google-site-verification: googledc28cebad391242f.html
220-240 خطبه ها شرح ابن ابی الحدیدخطبه ها شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

خطبه 238 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(الثانی)

القول في إسلام أبي بكر و علي و خصائص كل منهما

و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع- ملخص ما ذكره الشيخ أبو عثمان الجاحظ في كتابه- المعروف بكتاب العثمانية- في تفضيل إسلام أبي بكر على إسلام علي ع- لأن هذا الموضع يقتضيه- لقوله ع حكاية عن قريش لما صدق رسول الله ص- و هل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا- لأنهم استصغروا سنه- فاستحقروا أمر محمد رسول الله ص- حيث لم يصدقه في دعواه إلا غلام صغير السن- و شبهة العثمانية التي قررها الجاحظ- من هذه الشبهة نشأت و من هذه الكلمة تفرعت- لأن خلاصتها أن أبا بكر أسلم و هو ابن أربعين سنة- و علي أسلم و لم يبلغ الحلم- فكان إسلام أبي بكر أفضل- .

ثم نذكر ما اعترض به- شيخنا أبو جعفر الإسكافي على الجاحظ- في كتابه المعروف بنقض العثمانية- و يتشعب الكلام بينهما- حتى يخرج عن البحث في الإسلامين- إلى البحث في أفضلية الرجلين و خصائصهما- فإن ذلك لا يخلو عن فائدة جليلة- و نكتةلطيفة لا يليق أن يخلو كتابنا هذا عنها- و لأن كلامهما بالرسائل و الخطابة أشبه- و في الكتابة أقصد و أدخل- و كتابنا هذا موضوع لذكر ذلك و أمثاله- .

قال أبو عثمان قالت العثمانية- أفضل الأمة و أولاها بالإمامة أبو بكر بن أبي قحافة- لإسلامه على الوجه الذي لم يسلم عليه أحد في عصره- و ذلك أن الناس اختلفوا في أول الناس إسلاما- فقال قوم أبو بكر- و قال قوم زيد بن حارثة- و قال قوم خباب بن الأرت- .

و إذا تفقدنا أخبارهم- و أحصينا أحاديثهم و عددنا رجالهم- و نظرنا في صحة أسانيدهم- كان الخبر في تقدم إسلام أبي بكر- أعم و رجاله أكثر و أسانيده أصح- و هو بذاك أشهر و اللفظ فيه أظهر- مع الأشعار الصحيحة- و الأخبار المستفيضة في حياة رسول الله ص و بعد وفاته- و ليس بين الأشعار و الأخبار فرق إذا امتنع في مجيئها- و أصل مخرجها التباعد و الاتفاق و التواطؤ- و لكن ندع هذا المذهب جانبا- و نضرب عنه صفحا اقتدارا على الحجة- و وثوقا بالفلج و القوة- و نقتصر على أدنى نازل في أبي بكر- و ننزل على حكم الخصم فنقول- إنا وجدنا من يزعم أنه أسلم قبل زيد و خباب- و وجدنا من يزعم أنهما أسلما قبله- و أوسط الأمور أعدلها و أقربها من محبة الجميع- و رضا المخالف أن نجعل إسلامهم كان معا- إذ الأخبار متكافئة و الآثار متساوية على ما تزعمون- و ليست إحدى القضيتين أولى- في صحة العقل من الأخرى- ثم نستدل على إمامه أبي بكر بما ورد فيه من الحديث- و بما أبانه به الرسول ص من غيره- . قالوا فمما روي من تقدم إسلامه- ما حدث به أبو داود و ابن مهدي عن شعبة- و ابن عيينة عن الجريري- عن أبي هريرة قال أبو بكر- أنا أحقكم بهذا الأمر يعني الخلافة- أ لست أول من صلى- .

روى عباد بن صهيب عن يحيى بن عمير- عن محمد بن المنكدر أن رسول الله ص قال إن الله بعثني بالهدى و دين الحق إلى الناس كافة- فقالوا كذبت و قال أبو بكر صدقت- . و روى يعلى بن عبيد قال جاء رجل إلى ابن عباس- فسأله من كان أول الناس إسلاما- فقال أ ما سمعت قول حسان بن ثابت-

إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

الثاني التالي المحمود مشهده‏
و أول الناس منهم صدق الرسلا

و قال أبو محجن

سبقت إلى الإسلام و الله شاهد
و كنت حبيبا بالعريش المشهر

و قال كعب بن مالك

سبقت أخا تيم إلى دين أحمد
و كنت لدى الغيران في الكهف صاحبا

و روى ابن أبي شيبة- عن عبد الله بن إدريس و وكيع- عن شعبة عن عمرو بن مرة قال- قال النخعي أبو بكر أول من أسلم- . وروى هيثم عن يعلى بن عطاء عن عمرو بن عنبسة قال أتيت النبي ص و هو بعكاظ- فقلت من بايعك على هذا الأمر- فقال بايعني حر و عبد- فلقد رأيتني يومئذ و أنا رابع الإسلام- .

قال بعض أصحاب الحديث- يعني بالحر أبا بكر و بالعبد بلالا- . وروى الليث بن سعد عن معاوية بن صالح عن سليم بن عامر عن أبي أمامه قال حدثني عمرو بن عنبسة أنه سأل النبي ص و هو بعكاظ- فقال له من تبعك قال تبعني حر و عبد- أبو بكر و بلالوروى عمرو بن إبراهيم الهاشمي عن عبد الملك بن عمير عن أسيد بن صفوان صاحب النبي ص قال لما قبض أبو بكر جاء علي بن أبي طالب ع فقال- رحمك الله أبا بكر كنت أول الناس إسلاما- .

و روى عباد عن الحسن بن دينار- عن بشر بن أبي زينب عن عكرمة مولى ابن عباس- قال إذا لقيت الهاشميين قالوا- علي بن أبي طالب أول من أسلم- و إذا لقيت الذين يعلمون قالوا- أبو بكر أول من أسلم- . قال أبو عثمان الجاحظ قالت العثمانية- فإن قال قائل فما بالكم- لم تذكروا علي بن أبي طالب في هذه الطبقة- و قد تعلمون كثرة مقدميه و الرواية فيه- قلنا قد علمنا الرواية الصحيحة- و الشهادة القائمة أنه أسلم- و هو حدث غرير و طفل صغير- فلم نكذب الناقلين- و لم نستطع أن نلحق إسلامه بإسلام البالغين- لأن المقلل زعم أنه أسلم و هو ابن خمس سنين- و المكثر زعم أنه أسلم و هو ابن تسع سنين- فالقياس أن يؤخذ بالأوسط بين الروايتين- و بالأمر بين الأمرين و إنما يعرف حق ذلك من باطله- بأن نحصي سنيه التي ولي فيها الخلافة- و سني عمر و سني عثمان و سني أبي بكر- و مقام النبي ص بالمدينة- و مقامه بمكة عند إظهار الدعوة- فإذا فعلنا ذلك صح أنه أسلم و هو ابن سبع سنين- فالتاريخ المجمع عليه أنه قتل ع- في شهر رمضان سنة أربعين- .

قال شيخنا أبو جعفر الإسكافي- لو لا ما غلب على الناس من الجهل و حب التقليد- لم نحتج إلى نقض ما احتجت به العثمانية- فقد علم الناس كافة أن الدولة و السلطان لأرباب مقالتهم- و عرف كل أحد علو أقدار شيوخهم- و علمائهم و أمرائهم و ظهور كلمتهم- و قهر سلطانهم و ارتفاع التقية عنهم و الكرامة- و الجائزة لمن روى الأخبار و الأحاديث- في فضل أبي بكر- و ما كان من تأكيد بني أمية لذلك- و ما ولده المحدثون من الأحاديث طلبا لما في أيديهم- فكانوا لا يألون جهدا في طول ما ملكوا- أن يخملوا ذكر علي ع و ولده- و يطفئوا نورهم و يكتموا فضائلهم- و مناقبهم و سوابقهم- و يحملوا على شتمهم و سبهم و لعنهم على المنابر- فلم يزل السيف يقطر من دمائهم- مع قلة عددهم و كثرة عدوهم- فكانوا بين قتيل و أسير- و شريد و هارب و مستخف ذليل و خائف مترقب- حتى إن الفقيه و المحدث و القاضي و المتكلم- ليتقدم إليه و يتوعد- بغاية الإيعاد و أشد العقوبة- ألا يذكروا شيئا من فضائلهم- و لا يرخصوا لأحد أن يطيف بهم- و حتى بلغ من تقية المحدث- أنه إذا ذكر حديثا عن علي ع كنى عن ذكره- فقال قال رجل من قريش- و فعل رجل من قريش- و لا يذكر عليا ع و لا يتفوه باسمه- .

ثم رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله- و وجهوا الحيل و التأويلات نحوها- من خارجي مارق و ناصب حنق- و ثابت مستبهم و ناشئ معاند- و منافق مكذب و عثماني حسود- يعترض فيها و يطعن- و معتزلي قد نقض في الكلام و أبصر علم الاختلاف-و عرف الشبه و مواضع الطعن و ضروب التأويل- قد التمس الحيل في إبطال مناقبه و تأول مشهور فضائله- فمرة يتأولها بما لا يحتمل- و مرة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقض- و لا يزداد مع ذلك إلا قوة و رفعة و وضوحا و استنارة- و قد علمت أن معاوية و يزيد و من كان بعدهما- من بني مروان أيام ملكهم و ذلك نحو ثمانين سنة- لم يدعوا جهدا في حمل الناس على شتمه و لعنه- و إخفاء فضائله و ستر مناقبه و سوابقه روى خالد بن عبد الله الواسطي- عن حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف- عن عبد الله بن ظالم قال- لما بويع لمعاوية أقام المغيرة بن شعبة- خطباء يلعنون عليا ع- فقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل- أ لا ترون إلى هذا الرجل الظالم- يأمر بلعن رجل من أهل الجنة- .

روى سليمان بن داود عن شعبة- عن الحر بن الصباح قال سمعت عبد الرحمن بن الأخنس يقول- شهدت المغيرة بن شعبة خطب- فذكر عليا ع فنال منه- . روى أبو كريب قال حدثنا أبو أسامة- قال حدثنا صدقة بن المثنى النخعي- عن رياح بن الحارث قال- بينما المغيرة بن شعبة بالمسجد الأكبر- و عنده ناس إذ جاءه رجل يقال له- قيس بن علقمة فاستقبل المغيرة فسب عليا ع- .

روى محمد بن سعيد الأصفهاني عن شريك- عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن علي بن الحسين- عن أبيه علي بن الحسين ع قال قال لي مروان- ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم- قلت فما بالكم تسبونه على المنابر- قال إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك- . روى مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي- عن ابن أبي سيف قال خطب مروان و الحسن ع جالس- فنال من علي ع فقال الحسن- ويلك يا مروان أ هذا الذي تشتم شر الناس- قال لا و لكنه خير الناس- .

و روى أبو غسان أيضا قال قال عمر بن عبد العزيز- كان أبي يخطب فلا يزال مستمرا في خطبته- حتى إذا صار إلى ذكر علي و سبه تقطع لسانه- و اصفر وجهه و تغيرت حاله- فقلت له في ذلك فقال أ و قد فطنت لذلك- إن هؤلاء لو يعلمون من علي ما يعلمه أبوك- ما تبعنا منهم رجل- . و روى أبو عثمان قال حدثنا أبو اليقظان- قال قام رجل من ولد عثمان- إلى هشام بن عبد الملك يوم عرفة- فقال إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب- . و روى عمرو بن الفناد عن محمد بن فضيل- عن أشعث بن سوار قال- سب عدي بن أرطاة عليا ع على المنبر- فبكى الحسن البصري و قال- لقد سب هذا اليوم رجل- إنه لأخو رسول الله ص في الدنيا و الآخرة- .

و روى عدي بن ثابت عن إسماعيل بن إبراهيم- قال كنت أنا و إبراهيم بن يزيد جالسين في الجمعة- مما يلي أبواب كندة فخرج المغيرة فخطب- فحمد الله ثم ذكر ما شاء أن يذكر- ثم وقع في علي ع- فضرب إبراهيم على فخذي أو ركبتي- ثم قال أقبل علي- فحدثني فإنا لسنا في جمعة أ لا تسمع ما يقول هذا- .

و روى عبد الله بن عثمان الثقفي- قال حدثنا ابن أبي سيف قال- قال ابن لعامر بن عبد الله بن الزبير لولده- لا تذكر يا بني عليا إلا بخير- فإن بني أمية لعنوه على منابرهم ثمانين سنة- فلم يزده الله بذلك إلا رفعة- إن الدنيا لم تبن شيئا قط- إلا رجعت على ما بنت فهدمته- و إن الدين لم يبن شيئا قط و هدمه- . و روى عثمان بن سعيد قال حدثنا مطلب بن زياد- عن أبي بكر بن عبد الله الأصبهاني قال- كان دعي لبني أمية يقال له خالد بن عبد الله- لا يزال يشتم عليا ع-فلما كان يوم جمعة و هو يخطب الناس- قال و الله إن كان رسول الله ليستعمله- و إنه ليعلم ما هو و لكنه كان ختنه- و قد نعس سعيد بن المسيب ففتح عينيه- ثم قال ويحكم ما قال هذا الخبيث- رأيت القبر انصدع و رسول الله ص يقول- كذبت يا عدو الله- .

و روى القناد قال حدثنا أسباط بن نصر الهمداني- عن السدي قال بينما أنا بالمدينة عند أحجار الزيت- إذ أقبل راكب على بعير فوقف فسب عليا ع- فخف به الناس ينظرون إليه فبينما هو كذلك- إذ أقبل سعد بن أبي وقاص فقال- اللهم إن كان سب عبدا لك صالحا فأر المسلمين خزيه- فما لبث أن نفر به بعيره فسقط فاندقت عنقه- . و روى عثمان بن أبي شيبة- عن عبد الله بن موسى عن فطر بن خليفة- عن أبي عبد الله الجدلي قال- دخلت على أم سلمة رحمها الله فقالت لي- أ يسب رسول الله ص فيكم و أنتم أحياء- قلت و أنى يكون هذا- قالت أ ليس يسب علي ع و من يحبه- .

