم تقدموك- فدخلت معهم فكان ما رأيت-ثم أنا الآن أشير عليك برأي رابع- فإن قبلته و إلا نالك ما نالك مما كان قبله- إني أرى أن هذا الرجل يعني عثمان قد أخذ في أمور- و الله لكأني بالعرب قد سارت إليه- حتى ينحر في بيته كما ينحر الجمل- و الله إن كان ذلك و أنت بالمدينة ألزمك الناس به- و إذا كان ذلك لم تنل من الأمر شيئا- إلا من بعد شر لا خير معه- قال عبد الله بن عباس فلما كان يوم الجمل عرضت له- و قد قتل طلحة و قد أكثر أهل الكوفة في سبه و غمصه- فقال علي ع- أما و الله لئن قالوا ذلك لقد كان كما قال أخو جعفي-

 

فتى كان يدنيه الغنى من صديقه
إذا ما هو استغنى و يبعده الفقر

 

 ثم قال و الله لكان عمي كان ينظر من وراء ستر رقيق- و الله ما نلت من هذا الأمر شيئا إلا بعد شر لا خير معه- . و روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز- عن حباب بن يزيد عن جرير بن المغيرة- أن سلمان و الزبير و الأنصار- كان هواهم أن يبايعوا عليا ع- بعد النبي ص- فلما بويع أبو بكر قال سلمان- أصبتم الخبرة و أخطأتم المعدن- . قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال- حدثنا علي بن أبي هاشم قال- حدثنا عمر بن ثابت عن حبيب بن أبي ثابت- قال قال سلمان يومئذ أصبتم ذا السن منكم- و أخطأتم أهل بيت نبيكم- لو جعلتموها فيهم ما اختلف عليكم اثنان- و لأكلتموها رغدا- . قال أبو بكر و أخبرنا عمر بن شبة قال- حدثني محمد بن يحيى قال- حدثنا غسان‏
بن عبد الحميد قال- لما أكثر الناس في تخلف علي ع عن بيعة أبي بكر- و اشتد أبو بكر و عمر عليه في ذلك- خرجت أم مسطح بن أثاثة فوقفت عند القبر و قالت-

 

كانت أمور و أبناء و هنبثة
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب‏

 

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها
و اختل قومك فاشهدهم و لا تغب‏

 

قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز- و أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال- حدثنا إبراهيم بن المنذر عن ابن وهب- عن ابن لهيعة عن أبي الأسود قال- غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة- و غضب علي و الزبير فدخلا بيت فاطمة ع معهما السلاح- فجاء عمر في عصابة- منهم أسيد بن حضير و سلمة بن سلامة بن وقش- و هما من بني عبد الأشهل- فصاحت فاطمة ع و ناشدتهم الله- فأخذوا سيفي علي و الزبير- فضربوا بهما الجدار حتى كسروهما- ثم أخرجهما عمر يسوقهما حتى بايعا- ثم قام أبو بكر فخطب الناس و اعتذر إليهم- و قال إن بيعتي كانت فلتة وقى الله شرها- و خشيت الفتنة- و ايم الله ما حرصت عليها يوما قط- و لقد قلدت أمرا عظيما ما لي به طاقة و لا يدان- و لوددت أن أقوى الناس عليه مكاني- و جعل يعتذر إليهم فقبل المهاجرون عذره- و قال علي و الزبير ما غضبنا إلا في المشورة- و إنا لنرى أبا بكر أحق الناس بها- إنه لصاحب الغار و إنا لنعرف له سنه- و لقد أمره رسول الله ص بالصلاة بالناس و هو حي- . قال أبو بكر و قد روي بإسناد آخر ذكره- أن ثابت بن قيس بن شماس كان مع الجماعة- الذين حضروا مع عمر في بيت فاطمة ع- و ثابت هذا أخو بني الحارث بن الخزرج- .
و روي أيضا أن محمد بن مسلمة كان معهم- و أن محمدا هو الذي كسر سيف الزبير- . قال أبو بكر و حدثني يعقوب بن شيبة عن أحمد بن أيوب عن إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن عباس قال خرج علي ع على الناس من عند رسول الله ص في مرضه- فقال له الناس كيف أصبح رسول الله ص يا أبا حسن- قال أصبح بحمد الله بارئا- قال فأخذ العباس بيد علي ثم قال يا علي- أنت عبد العصا بعد ثلاث- أحلف لقد رأيت الموت في وجهه- و إني لأعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب- فانطلق إلى رسول الله ص فاذكر له هذا الأمر- إن كان فينا أعلمنا و إن كان في غيرنا أوصى بنا- فقال لا أفعل- و الله إن منعناه اليوم لا يؤتيناه الناس بعده- قال فتوفي رسول الله ذلك اليوم

 

و قال أبو بكر حدثني المغيرة بن محمد المهلبي من حفظه- و عمر بن شبة من كتابه- بإسناد رفعه إلى أبي سعيد الخدري قال- سمعت البراء بن عازب يقول- لم أزل لبني هاشم محبا- فلما قبض رسول الله ص تخوفت- أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عن بني هاشم- فأخذني ما يأخذ الواله العجول- . ثم ذكر ما قد ذكرناه نحن في أول هذا الكتاب- في شرح قوله ع أما و الله لقد تقمصها فلان- و زاد فيه في هذه الرواية فمكثت أكابد ما في نفسي- فلما كان بليل خرجت إلى المسجد- فلما صرت فيه تذكرت- أني كنت أسمع همهمة رسول الله ص بالقرآن- فامتنعت من مكاني فخرجت إلى الفضاء- فضاء بني بياضة- و أجد نفرا يتناجون فلما دنوت منهم سكتوا- فانصرفت عنهم فعرفوني و ما أعرفهم- فدعوني إليهم فأتيتهم- فأجد المقداد بن الأسود و عبادة بن الصامت- و سلمان الفارسي و أبا ذر و حذيفة- و أبا الهيثم بن التيهان- و إذا حذيفة يقول لهم- و الله ليكونن ما أخبرتكم‏ به- و الله ما كذبت و لا كذبت- و إذا القوم يريدون- أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين- .

