242 و من خطبة له ع في شأن الحكمين و ذم أهل الشام
جُفَاةٌ طَغَامٌ عَبِيدٌ أَقْزَامٌ- جُمِعُوا مِنْ كُلِّ أَوْبٍ وَ تُلُقِّطُوا مِنْ كُلِّ شَوْبٍ- مِمَّنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَقَّهَ وَ يُؤَدَّبَ- وَ يُعَلَّمَ وَ يُدَرَّبَ وَ يُوَلَّى عَلَيْهِ- وَ يُؤْخَذَ عَلَى يَدَيْهِ- لَيْسُوا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ- وَ لَا مِنَ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَ الْإِيمَانَ- أَلَا وَ إِنَّ الْقَوْمَ اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ- أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا يُحِبُّونَ- وَ إِنَّكُمُ اخْتَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ- أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا تَكْرَهُونَ- وَ إِنَّمَا عَهْدُكُمْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ بِالْأَمْسِ يَقُولُ- إِنَّهَا فِتْنَةٌ فَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ وَ شِيمُوا سُيُوفَكُمْ- فَإِنْ كَانَ صَادِقاً فَقَدْ أَخْطَأَ بِمَسِيرِهِ غَيْرَ مُسْتَكْرَهٍ- وَ إِنْ كَانَ كَاذِباً فَقَدْ لَزِمَتْهُ التُّهْمَةُ- فَادْفَعُوا فِي صَدْرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ- وَ خُذُوا مَهَلَ الْأَيَّامِ وَ حُوطُوا قَوَاصِيَ الْإِسْلَامِ- أَ لَا تَرَوْنَ إِلَى بِلَادِكُمْ تُغْزَى وَ إِلَى صَفَاتِكُمْ تُرْمَى جفاة جمع جاف أي هم أعراب أجلاف- و الطغام أوغاد الناس الواحد و الجمع فيه سواء- . و يقال للأشرار و اللئام عبيد و إن كانوا أحرارا- .
و الأقزام بالزاي رذال الناس و سفلتهم- و المسموع قزم الذكر و الأنثى و الواحد و الجمع فيه سواء- لأنه في معنى المصدر قال الشاعر-
و هم إذا الخيل جالوا في كتائبها
فوارس الخيل لا ميل و لا قزم
و لكنه ع قال أقزام- ليوازن بها قوله طغام- و قد روي قزام و هي رواية جيدة- و قد نطقت العرب بهذه اللفظة و قال الشاعر-
أحصنوا أمهم من عبدهم
تلك أفعال القزام الوكعه
و جمعوا من كل أوب أي من كل ناحية- . و تلقطوا من كل شوب أي من فرق مختلطة- . ثم وصف جهلهم و بعدهم عن العلم و الدين- فقال ممن ينبغي أن يفقه و يؤدب- أي يعلم الفقه و الأدب- و يدرب أي يعود اعتماد الأفعال الحسنة- و الأخلاق الجميلة- . و يولى عليه أي لا يستحقون أن يولوا أمرا- بل ينبغي أن يحجر عليهم- كما يحجر على الصبي و السفيه لعدم رشده-
و روي و يولى عليه بالتخفيف- و يؤخذ على يديه أي يمنع من التصرف- . قوله ع- و لا الذين تبوءوا الدار و الإيمان- ظاهر اللفظ يشعر بأن الأقسام ثلاثة و ليست إلا اثنين- لأن الذين تبوءوا الدار و الإيمان الأنصار- و لكنه ع كرر ذكرهم تأكيدا- و أيضا فإن لفظة الأنصار- واقعة على كل من كان من الأوس و الخزرج- الذين أسلموا على عهد رسول الله ص- و الذين تبوءوا الدارو الإيمان في الآية- قوم مخصوصون منهم- و هم أهل الإخلاص و الإيمان التام- فصار ذكر الخاص بعد العام- كذكره تعالى جبريل و ميكائيل- ثم قال وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ و هما من الملائكة- و معنى قوله تبوءوا الدار و الإيمان سكنوهما- و إن كان الإيمان لا يسكن كما تسكن المنازل- لكنهم لما ثبتوا عليه و اطمأنوا- سماه منزلا لهم و متبوأ- و يجوز أن يكون مثل قوله-
و رأيت زوجك في الوغى
متقلدا سيفا و رمحا
ثم ذكر ع أن أهل الشام- اختاروا لأنفسهم أقرب القوم مما يحبونه- و هو عمرو بن العاص- و كرر لفظة القوم و كان الأصل أن يقول- ألا و إن القوم اختاروا لأنفسهم أقربهم مما يحبون- فأخرجه مخرج قول الله تعالى- وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ- و الذي يحبه أهل الشام- هو الانتصار على أهل العراق و الظفر بهم- و كان عمرو بن العاص أقربهم إلى بلوغ ذلك- و الوصول إليه بمكره و حيلته و خدائعه- و القوم في قوله ثانيا أقرب القوم بمعنى الناس- كأنه قال و اخترتم لأنفسكم أقرب الناس- مما تكرهونه و هو أبو موسى الأشعري- و اسمه عبد الله بن قيس- و الذي يكرهه أهل العراق هو ما يحبه أهل الشام- و هو خذلان عسكر العراق و انكسارهم- و استيلاء أهل الشام عليهم- و كان أبو موسى أقرب الناس إلى وقوع ذلك- و هكذا وقع لبلهه و غفلته و فساد رأيه- و بغضه عليا ع من قبل- .