و روى العباس بن بكار الضبي- قال حدثني أبو بكر الهذلي عن الزهري قال- قال ابن عباس لمعاوية أ لا تكف عن شتم هذا الرجل- قال ما كنت لأفعل حتى يربو عليه الصغير و يهرم فيه الكبير- فلما ولي عمر بن عبد العزيز كف عن شتمه- فقال الناس ترك السنة- . قال و قد روي عن ابن مسعود إما موقوفا عليه أو مرفوعا كيف أنتم إذا شملتكم فتنة- يربو عليها الصغير و يهرم فيها الكبير- يجري عليها الناس فيتخذونها سنة- فإذا غير منها شي‏ء قيل غيرت السنة- .

قال أبو جعفر و قد تعلمون- أن بعض الملوك ربما أحدثوا قولا- أو دينا لهوى فيحملون الناس على ذلك- حتى لا يعرفوا غيره- كنحو ما أخذ الناس الحجاج بن يوسف بقراءة عثمان- و ترك قراءة ابن مسعود و أبي بن كعب- و توعد على ذلك بدون ما صنع هو و جبابرة بني أمية- و طغاة مروان بولد علي ع و شيعته- و إنما كان سلطانه نحو عشرين سنة- فما مات الحجاج- حتى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان- و نشأ أبناؤهم و لا يعرفون غيرها- لإمساك الآباء عنها و كف المعلمين عن تعليمها- حتى لو قرأت عليهم قراءة عبد الله و أبي ما عرفوها- و لظنوا بتأليفها الاستكراه و الاستهجان- لإلف العادة و طول الجهالة- لأنه إذا استولت على الرعية الغلبة- و طالت عليهم أيام التسلط- و شاعت فيهم المخافة و شملتهم التقية- اتفقوا على التخاذل و التساكت- فلا تزال الأيام تأخذ من بصائرهم- و تنقص من ضمائرهم و تنقض من مرائرهم- حتى تصير البدعة التي أحدثوها- غامرة للسنة التي كانوا يعرفونها- و لقد كان الحجاج و من ولاه- كعبد الملك و الوليد و من كان قبلهما و بعدهما- من فراعنة بني أمية على إخفاء محاسن علي ع و فضائله- و فضائل ولده و شيعته و إسقاط أقدارهم- أحرص منهم على إسقاط قراءة عبد الله و أبي- لأن تلك القراءات لا تكون سببا لزوال ملكهم- و فساد أمرهم و انكشاف حالهم- و في اشتهار فضل علي ع و ولده- و إظهار محاسنهم بوارهم و تسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم- فحرصوا و اجتهدوا في إخفاء فضائله- و حملوا الناس على كتمانها و سترها- و أبى الله أن يزيد أمره و أمر ولده- إلا استنارة و إشراقا و حبهم إلا شغفا و شدة- و ذكرهم إلا انتشارا و كثرة- و حجتهم إلا وضوحا و قوة- و فضلهم إلا ظهورا و شأنهم إلا علوا- و أقدارهم إلا إعظاما- حتى أصبحوا بإهانتهم إياهم أعزاء- و بإماتتهم ذكرهم أحياء- و ما أرادوا به و بهم من الشر تحول خيرا- فانتهى إلينا من ذكر فضائله و خصائصه- و مزاياه و سوابقه ما لم يتقدمه السابقون- و لا ساواه فيه القاصدون و لا يلحقه الطالبون- و لو لا أنها كانت‏كالقبلة المنصوبة في الشهرة- و كالسنن المحفوظة في الكثرة- لم يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد- إذا كان الأمر كما وصفناه- .

قال فأما ما احتج به الجاحظ بإمامة أبي بكر- بكونه أول الناس إسلاما- فلو كان هذا احتجاجا صحيحا- لاحتج به أبو بكر يوم السقيفة- و ما رأيناه صنع ذلك لأنه أخذ بيد عمر- و يد أبي عبيدة بن الجراح و قال للناس- قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين- فبايعوا منهما من شئتم- و لو كان هذا احتجاجا صحيحا لما قال عمر- كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها- و لو كان احتجاجا صحيحا- لادعى واحد من الناس لأبي بكر الإمامة- في عصره أو بعد عصره بكونه سبق إلى الإسلام- و ما عرفنا أحدا ادعى له ذلك- على أن جمهور المحدثين لم يذكروا- أن أبا بكر أسلم إلا بعد عدة من الرجال- منهم علي بن أبي طالب و جعفر أخوه- و زيد بن حارثة و أبو ذر الغفاري- و عمرو بن عنبسة السلمي و خالد بن سعيد بن العاص- و خباب بن الأرت و إذا تأملنا الروايات الصحيحة- و الأسانيد القوية و الوثيقة- وجدناها كلها ناطقة بأن عليا ع أول من أسلم- .

فأما الرواية عن ابن عباس أن أبا بكر أولهم إسلاما- فقد روي عن ابن عباس خلاف ذلك- بأكثر مما رووا و أشهر- فمن ذلك ما رواه يحيى بن حماد- عن أبي عوانة و سعيد بن عيسى- عن أبي داود الطيالسي عن عمرو بن ميمون- عن ابن عباس أنه قال- أول من صلى من الرجال علي ع- .

وروى الحسن البصري قال حدثنا عيسى بن راشد- عن أبي بصير عن عكرمة عن ابن عباس قال فرض الله تعالى الاستغفار لعلي ع في القرآن-على كل مسلم بقوله تعالى- رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ- فكل من أسلم بعد علي فهو يستغفر لعلي عوروى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال السباق ثلاثة سبق يوشع بن نون إلى موسى- و سبق صاحب يس إلى عيسى- و سبق علي بن أبي طالب إلى محمد عليه و عليهم السلام- . فهذا قول ابن عباس في سبق علي ع إلى الإسلام- و هو أثبت من حديث الشعبي و أشهر- على أنه قد روي عن الشعبي خلاف ذلك- من حديثأبي بكر الهذلي و داود بن أبي هند عن الشعبي قال قال رسول الله ص لعلي ع- هذا أول من آمن بي و صدقني و صلى معي- .

قال فأما الأخبار الواردة بسبقه إلى الإسلام- المذكورة في الكتب الصحاح و الأسانيد الموثوق بها- فمنها ما روى شريك بن عبد الله- عن سليمان بن المغيرة عن زيد بن وهب- عن عبد الله بن مسعود أنه قال- أول شي‏ء علمته من أمر رسول الله ص- أني قدمت مكة مع عمومة لي و ناس من قومي- و كان من أنفسنا شراء عطر- فأرشدنا إلى العباس بن عبد المطلب فانتهينا إليه- و هو جالس إلى زمزم فبينا نحن عنده جلوسا- إذ أقبل رجل من باب الصفا و عليه ثوبان أبيضان- و له وفرة إلى أنصاف أذنيه جعدة- أشم أقنى أدعج العينين- كث اللحية براق الثنايا- أبيض تعلوه حمرة كأنه القمر ليلة البدر- و على يمينه غلام مراهق أو محتلم حسن الوجه- تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها- حتى قصدوا نحو الحجر فاستلمه و استلمه الغلام- ثم استلمته المرأة ثم طاف بالبيت سبعا- و الغلام و المرأة يطوفان معه ثم استقبل الحجر-فقام و رفع يديه و كبر- و قام الغلام إلى جانبه و قامت المرأة خلفها- فرفعت يديها و كبرت فأطال القنوت- ثم ركع و ركع الغلام و المرأة- ثم رفع رأسه فأطال- و رفع الغلام و المرأة معه يصنعان مثل ما يصنع- فلما رأينا شيئا ننكره لا نعرفه بمكة- أقبلنا على العباس فقلنا يا أبا الفضل- إن هذا الدين ما كنا نعرفه فيكم- قال أجل و الله قلنا فمن هذا-

قال هذا ابن أخي هذا محمد بن عبد الله- و هذا الغلام ابن أخي أيضا هذا علي بن أبي طالب- و هذه المرأة زوجة محمد هذه خديجة بنت خويلد- و الله ما على وجه الأرض أحد يدين بهذا الدين- إلا هؤلاء الثلاثة و من حديث موسى بن داود عن خالد بن نافع- عن عفيف بن قيس الكندي- و قد رواه عن عفيف أيضا مالك بن إسماعيل النهدي- و الحسن بن عنبسة الوراق و إبراهيم بن محمد بن ميمونة- قالوا جميعا حدثنا سعيد بن جشم- عن أسد بن عبد الله البجلي عن يحيى بن عفيف بن قيس- عن أبيه قال كنت في الجاهلية عطارا- فقدمت مكة فنزلت على العباس بن عبد المطلب- فبينا أنا جالس عنده أنظر إلى الكعبة- و قد تحلقت الشمس في السماء- أقبل شاب كان في وجهه القمر- حتى رمى ببصره إلى السماء- فنظر إلى الشمس ساعة- ثم أقبل حتى دنا من الكعبة- فصف قدميه يصلي فخرج على أثره فتى- كأن وجهه صفيحة يمانية فقام عن يمينه- فجاءت امرأة متلففة في ثيابها فقامت خلفهما- فأهوى الشاب راكعا فركعا معه- ثم أهوى إلى الأرض ساجدا فسجدا معه- فقلت للعباس يا أبا الفضل أمر عظيم- فقال أمر و الله عظيم أ تدري من هذا الشاب-

قلت لا قال هذا ابن أخي- هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب- أ تدري من هذا الفتى قلت لا قال- هذا ابن أخي علي بن أبي طالب بن عبد المطلب- أ تدري من المرأة قلت لا- قال هذه ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى- هذه خديجة زوج محمد هذا- و إن محمدا هذا يذكر أن إلهه إله السماء و الأرض- و أمره بهذا الدين فهو عليه كما ترى‏و يزعم أنه نبي- و قد صدقه على قوله علي ابن عمه هذا الفتى- و زوجته خديجة هذه المرأة- و الله ما أعلم على وجه الأرض كلها- أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة- قال عفيف فقلت له- فما تقولون أنتم- قال ننتظر الشيخ ما يصنع يعني أبا طالب أخاه- .

وروى عبد الله بن موسى و الفضل بن دكين و الحسن بن عطية قالوا حدثنا خالد بن طهمان عن نافع بن أبي نافع عن معقل بن يسار قال كنت أوصى النبي ص فقال لي- هل لك أن نعود فاطمة قلت نعم يا رسول الله- فقام يمشي متوكئا علي و قال- أما إنه سيحمل ثقلها غيرك و يكون أجرها لك- قال فو الله كأنه لم يكن علي من ثقل النبي ص شي‏ء- فدخلنا على فاطمة ع- فقال لها ص كيف تجدينك- قالت لقد طال أسفي و اشتد حزني- و قال لي النساء زوجك أبوك فقيرا لا مال له- فقال لها أ ما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما- و أكثرهم علما و أفضلهم حلما- قالت بلى رضيت يا رسول الله: و قد روى هذا الخبر يحيى بن عبد الحميد و عبد السلام بن صالح عن قيس بن الربيع عن أبي أيوب الأنصاري بألفاظه أو نحوها- .

وروى عبد السلام بن صالح عن إسحاق الأزرق عن جعفر بن محمد عن آبائه أن رسول الله ص لما زوج فاطمة- دخل النساء عليها فقلن يا بنت رسول الله- خطبك فلان و فلان فردهم عنك- و زوجك فقيرا لا مال له- فلما دخل عليها أبوها ص رأى ذلك في وجهها- فسألها فذكرت له ذلك فقال يا فاطمة- إن الله أمرني فأنكحتك أقدمهم سلما- و أكثرهم علما و أعظمهم حلما- و ما زوجتك إلا بأمر من السماء- أ ما علمت أنه أخي في الدنيا و الآخرة وروى عثمان بن سعيد عن الحكم بن ظهير عن السدي أن أبا بكر و عمر خطبا فاطمة ع- فردهما رسول الله ص- و قال لم أومر بذلك- فخطبها علي ع فزوجه إياها- و قال لها زوجتك أقدم الأمة إسلاماو ذكر تمام الحديث- قال و قد روى هذا الخبر جماعة من الصحابة- منهم أسماء بنت عميس و أم أيمن- و ابن عباس و جابر بن عبد الله- .

قال و قد روى محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده أبي رافع قال أتيت أبا ذر بالربذة أودعه- فلما أردت الانصراف قال لي و لأناس معي- ستكون فتنة فاتقوا الله- و عليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه- فإني سمعت رسول الله ص يقول له- أنت أول من آمن بي- و أول من يصافحني يوم القيامة- و أنت الصديق الأكبر- و أنت الفاروق الذي يفرق بين الحق و الباطل- و أنت يعسوب المؤمنين و المال يعسوب الكافرين- و أنت أخي و وزيري و خير من أترك بعدي- تقضي ديني و تنجز موعديقال و قدروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير عن العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي قال سمعت علي بن أبي طالب يقول أنا عبد الله و أخو رسوله- و أنا الصديق الأكبر- لا يقولها غيري إلا كذاب- و لقد صليت قبل الناس سبع سنين- .

وروت معاذة بنت عبد الله العدوية قالت سمعت عليا ع يخطب على منبر البصرة و يقول- أنا الصديق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر- و أسلمت قبل أن يسلم- .