 

ثم قال ائتوا أبي بن كعب فقد علم كما علمت- قال فانطلقنا إلى أبي فضربنا عليه بابه- حتى صار خلف الباب- فقال من أنتم فكلمه المقداد فقال ما حاجتكم- فقال له افتح عليك بابك- فإن الأمر أعظم من أن يجرى من وراء حجاب- قال ما أنا بفاتح بابي و قد عرفت ما جئتم له- كأنكم أردتم النظر في هذا العقد- فقلنا نعم فقال أ فيكم حذيفة فقلنا نعم- قال فالقول ما قال- و بالله ما أفتح عني بابي حتى يجرى على ما هي جارية- و لما يكون بعدها شر منها و إلى الله المشتكى- .
قال و بلغ الخبر أبا بكر و عمر- فأرسلا إلى أبي عبيدة و المغيرة بن شعبة- فسألاهما عن الرأي- فقال المغيرة أن تلقوا العباس- فتجعلوا له في هذا الأمر نصيبا- فيكون له و لعقبه فتقطعوا به من ناحية علي- و يكون لكم حجة عند الناس على علي- إذا مال معكم العباس- . فانطلقوا حتى دخلوا على العباس- في الليلة الثانية من وفاة رسول الله ص- ثم ذكر خطبة أبي بكر و كلام عمر و ما أجابهما العباس به- و قد ذكرناه فيما تقدم من هذا الكتاب في الجزء الأول- و روى أبو بكر قال- أخبرنا أحمد بن إسحاق بن صالح قال- حدثنا عبد الله بن عمر عن حماد بن زيد- عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال- لما توفي النبي ص اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة- فأتاهم أبو بكر و عمر و أبو عبيدة- فقال الحباب‏ بن المنذر منا أمير و منكم أمير- إنا و الله ما ننفس هذا الأمر عليكم أيها الرهط- و لكنا نخاف أن يليه بعدكم- من قتلنا أبناءهم و آباءهم و إخوانهم- فقال عمر بن الخطاب إذا كان ذلك قمت إن استطعت- فتكلم أبو بكر فقال نحن الأمراء و أنتم الوزراء- و الأمر بيننا نصفان كشق الأبلمة- فبويع و كان أول من بايعه بشير بن سعد- والد النعمان بن بشير- .

 

فلما اجتمع الناس على أبي بكر- قسم قسما بين نساء المهاجرين و الأنصار- فبعث إلى امرأة من بني عدي بن النجار- قسمها مع زيد بن ثابت فقالت ما هذا- قال قسم قسمه أبو بكر للنساء- قالت أ تراشونني عن ديني- و لله لا أقبل منه شيئا فردته عليه- . قلت قرأت هذا الخبر- على أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي الحسيني- المعروف بابن أبي زيد نقيب البصرة رحمه الله تعالى- في سنة عشر و ستمائة من كتاب السقيفة- لأحمد بن عبد بن المنذر منا أمير و منكم أمير- إنا و الله ما ننفس هذا الأمر عليكم أيها الرهط- و لكنا نخاف أن يليه بعدكم- من قتلنا أبناءهم و آباءهم و إخوانهم- فقال عمر بن الخطاب إذا كان ذلك قمت إن استطعت- فتكلم أبو بكر فقال نحن الأمراء و أنتم الوزراء- و الأمر بيننا نصفان كشق الأبلمة- فبويع و كان أول من بايعه بشير بن سعد- والد النعمان بن بشير- . فلما اجتمع الناس على أبي بكر- قسم قسما بين نساء المهاجرين و الأنصار- فبعث إلى امرأة من بني عدي بن النجار- قسمها مع زيد بن ثابت فقالت ما هذا- قال قسم قسمه أبو بكر للنساء- قالت أ تراشونني عن ديني- و لله لا أقبل منه شيئا فردته عليه- .

 

قلت قرأت هذا الخبر- على أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي الحسيني- المعروف بابن أبي زيد نقيب البصرة رحمه الله تعالى- في سنة عشر و ستمائة من كتاب السقيفة- لأحمد بن عبد العزيز الجوهري قال- لقد صدقت فراسة الحباب- فإن الذي خافه وقع يوم الحرة- و أخذ من الأنصار ثأر المشركين يوم بدر- ثم قال لي رحمه الله تعالى- و من هذا خاف أيضا رسول الله ص على ذريته و أهله- فإنه كان ع قد وتر الناس- و علم أنه إن مات و ترك ابنته- و ولدها سوقة و رعية تحت أيدي الولاة- كانوا بعرض خطر عظيم- فما زال يقرر لابن عمه قاعدة الأمر بعده- حفظا لدمه و دماء أهل بيته- فإنهم إذا كانوا ولاة الأمر- كانت دماؤهم أقرب إلى الصيانة و العصمة- مما إذا كانوا سوقة تحت يد وال من غيرهم- فلم يساعده القضاء و القدر- و كان من الأمر ما كان- ثم أفضى أمر ذريته فيما بعد إلى ما قد علمت- .