ثم قال أنتم بالأمس يعني في واقعة الجمل- قد سمعتم أبا موسى ينهى أهل الكوفة عن نصرتي- و يقول لهم هذه هي الفتنة التي وعدنا بها- فقطعوا أوتار قسيكم- و شيموا سيوفكم أي أغمدوها- فإن كان صادقا فما باله سار إلي- و صار معي في الصف و حضر حرب صفين- و كثر سواد أهل العراق- و إن لم يحارب و لم يسل السيف- فإن من حضر في إحدى الجهتين-
و إن لم يحارب كمن حارب- و إن كان كاذبا فيما رواه من خبر الفتنة- فقد لزمته التهمة و قبح الاختلاف إليه في الحكومة- و هذا يؤكد صحة إحدى الروايتين في أمر أبي موسى- فإنه قد اختلفت الرواية- هل حضر حرب صفين مع أهل العراق أم لا- فمن قال حضر قال حضر و لم يحارب- و ما طلبه اليمانيون من أصحاب علي ع- ليجعلوه حكما كالأشعث بن قيس و غيره- إلا و هو حاضر معهم في الصف- و لم يكن منهم على مسافة- و لو كان على مسافة لما طلبوه- و لكان لهم فيمن حضر غناء عنه- و لو كان على مسافة لما وافق علي ع على تحكيمه- و لا كان علي ع ممن يحكم من لم يحضر معه- . و قال الأكثرون إنه كان معتزلا للحرب- بعيدا عن أهل العراق و أهل الشام- .
فإن قلت فلم لا يحمل قوله ع- فإن كان صادقا فقد أخطأ بسيره غير مستكره- على مسيره إلى أمير المؤمنين ع- و أهل العراق حيث طلبوه ليفوضوا إليه أمر الحكومة- قلت لو حملنا كلامه ع على هذا- لم يكن لازما لأبي موسى و كان الجواب عنه هينا- و ذلك لأن أبا موسى يقول- إنما أنكرت الحرب و ما سرت لأحارب- و لا لأشهد الحرب و لا أغري بالحرب- و إنما سرت للإصلاح بين الناس و إطفاء نائرة الفتنة- فليس يناقض ذلك ما رويته عن الرسول من خبر الفتنة- و لا ما قلته في الكوفة في واقعة الجمل- قطعوا أوتار قسيكم- .
قوله ع- فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد الله بن العباس- يقال لمن يرام كفه عن أمر يتطاول له ادفع في صدره- و ذلك لأن من يقدم على أمر ببدنه- فيدفع دافع في صدره حقيقة- فإنه يرده أو يكاد فنقل ذلك إلى الدفع المعنوي- . قوله ع و خذوا مهل الأيام- أي اغتنموا سعة الوقت- و خذوه مناهبة قبل أن يضيق بكم أو يفوت- . قوله ع و حوطوا قواصي الإسلام- ما بعد من الأطراف و النواحي- . ثم قال لهم أ لا ترون إلى بلادكم تغزى- هذا يدل على أن هذه الخطبة- بعد انقضاء أمر التحكيم- لأن معاوية بعد أن تم على أبي موسى من الخديعة ما تم- استعجل أمره- و بعث السرايا إلى أعمال أمير المؤمنين علي ع- . و تقول قد رمى فلان صفاة فلان- إذا دهاه بداهية قال الشاعر-
و الدهر يوتر قوسه
يرمي صفاتك بالمعابل
و أصل ذلك الصخرة الملساء- لا يؤثر فيها السهام و لا يرميها الرامي- إلا بعد أن نبل غيرها- يقول قد بلغت غارات أهل الشام حدود الكوفة- التي هي دار الملك و سرير الخلافة- و ذلك لا يكون إلا بعد الإثخان في غيرها من الأطراف
فصل في نسب أبي موسى و الرأي فيه عند المعتزلة
و نحن نذكر نسب أبي موسى و شيئا من سيرته و حاله- نقلا من كتاب الإستيعاب لابن عبد البر المحدث- و نتبع ذلك بما نقلناه من غير الكتاب المذكور- قال ابن عبد البر هو عبد الله بن قيس بن سليم- بن حضارة بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر- بن عامربن عذر بن وائل بن ناجية- بن الجماهر بن الأشعر و هو نبت بن أدد- بن زيد بن يشجب بن عريب بن كهلان- بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان- و أمه امرأة من عك أسلمت و ماتت بالمدينة- و اختلف في أنه هل هو من مهاجرة الحبشة أم لا- و الصحيح أنه ليس منهم- و لكنه أسلم ثم رجع إلى بلاد قومه- فلم يزل بها حتى قدم هو و ناس من الأشعريين- على رسول الله ص- فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين- جعفر بن أبي طالب و أصحابه من أرض الحبشة- فوافوا رسول الله ص بخيبر- فظن قوم أن أبا موسى قدم من الحبشة مع جعفر- .