وروى حبة بن جوين العرني أنه سمع عليا ع يقول أنا أول رجل أسلم‏مع رسول الله صرواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن حبة بن جوين وروى عثمان بن سعيد الخراز عن علي بن حرار عن علي بن عامر عن أبي الحجاف عن حكيم مولى زاذان قال سمعت عليا ع يقول صليت قبل الناس سبع سنين- و كنا نسجد و لا نركع- و أول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر- فقلت يا رسول الله ما هذا قال أمرت به وروى إسماعيل بن عمرو عن قيس بن الربيع عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله- قال صلى رسول الله ص يوم الإثنين- و صلى علي يوم الثلاثاء بعدهو في الرواية الأخرىعن أنس بن مالك استنبئ النبي ص يوم الإثنين- و أسلم علي يوم الثلاثاء بعدهوروى أبو رافع أن رسول الله ص- صلى أول صلاة صلاها غداة الإثنين- و صلت خديجة آخر نهار يومها ذلك- و صلى علي ع يوم الثلاثاء غدا ذلك اليوم- .

قال و قد روي بروايات مختلفة كثيرة متعددة- عن زيد بن أرقم و سلمان الفارسي و جابر بن عبد الله- و أنس بن مالك أن عليا ع- أول من أسلم و ذكر الروايات و الرجال بأسمائهم- وروى سلمة بن كهيل عن رجاله الذين ذكرهم أبو جعفر في الكتاب أن رسول الله- ص قال أولكم ورودا علي الحوض- أولكم إسلاما علي بن أبي طالبوروى ياسين بن محمد بن أيمن عن أبي حازم مولى ابن عباس عن ابن عباس‏قال سمعت عمر بن الخطاب و هو يقول كفوا عن علي بن أبي طالب فإني سمعت من رسول الله ص يقول فيه خصالا- لو أن خصلة منها في جميع آل الخطاب- كان أحب لي مما طلعت عليه الشمس- كنت ذات يوم و أبو بكر و عثمان و عبد الرحمن بن عوف- و أبو عبيدة مع نفر من أصحاب رسول الله ص نطلبه- فانتهينا إلى باب أم سلمة- فوجدنا عليا متكئا على نجاف الباب- فقلنا أردنا رسول الله ص- فقال هو في البيت رويدكم- فخرج رسول الله ص فسرنا حوله- فاتكأ على علي ع و ضرب بيده على منكبه- فقال أبشر يا علي بن أبي طالب إنك مخاصم- و إنك تخصم الناس بسبع لا يجاريك أحد في واحدة منهن- أنت أول الناس إسلاما و أعلمهم بأيام الله و ذكر الحديث- .

قال و قد روى أبو سعيد الخدري- عن النبي ص مثل هذا الحديث- . قالروى أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله ص أنه قال لقد صلت الملائكة علي و على علي ع سبع سنين- و ذلك أنه لم يصل معي رجل فيها غيرهقال أبو جعفر فأما ما رواه الجاحظ- منقوله ص إنما تبعني حر و عبد- فإنه لم يسم في هذا الحديث أبا بكر و بلالا- و كيف و أبو بكر لم يشتر بلالا إلا بعد ظهور الإسلام بمكة- فلما أظهر بلال إسلامه عذبه أمية بن خلف- و لم يكن ذلك حال إخفاء رسول الله ص الدعوة- و لا في ابتداء أمر الإسلام- .

و قد قيل إنه ع إنما عنى بالحر- علي بن أبي طالب و بالعبد زيد بن حارثة- . و روى ذلك محمد بن إسحاق- قال و قد روى إسماعيل بن نصر الصفار- عن محمد بن ذكوان عن الشعبي قال- قال الحجاج للحسن و عنده جماعة من التابعين- و ذكر علي بن أبي طالب ما تقول أنت يا حسن- فقال ما أقول هو أول من صلى إلى القبلة- و أجاب دعوة رسول الله ص- و إن لعلي منزلة من ربه و قرابة من رسوله- و قد سبقت له سوابق لا يستطيع ردها أحد- فغضب الحجاج غضبا شديدا و قام عن سريره- فدخل بعض البيوت و أمر بصرفنا- . قال الشعبي و كنا جماعة- ما منا إلا من نال من علي ع مقاربة للحجاج- غير الحسن بن أبي الحسن رحمه الله- .

و روى محرز بن هشام عن إبراهيم بن سلمة- عن محمد بن عبيد الله قال- قال رجل للحسن ما لنا لا نراك تثني على علي و تقرظه- قال كيف و سيف الحجاج يقطر دما- إنه لأول من أسلم و حسبكم بذلك- . قال فهذه الأخبار- . و أما الأشعار المروية فمعروفة كثيرة منتشرة- فمنها قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث- بن عبد المطلب مجيبا للوليد بن عقبة بن أبي معيط-

و إن ولي الأمر بعد محمد
علي و في كل المواطن صاحبه‏

وصي رسول الله حقا و صنوه‏
و أول من صلى و من لان جانبه‏

و قال خزيمة بن ثابت في هذا-

وصي رسول الله من دون أهله
و فارسه مذ كان في سالف الزمن‏

و أول من صلى من الناس كلهم‏
سوى خيرة النسوان و الله ذو منن‏

و قال أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس- حين بويع أبو بكر-

ما كنت أحسب أن الأمر منصرف
عن هاشم ثم منها عن أبي حسن‏

أ ليس أول من صلى لقبلتهم‏
و أعلم الناس بالأحكام و السنن‏

و قال أبو الأسود الدؤلي يهدد طلحة و الزبير-

و إن عليا لكم مصحر
يماثله الأسد الأسود

أما إنه أول العابدين‏
بمكة و الله لا يعبد

و قال سعيد بن قيس الهمداني يرتجز بصفين-

هذا علي و ابن عم المصطفى
أول من أجابه فيما روى‏
هو الإمام لا يبالي من غوى‏

و قال زفر بن يزيد بن حذيفة الأسدي-

فحوطوا عليا و انصروه فإنه
وصي و في الإسلام أول أول‏

و إن تخذلوه و الحوادث جمة
فليس لكم عن أرضكم متحول‏

قال و الأشعار كالأخبار- إذا امتنع في مجي‏ء القبيلين التواطؤ و الاتفاق- كان ورودهما حجة فأما قول الجاحظ- فأوسط الأمور أن نجعل إسلامهما معا- فقد أبطل بهذا ما احتج به لإمامة أبي بكر- لأنه احتج بالسبق و قد عدل الآن عنه- . قال أبو جعفر و يقال لهم- لسنا نحتاج من ذكر سبق علي ع- إلا مجامعتكم إيانا على أنه أسلم قبل الناس- و دعواكم أنه أسلم و هو طفل دعوى غير مقبولة لا بحجة- .

فإن قلتم و دعوتكم أنه أسلم- و هو بالغ دعوى غير مقبولة إلا بحجة-قلنا قد ثبت إسلامه بحكم إقراركم- و لو كان طفلا لكان في الحقيقة غير مسلم- لأن اسم الإيمان و الإسلام و الكفر- و الطاعة و المعصية إنما يقع على البالغين- دون الأطفال و المجانين- و إذا أطلقتم و أطلقنا اسم الإسلام- فالأصل في الإطلاق الحقيقة- كيف وقد قال النبي ص أنت أول من آمن بي- و أنت أول من صدقنيوقال لفاطمة زوجتك أقدمهم سلما أو قال إسلاما- فإن قالوا إنما دعاه النبي ص- إلى الإسلام على جهة العرض لا التكليف- . قلنا قد وافقتمونا على الدعاء- و حكم الدعاء حكم الأمر و التكليف- ثم ادعيتم أن ذلك كان على وجه العرض- و ليس لكم أن تقبلوا معنى الدعاء عن وجهه إلا لحجة- .

فإن قالوا لعله كان على وجه التأديب و التعليم- كما يعتمد مثل ذلك مع الأطفال- قلنا إن ذلك إنما يكون إذا تمكن الإسلام بأهله- أو عند النشوء عليه و الولادة فيه- فأما في دار الشرك فلا يقع مثل ذلك- لا سيما إذا كان الإسلام غير معروف و لا معتاد بينهم- على أنه ليس من سنة النبي ص- دعاء أطفال المشركين إلى الإسلام- و التفريق بينهم و بين آبائهم قبل أن يبلغوا الحلم- .

و أيضا فمن شأن الطفل اتباع أهله و تقليد أبيه- و المضي على منشئه و مولده- و قد كانت منزلة النبي ص حينئذ- منزلة ضيق و شدة و وحدة- و هذه منازل لا ينتقل إليها- إلا من ثبت الإسلام عنده بحجة- و دخل اليقين قلبه بعلم و معرفة- . فإن قالوا إن عليا ع- كان يألف النبي ص فوافقه على طريق المساعدة له- قلنا إنه و إن كان يألفه- أكثر من أبويه و إخوته و عمومته و أهل بيته- و لم يكن الإلف ليخرجه عما نشأ عليه- و لم يكن الإسلام مما غذي به و كرر على سمعه-لأن الإسلام هو خلع الأنداد- و البراءة ممن أشرك بالله- و هذا لا يجتمع في اعتقاد طفل- .

و من العجب قول العباس لعفيف بن قيس- ننتظر الشيخ و ما يصنع- فإذا كان العباس و حمزة ينتظران أبا طالب- و يصدران عن رأيه فكيف يخالفه ابنه- و يؤثر القلة على الكثرة- و يفارق المحبوب إلى المكروه و العز إلى الذل- و الأمن إلى الخوف- عن غير معرفة و لا علم بما فيه- . فأما قوله إن المقلل يزعم- أنه أسلم و هو ابن خمس سنين- و المكثر يزعم أنه أسلم و هو ابن تسع سنين- فأول ما يقال في ذلك- إن الأخبار جاءت في سنه ع يوم أسلم- على خمسة أقسام فجعلناه في قسمين- القسم الأول الذين قالوا- أسلم و هو ابن خمس عشرة سنة- حدثنا بذلك أحمد بن سعيد الأسدي- عن إسحاق بن بشر القرشي- عن الأوزاعي عن حمزة بن حبيب- عن شداد بن أوس قال- سألت خباب بن الأرت عن إسلام علي- فقال أسلم و هو ابن خمس عشرة سنة- و لقد رأيته يصلي قبل الناس مع النبي ص- و هو يومئذ بالغ مستحكم البلوغ- و روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن- أن أول من أسلم علي بن أبي طالب- و هو ابن خمس عشرة سنة- . القسم الثاني الذين قالوا- إنه أسلم و هو ابن أربع عشرة سنة- رواه أبو قتادة الحراني عن أبي حازم الأعرج- عن حذيفة بن اليمان قال- كنا نعبد الحجارة و نشرب الخمر- و علي من أبناء أربع عشرة سنة- قائم يصلي مع النبي ص ليلا و نهارا- و قريش يومئذ تسافه رسول الله ص- ما يذب عنه إلا علي‏ع- و روى ابن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميد قال- أسلم علي و هو ابن أربع عشرة سنة- . القسم الثالث الذين قالوا- أسلم و هو ابن إحدى عشرة سنة-رواه إسماعيل بن عبد الله الرقي عن محمد بن عمر عن عبد الله بن سمعان- عن جعفر بن محمد ع عن أبيه عن محمد بن علي ع أن عليا حين أسلم كان ابن إحدى عشرة سنةوروى عبد الله بن زياد المدني عن محمد بن علي الباقر ع قال أول من آمن بالله علي بن أبي طالب- و هو ابن إحدى عشرة سنة- و هاجر إلى المدينة و هو ابن أربعة و عشرين سنة- .

القسم الرابع الذين قالوا- إنه أسلم و هو ابن عشر سنين- رواه نوح بن دراج عن محمد بن إسحاق- قال أول ذكر آمن و صدق بالنبوة علي بن أبي طالب ع- و هو ابن عشر سنين- ثم أسلم زيد بن حارثة- ثم أسلم أبو بكر و هو ابن ست و ثلاثين سنة فيما بلغنا- . القسم الخامس الذين قالوا- إنه أسلم و هو ابن تسع سنين- رواه الحسن بن عنبسة الوراق عن سليم مولى الشعبي- عن الشعبي قال أول من أسلم من الرجال- علي بن أبي طالب و هو ابن تسع سنين- و كان له يوم قبض رسول الله ص تسع و عشرون سنة- .

قال شيخنا أبو جعفر فهذه الأخبار كما تراها- فإما أن يكون الجاحظ جهلها أو قصد العناد- . فأما قوله فالقياس أن نأخذ- بأوسط الأمرين من الروايتين- فنقول إنه أسلم و هو ابن سبع سنين- فإن هذا تحكم منه- و يلزمه مثله في رجل ادعى قبل رجل عشرةدراهم- فأنكر ذلك و قال- إنما يستحق قبلي أربعة دراهم- فينبغي أن نأخذ الأمر المتوسط و يلزمه سبعة دراهم- و يلزمه في أبي بكر حيث قال قوم كان كافرا- و قال قوم كان إماما عادلا أن نقول- أعدل الأقاويل أوسطها و هو منزلة بين المنزلتين- فنقول كان فاسقا ظالما- و كذلك في جميع الأمور المختلف فيها- . فأما قوله و إنما يعرف حق ذلك من باطله- بأن نحصي سني ولاية عثمان و عمر- و أبي بكر و سني الهجرة- و مقام النبي ص بمكة بعد الرسالة إلى أن هاجر- فيقال له لو كانت الروايات متفقة- على هذه التاريخات لكان لهذا القول مساغ- و لكن الناس قد اختلفوا في ذلك- فقيل إن رسول الله ص أقام بمكة- بعد الرسالة خمس عشرة سنة- رواه ابن عباس و قيل ثلاث عشرة سنة- و روي عن ابن عباس أيضا و أكثر الناس يرونه- و قيل عشر سنين رواه عرة بن الزبير- و هو قول الحسن البصري و سعيد بن المسيب- و اختلفوا في سن رسول الله ص فقال قوم- كان ابن خمس و ستين- و قيل كان ابن ثلاث و ستين- و قيل كان ابن ستين- و اختلفوا في سن علي ع- فقيل كان ابن سبع و ستين- و قيل كان ابن خمس و ستين- و قيل ابن ثلاث و ستين و قيل ابن ستين- و قيل ابن تسع و خمسين- .