 
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز- حدثني يعقوب بن شيبة- بإسناد رفعه إلى طلحة بن مصرف- قال قلت لهذيل بن شرحبيل- إن الناس يقولون إن رسول الله ص أوصى إلى علي ع- فقال أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله ص- ود أبو بكر أنه وجد من رسول الله ص عهدا فخزم أنفه- . قلت هذا الحديث قد خرجه الشيخان- محمد بن إسماعيل البخاري و مسلم بن الحجاج القشيري- في صحيحيهما عن طلحة بن مصرف قال- سألت عبد الله بن أبي أوفى- أوصى رسول الله ص قال لا- قلت فكيف كتب على المسلمين الوصية- أو كيف أمر بالوصية و لم يوص- قال أوصى بكتاب الله- قال طلحة ثم قال ابن أوفى- ما كان أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله ص- ود أبو بكر أنه وجد من رسول الله ص عهدا- فخزم أنفه بخزامه- . و روى الشيخان في الصحيحين عن عائشة- أنه ذكر عندها أن رسول الله ص أوصى- قالت و متى أوصى و من يقول ذلك- قيل إنهم يقولون قالت من يقوله- لقد دعا بطست ليبول- و إنه بين سحري و نحري فانخنث في صدري- فمات و ما شعرت- . و في الصحيحين أيضا- خرجاه معا عن ابن عباس أنه كان يقول- يوم الخميس و ما يوم الخميس- ثم بكى حتى بل دمعه الحصى- فقلنا يا ابن عباس و ما يوم الخميس-

 

قال اشتد برسول الله ص وجعه- فقال ائتوني بكتاب أكتبه لكم لا تضلوا بعدي أبدا- فتنازعوا- فقال إنه لا ينبغي عندي تنازع- فقال قائل ما شأنه- أ هجر استفهموه- فذهبوا يعيدون عليه فقال دعوني- و الذي أنا فيه خير من الذي أنتم فيه- ثم أمر بثلاثة أشياء- فقال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب- و أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم – و سئل ابن عباس عن الثالثة- فقال إما ألا يكون تكلم بها- و إما أن يكون قالها فنسيت- . و في الصحيحين أيضا خرجاه معا عن ابن عباس رحمه الله تعالى- قال لما احتضر رسول الله ص- و في البيت رجال منهم عمر بن الخطاب قال النبي ص هلم أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده
فقال عمر إن رسول الله ص قد غلب عليه الوجع- و عندكم القرآن حسبنا كتاب الله- فاختلف القوم و اختصموا- فمنهم من يقول- قربوا إليه يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده- و منهم من يقول القول ما قاله عمر- فلما أكثروا اللغو و الاختلاف عنده ع- قال لهم قوموا فقاموا- فكان ابن عباس يقول- إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ص- و بين أن يكتب لكم ذلك الكتاب- . قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري- و حدثني أحمد بن إسحاق بن صالح-

 

قال حدثني عبد الله بن عمر بن معاذ عن ابن عون- قال حدثني رجل من زريق- أن عمر كان يومئذ قال- يعني يوم بويع أبو بكر- محتجزا يهرول بين يدي أبي بكر- و يقول ألا إن الناس قد بايعوا أبا بكر- قال فجاء أبو بكر حتى جلس على منبر رسول الله ص- فحمد الله و أثنى عليه ثم قال- أما بعد فإني وليتكم و لست بخيركم- و لكنه نزل القرآن و سنت السنن- و علمنا فتعلمنا أن أكيس الكيس التقى- و أحمق الحمق الفجور- و إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بالحق- و أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق- أيها الناس إنما أنا متبع و لست بمبتدع- إذا أحسنت فأعينوني و إذا زغت فقوموني- .

 

قال أبو بكر و حدثني أبو زيد عمر بن شبة- قال حدثنا أحمد بن معاوية قال- حدثني النضر بن شميل قال- حدثنا محمد بن عمرو عن سلمة بن عبد الرحمن- قال لما جلس أبو بكر على المنبر- كان علي ع و الزبير و ناس من بني هاشم في بيت فاطمة- فجاء عمر إليهم فقال- و الذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة- أو لأحرقن البيت عليكم- فخرج الزبير مصلتا سيفه- فاعتنقه رجل من الأنصار و زياد بن لبيد- فبدر السيف فصاح به أبو بكر و هو على المنبر- اضرب به الحجر فدق به- قال أبو عمرو بن حماس- فلقد رأيت الحجر فيه تلك الضربة- و يقال هذه ضربة سيف الزبير- ثم قال أبو بكر دعوهم فسيأتي الله بهم- قال فخرجوا إليه بعد ذلك فبايعوه- .

 

قال أبو بكر و قد روي في رواية أخرى- أن سعد بن أبي وقاص كان معهم- في بيت فاطمة ع- و المقداد بن الأسود أيضا- و أنهم اجتمعوا على أن يبايعوا عليا ع- فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت- فخرج إليه الزبير بالسيف- و خرجت فاطمة ع تبكي و تصيح- فنهنهت من الناس- و قالوا ليس عندنا معصية- و لا خلاف في خير اجتمع عليه الناس- و إنما اجتمعنا لنؤلف القرآن في مصحف واحد- ثم بايعوا أبا بكر فاستمر الأمر و اطمأن الناس- .

 
قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد عمر بن شبة- قال أخبرنا أبو بكر الباهلي قال- حدثنا إسماعيل بن مجالد عن الشعبي قال- سأل أبو بكر فقال أين الزبير- فقيل عند علي و قد تقلد سيفه- فقال قم يا عمر قم يا خالد بن الوليد- انطلقا حتى تأتياني بهما فانطلقا- فدخل عمر و قام خالد على باب البيت من خارج- فقال عمر للزبير ما هذا السيف- فقال نبايع عليا فاخترطه عمر- فضرب به حجرا فكسره- ثم أخذ بيد الزبير فأقامه ثم دفعه- و قال يا خالد دونكه فأمسكه- ثم قال لعلي قم فبايع لأبي بكر- فتلكأ و احتبس فأخذ بيده و قال قم- فأبى أن يقوم فحمله و دفعه كما دفع الزبير فأخرجه- و رأت فاطمة ما صنع بهما فقامت على باب الحجرة- و قالت يا أبا بكر- ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله- و الله لا أكلم عمر حتى ألقى الله- قال فمشى إليها أبو بكر بعد ذلك و شفع لعمر- و طلب إليها فرضيت عنه- .

