و من كلام له عليه السّلام يحث أصحابه على الجهاد
وَ اللَّهُ مُسْتَأْدِيكُمْ شُكْرَهُ وَ مُوَرِّثُكُمْ أَمْرَهُ- وَ مُمْهِلُكُمْ فِي مِضْمَارٍ مَحْدُودٍ لِتَتَنَازَعُوا سَبَقَهُ- فَشُدُّوا عُقَدَ الْمَآزِرِ وَ اطْوُوا فُضُولَ الْخَوَاصِرِ- لَا تَجْتَمِعُ عَزِيمَةٌ وَ وَلِيمَةٌ- مَا أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ- وَ أَمْحَى الظُّلَمَ لِتَذَاكِيرِ الْهِمَمِ
اللغة
أقول: المضمار: المدّة تضمر فيها الخيل. قيل: إنّها أربعون يوما، و قد سبق بيانه.
و التنازع: التحازب في الخصومة.
و المئازر: جمع مئزر.
المعنى
و الفصل في غاية من الفصاحة و الجزالة، و الحثّ على الاستعداد ليوم المعاد.
و قوله: و اللّه مستأديكم شكره. أى طالب منكم أداء شكره على نعمه، و ذلك في أوامر القرآن كثير كقوله تعالى وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ و مورثكم أمره: أى سلطانه في الأرض الّذي كان فيمن سلف من أهل طاعته من الامم السابقة كقوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ«» الآية و قوله وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ«» الآية. و قوله: و ممهلكم. إلى قوله: سبقه. استعار لفظ المضمار لمدّة الحياة الدنيا، و وجه المشابهة أنّ الناس يستعدّون في مدّة حياتهم بالرياضات و المجاهدات في سبيل اللّه و تحصيل الكمالات النفسانيّة لغاية السبق إلى حضرة جلال اللّه كما تضمر الخيل لغاية السبق، و أشار إلى علّة ذلك الإمهال و هى تنازع السبق إليه تعالى و أراد به ما يعرض للسالكين في حال إعدادهم لأنفسهم بالرياضات و جدّهم و تشميرهم في طاعة اللّه من منافسة بعضهم لبعض في التقدّم بالفضيلة و سبقه بذلك و حرص كلّ امرء منهم على أن يكون هو الأكمل ليفوز بقصب السبق إلى حضرة قدسه تعالى و المنافسة في الفضايل. و الغبطة بها محمودة لإدّائها بالغابط إلى كماله، و ذلك هو أقصى مطلوب الشارع من امّته، و يحتمل أن يريد بالسبق ما يسبق إليه من الفضيلة أو الجنّة كما سبقت الإشارة إلى مثل ذلك، و لفظ التنازع ترشيح لاستعارة المضمار و المسابقة لأنّ من شأن ذلك التنازع على السبق و المجاذبة على الفوز بالسبقة. و خلاصة المعنى أنّه تعالى أمهلكم في الدنيا للاستعداد فيها و تجاذب السبق إليه. و قوله: فشدّوا عقد المئازر. كناية عن الأمر بالتشمير و الاجتهاد في طاعة اللّه و الاستعداد بها بعد أنّ بيّن أنّ ذلك الغاية من الإمهال في الدنيا إذ كان من شأن من يهتمّ بالأمر و يتحرّك فيه أن يشدّ عقدة مئزره كيلا يشغله عمّا هو بصدده. و قوله: و اطووا فضول الخواصر. كناية عن الأمر بترك ما يفضل من متاع الدنيا على قدر الحاجة من ألوان الطعوم و الملابس و ساير قينات الدنيا. و أصله أنّ الخواصر و البطون لها احتمال أن يتّسع لما فوق قدر الحاجة من المأكول فذلك القدر المتّسع لما فوق الحاجة هو فضول الخواصر. و كنّى بطيّها عمّا ذكرناه. إذ كان من لوازم ذلك الطىّ ترك تلك الفضول. و قوله: لا يجتمع عزيمة و وليمة. أراد بالعزيمة العزيمة على اقتناء الفضائل و اكتسابها و العزيمة هى الإرادة الجازمة للأمر بعد اختياره. و كنّى بالوليمة و هي طعام العرس و نحوه عن خفض العيش و الدعة لاستلزام الوليمة ذلك، و المعنى أنّ العزيمة على تحصيل المطالب الشريفة و كرايم الامور ينافي الدعة و خفض العيش و لا يحصل مع الهوينا لما يستلزمه تحصيل تلك المطالب و العزم عليها من المشاقّ و إتعاب النفس و كذا البدن بالرياضات و المجاهدات المنافية للدعة و الراحة، و يقرب منه قوله تعالى لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ«» ثمّ أكدّ ذلك بقوله: ما أنقض النوم لعزائم اليوم. و أصله أنّ الإنسان يعزم في النهار على المسير بالليل ليقرب المنزل فإذا جاء الليل نام إلى الصباح فانتقض بذلك عزمه فضربه مثلا لمن يعزم على تحصيل الامورالكبار و السعى فيها ثمّ يلزم الإناءة و الدعة، و مراده أنّكم مع هذه الدعة و حبّ الراحة من المتاعب و الجهاد لا يتمّ لكم ما تريدونه و تعزمون عليه من تحصيل السعادة في دينا أو آخرة،
و كذلك قوله: و أمحى الظلم لتذاكير الهمم. و أصله أنّ الرجل يبعثه همّته في مطالبه على المسير بالليل فإذا جنّ الظلام أدركه الكسل و غلبه حبّ النوم عن تذكار مطالبه، و صرفه عنها. فكان الظلام سببا ما لمحو ذلك التذكار من لوح الذكر. فضربه مثلا لمن يدعوه الداعى إلى أمر و يهتمّ به ثمّ يعرض له أدنى أمر فينصرف به عنه. و هو كالّذي قبله. و باللّه التوفيق.
تمّت. هذا آخر الخطب و الأوامر و يتلوه المختار من الكتب و الرسائل إنشاء اللّه تعالى بعونه و عصمته و توفيقه و هدايته.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحهى 335