فكيف يمكن مع هذه الاختلافات تحقيق هذه الحال- و إنما الواجب أن يرجع إلى إطلاق قولهم أسلم علي- فإن هذا الاسم لا يكون مطلقا إلا على البالغ- كما لا يطلق اسم الكافر إلا على البالغ- على أن ابن إحدى عشرة سنة يكون بالغا- و يولد له الأولاد- فقد روت الرواة أن عمرو بن العاص- لم يكن أسن من ابنه عبد الله‏إلا باثنتي عشرة سنة- و هذا يوجب أنه احتلم و بلغ- في أقل من إحدى عشرة سنة- .

و روي أيضا أن محمد بن عبد الله بن العباس- كان أصغر من أبيه علي بن عبد الله بن العباس- بإحدى عشرة سنة- فيلزم الجاحظ أن يكون عبد الله بن العباس- حين مات رسول الله ص غير مسلم على الحقيقة- و لا مثاب و لا مطيع بالإسلام- لأنه كان يومئذ ابن عشر سنين- رواه هشيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس- قال توفي رسول الله ص و أنا ابن عشر سنين- . قال الجاحظ فإن قالوا- فلعله و هو ابن سبع سنين أو ثماني سنين- قد بلغ من فطنته و ذكائه- و صحة لبه و صدق حدسه- و انكشاف العواقب له- و إن لم يكن جرب الأمور و لا فاتح الرجال- و لا نازع الخصوم- ما يعرف به جميع ما يحب على البالغ معرفته و الإقرار به- قيل لهم إنما نتكلم على ظواهر الأحوال- و ما شاهدنا عليه طبائع الأطفال- فإنا وجدنا حكم ابن سبع سنين أو ثمان- ما لم يعلم باطن أمره و خاصة طبعه حكم الأطفال- و ليس لنا أن نزيل ظاهر حكمه- و الذي نعرف من حال أفناء جنسه بلعل و عسى- لأنا و إن كنا لا ندري- لعله قد كان ذا فضيلة في الفطنة- فلعله قد كان ذا نقص فيها- .

هذا على تجويز أن يكون علي ع في الغيب- قد أسلم و هو ابن سبع أو ثمان إسلام البالغ- غير أن الحكم على مجرى أمثاله و أشكاله- الذين أسلموا و هم في مثل سنه- إذ كان إسلام هؤلاء عن تربية الحاضن- و تلقين القيم و رياضة السائس- .

فأما عند التحقيق فإنه لا تجويز لمثل ذلك- لأنه لو كان أسلم و هو ابن سبع‏أو ثمان- و عرف فضل ما بين الأنبياء و الكهنة- و فرق ما بين الرسل و السحرة- و فرق ما بين خبر النبي و المنجم- و حتى عرف كيد الأريب و موضع الحجة- و بعد غور المتنبئ كيف يلبس على العقلاء- و تستمال عقول الدهماء- و عرف الممكن في الطبع من الممتنع- و ما يحدث بالاتفاق مما يحدث بالأسباب- و عرف قدر القوى و غاية الحيلة- و منتهى التمويه و الخديعة- و ما لا يحتمل أن يحدثه إلا الخالق سبحانه- و ما يجوز على الله في حكمته مما لا يجوز- و كيف التحفظ من الهوى و الاحتراس من الخداع- لكان كونه على هذه الحال و هذه مع فرط الصبا و الحداثة- و قلة التجارب و الممارسة خروجا من العادة- و من المعروف مما عليه تركيب هذه الخلقة- و ليس يصل أحد إلى معرفة نبي و كذب متنبئ- حتى يجتمع فيه هذه المعارف التي ذكرناها- و الأسباب التي وصفناها و فصلناها- و لو كان علي ع على هذه الصفة- و معه هذه الخاصية لكان حجة على العامة- و آية تدل على النبوة- و لم يكن الله عز و جل ليخصه بمثل هذه الأعجوبة- إلا و هو يريد أن يحتج بها- و يجعلها قاطعة لعذر الشاهد و حجة على الغائب- و لو لا أن الله أخبر عن يحيى بن زكريا- أنه آتاه الحكم صبيا- و أنه أنطق عيسى في المهد- ما كانا في الحكم و لا في المغيب- إلا كسائر الرسل و ما عليه جميع البشر- فإذا لم ينطق لعلي ع بذلك قرآن- و لا جاء الخبر به مجي‏ء الحجة القاطعة- و المشاهدة القائمة- فالمعلوم عندنا في الحكم أن طباعه- كطباع عميه حمزة و العباس- و هما أمس بمعدن جماع الخير منه- أو كطباع جعفر و عقيل من رجال قومه و سادة رهطه- و لو أن إنسانا ادعى مثل ذلك- لأخيه جعفر أو لعميه حمزة و العباس- ما كان عندنا في أمره إلا مثل ما عندنا فيه أجاب شيخنا أبو جعفر رحمه الله فقال- هذا كله مبني على أنه أسلم و هو ابن سبع أو ثمان-

و نحن قد بينا أنه أسلم بالغا ابن خمس عشرة سنة- أو ابن أربع عشرة سنة- علىأنا لو نزلنا على حكم الخصوم- و قلنا ما هو الأشهر و الأكثر من الرواية- و هو أنه أسلم و هو ابن عشر لم يلزم ما قاله الجاحظ- لأن ابن عشر قد يستجمع عقله- و يعلم من مبادئ المعارف- ما يستخرج به كثيرا من الأمور المعقولة- و متى كان الصبي عاقلا مميزا كان مكلفا بالعقليات- و إن كان تكليفه بالشرعيات- موقوفا على حد آخر و غاية أخرى- فليس بمنكر أن يكون علي ع- و هو ابن عشر قد عقل المعجزة- فلزمه الإقرار بالنبوة و أسلم إسلام عالم عارف- لا إسلام مقلد تابع- و إن كان ما نسقه الجاحظ و عدده- من معرفة السحر و النجوم- و الفصل بينهما و بين النبوة- و معرفة ما يجوز في الحكمة مما لا يجوز- و ما لا يحدثه إلا الخالق- و الفرق بينه و بين ما يقدر عليه القادرون بالقدرة- و معرفة التمويه و الخديعة و التلبيس و المماكرة- شرطا في صحة الإسلام- لما صح إسلام أبي بكر و لا عمر و لا غيرهما من العرب-

و إنما التكليف لهؤلاء بالجمل- و مبادئ المعارف لا بدقائقها و الغامض منها- و ليس يفتقر الإسلام إلى أن يكون المسلم- قد فاتح الرجال و جرب الأمور و نازع الخصوم- و إنما يفتقر إلى صحة الغريزة- و كمال العقل و سلامة الفطرة- أ لا ترى أن طفلا لو نشأ في دار- لم يعاشر الناس بها و لا فاتح الرجال- و لا نازع الخصوم ثم كمل عقله- و حصلت العلوم البديهية عنده لكان مكلفا بالعقليات- .

فأما توهمه أن عليا ع أسلم عن تربية الحاضن- و تلقين القيم و رياضة السائس- فلعمري إن محمدا ص كان حاضنه و قيمه و سائسه- و لكن لم يكن منقطعا عن أبيه أبي طالب- و لا عن إخوته طالب و عقيل و جعفر- و لا عن عمومته و أهل بيته- و ما زال مخالطا لهم ممتزجا بهم مع خدمته لمحمد ص- فما باله لم يمل إلى الشرك و عبادة الأصنام- لمخالطته إخوته و أباه و عمومته و أهله- و هم كثير و محمد ص واحد- و أنت تعلم أن الصبي إذا كان له أهل ذوو كثرة- و فيهم واحد يذهب إلى رأي مفرد- لا يوافقه عليه غيره منهم- فإنه إلى ذوي الكثرة أميل- و عن ذي الرأي الشاذ المنفرد أبعد- و على أن عليا ع لم يولد في دار الإسلام-

و إنما ولد في دار الشرك و ربي بين المشركين- و شاهد الأصنام و عاين بعينه أهله و رهطه يعبدونها- فلو كان في دار الإسلام لكان في القول مجال- و لقيل إنه ولد بين المسلمين- فإسلامه عن تلقين الظئر و عن سماع كلمة الإسلام- و مشاهدة شعاره لأنه لم يسمع غيره- و لا خطر بباله سواه فلما لم يكن ولد كذلك- ثبت أن إسلامه إسلام المميز العارف بما دخل عليه- و لو لا أنه كذلك لما مدحه رسول الله ص بذلك- و لا أرضى ابنته فاطمة لما وجدت من تزويجه- بقوله لها زوجتك أقدمهم سلما- و لا قرن إلى قوله- و أكثرهم علما و أعظمهم حلما- و الحلم العقل و هذان الأمران غاية الفضل- فلو لا أنه أسلم إسلام عارف عالم مميز- لما ضم إسلامه إلى العلم و الحلم- اللذين وصفه بهما- و كيف يجوز أن يمدحه بأمر لم يكن مثابا عليه- و لا معاقبا به لو تركه- و لو كان إسلامه عن تلقين و تربية- لما افتخر هو ع به على رءوس الأشهاد- و لا خطب على المنبر و هو بين عدو و محارب- و خاذل منافق فقال- أنا عبد الله و أخو رسوله و أنا الصديق الأكبر- و الفاروق الأعظم- صليت قبل الناس سبع سنين- و أسلمت قبل إسلام أبي بكر و آمنت قبل إيمانه- فهل بلغكم أن أحدا من أهل ذلك العصر- أنكر ذلك أو عابه أو ادعاه لغيره- أو قال له إنما كنت طفلا أسلمت على تربية محمد ص ذلك- و تلقينه إياك- كما يعلم الطفل الفارسية و التركية منذ يكون رضيعا- فلا فخر له في تعلم ذلك- و خصوصا في عصر قد حارب فيه- أهل البصرة و الشام و النهروان- و قد اعتورته الأعداء و هجته الشعراء- فقال فيه النعمان بن بشير-

لقد طلب الخلافة من بعيد
و سارع في الضلال أبو تراب‏

معاوية الإمام و أنت منها
على وتح بمنقطع السراب‏

و قال فيه أيضا بعض الخوارج-

دسسنا له تحت الظلام ابن ملجم
جزاء إذا ما جاء نفسا كتابها

أبا حسن خذها على الرأس ضربة
بكف كريم بعد موت ثوابها

و قال عمران بن حطان يمدح قاتله-

يا ضربة من تقي ما أراد بها
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره حينا فأحسبه‏
أوفى البرية عند الله ميزانا

فلو وجد هؤلاء سبيلا إلى دحض حجة- فيما كان يفخر به من تقدم إسلامه- لبدءوا بذلك و تركوا ما لا معنى له- . و قد أوردنا ما مدحه الشعراء به من سبقه إلى الإسلام- فكيف لم يرد على هؤلاء الذين مدحوه بالسبق- شاعر واحد من أهل حربه- و لقد قال في أمهات الأولاد- قولا خالف فيه عمر فذكروه بذلك و عابوه- فكيف تركوا أن يعيبوه- بما كان يفتخر به مما لا فخر فيه عندهم- و عابوه بقوله في أمهات الأولاد- .

ثم يقال له خبرنا عن عبد الله بن عمر- و قد أجازه النبي ص يوم الخندق- و لم يجزه يوم أحد- هل كان يميز ما ذكرته- و هل كان يعلم فرق ما بين النبي و المتنبئ- و يفصل بين السحر و المعجزة- إلى غيره مما عددت و فصلت- . فإن قال نعم و تجاسر على ذلك- قيل له فعلي ع بذلك أولى من ابن عمر- لأنه أذكى و أفطن بلا خلاف بين العقلاء- و أنى يشك في ذلك- و قد رويتم أنه‏ لم يميز بين الميزان و العود- بعد طول السن و كثرة التجارب- و لم يميز أيضا بين إمام الرشد و إمام الغي- فإنه امتنع من بيعة علي ع- و طرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك- كيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام زعم- لأنه روي عن النبي ص أنه قال- من مات و لا إمام له مات ميتة جاهلية- و حتى بلغ من احتقار الحجاج له و استرذاله حاله- أن أخرج رجله من الفراش فقال- أصفق بيدك عليها- فذلك تمييزه بين الميزان و العود- و هذا اختياره في الأئمة- و حال علي ع في ذكائه و فطنته- و توقد حسه و صدق حدسه- معلومة مشهورة- فإذا جاز أن يصح إسلام ابن عمر- و يقال عنه إنه عرف تلك الأمور- التي سردها الجاحظ و نسقها- و أظهر فصاحته و تشدقه فيها- فعلي بمعرفة ذلك أحق و بصحة إسلامه أولى- .

و إن قال لم يكن ابن عمر يعلم و يعرف ذلك- فقد أبطل إسلامه و طعن في رسول الله ص- حيث حكم بصحة إسلامه و أجازه يوم الخندق- لأنه ع كان قال لا أجيز إلا البالغ العاقل- و لذلك لم يجزه يوم أحد- . ثم يقال له إن ما نقوله في بلوغ علي ع- الحد الذي يحسن فيه التكليف العقلي بل يجب- و هو ابن عشر سنين- ليس بأعجب من مجي‏ء الولد لستة أشهر- و قد صحح ذلك أهل العلم و استنبطوه من الكتاب- و إن كان خارجا من التعارف و التجارب و العادة- و كذلك مجي‏ء الولد لسنتين- خارج أيضا عن التعارف و العادة- و قد صححه الفقهاء و الناس- .

و يروى أن معاذا لما نهى عمر عن رجم الحامل- تركها حتى ولدت غلاما قد نبتت ثنيتاه- فقال أبوه ابني و رب الكعبة- فثبت ذلك سنة يعمل بها الفقهاء- و قد وجدنا العادة تقضي- بأن الجارية تحيض لاثنتي عشرة سنة- و أنه أقل سن تحيض فيه المرأة- و قديكون في الأقل نساء يحضن لعشر و لتسع- و قد ذكر ذلك الفقهاء و قد قال الشافعي في اللعان- لو جاءت المرأة بحمل و زوجها صبي- له دون عشر سنين لم يكن ولدا له- لأن من لم يبلغ عشر سنين من الصبيان لا يولد له- و إن كان له عشر سنين جاز أن يكون الولد له- و كان بينهما لعان إذا لم يقر به- .