 

قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد قال- حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنا الحرامي- قال حدثنا الحسين بن زيد عن جعفر بن محمد- عن أبيه عن ابن عباس قال- مر عمر بعلي و عنده ابن عباس بفناء داره- فسلم فسألاه أين تريد- فقال مالي بينبع- قال علي أ فلا نصل جناحك و نقوم معك- فقال بلى فقال لابن عباس قم معه- قال فشبك أصابعه في أصابعي- و مضى حتى إذا خلفنا البقيع قال- يا ابن عباس أما و الله إن كان صاحبك هذا- أولى الناس بالأمر بعد وفاة رسول الله- إلا أنا خفناه على اثنتين- قال ابن عباس- فجاء بمنطق لم أجد بدا معه من مسألته عنه- فقلت يا أمير المؤمنين ما هما- قال خشيناه على حداثة سنه و حبه بني عبد المطلب- . قال أبو بكر و حدثني أبو زيد قال- حدثنا هارون بن عمر- بإسناد رفعه إلى ابن عباس رحمه الله تعالى- قال تفرق الناس ليلة الجابية عن عمر- فسار كل واحد مع إلفه- ثم صادفت عمر تلك الليلة في مسيرنا- فحادثته فشكا إلي تخلف علي عنه- فقلت أ لم يعتذر إليك قال بلى- فقلت هو ما اعتذر به قال يا ابن عباس- إن أول من ريثكم عن هذا الأمر أبو بكر- إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة و النبوة- قلت لم ذاك يا أمير المؤمنين أ لم ننلهم خيرا- قال بلى و لكنهم لو فعلوا لكنتم عليهم جحفا جحفا- .

 

قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد- قال حدثنا عبد العزيز بن الخطاب قال حدثنا علي بن هشام مرفوعا إلى عاصم بن عمرو بن قتادة قال لقي علي ع عمر فقال له علي ع- أنشدك الله هل استخلفك رسول الله ص قال لا- قال فكيف تصنع أنت و صاحبك- قال أما صاحبي فقد مضى لسبيله- و أما أنا فسأخلعها من عنقي إلى عنقك- فقال جدع الله أنف من ينقذك منها- لا و لكن جعلني الله علما- فإذا قمت فمن خالفني ضل

 

 قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد عن هارون بن عمر- عن محمد بن سعيد بن الفضل عن أبيه- عن الحارث بن كعب عن عبد الله بن أبي أوفى الخزاعي- قال كان خالد بن سعيد بن العاص- من عمال رسول الله ص على اليمن- فلما قبض رسول الله ص جاء المدينة- و قد بايع الناس أبا بكر- فاحتبس عن أبي بكر فلم يبايعه أياما- و قد بايع الناس و أتى بني هاشم فقال- أنتم الظهر و البطن و الشعار دون الدثار- و العصا دون اللحا- فإذا رضيتم رضينا و إذا سخطتم سخطنا- حدثوني إن كنتم قد بايعتم هذا الرجل قالوا نعم- قال على برد و رضا من جماعتكم قالوا نعم-

 

قال‏ فأنا أرضى و أبايع إذا بايعتم- أما و الله يا بني هاشم- إنكم الطوال الشجر الطيبو الثمر- ثم إنه بايع أبا بكر و بلغت أبا بكر فلم يحفل بها- و اضطغنها عليه عمر- فلما ولاه أبو بكر الجند الذي استنفر إلى الشام- قال له عمر أ تولي خالدا و قد حبس عليك بيعته- و قال لبني هاشم ما قال- و قد جاء بورق من اليمن و عبيد- و حبشان و دروع و رماح- ما أرى أن توليه و ما آمن خلافه- فانصرف عنه أبو بكر- و ولى أبا عبيدة بن الجراح- و يزيد بن أبي سفيان و شرحبيل بن حسنة- . و اعلم أن الآثار و الأخبار في هذا الباب كثيرة جدا- و من تأملها و أنصف- علم أنه لم يكن هناك نص صريح و مقطوع به- لا تختلجه الشكوك و لا تتطرق إليه الاحتمالات- كما تزعم الإمامية فإنهم يقولون- إن الرسول ص نص على أمير المؤمنين ع- نصا صريحا جليا ليس بنص يوم الغدير- و لا خبر المنزلة و لا ما شابههما من الأخبار- الواردة من طرق العامة و غيرها- بل نص عليه بالخلافة و بإمرة المؤمنين- و أمر المسلمين أن يسلموا عليه بذلك فسلموا عليه بها- و صرح لهم في كثير من المقامات- بأنه خليفة عليهم من بعده- و أمرهم بالسمع و الطاعة له- و لا ريب أن المنصف إذا سمع ما جرى لهم- بعد وفاة رسول الله ص- يعلم قطعا أنه لم يكن هذا النص- و لكن قد سبق إلى النفوس و العقول- أنه قد كان هناك تعريض و تلويح- و كناية و قول غير صريح و حكم غير مبتوت- و لعله ص كان يصده عن التصريح بذلك أمر يعلمه- و مصلحة يراعيها أو وقوف مع إذن الله تعالى في ذلك- .

 

فأما امتناع علي ع من البيعة- حتى أخرج على الوجه الذي أخرج عليه- فقد ذكره المحدثون و رواه أهل السير- و قد ذكرنا ما قاله الجوهري في هذا الباب- و هو من رجال الحديث و من الثقات المأمونين- و قد ذكر غيره من هذا النحو ما لا يحصى كثرة- . فأما الأمور الشنيعة المستهجنة- التي تذكرها الشيعة- من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة ع- و أنه ضربها بالسوط فصار في عضدها كالدملج- و بقي أثره إلى أن ماتت- و أن عمر أضغطها بين الباب و الجدار- فصاحت يا أبتاه يا رسول الله- و ألقت جنينا ميتا- و جعل في عنق علي ع حبل يقاد به و هو يعتل- و فاطمة خلفه تصرخ و تنادي بالويل و الثبور- و ابناه حسن و حسين معهما يبكيان- و أن عليا لما أحضر سألوه البيعة فامتنع- فتهدد بالقتل-

 