و قيل إنه لم يهاجر إلى الحبشة- و إنما أقبل في سفينة مع قوم من الأشعريين- فرمت الريح سفينتهم إلى أرض الحبشة- و خرجوا منها مع جعفر و أصحابه فكان قدومهم معا- فظن قوم أنه كان من مهاجرة الحبشة- . قال و ولاه رسول الله ص من مخاليف اليمن زبيد- و ولاه عمر البصرة لما عزل المغيرة عنها- فلم يزل عليها إلى صدر من خلافة عثمان فعزله عثمان عنها- و ولاها عبد الله بن عامر بن كريز- فنزل أبو موسى الكوفة حينئذ و سكنها- فلما كره أهل الكوفة سعيد بن العاص و دفعوه عنها- ولوا أبا موسى و كتبوا إلى عثمان يسألونه أن يوليه- فأقره على الكوفة- فلما قتل عثمان عزله علي ع عنها- فلم يزل واجدا لذلك على علي ع- حتى جاء منه ما قال حذيفة فيه- فقد روى حذيفة فيه كلاما كرهت ذكره و الله يغفر له- .
قلت الكلام الذي أشار إليه أبو عمر بن عبد البر- و لم يذكره قوله فيه و قد ذكر عنده بالدين- أما أنتم فتقولون ذلك و أما أنا فأشهد أنه عدو لله و لرسوله- و حرب لهما في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد- يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم- و لهم اللعنة و لهمسوء الدار- و كان حذيفة عارفا بالمنافقين- أسر إليه رسول الله ص أمرهم و أعلمه أسماءهم- . و روي أن عمارا سئل عن أبي موسى فقال- لقد سمعت فيه من حذيفة قولا عظيما- سمعته يقول صاحب البرنس الأسود- ثم كلح كلوحا علمت منه أنه كان ليلة العقبة بين ذلك الرهط- .
و روي عن سويد بن غفلة قال- كنت مع أبي موسى على شاطئ الفرات في خلافة عثمان- فروى لي خبرا عن رسول الله ص- قال سمعته يقول إن بني إسرائيل اختلفوا فلم يزل الاختلاف بينهم- حتى بعثوا حكمين ضالين ضلا و أضلا من اتبعهما- و لا ينفك أمر أمتي حتى يبعثوا حكمين- يضلان و يضلان من تبعهما فقلت له- احذر يا أبا موسى أن تكون أحدهما- قال فخلع قميصه و قال أبرأ إلى الله من ذلك- كما أبرأ من قميصي هذا- .
فأما ما تعتقده المعتزلة فيه- فأنا أذكر ما قاله أبو محمد بن متويه- في كتاب الكفاية قال رحمه الله- أما أبو موسى فإنه عظم جرمه بما فعله- و أدى ذلك إلى الضرر الذي لم يخف حاله- و كان علي ع يقنت عليه و على غيره- فيقول اللهم العن معاوية أولا و عمرا ثانيا- و أبا الأعور السلمي ثالثا و أبا موسى الأشعري رابعا روي عنه ع أنه كان يقول في أبي موسى- صبغ بالعلم صبغا و سلخ منه سلخا – .
قال و أبو موسى هو الذي روى عن النبي ص أنه قال كان فيبني إسرائيل حكمان ضالان- و سيكون في أمتي حكمان ضالان ضال من اتبعهما – . و أنه قيل له أ لا يجوز أن تكون أحدهما- فقال لا أو كلاما ما هذا معناه- فلما بلي به قيل فيه البلاء موكل بالمنطق- و لم يثبت في توبته ما ثبت في توبة غيره- و إن كان الشيخ أبو علي قد ذكر في آخر كتاب الحكمين- أنه جاء إلى أمير المؤمنين ع في مرض الحسن بن علي- فقال له أ جئتنا عائدا أم شامتا- فقال بل عائدا و حدث بحديث في فضل العيادة- . قال ابن متويه و هذه أمارة ضعيفة في توبته- .
انتهى كلام ابن متويه- و ذكرته لك لتعلم أنه عند المعتزلة من أرباب الكبائر- و حكمه حكم أمثاله ممن واقع كبيرة و مات عليها- . قال أبو عمر بن عبد البر و اختلف في تاريخ موته- فقيل سنة اثنتين و أربعين و قيل سنة أربع و أربعين- و قيل سنة خمسين و قيل سنة اثنتين و خمسين- . و اختلف في قبره فقيل مات بمكة و دفن بها- و قيل مات بالكوفة و دفن بها
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 13