و قال الفقهاء أيضا إن نساء تهامة- يحضن لتسع سنين لشدة الحر ببلادهن- . قال الجاحظ و لو لم يعرف باطل هذه الدعوى- من آثر التقوى و تحفظ من الهوى- إلا بترك علي ع ذكر ذلك لنفسه- و الاحتجاج به على خصمه- و قد نازع الرجال و ناوى الأكفاء- و جامع أهل الشورى لكان كافيا- و متى لم تصح لعلي ع هذه الدعوى في أيامه- و لم يذكرها أهل عصره- فهي عن ولده أعجز و منهم أضعف- .

و لم ينقل أن عليا ع احتج بذلك في موقف- و لا ذكره في مجلس و لا قام به خطيبا- و لا أدلى به واثقا- لا سيما و قد رضيه الرسول ص عندكم مفزعا و معلما- و جعله للناس إماما- و لا ادعى له أحد ذلك في عصره- كما لم يدعه لنفسه حتى يقول إنسان واحد- الدليل على إمامته أن النبي ص دعاه إلى الإسلام- أو كلفه التصديق قبل بلوغه- ليكون ذلك آية للناس في عصره- و حجة له و لولده من بعده- فهذا كان أشد على طلحة و الزبير و عائشة- من كل ما ادعاه من فضائله و سوابقه و ذكر قرابته- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- إن مثل الجاحظ مع فضله و علمه- لا يخفى عليه كذب‏ هذه الدعوى و فسادها- و لكنه يقول ما يقوله تعصبا و عنادا- و قد روى الناس كافة افتخار علي ع بالسبق إلى الإسلام- و أن النبي ص استنبئ يوم الإثنين- و أسلم علي يوم الثلاثاء- و أنه كان يقول صليت قبل الناس سبع سنين- و أنه ما زال يقول أنا أول من أسلم- و يفتخر بذلك و يفتخر له به أولياؤه- و مادحوه و شيعته في عصره و بعد وفاته- و الأمر في ذلك أشهر من كل شهير- و قد قدمنا منه طرفا- و ما علمنا أحدا من الناس فيما خلا- استخف بإسلام علي ع و لا تهاون به- و لا زعم أنه أسلم إسلام حدث غرير و طفل صغير- و من العجب أن يكون مثل العباس و حمزة- ينتظران أبا طالب و فعله ليصدرا عن رأيه- ثم يخالفه علي ابنه لغير رغبة و لا رهبة- يؤثر القلة على الكثرة و الذل على العزة- من غير علم و لا معرفة بالعاقبة و كيف ينكر الجاحظ و العثمانية- أن رسول الله ص دعاه إلى الإسلام و كلفه التصديق- .

و قد روي في الخبر الصحيح- أنه كلفه في مبدإ الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام- و انتشارها بمكة أن يصنع له طعاما- و أن يدعو له بني عبد المطلب- فصنع له الطعام- و دعاهم له فخرجوا ذلك اليوم- و لم ينذرهم ص لكلمة قالها عمه أبو لهب- فكلفه في اليوم الثاني أن يصنع مثل ذلك الطعام- و أن يدعوهم ثانية فصنعه و دعاهم فأكلوا- ثم كلمهم ص فدعاهم إلى الدين- و دعاه معهم لأنه من بني عبد المطلب- ثم ضمن لمن يوازره منهم و ينصره على قوله- أن يجعله أخاه في الدين- و وصيه بعد موته و خليفته من بعده- فأمسكوا كلهم و أجابه هو وحده و قال- أنا أنصرك على ما جئت به و أوازرك و أبايعك- فقال لهم لما رأى منهم الخذلان و منه النصر- و شاهد منهم المعصية و منه الطاعة- و عاين منهم الإباء و منه الإجابة- هذا أخي و وصيي و خليفتي من بعدي- فقاموا يسخرون و يضحكون- و يقولون لأبي طالب أطع ابنك فقد أمره عليك- فهل يكلف عمل‏الطعام و دعاء القوم- صغير مميز و غر غير عاقل- و هل يؤتمن على سر النبوة طفل ابن خمس سنين أو ابن سبع- و هل يدعى في جملة الشيوخ و الكهول إلا عاقل لبيب- و هل يضع رسول الله ص يده في يده- و يعطيه صفقة يمينه بالأخوة و الوصية و الخلافة- إلا و هو أهل لذلك بالغ حد التكليف- محتمل لولاية الله و عداوة أعدائه- و ما بال هذا الطفل لم يأنس بأقرانه- و لم يلصق بأشكاله- و لم ير مع الصبيان في ملاعبهم بعد إسلامه- و هو كأحدهم في طبقته كبعضهم في معرفته- .

و كيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته- فيقال دعاه داعي الصبا و خاطر من خواطر الدنيا- و حملته الغرة و الحداثة- على حضور لهوهم و الدخول في حالهم- بل ما رأيناه إلا ماضيا على إسلامه- مصمما في أمره محققا لقوله بفعله- قد صدق إسلامه بعفافه و زهده- و لصق برسول الله ص من بين جميع من بحضرته- فهو أمينه و أليفه في دنياه و آخرته- و قد قهر شهوته و جاذب خواطره- صابرا على ذلك نفسه- لما يرجو من فوز العاقبة و ثواب الآخرة- و قد ذكر هو ع في كلامه و خطبه- بدء حاله و افتتاح أمره- حيث أسلم لما دعا رسول الله ص الشجرة- فأقبلت تخد الأرض فقالت قريش- ساحر خفيف السحر فقال علي ع يا رسول الله- أنا أول من يؤمن بك آمنت بالله و رسوله- و صدقتك فيما جئت به- و أنا أشهد أن الشجرة فعلت ما فعلت- بأمر الله تصديقا لنبوتك- و برهانا على صحة دعوتك- فهل يكون إيمان قط أصح من هذا الإيمان- و أوثق عقدة و أحكم مرة- و لكن حنق العثمانية و غيظهم- و عصبية الجاحظ و انحرافه مما لا حيلة فيه- ثم لينظر المنصف و ليدع الهوى جانبا- ليعلم نعمة الله على علي ع بالإسلام- حيث أسلم على الوضع الذي أسلم عليه-

فإنه لو لا الألطاف التي خص بها- و الهداية التي منحها- لما كان إلا كبعض أقارب محمد ص و أهله- فقد كان ممازجا له كممازجته- و مخالطا له كمخالطة كثير من أهله و رهطه- و لم يستجب منهم‏أحد له إلا بعد حين- و منهم من لم يستجب له أصلا- فإن جعفرا ع كان ملتصقا به- و لم يسلم حينئذ- و كان عتبة بن أبي لهب ابن عمه- و صهره زوج ابنته و لم يصدقه- بل كان شديدا عليه- و كان لخديجة بنون من غيره- و لم يسلموا حينئذ و هم ربائبه و معه في دار واحدة- و كان أبو طالب أباه في الحقيقة- و كافله و ناصره و المحامي عنه- و من لولاه لم تقم له قائمة- و مع ذلك لم يسلم في أغلب الروايات- و كان العباس عمه و صنو أبيه- و كالقرين له في الولادة و المنشإ و التربية- و لم يستجب له إلا بعد حين طويل- و كان أبو لهب عمه و كدمه و لحمه- و لم يسلم و كان شديدا عليه- فكيف ينسب إسلام علي ع إلى الإلف و التربية- و القرابة و اللحمة و التلقين و الحضانة- و الدار الجامعة و طول العشرة و الأنس و الخلوة- و قد كان كل ذلك حاصلا لهؤلاء أو لكثير منهم- و لم يهتد أحد منهم إذ ذاك- بل كانوا بين من جحد و كفر- و مات على كفره و من أبطأ و تأخر- و سبق بالإسلام و جاء سكيتا و قد فاز بالمنزلة غيره- .

و هل يدل تأمل حال علي ع مع الإنصاف إلا على أنه أسلم- لأنه شاهد الأعلام و رأى المعجزات- و شم ريح النبوة و رأى نور الرسالة- و ثبت اليقين في قلبه بمعرفة- و علم و نظر صحيح لا بتقليد و لا حمية- و لا رغبة و لا رهبة إلا فيما يتعلق بأمور الآخرة- . قال الجاحظ فلو أن عليا ع كان بالغا حيث أسلم- لكان إسلام أبي بكر و زيد بن حارثة- و خباب بن الأرت أفضل من إسلامه- لأن إسلام المقتضب الذي لم يعتد به و لم يعوده- و لم يمرن عليه أفضل من إسلام الناشئ الذي ربي فيه- و نشأ و حبب‏إليه- و ذلك لأن صاحب التربية يبلغ حيث يبلغ- و قد أسقط إلفه عنه مؤنة الروية و الخاطر- و كفاه علاج القلب و اضطراب النفس- و زيد و خباب و أبو بكر يعانون من كلفة النظر- و مؤنة التأمل و مشقة الانتقال- من الدين الذي قد طال إلفهم له ما هو غير خاف- و لو كان علي حيث أسلم بالغا مقتضبا كغيره ممن عددنا- كان إسلامهم أفضل من إسلامه- لأن من أسلم و هو يعلم أن له ظهرا كأبي طالب- و ردءا كبني هاشم و موضعا في بني عبد المطلب- ليس كالحليف و المولى و التابع و العسيف- و كالرجل من عرض قريش- أ و لست تعلم أن قريشا خاصة و أهل مكة عامة- لم يقدروا على أذى النبي ص- ما كان أبو طالب حيا- و أيضا فإن أولئك اجتمع عليهم مع فراق الإلف مشقة الخواطر- و علي ع كان بحضرة رسول الله ص- يشاهد الأعلام في كل وقت- و يحضر منزل الوحي- فالبراهين له أشد انكشافا- و الخواطر على قلبه أقل اعتلاجا- و على قدر الكلفة و المشقة يعظم الفضل و يكثر الأجر- .

قال أبو جعفر رحمه الله- ينبغي أن ينظر أهل الإنصاف هذا الفصل- و يقفوا على قول الجاحظ و الأصم في نصرة العثمانية- و اجتهادهما في القصد إلى فضائل هذا الرجل و تهجينها- فمرة يبطلان معناها- و مرة يتوصلان إلى حط قدرها- فلينظر في كل باب اعترضا فيه- أين بلغت حيلتهما- و ما صنعا في احتيالهما في قصصهما و سجعهما- أ ليس إذا تأملتها علمت أنها ألفاظ ملفقة بلا معنى- و أنها عليها شجى و بلاء- و إلا فما عسى أن تبلغ حيلة الحاسد و يغني كيد الكائد الشانئ- لمن قد جل قدره عن النقص و أضاءت فضائله إضاءة الشمس- و أين قول الجاحظ من دلائل السماء- و براهين الأنبياء- و قد علم‏الصغير و الكبير و العالم و الجاهل- ممن بلغه ذكر علي ع- و علم مبعث النبي ص- أن عليا ع لم يولد في دار الإسلام- و لا غذي في حجر الإيمان-

و إنما استضافه رسول الله ص- إلى نفسه سنة القحط و المجاعة- و عمره يومئذ ثماني سنين- فمكث معه سبع سنين حتى أتاه جبرئيل بالرسالة- فدعاه و هو بالغ كامل العقل إلى الإسلام- فأسلم بعد مشاهدة المعجزة و بعد إعمال النظر و الفكرة- و إن كان قد ورد في كلامه- أنه صلى سبع سنين قبل الناس كلهم- فإنما يعني ما بين الثمان و الخمس عشرة- و لم يكن حينئذ دعوة و لا رسالة و لا ادعاء نبوة-

و إنما كان رسول الله ص- يتعبد على ملة إبراهيم و دين الحنيفية- و يتحنث و يجانب الناس- و يعتزل و يطلب الخلوة و ينقطع في جبل حراء- و كان علي ع معه كالتابع و التلميذ- فلما بلغ الحلم- و جاءت النبي ص الملائكة و بشرته بالرسالة- دعاه فأجابه عن نظر و معرفة بالأعلام المعجزة- فكيف يقول الجاحظ إن إسلامه لم يكن مقتضبا- . و إن كان إسلامه ينقص عن إسلام غيره في الفضيلة- لما كان يمرن عليه من التعبد- مع رسول الله ص قبل الدعوة- لتكونن طاعة كثير من المكلفين- أفضل من طاعة رسول الله ص و أمثاله من المعصومين- لأن العصمة عند أهل العدل- لطف يمنع من اختص به من ارتكاب القبيح- فمن اختص بذلك اللطف كانت الطاعة عليه أسهل- فوجب أن يكون ثوابه أنقص- من ثواب من أطاع مع تلك الألطاف- .

و كيف يقول الجاحظ إن إسلامه ناقص عن إسلام غيره- و قد جاء في الخبر أنه أسلم يوم الثلاثاء- و استنبئ النبي ص يوم الإثنين- فمن هذه حاله لم تكثر حجج الرسالة على سمعه- و لا تواترت أعلام النبوة على مشاهدته- و لا تطاول الوقت عليه لتخف محنته و يسقط ثقل تكليفه- بل بان فضله و ظهر حسن اختياره لنفسه- إذ أسلم في حال بلوغه و عانى نوازع طبعه- و لم يؤخر ذلك بعد سماعه- .