فقال إذن تقتلون عبد الله و أخا رسول الله- فقالوا أما عبد الله فنعم و أما أخو رسول الله فلا- و أنه طعن فيهم في أوجههم بالنفاق- و سطر صحيفة الغدر التي اجتمعوا عليها- و بأنهم أرادوا أن ينفروا ناقة رسول الله ص ليلة العقبة- فكله لا أصل له عند أصحابنا- و لا يثبته أحد منهم و لا رواه أهل الحديث و لا يعرفونه- و إنما هو شي‏ء تنفرد الشيعة بنقله وَ مِنْهَا وَ لَمْ يُبَايِعْ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَهُ عَلَى الْبَيْعَةِ ثَمَناً- فَلَا ظَفِرَتْ يَدُ الْبَائِعِ وَ خَزِيَتْ أَمَانَةُ الْمُبْتَاعِ- فَخُذُوا لِلْحَرْبِ أُهْبَتَهَا وَ أَعِدُّوا لَهَا عُدَّتَهَا- فَقَدْ شَبَّ لَظَاهَا وَ عَلَا سَنَاهَا- وَ اسْتَشْعِرُوا الصَّبْرَ فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى النَّصْرِ هذا فصل من كلام يذكر فيه ع عمرو بن العاص- و قوله فلا ظفرت يد البائع يعني معاوية- و قوله و خزيت أمانة المبتاع يعني عمرا- و خزيت أي‏ خسرت و هانت- و في أكثر النسخ فلا ظفرت يد المبايع بميم المفاعلة- و الظاهر ما رويناه- . و في بعض النسخ فإنه أحزم للنصر- من حزمت الشي‏ء إذا شددته- كأنه يشد النصر و يوثقه- و الرواية التي ذكرناها أحسن- . و الأهبة العدة و شب لظاها استعارة- و أصله صعود طرف النار الأعلى- و السنا بالقصر الضوء- و استشعروا الصبر اتخذوه شعارا- و الشعار ما يلي الجسد في الثياب- و هو ألزم الثياب للجسد- يقول لازموا الصبر كما يلزم الإنسان ثوبه- الذي يلي جلده لا بد له منه- و قد يستغني عن غيره من الثياب

 

قدوم عمرو بن العاص على معاوية

 

لما نزل علي ع الكوفة بعد فراغه من أمر البصرة- كتب إلى معاوية كتابا يدعوه إلى البيعة- أرسل فيه جرير بن عبد الله البجلي- فقدم عليه به الشام فقرأه و اغتم بما فيه- و ذهبت به أفكاره كل مذهب- و طاول جريرا بالجواب عن الكتاب- حتى كلم قوما من أهل الشام في الطلب بدم عثمان- فأجابوه و وثقوا له و أحب الزيادة في الاستظهار- فاستشار أخاه عتبة بن أبي سفيان- فقال له استعن بعمرو بن العاص- فإنه من قد علمت في دهائه و رأيه- و قد اعتزل عثمان في حياته- و هو لأمرك أشد اعتزالا- إلا أن يثمن له دينه فسيبيعك فإنه صاحب دنيا- . فكتب إليه معاوية- أما بعد فإنه كان من أمر علي و طلحة و الزبير ما قد بلغك- و قد سقط إلينا مروان بن الحكم في نفر من أهل البصرة- و قدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة علي- و قد حبست نفسي عليك- فأقبل أذاكرك أمورا لا تعدم صلاح مغبتها إن شاء الله-
فلما قدم الكتاب على عمرو استشار ابنيه- عبد الله بن عمرو و محمد بن عمرو- فقال لهما ما تريان- فقال عبد الله أرى أن رسول الله ص قبض- و هو عنك راض و الخليفتان من بعده- و قتل عثمان و أنت عنه غائب- فقر في منزلك فلست مجعولا خليفة- و لا تزيد على أن تكون حاشية لمعاوية- على دنيا قليلة أوشكتما أن تهلكا- فتستويا في عقابها- و قال محمد أرى أنك شيخ قريش و صاحب أمرها- و أن تصرم هذا الأمر و أنت فيه غافل تصاغر أمرك- فالحق بجماعة أهل الشام و كن يدا من أيديها- طالبا بدم عثمان فإنه سيقوم بذلك بنو أمية- . فقال عمرو أما أنت يا عبد الله- فأمرتني بما هو خير لي في ديني- و أنت يا محمد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي- و أنا ناظر- فلما جنه الليل رفع صوته و أهله يسمعون- فقال

 

تطاول ليلي بالهموم الطوارق
و خوف التي تجلو وجوه العوائق‏

 

و إن ابن هند سألني أن أزوره‏
و تلك التي فيها بنات البوائق‏

 

أتاه جرير من علي بخطة
أمرت عليه العيش ذات مضايق‏

 

فإن نال مني ما يؤمل رده‏
و إن لم ينله ذل ذل المطابق‏

 

فو الله ما أدري و ما كنت هكذا
أكون و مهما قادني فهو سابقي‏

 

أخادعه إن الخداع دنية
أم أعطيه من نفسي نصيحة وامق‏

 

أم أقعد في بيتي و في ذاك راحة
لشيخ يخاف الموت في كل شارق‏

 

و قد قال عبد الله قولا تعلقت‏
به النفس إن لم تقتطعني عوائقي‏

 

و خالفه فيه أخوه محمد
و إني لصلب العود عند الحقائق‏

 

 فقال عبد الله رحل الشيخ- و دعا عمرو غلامه وردان و كان داهيا ماردا- فقال ارحل يا وردان- ثم قال احطط يا وردان- ثم قال ارحل يا وردان احطط يا وردان- فقال له وردان خلطت أبا عبد الله- أما إنك إن شئت أنبأتك بما في قلبك- قال هات ويحك- قال اعتركت الدنيا و الآخرة على قلبك- فقلت علي معه الآخرة في غير دنيا- و في الآخرة عوض من الدنيا- و معاوية معه الدنيا بغير آخرة- و ليس في الدنيا عوض من الآخرة- و أنت واقف بينهما- قال قاتلك الله ما أخطأت ما في قلبي- فما ترى يا وردان- قال أرى أن تقيم في بيتك- فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم- و إن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك- قال الآن لما أشهرت العرب سيري إلى معاوية- فارتحل و هو يقول-

