و من خطبة له عليه السّلام يذكر فيها آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم
هُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ وَ مَوْتُ الْجَهْلِ- يُخْبِرُكُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ وَ صَمْتُهُمْ عَنْ حِكَمِ مَنْطِقِهِمْ- لَا يُخَالِفُونَ الْحَقَّ وَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ- وَ هُمْ دَعَائِمُ الْإِسْلَامِ وَ وَلَائِجُ الِاعْتِصَامِ- بِهِمْ عَادَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ وَ انْزَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ مَقَامِهِ وَ انْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ مَنْبِتِهِ- عَقَلُوا الدِّينَ عَقْلَ وِعَايَةٍ وَ رِعَايَةٍ- لَا عَقْلَ سَمَاعٍ وَ رِوَايَةٍ- فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ وَ رُعَاتَهُ قَلِيلٌ
اللغة
أقول:
الولايج: جمع وليجة فعلية بمعنى مفعولة و هى الموضع يعتصم بدخوله.
و النصاب: الأصل.
المعنى
و ذكر لهم أوصافا.
أحدها: عيش العلم: أى حياته. و قد جعل له حياة ملاحظة لشبهه بالحىّ في وجوده و الانتفاع به ثمّ أطلق عليهم لفظ الحياة مجازا إطلاقا لاسم السبب على المسبّب.
الثاني: و كذلك كونهم موت الجهل. جعل للجهل موتا استعارة باعتبار عدمه بهم: و أطلق عليهم لفظه مجازا أيضا كالّذي قبله.
الثالث: كونهم يخبر حلمهم عن علمهم لعلمهم بمواقع الحلم، و في ذلك إشارة إلى تلازم فضيلتى الحلم و العلم فيهم فهم لا يحلمون إلّا عن علم بمواقع الحلم.
الرابع: كونهم يخبر صمتهم عن حكم منطقهم إذا تكلّموا لأنّ من علم مواقع السكوت و ما ينبغي أن يسكت عنه يستلزم حكمة نفوسهم في منطقهم إذا تكلّموا لأنّ من علم مواقع السكوت و ما ينبغي أن يسكت عنه علم مواقع المنطق و ما ينبغي أن لا يسكت عنه و لو لم يعلم ذلك لجاز أن يتكلّم بما لا ينبغي، و ذلك هو موضع السكوت فلا يكون عالما بمواضع السكوت و قد فرض كذلك. هذا خلف.
الخامس: كونهم لا يخالفون الحقّ: أى لعلمهم به و بطرقه و ذوقهم له فلا يتجاوزونه إلى رذيلة الإفراط، و لا يقفون دونه في مقام رذيلة التفريط.
السادس: و كذلك لا يختلفون فيه لعلمهم بحقيقته.
السابع: كونهم دعائم الإسلام، و استعار لهم لفظ الدعائم باعتبار حفظهم له بعلمهم و حراسته و قيامه في الوجود بهم كما يحفظ البيت بالدعايم و يقوم بها.
الثامن: استعار لهم لفظ الولايج باعتبار كونهم مرجعا للخلق يعتصمون بعلمهم و هدايتهم و اتّباعهم من الجهل و لواحقه و عذاب اللّه في الآخرة كما يعتصم بالوليجة من دخلها.
التاسع: كونهم بهم عاد الحقّ إلى نصابه: أى بولايته عليه السّلام و خلافته عاد الحقّ إلى أصله و انزاح الباطل عن مقامه، و هو إشارة إلى أنّ الأحكام كانت قبله في أيّام عثمان جارية على غير قانون شرعىّ لما نقل عنه من الأحداث و استيلاء بنى اميّة في زمانه على بيت مال المسلمين و أكلهم له بغير حقّ كما سبق شرحه فعاد بولايته عليه السّلام كلّ حقّ إلى أهله و هو أصله و مستقرّه، و الحقّ إذا كان في غير أهله فهو الباطل و مقامه غير أهله. و بولايته عليه السّلام انزاح الباطل عن مقامه، و انقطع لسانه: أى اللسان الناصر للباطل و الناطق به. و استعار وصف الانقطاع له باعتبار سكوته ملاحظة لشبهه بالمنقطع في عدم القول، و رشّح بقوله: من منبته تأكيدا لذلك الانقطاع.
العاشر: كونهم عقلوا الدين رعاية و وعاية لا عقل سماع و رواية، و ذلك أنّك علمت أن للإدراك ثلاث مراتب أدناها تصوّر الشيء بحسب اسمه، و أعلاها تصوّر الشيء بحسب حقيقته و كنهه، و أوسطها بعقله بحسب صفاته و لوازمه الخاصّة به و بها مع بعض أجزائه. فكان عقلهم للدين و علمهم به على أكمل المراتب و هو معنى الرعاية، و رعايتهم له بدراسته و تذكّره و الاحتياط عليه، و ليس علما به من جهة اسمه و سماع ألفاظه فقط. و قوله: فإنّ رواة العلم كثير. إلى آخره. أى ليس كلّ من روى العلم و سمعه كان عالما به و مراعيا له فإنّ ذلك أعمّ من العالم به و العامّ لا يستلزم الخاصّ، و نبّه بذلك على قلّة مثلهم في رعاية العلم و استجماع الفضايل. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحهى 333