و قد غمر الجاحظ في كتابه هذا- أن أبا بكر كان قبل إسلامه مذكورا- و رئيسا معروفا- يجتمع إليه كثير من أهل مكة فينشدون الأشعار- و يتذاكرون الأخبار و يشربون الخمر- و قد كان سمع دلائل النبوة و حجج الرسل- و سافر إلى البلدان و وصلت إليه الأخبار- و عرف دعوى الكهنة و حيل السحرة- و من كان كذلك كان انكشاف الأمور له أظهر- و الإسلام عليه أسهل- و الخواطر على قلبه أقل اعتلاجا- و كل ذلك عون لأبي بكر على الإسلام و مسهل إليه سبيله- و لذلك لما قال النبي ص أتيت بيت المقدس-

سأله أبو بكر عن المسجد و مواضعه فصدقه و بان له أمره- و خفت مئونته لما تقدم من معرفته بالبيت- فخرج إذا إسلام أبي بكر على قول الجاحظ- من معنى المقتضب- و في ذلك رويتم عنه ص- أنه قال ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا و كان له تردد و نبوة- إلا ما كان من أبي بكر فإنه لم يتلعثم حتى هجم به اليقين إلى المعرفة و الإسلام- فأين هذا و إسلام من خلي و عقله و ألجئ إلى نظره- مع صغر سنه و اعتلاج الخواطر على قلبه و نشأته- في ضد ما دخل فيه- و الغالب على أمثاله و أقرانه حب اللعب و اللهو- فلجأ إلى ما ظهر له من دلائل الدعوة- و لم يتأخر إسلامه فيلزمه التقصير بالمعصية- فقهر شهوته و غالب خواطره-

و خرج من عادته و ما كان غذي به- لصحة نظره و لطافة فكره و غامض فهمه- فعظم استنباطه و رجح فضله و شرف قدر إسلامه- و لم يأخذ من الدنيا بنصيب- و لا تنعم فيها بنعيم حدثا و لا كبيرا- و حمى نفسه عن الهوى و كسر شرة حداثته بالتقوى- و اشتغل بهم الدين عن نعيم الدنيا- و أشغل هم الآخرة قلبه و وجه إليه رغبته- فإسلامه هو السبيل الذي لم يسلم عليه أحد غيره- و ما سبيله في ذلك إلا كسبيل الأنبياء- ليعلم أن منزلته من النبي ص كمنزلة هارون من موسى- و أنه و إن لم يكن نبيا فقد كان في سبيل الأنبياء سالكا- و لمنهاجهم متبعا- و كانت حاله كحال إبراهيم ع- فإن‏أهل العلم ذكروا أنه لما كان صغيرا- جعلته أمه في سرب لم يطلع عليه أحد- فلما نشأ و درج و عقل قال لأمه من ربي قالت أبوك- قال فمن رب أبي فزبرته و نهرته- إلى أن طلع من شق السرب- فرأى كوكبا فقال هذا ربي- فلما أفل قال لا أحب الآفلين- فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي- فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين- فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر- فلما أفلت قال يا قوم إني بري‏ء مما تشركون- إني وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض حنيفا- و ما أنا من المشركين- و في ذلك يقول الله جل ثناؤه- وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ- وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ و على هذا كان إسلام الصديق الأكبر ع- لسنا نقول إنه كان مساويا له في الفضيلة- و لكن كان مقتديا بطريقه على ما قال الله تعالى- إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ- وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ-

و أما اعتلال الجاحظ- بأن له ظهرا كأبي طالب و ردءا كبني هاشم- فإنه يوجب عليه أن تكون محنة أبي بكر و بلال- و ثوابهما و فضل إسلامهما أعظم مما لرسول الله ص- لأن أبا طالب ظهره و بني هاشم ردؤه- و حسبك جهلا من معاند لم يستطع حط قدر علي ع- إلا بحطه من قدر رسول الله ص- و لم يكن أحد أشد على رسول الله ص من قراباته- الأدنى منهم فالأدنى- كأبي لهب عمه و امرأة أبي لهب- و هي أم جميل بنت حرب بن أمية و إحدى أولاد عبد مناف- ثم ما كان من عقبة بن أبي معيط و هو ابن عمه- و ما كان من النضر بن الحارث- و هو من بني عبد الدار بن قصي و هو ابن عمه أيضا- و غير هؤلاء ممن يطول تعداده- و كلهم كان يطرح الأذى في طريقه و ينقل أخباره- و يرميه بالحجارة و يرمي الكرش‏و الفرث عليه- و كانوا يؤذون عليا ع كأذاه-

و يجتهدون في غمه و يستهزءون به- و ما كان لأبي بكر قرابة تؤذيه كقرابة علي- و لما كان بين علي و بين النبي ص- من الاتحاد و الإلف و الاتفاق- أحجم المنافقون بالمدينة عن أذى رسول الله ص- خوفا من سيفه- و لأنه صاحب الدار و الجيش و أمره مطاع و قوله نافذ- فخافوا على دمائهم منه- فاتقوه و أمسكوا عن إظهار بغضه- و أظهروا بغض علي ع و شنآنه- فقال رسول الله ص في حقه- فيالخبر الذي روي في جميع الصحاح لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق- و قال كثير من أعلام الصحابة- كماروي في الخبر المشهور بين المحدثين ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغض علي بن أبي طالبو أين كان ظهر أبي طالب عن جعفر- و قد أزعجه الأذى عن وطنه- حتى هاجر إلى بلاد الحبشة و ركب البحر- أ يتوهم الجاحظ أن أبا طالب نصر عليا و خذل جعفرا- .

قال الجاحظ و لأبي بكر فضيلة في إسلامه- أنه كان قبل إسلامه كثير الصديق- عريض الجاه ذا يسار و غنى- يعظم لماله و يستفاد من رأيه- فخرج من عز الغنى و كثرة الصديق- إلى ذل الفاقة و عجز الوحدة- و هذا غير إسلام من لا حراك به و لا عز له- تابع غير متبوع- لأن من أشد ما يبتلى الكريم به السب بعد التحية- و الضرب بعد الهيبة و العسر بعد اليسر- ثم كان أبو بكر دعية من دعاة الرسول- و كان يتلوه في جميع أحواله- فكان الخوف إليه أشد و المكروه نحوه أسرع- و كان ممن تحسن مطالبته- و لا يستحيا من إدراك الثأر عنده لنباهته و بعد ذكره- و الحدث الصغير يزدرى و يحتقر- لصغر سنه و خمول ذكره- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- أما ما ذكر من كثرة المال و الصديق- و استفاضة الذكر و بعد الصيت و كبر السن- فكله عليه لا له- و ذلك لأنه قد علم أن من سيرة العرب و أخلاقها- حفظ الصديق و الوفاء بالذمام و التهيب لذي الثروة- و احترام ذي السن العالية- و في كل هذا ظهر شديد- و سند و ثقة يعتمد عليها عند المحن- و لذلك كان المرء منهم إذا تمكن من صديقه- أبقى عليه و استحيا منه- و كان ذلك سببا لنجاته و العفو عنه- على أن علي بن أبي طالب ع إن لم يكن شهره سنه- فقد شهره نسبه و موضعه من بني هاشم- و إن لم يستفض ذكره بلقاء الرجال و كثرة الأسفار- استفاض بأبي طالب- فأنتم تعلمون أنه ليس تيم في بعد الصيت كهاشم- و لا أبو قحافة كأبي طالب- و على حسب ذلك يعلو ذكر الفتى على ذي السن- و يبعد صيت الحدث على الشيخ- و معلوم أيضا أن عليا على أعناق المشركين أثقل- إذ كان هاشميا-

و إن كان أبوه حامى رسول الله ص و المانع لحوزته- و علي هو الذي فتح على العرب باب الخلاف و استهان بهم- بما أظهر من الإسلام و الصلاة و خالف رهطه و عشيرته- و أطاع ابن عمه فيما لم يعرف من قبل- و لا عهد له نظير كما قال تعالى- لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ- ثم كان بعد صاحب رسول الله ص و مشتكى حزنه- و أنيسه في خلوته و جليسه و أليفه في أيامه كلها- و كل هذا يوجب التحريض عليه و معاداة العرب له- ثم أنتم معاشر العثمانية- تثبتون لأبي بكر فضيلة بصحبة الرسول ص- من مكة إلى يثرب و دخوله معه في الغار- فقلتم مرتبة شريفة و حالة جليلة- إذ كان شريكه في الهجرة و أنيسه في الوحشة- فأين هذه من صحبة علي ع له في خلوته- و حيث لا يجد أنيسا غيره ليله و نهاره- أيام مقامه بمكة يعبد الله‏معه سرا- و يتكلف له الحاجة جهرا و يخدمه كالعبد يخدم مولاه- و يشفق عليه و يحوطه و كالولد يبر والده و يعطف عليه- ولما سئلت عائشة من كان أحب الناس إلى رسول الله ص- قالت أما من الرجال فعلي و أما من النساء ففاطمة- .

قال الجاحظ و كان أبو بكر من المفتونين- المعذبين بمكة قبل الهجرة- فضربه نوفل بن خويلد المعروف بابن العدوية مرتين- حتى أدماه و شده مع طلحة بن عبيد الله في قرن- و جعلهما في الهاجرة- عمير بن عثمان بن مرة بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة- و لذلك كانا يدعيان القرينين- و لو لم يكن له غير ذلك لكان لحاقه عسيرا- و بلوغ منزلته شديدا- و لو كان يوما واحدا لكان عظيما- و علي بن أبي طالب رافه وادع ليس بمطلوب و لا طالب- و ليس أنه لم يكن في طبعه الشهامة و النجدة- و في غريزته البسالة في الشجاعة- لكنه لم يكن قد تمت أداته و لا استكملت آلته- و رجال الطلب و أصحاب الثأر يغمصون ذا الحداثة- و يزدرون بذي الصبا و الغرارة- إلى أن يلحق بالرجال و يخرج من طبع الأطفال- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- أما القول فممكن و الدعوى سهلة- سيما على مثل الجاحظ- فإنه ليس على لسانه من دينه و عقله رقيب- و هو من دعوى الباطل غير بعيد- فمعناه نزر و قوله لغو و مطلبه سجع- و كلامه لعب و لهو يقول الشي‏ء و خلافه- و يحسن القول و ضده- ليس له من نفسه واعظ و لا لدعواه حد قائم- و إلا فكيف تجاسر على القول بأن عليا حينئذ- لم يكن مطلوبا و لا طالبا- و قد بينا بالأخبار الصحيحة و الحديث المرفوع المسند- أنه كان يوم أسلم بالغا كاملا- منابذا بلسانه و قلبه لمشركي قريش‏ثقيلا على قلوبهم- و هو المخصوص دون أبي بكر بالحصار في الشعب- و صاحب الخلوات برسول الله ص في تلك الظلمات- المتجرع لغصص المرار من أبي لهب و أبي جهل و غيرهما- و المصطلي لكل مكروه و الشريك لنبيه في كل أذى-

قد نهض بالحمل الثقيل و بان بالأمر الجليل- و من الذي كان يخرج ليلا من الشعب على هيئة السارق- و يخفي نفسه و يضائل شخصه- حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبو طالب من كبراء قريش- كمطعم بن عدي و غيره- فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق و القمح- و هو على أشد خوف من أعدائهم كأبي جهل و غيره- لو ظفروا به لأراقوا دمه- أ علي كان يفعل ذلك أيام الحصار في الشعب أم أبو بكر-

و قد ذكر هو ع حاله يومئذ-فقال في خطبة له مشهورة فتعاقدوا ألا يعاملونا و لا يناكحونا- و أوقدت الحرب علينا نيرانها و اضطرونا إلى جبل وعر- مؤمننا يرجو الثواب و كافرنا يحامي عن الأصل- و لقد كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم- و قطعوا عنهم المارة و الميرة- فكانوا يتوقعون الموت جوعا صباحا و مساء- لا يرون وجها و لا فرجا- قد اضمحل عزمهم و انقطع رجاؤهم- فمن الذي خلص إليه مكروه تلك المحن- بعد محمد ص إلا علي ع وحده- و ما عسى أن يقول الواصف و المطنب في هذه الفضيلة- من تقصي معانيها و بلوغ غاية كنهها- و فضيلة الصابر عندها- و دامت هذه المحنة عليهم ثلاث سنين- حتى انفرجت عنهم بقصة الصحيفة و القصة مشهورة- .

و كيف يستحسن الجاحظ لنفسه أن يقول في علي ع- إنه قبل الهجرة كان وادعا رافها- لم يكن مطلوبا و لا طالبا- و هو صاحب الفراش الذي فدى رسول الله ص بنفسه- و وقاه بمهجته- و احتمل السيوف و رضح الحجارة دونه- و هل ينتهي الواصف و إن أطنب- و المادح و إن أسهب- إلى الإبانة عن مقدار هذه الفضيلة- و الإيضاح بمزية هذه الخصيصة- .

فأما قوله إن أبا بكر عذب بمكة- فإنا لا نعلم أن العذاب كان واقعا إلا بعبد أو عسيف- أو لمن لا عشيرة له تمنعه- فأنتم في أبي بكر بين أمرين- تارة تجعلونه دخيلا ساقطا و هجينا رذيلا مستضعفا ذليلا- و تارة تجعلونه رئيسا متبعا و كبيرا مطاعا- فاعتمدوا على أحد القولين- لنكلمكم بحسب ما تختارونه لأنفسكم- و لو كان الفضل في الفتنة و العذاب- لكان عمار و خباب و بلال- و كل معذب بمكة أفضل من أبي بكر- لأنهم كانوا من العذاب في أكثر مما كان فيه- و نزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه- كقوله تعالى وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا- قالوا نزلت في خباب و بلال- و نزل في عمار قوله إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ- و كان رسول الله ص-

يمر على عمار و أبيه و أمه و هم يعذبون- يعذبهم بنو مخزوم لأنهم كانوا حلفاءهم-فيقول صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة- و كان بلال يقلب على الرمضاء- و هو يقول أحد أحد- و ما سمعنا لأبي بكر في شي‏ء من ذلك ذكرا- و لقد كان لعلي ع عنده يد غراء- إن صح ما رويتموه في تعذيبه- لأنه قتل نوفل بن خويلد و عمير بن عثمان يوم بدر- ضرب نوفلا فقطع ساقه- فقال أذكرك الله و الرحم- فقال قد قطع الله كل رحم و صهر- إلا من كان تابعا لمحمد- ثم ضربه أخرى ففاضت نفسه- و صمد لعمير بن عثمان التميمي فوجده يروم الهرب- و قد ارتج عليه المسلك- فضربه على شراسيف صدره- فصار نصفه الأعلى بين رجليه- و ليس أن أبا بكر لم يطلب بثأره منهما و يجتهد- لكنه لم يقدر على أن يفعل فعل علي ع- فبان علي ع بفعله دونه قال الجاحظ و لأبي بكر مراتب لا يشركه فيها علي و لا غيره-

و ذلك قبل الهجرة-فقد علم الناس أن عليا ع إنما ظهر فضله و انتشر صيته- و امتحن و لقي المشاق منذ يوم بدر- و أنه إنما قاتل في الزمان الذي- استوفى فيه أهل الإسلام و أهل الشرك- و طمعوا في أن يكون الحرب بينهم سجالا- و أعلمهم الله تعالى أن العاقبة للمتقين- و أبو بكر كان قبل الهجرة معذبا و مطرودا مشردا- في الزمان الذي ليس بالإسلام و أهله نهوض و لا حركة- و لذلك قال أبو بكر في خلافته- طوبى لمن مات في فأفأة الإسلام- يقول في ضعفه- .