 

يا قاتل الله وردانا و قدحته
أبدى لعمرك ما في النفس وردان‏

 

لما تعرضت الدنيا عرضت لها
بحرص نفسي و في الأطباع إدهان‏

 

نفس تعف و أخرى الحرص يغلبها
و المرء يأكل تبنا و هو غرثان‏

 

أما علي فدين ليس يشركه‏
دنيا و ذاك له دنيا و سلطان‏

 

فاخترت من طمعي دنيا على بصر
و ما معي بالذي أختار برهان‏

 

إني لأعرف ما فيها و أبصره‏
و في أيضا لما أهواه ألوان‏

 

لكن نفسي تحب العيش في شرف
و ليس يرضى بذل العيش إنسان‏

 

فسار حتى قدم على معاوية و عرف حاجة معاوية إليه- فباعده من نفسه و كايد كل واحد منهما صاحبه- . فقال له معاوية يوم دخل عليه أبا عبد الله- طرقتنا في ليلتنا ثلاثة أخبار ليس فيها ورد و لا صدر- قال و ما ذاك قال- منها أن محمد بن أبي حذيفة كسر سجن مصر- فخرج هو و أصحابه- و هو من آفات هذا الدين- و منها أن قيصر زحف بجماعة الروم ليغلب على الشام- و منها أن عليا نزل الكوفة و تهيأ للمسير إلينا- . فقال عمرو ليس كل ما ذكرت عظيما- أما ابن أبي حذيفة- فما يتعاظمك من رجل خرج في أشباهه- أن تبعث إليه رجلا يقتله أو يأتيك به- و إن قاتل لم يضرك- و أما قيصر فأهد له الوصائف و آنية الذهب و الفضة- و سله الموادعة فإنه إليها سريع- و أما علي فلا- و الله يا معاوية ما يسوي العرب بينك و بينه- في شي‏ء من الأشياء- و إن له في الحرب لحظا ما هو لأحد من قريش- و إنه لصاحب ما هو فيه إلا أن تظلمه- هكذا في رواية نصر بن مزاحم عن محمد بن عبيد الله- . و روى نصر أيضا عن عمر بن سعد قال-

 

قال معاوية لعمرو يا أبا عبد الله- إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى الله- و شق عصا المسلمين- و قتل الخليفة و أظهر الفتنة- و فرق‏ الجماعة و قطع الرحم- فقال عمرو من هو قال علي- قال و الله يا معاوية ما أنت و علي بحملي بعير- ليس لك هجرته و لا سابقته- و لا صحبته و لا جهاده و لا فقهه و لا علمه- و و الله إن له مع ذلك لحظا في الحرب- ليس لأحد غيره- و لكني قد تعودت من الله تعالى إحسانا و بلاء جميلا- فما تجعل لي إن شايعتك على حربه- و أنت تعلم ما فيه من الغرر و الخطر قال حكمك- فقال مصر طعمة- فتلكأ عليه معاوية- . قال نصر و في حديث غير عمر بن سعد-

 

فقال له معاوية يا أبا عبد الله- إني أكره لك أن تتحدث العرب عنك- أنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا- قال عمرو دعني عنك- فقال معاوية إني لو شئت أن أمنيك و أخدعك لفعلت- قال عمرو لا لعمر الله ما مثلي يخدع- لأنا أكيس من ذلك- قال معاوية ادن مني أسارك فدنا منه عمرو ليساره- فعض معاوية أذنه- و قال هذه خدعة هل ترى في البيت أحدا- ليس غيري و غيرك- . قلت قال شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى- قول عمرو له دعني عنك كناية عن الإلحاد بل تصريح به- أي دع هذا الكلام لا أصل له- فإن اعتقاد الآخرة- و أنها لا تباع بعرض الدنيا من الخرافات- . و قال رحمه الله تعالى و ما زال عمرو بن العاص ملحدا- ما تردد قط في الإلحاد و الزندقة- و كان معاوية مثله- و يكفي من تلاعبهما بالإسلام حديث السرار المروي- و أن معاوية عض أذن عمرو- أين هذا من سيرة عمر- و أين هذا من أخلاق علي ع و شدته في ذات الله- و هما مع ذلك يعيبانه بالدعابة- .

قال نصر فأنشأ عمرو يقول-

 

معاوي لا أعطيك ديني و لم أنل
به منك دنيا فانظرن كيف تصنع‏

 

فإن تعطني مصرا فأربح بصفقة
أخذت بها شيخا يضر و ينفع‏

 

و ما الدين و الدنيا سواء و إنني
لآخذ ما تعطي و رأسي مقنع‏

 

و لكنني أغضي الجفون و إنني‏
لأخدع نفسي و المخادع يخدع‏

 

و أعطيك أمرا فيه للملك قوة
و ألفي به إن زلت النعل أصرع‏

 

و تمنعني مصرا و ليست برغبة
و إني بذا الممنوع قدما لمولع‏

 

قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ- كانت مصر في نفس عمرو بن العاص- لأنه هو الذي فتحها في سنة تسع عشرة من الهجرة- في خلافة عمر- فكان لعظمها في نفسه و جلالتها في صدره- و ما قد عرفه من أموالها و سعة الدنيا- لا يستعظم أن يجعلها ثمنا من دينه- و هذا معنى قوله-

و إني بذا الممنوع قدما لمولع‏

 قال نصر فقال له معاوية يا أبا عبد الله- أ ما تعلم أن مصر مثل العراق قال بلى- و لكنها إنما تكون لي إذا كانت لك- و إنما تكون لك إذا غلبت عليا على العراق- . قال و قد كان أهل مصر- بعثوا بطاعتهم إلى علي ع- . فلما حضر عتبة بن أبي سفيان قال لمعاوية- أ ما ترضى أن تشتري عمرا بمصر-

إن هي صفت لك ليتك لا تغلب على الشام- فقال معاوية يا عتبة بت عندنا الليلة- فلما جن الليل على عتبة رفع صوته ليسمع معاوية- و قال

 

أيها المانع سيفا لم يهز
إنما ملت على خز و قز

 

إنما أنت خروف ماثل‏
بين ضرعين و صوف لم يجز

 

أعط عمرا إن عمرا تارك
دينه اليوم لدنيا لم تحز

 

يا لك الخير فخذ من دره‏
شخبه الأول و ابعد ما غرز

 

و اسحب الذيل و بادر فوقها
و انتهزها إن عمرا ينتهز

 

أعطه مصرا و زده مثلها
إنما مصر لمن عز فبز

 

و اترك الحرص عليها ضلة
و اشبب النار لمقرور يكز

 

إن مصرا لعلي أو لنا
يغلب اليوم عليها من عجز

 

قال فلما سمع معاوية قول عتبة- أرسل إلى عمرو فأعطاه مصر- فقال عمرو لي الله عليك بذلك شاهد- قال نعم لك الله علي بذلك- إن فتح الله علينا الكوفة- فقال عمرو و اللَّهُ عَلى‏ ما نَقُولُ وَكِيلٌ- . فخرج عمرو من عنده فقال له ابناه- ما صنعت- قال أعطانا مصر طعمة- قالا و ما مصر في ملك العرب- قال لا أشبع الله بطونكما إن لم تشبعكما مصر- . قال و كتب معاوية له بمصر كتابه- و كتب على ألا ينقض شرط طاعة- فكتب عمرو على ألا تنقض طاعة شرطا- فكايد كل واحد منهما صاحبه- . قلت قد ذكر هذا اللفظ أبو العباس محمد بن يزيد المبرد- في كتابه الكامل-و لم يفسره- و تفسيره أن معاوية قال للكاتب- اكتب على ألا ينقض شرط طاعة- يريد أخذ إقرار عمرو له- أنه قد بايعه على الطاعة بيعة مطلقة غير مشروطة بشي‏ء- و هذه مكايدة له- لأنه لو كتب ذلك لكان لمعاوية- أن يرجع في إعطائه مصر- و لم يكن لعمرو أن يرجع عن طاعته- و يحتج عليه برجوعه عن إعطائه مصر- لأن مقتضى المشارطة المذكورة- أن طاعة معاوية واجبة عليه مطلقا- سواء أ كانت مصر مسلمة إليه أم لا- .

 

فلما انتبه عمرو إلى هذه المكيدة منع الكاتب- من أن يكتب ذلك و قال بل اكتب- على ألا تنقض طاعة شرطا- يريد أخذ إقرار معاوية له بأنه إذا كان أطاعه- لا تنقض طاعته إياه ما شارطه عليه من تسليم مصر إليه- و هذا أيضا مكايدة من عمرو لمعاوية- و منع له من أن يغدر بما أعطاه من مصر- قال نصر و كان لعمرو بن العاص عم من بني سهم أريب- فلما جاء عمرو بالكتاب مسرورا عجب الفتى- و قال أ لا تخبرني يا عمرو- بأي رأي تعيش في قريش- أعطيت دينك و تمنيت دنيا غيرك- أ ترى أهل مصر و هم قتلة عثمان- يدفعونها إلى معاوية و علي حي- و أ تراها إن صارت لمعاوية لا يأخذها بالحرف- الذي قدمه في الكتاب- فقال عمرو يا ابن أخي- إن الأمر لله دون علي و معاوية- فقال الفتى

 

ألا يا هند أخت بني زياد
رمي عمرو بداهية البلاد

 

رمي عمرو بأعور عبشمي‏
بعيد القعر مخشي الكياد

 

له خدع يحار العقل منها
مزخرفة صوائد للفؤاد

 

فشرط في الكتاب عليه حرفا
يناديه بخدعته المنادي‏

 
و أثبت مثله عمرو عليه
كلا المرأين حية بطن واد

 

ألا يا عمرو ما أحرزت مصرا
و لا ملت الغداة إلى الرشاد

 

أ بعت الدين بالدنيا خسارا
فأنت بذاك من شر العباد

 

فلو كنت الغداة أخذت مصرا
و لكن دونها خرط القتاد

 

وفدت إلى معاوية بن حرب
فكنت بها كوافد قوم عاد

 

و أعطيت الذي أعطيت منها
بطرس فيه نضح من مداد

 

أ لم تعرف أبا حسن عليا
و ما نالت يداه من الأعادي‏

 

عدلت به معاوية بن حرب‏
فيا بعد البياض من السواد

 

و يا بعد الأصابع من سهيل
و يا بعد الصلاح من الفساد

 

أ تأمن أن تدال على خدب‏
يحث الخيل بالأسل الحداد

 

ينادي بالنزال و أنت منه
قريب فانظرن من ذا تعادي‏

 

 

فقال عمرو يا ابن أخي لو كنت عند علي لوسعني- و لكني الآن عند معاوية- قال الفتى إنك لو لم ترد معاوية لم يردك- و لكنك تريد دنياه و هو يريد دينك- و بلغ معاوية قول الفتى فطلبه- فهرب فلحق بعلي ع فحدثه أمره فسر به و قربه- . قال و غضب مروان و قال- ما بالي لا أشتري كما اشتري عمرو- فقال معاوية إنما يشترى الرجال لك- فلما بلغ عليا ع ما صنع معاوية قال‏

 

يا عجبا لقد سمعت منكرا
كذبا على الله يشيب الشعرا

 

يسترق السمع و يعشي البصرا
ما كان يرضى أحمد لو أخبرا
أن يقرنوا وصيه و الأبترا
شاني الرسول و اللعين الأخزرا

 

كلاهما في جنده قد عسكرا
قد باع هذا دينه فأفجرا

 

من ذا بدنيا بيعه قد خسرا
بملك مصر أن أصاب الظفرا

 

إني إذا الموت دنا و حضرا
شمرت ثوبي و دعوت قنبرا

 

قدم لوائي لا تؤخر حذرا
لا يدفع الحذار ما قد قدرا

 