قال أبو جعفر رحمه الله- لا أشك أن الباطل خان أبا عثمان و الخطأ أقعده- و الخذلان أصاره إلى الحيرة- فما علم و عرف حتى قال ما قال- فزعم أن عليا ع قبل الهجرة لم يمتحن و لم يكابد المشاق- و أنه إنما قاسى مشاق التكليف- و محن الابتلاء منذ يوم بدر- و نسي الحصار في الشعب و ما مني به منه- و أبو بكر وادع رافه- يأكل ما يريد و يجلس مع من يحب- مخلى سربه طيبة نفسه ساكنا قلبه- و علي يقاسي الغمرات و يكابد الأهوال- و يجوع و يظمأ- و يتوقع القتل صباحا و مساء- لأنه كان هو المتوصل المحتال- في إحضار قوت زهيد من شيوخ قريش و عقلائها سرا- ليقيم به رمق رسول الله ص و بني هاشم و هم في الحصار-

و لا يأمن في كل وقت- مفاجأة أعداء رسول الله ص له بالقتل- كأبي جهل بن هشام و عقبة بن أبي معيط- و الوليد بن المغيرة و عتبة بن ربيعة- و غيرهم من فراعنة قريش و جبابرتها- و لقد كان يجيع نفسه و يطعم رسول الله ص زاده- و يظمئ نفسه و يسقيه ماءه- و هو كان المعلل له إذا مرض- و المؤنس له إذا استوحش- و أبو بكر بنجوة عن ذلك لا يمسه مما يمسهم ألم- و لم يلحقه مما يلحقهم مشقة- و لا يعلم بشي‏ء من أخبارهم و أحوالهم- إلا على سبيل الإجمال دون التفصيل- ثلاث سنين محرمة معاملتهم و مناكحتهم و مجالستهم- محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج-و التصرف في أنفسهم- فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة- و نسي هذه الخصيصة و لا نظير لها- و لكن لا يبالي الجاحظ بعد أن يسوغ له لفظه- و تنسق له خطابته ما ضيع من المعنى- و رجع عليه من الخطأ- .

فأما قوله و اعلموا أن العاقبة للمتقين- ففيه إشارة إلى معنى غامض قصده الجاحظ- يعني أن لا فضيلة لعلي ع في الجهاد- لأن الرسول كان أعلمه أنه منصور و أن العاقبة له- و هذا من دسائس الجاحظ و همزاته و لمزاته- و ليس بحق ما قاله- لأن رسول الله ص أعلم أصحابه جملة أن العاقبة لهم- و لم يعلم واحدا منهم بعينه أنه لا يقتل لا عليا و لا غيره- و إن صح أنه كان أعلمه أنه لا يقتل- فلم يعلمه أنه لا يقطع عضو من أعضائه- و لم يعلمه أنه لا يمسه ألم جراح في جسده- و لم يعلمه أنه لا يناله الضرب الشديد- .

و على أن رسول الله ص قد أعلم أصحابه قبل يوم بدر- و هو يومئذ بمكة أن العاقبة لهم- كما أعلم أصحابه بعد الهجرة ذلك- فإن لم يكن لعلي و المجاهدين- فضيلة في الجهاد بعد الهجرة لإعلامه إياهم ذلك- فلا فضيلة لأبي بكر و غيره في احتمال المشاق قبل الهجرة- لإعلامه إياهم بذلك- فقد جاء في الخبر أنه وعد أبا بكر قبل الهجرة بالنصر- و أنه قال له أرسلت إلى هؤلاء بالذبح- و إن الله تعالى سيغنمنا أموالهم و يملكنا ديارهم- فالقول في الموضعين متساو و متفق- .

قال الجاحظ- و إن بين المحنة في الدهر الذي صار فيه أصحاب النبي ص- مقرنين لأهل مكة و مشركي قريش- و معهم أهل يثرب أصحاب النخيل و الآطام- و الشجاعة و الصبر و المواساة- و الإيثار و المحاماة و العدد الدثر و الفعل الجزل- و بين الدهر الذي كانوا فيه بمكة يفتنون و يشتمون- و يضربون و يشردون و يجوعون و يعطشون-مقهورين لا حراك بهم- و أذلاء لا عز لهم و فقراء لا مال عندهم- و مستخفين لا يمكنهم إظهار دعوتهم لفرقا واضحا- و لقد كانوا في حال أحوجت لوطا و هو نبي إلى أن قال- لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ- وقال النبي ص عجبت من أخي لوط كيف قال- أَوْ آوِي إِلى‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ- و هو يأوي إلى الله تعالى- ثم لم يكن ذلك يوما و لا يومين و لا شهرا و لا شهرين- و لا عاما و لا عامين و لكن السنين بعد السنين- و كان أغلظ القوم و أشدهم محنة بعد رسول الله ص أبو بكر- لأنه أقام بمكة ما أقام رسول الله ص ثلاث عشرة سنة- و هو أوسط ما قالوا في مقام النبي ص- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- ما نرى الجاحظ احتج لكون أبي بكر أغلظهم و أشدهم محنة- إلا بقوله لأنه أقام بمكة مدة مقام الرسول ص بها- و هذه الحجة لا تخص أبا بكر وحده- لأن عليا ع أقام معه هذه المدة- و كذلك طلحة و زيد و عبد الرحمن و بلال و خباب و غيرهم- و قد كان الواجب عليه أن يخص أبا بكر وحده بحجة- تدل على أنه كان أغلظ الجماعة- و أشدهم محنة بعد رسول الله ص فالاحتجاج في نفسه فاسد- .

ثم يقال له ما بالك- أهملت أمر مبيت علي ع على الفراش بمكة ليلة الهجرة- هل نسيته أم تناسيته- فإنها المحنة العظيمة- و الفضيلة الشريفة التي متى امتحنها الناظر- و أجال فكره فيها- رأى تحتها فضائل متفرقة و مناقب متغايرة- و ذلك أنه لما استقر الخبر عند المشركين- أن رسول الله ص مجمع على الخروج من بينهم- للهجرةإلى غيرهم قصدوا إلى معاجلته- و تعاقدوا على أن يبيتوه في فراشه- و أن يضربوه بأسياف كثيرة- بيد كل صاحب قبيلة من قريش سيف منها- ليضيع دمه بين الشعوب و يتفرق بين القبائل- و لا يطلب بنو هاشم بدمه- قبيلة واحدة بعينها من بطون قريش- و تحالفوا على تلك الليلة و اجتمعوا عليها- فلما علم رسول ص ذلك من أمرهم- دعا أوثق الناس عنده و أمثلهم في نفسه- و أبذلهم في ذات الإله لمهجته- و أسرعهم إجابة إلى طاعته-

فقال له إن قريشا قد تحالفت على أن تبيتني هذه الليلة- فامض إلى فراشي و نم في مضجعي- و التف في بردي الحضرمي ليروا أني لم أخرج- و إني خارج إن شاء الله- فمنعه أولا من التحرز و إعمال الحيلة- و صده عن الاستظهار لنفسه- بنوع من أنواع المكايد- و الجهات التي يحتاط بها الناس لنفوسهم- و ألجأه إلى أن يعرض نفسه- لظبات السيوف الشحيذة- من أيدي أرباب الحنق و الغيظة- فأجاب إلى ذلك سامعا مطيعا طيبة بها نفسه- و نام على فراشه صابرا محتسبا- واقيا له بمهجته ينتظر القتل- و لا نعلم فوق بذل النفس درجة يلتمسها صابر- و لا يبلغها طالب- و الجود بالنفس أقصى غاية الجود- و لو لا أن رسول الله ص علم أنه أهل لذلك لما أهله- و لو كان عنده نقص في صبره- أو في شجاعته أو في مناصحته لابن عمه- و اختير لذلك لكان من اختاره ص منقوضا في رأيه- مضرا في اختياره- و لا يجوز أن يقول هذا أحد من أهل الإسلام- و كلهم مجمعون على أن الرسول ص عمل الصواب- و أحسن في الاختيار- .

ثم في ذلك إذا تأمله المتأمل وجوه من الفضل- منها أنه و إن كان عنده في موضع الثقة- فإنه غير مأمون عليه ألا يضبط السر- فيفسد التدبير- بإفشائه تلك الليلة إلى من يلقيه إلى الأعداء- . و منها أنه و إن كان ضابطا للسر و ثقة عند من اختاره- فغير مأمون عليه الجبن عندمفاجأة المكروه- و مباشرة الأهوال فيفر من الفراش- فيفطن لموضع الحيلة- و يطلب رسول الله ص فيظفر به- .

و منها أنه و إن كان ضابطا للسر شجاعا نجدا- فلعله غير محتمل للمبيت على الفراش- لأن هذا أمر خارج عنالشجاعة- إن كان قد قامه مقام المكتوف الممنوع- بل هو أشد مشقة من المكتوف الممنوع- لأن المكتوف الممنوع يعلم من نفسه- أنه لا سبيل له إلى الهرب- و هذا يجد السبيل إلى الهرب و إلى الدفع عن نفسه- و لا يهرب و لا يدافع- .

و منها أنه و إن كان ثقة عنده ضابطا للسر- شجاعا محتملا للمبيت على الفراش- فإنه غير مأمون أن يذهب صبره عند العقوبة الواقعة- و العذاب النازل بساحته حتى يبوح بما عنده- و يصير إلى الإقرار بما يعلمه- و هو أنه أخذ طريق كذا فيطلب فيؤخذ- فلهذا قال علماء المسلمين- إن فضيلة علي ع تلك الليلة- لا نعلم أحدا من البشر نال مثلها- إلا ما كان من إسحاق و إبراهيم عند استسلامه للذبح- و لو لا أن الأنبياء لا يفضلهم غيرهم- لقلنا إن محنة علي أعظم- لأنه قد روي أن إسحاق تلكأ لما أمره أن يضطجع- و بكى على نفسه- و قد كان أبوه يعلم أن عنده في ذلك وقفة- و لذلك قال له فَانْظُرْ ما ذا تَرى‏- و حال علي ع بخلاف ذلك- لأنه ما تلكأ و لا تتعتع- و لا تغير لونه و لا اضطربت أعضاؤه- و لقد كان أصحاب النبي ص- يشيرون عليه بالرأي المخالف لما كان أمر به- و تقدم فيه فيتركه و يعمل بما أشاروا به- كما جرى يوم الخندق- في مصانعة الأحزاب بثلث تمر المدينة- فإنهم أشاروا عليه بترك ذلك فتركه- و هذه كانت قاعدته معهم و عادته بينهم- و قد كان لعلي ع أن يعتل بعلة و أن يقف-

و يقول يا رسول الله- أكون معك أحميك من العدو- و أذب بسيفي عنك- فلست‏مستغنيا في خروجك عن مثلي- و نجعل عبدا من عبيدنا في فراشك قائما مقامك- يتوهم القوم برؤيته نائما في بردك أنك لم تخرج- و لم تفارق مركزك فلم يقل ذلك- و لا تحبس و لا توقف و لا تلعثم- و ذلك لعلم كل واحد منهما ص- أن أحدا لا يصبر على ثقل هذه المحنة- و لا يتورط هذه الهلكة- إلا من خصه الله تعالى بالصبر على مشقتها- و الفوز بفضيلتها- و له من جنس ذلك أفعال كثيرة- كيوم دعا عمرو بن عبد ود المسلمين إلى المبارزة- فأحجم الناس كلهم عنه- لما علموا من بأسه و شدته ثم كرر النداء-

فقام علي ع-فقال أنا أبرز إليه- فقال له رسول الله ص إنه عمرو قال نعم و أنا علي- فأمره بالخروج إليه فلما خرجقال ص برز الإيمان كله إلى الشرك كلهو كيوم أحد حيث حمى رسول الله ص من أبطال قريش- و هم يقصدون قتله فقتلهم دونه- حتى قال جبرئيل ع يا محمد إن هذه هي المواساة-فقال إنه مني و أنا منهفقال جبريل و أنا منكما- و لو عددنا أيامه و مقاماته التي- شرى فيها نفسه لله تعالى لأطلنا و أسهبنا قال الجاحظ- فإن احتج محتج لعلي ع بالمبيت على الفراش- فبين الغار و الفراش فرق واضح- لأن الغار و صحبة أبي بكر للنبي ص- قد نطق به القرآن- فصار كالصلاة و الزكاة و غيرهما مما نطق به الكتاب- و أمر علي ع و نومه على الفراش و إن كان ثابتا صحيحا- إلا أنه لم يذكر في القرآن- و إنما جاء مجي‏ء الروايات و السير- و هذا لا يوازن هذا و لا يكايله- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا فرق غير مؤثر- لأنه قد ثبت بالتواتر حديث‏الفراش- فلا فرق بينه و بين ما ذكر في نص الكتاب- و لا يجحده إلا مجنون أو غير مخالط لأهل الملة- أ رأيت كون الصلوات خمسا- و كون زكاة الذهب ربع العشر- و كون خروج الريح ناقضا للطهارة- و أمثال ذلك مما هو معلوم بالتواتر حكمه- هل هو مخالف لما نص في الكتاب عليه من الأحكام- هذا مما لا يقوله رشيد و لا عاقل- على أن الله تعالى لم يذكر اسم أبي بكر في الكتاب- و إنما قال إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ- و إنما علمنا أنه أبو بكر بالخبر و ما ورد في السيرة-