لما رأيت الموت موتا أحمرا
عبأت همدان و عبوا حميرا

 

حي يمان يعظمون الخطرا
قرن إذا ناطح قرنا كسرا

 

قل لابن حرب لا تدب الخمرا
أرود قليلا أبد منك الضجرا

 

لا تحسبني يا ابن هند غمرا
و سل بنا بدرا معا و خيبرا

 

يوم جعلناكم ببدر جزرا
لو أن عندي يا ابن هند جعفرا

 

أو حمزة القرم الهمام الأزهرا
رأت قريش نجم ليل ظهرا

 

قال نصر فلما كتب الكتاب- قال معاوية لعمرو ما ترى الآن- قال أمض الرأي الأول- فبعث مالك بن هبيرة الكندي- في طلب محمد بن أبي حذيفة- فأدركه فقتله- و بعث إلى قيصر بالهدايا فوادعه- ثم قال ما ترى في علي- قال أرى فيه‏ خيرا- إنه قد أتاك في طلب البيعة خير أهل العراق- و من عند خير الناس في أنفس الناس- و دعواك أهل الشام إلى رد هذه البيعة خطر شديد- و رأس أهل الشام شرحبيل بن السمط الكندي- و هو عدو لجرير المرسل إليك- فابعث إليه و وطن له ثقاتك- فليفشوا في الناس أن عليا قتل عثمان- و ليكونوا أهل رضا عند شرحبيل- فإنها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحب- و إن تعلقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه بشي‏ء أبدا- .

 

فكتب إلى شرحبيل- أن جرير بن عبد الله قدم علينا- من عند علي بن أبي طالب بأمر مفظع فاقدم- . و دعا معاوية يزيد بن أسد و بسر بن أرطاة- و عمرو بن سفيان و مخارق بن الحارث الزبيدي- و حمزة بن مالك و حابس بن سعد الطائي- و هؤلاء رءوس قحطان و اليمن- و كانوا ثقات معاوية و خاصته- و بني عم شرحبيل بن السمط- فأمرهم أن يلقوه و يخبروه أن عليا قتل عثمان- فلما قدم كتاب معاوية على شرحبيل و هو بحمص- استشار أهل اليمن فاختلفوا عليه- فقام إليه عبد الرحمن بن غنم الأزدي- و هو صاحب معاذ بن جبل و ختنه- و كان أفقه أهل الشام- فقال يا شرحبيل بن السمط- إن الله لم يزل يزيدك خيرا منذ هاجرت إلى اليوم- و إنه لا ينقطع المزيد من الله- حتى ينقطع الشكر من الناس- و إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم- إنه قد ألقي إلى معاوية أن عليا قتل عثمان- و لهذا يريدك-

 

 

فإن كان قتله فقد بايعه المهاجرون و الأنصار- و هم الحكام على الناس- و إن لم يكن قتله فعلام تصدق معاوية عليه- لا تهلكن نفسك و قومك- فإن كرهت أن يذهب بحظها جرير فسر إلى علي- فبايعه عن شامك و قومك- فأبى شرحبيل إلا أن يسير إلى معاوية- فكتب إليه عياض الثمالي و كان ناسكا-
يا شرح يا ابن السمط إنك بالغ
بود علي ما تريد من الأمر

 

و يا شرح إن الشام شامك ما بها
سواك فدع عنك المضلل من فهر

 

فإن ابن هند ناصب لك خدعة
تكون علينا مثل راغية البكر

 

فإن نال ما يرجو بنا كان ملكنا
هنيئا له و الحرب قاصمة الظهر

 

فلا تبغين حرب العراق فإنها
تحرم أطهار النساء من الذعر

 

و إن عليا خير من وطئ الثرى‏
من الهاشميين المداريك للوتر

 

له في رقاب الناس عهد و ذمة
كعهد أبي حفص و عهد أبي بكر

 

فبايع و لا ترجع على العقب كافرا
أعيذك بالله العزيز من الكفر

 

و لا تسمعن قول الطغاة فإنهم
يريدون أن يلقوك في لجة البحر

 

و ما ذا عليهم أن تطاعن دونهم‏
عليا بأطراف المثقفة السمر

 

فإن غلبوا كانوا علينا أئمة
و كنا بحمد الله من ولد الطهر

 

و إن غلبوا لم يصل بالخطب غيرنا
و كان علي حربنا آخر الدهر

 

يهون على عليا لؤي بن غالب
دماء بني قحطان في ملكهم تجري‏

 

فدع عنك عثمان بن عفان إنما
لك الخبر لا تدري بأنك لا تدري‏

 

على أي حال كان مصرع جنبه
فلا تسمعن قول الأعيور أو عمرو

 

 

قال فلما قدم شرحبيل على معاوية- أمر الناس أن يتلقوه و يعظموه- فلما دخل على معاوية تكلم معاوية- فحمد الله و أثنى عليه- ثم قال يا شرحبيل- إن جرير بن عبد الله قدم علينا يدعونا إلى بيعة علي- و علي خير الناس- لو لا أنه قتل عثمان بن عفان- و قد حبست نفسي عليك- و إنما أنا رجل من أهل الشام- أرضى ما رضوا و أكره ما كرهوا- . فقال شرحبيل أخرج فأنظر- فلقيه هؤلاء النفر الموطئون له- فكلهم أخبره أن عليا قتل عثمان- فرجع مغضبا إلى معاوية فقال يا معاوية- أبى الناس إلا أن عليا قتل عثمان- و الله إن بايعت له لنخرجنك من شامنا أو لنقتلنك- فقال معاوية ما كنت لأخالف عليكم- ما أنا إلا رجل من أهل الشام- قال فرد هذا الرجل إلى صاحبه إذن- فعرف معاوية أن شرحبيل قد نفذت بصيرته- في حرب أهل العراق- و أن الشام كله مع شرحبيل- و كتب إلى علي ع ما سنورده فيما بعد- إن شاء الله تعالى

 

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد)، ج 2

Show More

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.

Back to top button
-+=