و قد قال أهل التفسير إن قوله تعالى- وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ- كناية عن علي ع لأنه مكر بهم- و أول الآية وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا- لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ- وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ- أنزلت في ليلة الهجرة- و مكرهم كان توزيع السيوف على بطون قريش- و مكر الله تعالى هو منام علي ع على الفراش- فلا فرق بين الموضعين في أنهما مذكوران كناية لا تصريحا-

و قد روى المفسرون كلهم أن قول الله تعالى- وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ- أنزلت في علي ع ليلة المبيت على الفراش- فهذه مثل قوله تعالى إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا فرق بينهما- . قال الجاحظ و فرق آخر- و هو أنه لو كان مبيت علي ع على الفراش- جاء مجي‏ء كون أبي بكر في الغار- لم يكن له في ذلك كبير طاعة- لأن الناقليننقلوا أنه ص قال له نم فلن يخلص إليك شي‏ء تكرهه- و لم ينقل ناقل أنه‏قال لأبي بكر في صحبته إياه- و كونه معه في الغار مثل ذلك- و لا قال له أنفق و أعتق- فإنك لن تفتقر و لن يصل إليك مكروه- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- هذا هو الكذب الصراح- و التحريف و الإدخال في الرواية ما ليس منها- و المعروف المنقولأنه ص قال له اذهب فاضطجع في مضجعي- و تغش ببردي الحضرمي- فإن القوم سيفقدونني- و لا يشهدون مضجعي- فلعلهم إذا رأوك يسكنهم ذلك حتى يصبحوا- فإذا أصبحت فاغد في أداء أمانتي- و لم ينقل ما ذكره الجاحظ- و إنما ولده أبو بكر الأصم- و أخذه الجاحظ و لا أصل له- و لو كان هذا صحيحا لم يصل إليه منهم مكروه- و قد وقع الاتفاق على أنه ضرب و رمي بالحجارة- قبل أن يعلموا من هو حتى تضور- و أنهم قالوا له رأينا تضورك- فإنا كنا نرمي محمدا و لا يتضور- و لأن لفظة المكروه إن كان قالها إنما يراد بها القتل- فهب أنه أمن القتل- كيف يأمن من الضرب و الهوان- و من أن ينقطع بعض أعضائه- و بأن سلمت نفسه- أ ليس الله تعالى قال لنبيه- بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ- وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ- وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ- و مع ذلك فقد كسرت رباعيته و شج وجهه و أدميت ساقه- و ذلك لأنها عصمة من القتل خاصة- و كذلك المكروه الذي أومن علي ع منه- و إن كان صح ذلك في الحديث إنما هو مكروه القتل- .

ثم يقال له و أبو بكر لا فضيلة له أيضا في كونه في الغار- لأن النبي ص قال له لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا- و من يكن الله معه فهو آمن لا محالة من كل سوء- فكيف قلت- و لم ينقل ناقل أنه قال لأبي بكر في الغار مثل ذلك- فكل ما يجيب به عن هذا فهو جوابنا عما أورده- فنقول له هذا ينقلب عليك في النبي ص-لأن الله تعالى وعده بظهور دينه و عاقبة أمره- فيجب على قولك ألا يكون مثابا عند الله تعالى- على ما يحتمله من المكروه- و لا ما يصيبه من الأذى- إذ كان قد أيقن بالسلامة و الفتح في عدته- .

قال الجاحظ- و من جحد كون أبي بكر صاحب رسول الله ص فقد كفر- لأنه جحد نص الكتاب- ثم انظر إلى قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَنا- من الفضيلة لأبي بكر- لأنه شريك رسول الله ص في كون الله تعالى معه- و إنزال السكينة- قال كثير من الناس- إنه في الآية مخصوص بأبي بكر- لأنه كان محتاجا إلى السكينة- لما تداخله من رقة الطبع البشري- و النبي ص كان غير محتاج إليها- لأنه يعلم أنه محروس من الله تعالى- فلا معنى لنزول السكينة عليه- و هذه فضيلة ثالثة لأبي بكر- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- إن أبا عثمان يجر على نفسه- ما لا طاقة له به من مطاعن الشيعة- و لقد كان في غنية عن التعلق بما تعلق به- لأن الشيعة تزعم أن هذه الآية- بأن تكون طعنا و عيبا على أبي بكر- أولى من أن تكون فضيلة و منقبة له- لأنه لما قال له لا تَحْزَنْ- دل على أنه قد كان حزن و قنط و أشفق على نفسه- و ليس هذا من صفات المؤمنين الصابرين- و لا يجوز أن يكون حزنه طاعة- لأن الله تعالى لا ينهى عن الطاعة- فلو لم يكن ذنبا لم ينه عنه- و قوله إِنَّ اللَّهَ مَعَنا- أي إن الله عالم بحالنا- و ما نضمره من اليقين أو الشك- كما يقول الرجل لصاحبه- لا تضمرن سوءا و لا تنوين قبيحا- فإن الله تعالى يعلم ما نسره و ما نعلنه- و هذا مثل قوله تعالى- وَ لا أَدْنى‏ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا- أي هو عالم بهم و أما السكينةفكيف يقول- إنها ليست راجعة إلى النبي ص و بعدها قوله- وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها- أ ترى المؤيد بالجنود كان أبا بكر أم رسول الله ص- .

و قوله إنه مستغن عنها ليس بصحيح- و لا يستغني أحد عن ألطاف الله و توفيقه- و تأييده و تثبيت قلبه- و قد قال الله تعالى في قصة حنين- وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ- ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏ رَسُولِهِ ص- . و أما الصحبة فلا تدل إلا على المرافقة و الاصطحاب لا غير- و قد يكون حيث لا إيمان- كما قال تعالى قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ- أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ- و نحن و إن كنا نعتقد إخلاص أبي بكر- و إيمانه الصحيح السليم و فضيلته التامة- إلا أنا لا نحتج له- بمثل ما احتج به الجاحظ من الحجج الواهية- و لا نتعلق بما يجر علينا دواهي الشيعة و مطاعنها- .

قال الجاحظ و إن كان المبيت على الفراش فضيلة- فأين هي من فضائل أبي بكر أيام مكة- من عتق المعذبين و إنفاق المال و كثرة المستجيبين- مع فرق ما بين الطاعتين- لأن طاعة الشاب الغرير- و الحدث الصغير الذي في عز صاحبه عزه- ليست كطاعة الحليم الكبير- الذي لا يرجع تسويد صاحبه إلى رهطه و عشيرته- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما كثرة المستجيبين- فالفضل فيها راجع إلى المجيب‏لا إلى المجاب- على أنا قد علمنا أن من استجاب لموسى ع- أكثر ممن استجاب لنوح ع- و ثواب نوح أكثر لصبره على الأعداء- و مقاساة خلافهم و عنتهم- و أما إنفاق المال- فأين محنة الغني من محنة الفقير- و أين يعتدل إسلام من أسلم و هو غني- إن جاع أكل و إن أعيا ركب و إن عري لبس- قد وثق بيساره و استغنى بماله- و استعان على نوائب الدنيا بثروته- ممن لا يجد قوت يومه- و إن وجد لم يستأثر به فكان الفقر شعاره- و في ذلك قيل الفقر شعار المؤمن- وقال الله تعالى لموسى يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا- فقل مرحبا بشعار الصالحينوفي الحديث أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام
وكان النبي ص يقول اللهم احشرني في زمرة الفقراء- و لذلك أرسل الله محمدا ص فقيرا- و كان بالفقر سعيدا- فقاسى محنة الفقر و مكابدة الجوع- حتى شد الحجر على بطنه- و حسبك بالفقر فضيلة في دين الله لمن صبر عليه- فإنك لا تجد صاحب الدنيا يتمناه- لأنه مناف لحال الدنيا و أهلها- و إنما هو شعار أهل الآخرة- .

و أما طاعة علي ع- و كون الجاحظ زعم أنها كانت لأن في عز محمد عزه و عز رهطه- بخلاف طاعة أبي بكر- فهذا يفتح عليه أن يكون جهاد حمزة كذلك- و جهاد عبيدة بن الحارث- و هجرة جعفر إلى الحبشة- بل لعل محاماة المهاجرين من قريش- على رسول الله ص كانت لأن في دولته دولتهم- و في نصرته استجداد ملك لهم- و هذا يجر إلى الإلحاد- و يفتح باب الزندقة- و يفضي إلى الطعن في الإسلام و النبوة- . قال الجاحظ و على أنا لو نزلنا إلى ما يريدونه- جعلنا الفراش كالغار- و خلصت فضائل أبي بكر في غير ذلك عن معارض- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- قد بينا فضيلة المبيت على الفراش- على فضيلة الصحبةفي الغار بما هو واضح لمن أنصف- و نزيد هاهنا تأكيدا بما لم نذكره فيما تقدم- فنقول إن فضيلة المبيت على الفراش- على الصحبة في الغار لوجهين- أحدهما أن عليا ع قد كان أنس بالنبي ص- و حصل له بمصاحبته قديما أنس عظيم و إلف شديد- فلما فارقه عدم ذلك الأنس و حصل به أبو بكر- فكان ما يجده علي ع من الوحشة- و ألم الفرقة موجبا زيادة ثوابه- لأن الثواب على قدر المشقة- .

و ثانيهما أن أبا بكر كان يؤثر الخروج من مكة- و قد كان خرج من قبل فردا فازداد كراهية للمقام- فلما خرج مع رسول الله ص وافق ذلك هوى قلبه- و محبوب نفسه- فلم يكن له من الفضيلة- ما يوازي فضيلة من احتمل المشقة العظيمة- و عرض نفسه لوقع السيوف و رأسه لرضخ الحجارة- لأنه على قدر سهولة العبادة يكون نقصان الثواب قال الجاحظ ثم الذي لقي أبو بكر في مسجده- الذي بناه على بابه في بني جمح- فقد كان بنى مسجدا يصلي فيه- و يدعو الناس إلى الإسلام- و كان له صوت رقيق و وجه عتيق- و كان إذا قرأ بكى- فيقف عليه المارة- من الرجال و النساء و الصبيان و العبيد- فلما أوذي في الله و منع من ذلك المسجد- استأذن رسول الله ص في الهجرة فأذن له- فأقبل يريد المدينة فتلقاه الكناني- فعقد له جوارا و قال و الله لا أدع مثلك يخرج من مكة- فرجع إليها و عاد لصنيعه في المسجد- فمشت قريش إلى جاره الكناني و أجلبوا عليه- فقال له دع المسجد و ادخل بيتك- و اصنع فيه ما بدا لك- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- كيف كانت بنو جمح تؤذي عثمان بن مظعون و تضربه- و هو فيهم ذو سطوة و قدر- و تترك أبا بكر يبني مسجدا يفعل فيه ما ذكرتم- و أنتم الذين رويتم عن ابن مسعود أنه قال- ما صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر بن الخطاب- و الذي تذكرونه من بناء المسجد- كان قبل إسلام عمر فكيف هذا- . و أما ما ذكرتم من رقة صوته و عتاق وجهه- فكيف يكون ذلك و قد روى الواقدي و غيره- أن عائشة رأت رجلا من العرب خفيف العارضين- معروق الخدين غائر العينين أجنأ لا يمسك إزاره- فقالت ما رأيت أشبه بأبي بكر من هذا- فلا نراها دلت على شي‏ء من الجمال في صفته- . قال الجاحظ و حيث رد أبو بكر جوار الكناني- و قال لا أريد جارا سوى الله- لقي من الأذى و الذل و الاستخفاف و الضرب ما بلغكم- و هذا موجود في جميع السير- و كان آخر ما لقي هو و أهله في أمر الغار- و قد طلبته قريش و جعلت فيه مائة بعير- كما جعلت في النبي ص- فلقي أبو جهل أسماء بنت بكر فسألها فكتمته- فلطمها حتى رمت قرطا كان في أذنها- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- هذا الكلام و هجر السكران سواء- في تقارب المخرج و اضطراب المعنى- و ذلك أن قريشا لم تقدر على أذى النبي ص- و أبو طالب حي يمنعه- فلما مات طلبته لتقتله- فخرج تارة إلى بني عامر و تارة إلى ثقيف- و تارة إلى بني شيبان- و لم يكن يتجاسر على المقام بمكة إلا مستترا- حتى أجاره مطعم بن عدي ثم خرج إلى المدينة- فبذلت فيه مائة بعير لشدة حنقها عليه حين فاتها- فلم تقدر عليه- فما بالها بذلت في أبي بكر مائة بعير أخرى- و قد كان رد الجوار و بقي بينهم فردا لا ناصر له-و لا دافع عنده يصنعون به ما يريدون- إما أن يكونوا أجهل البرية كلها- أو يكون العثمانية أكذب جيل في الأرض و أوقحه وجها- فهذا مما لم يذكر في سيرة و لا روي في أثر- و لا سمع به بشر و لا سبق الجاحظ به أحد- .

قال الجاحظ- ثم الذي كان من دعائه إلى الإسلام و حسن احتجاجه- حتى أسلم على يديه طلحة و الزبير- و سعد و عثمان و عبد الرحمن- لأنه ساعة أسلم دعا إلى الله و إلى رسوله- . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما أعجب هذا القول- إذ تدعي العثمانية لأبي بكر الرفق في الدعاء و حسن الاحتجاج- و قد أسلم و معه في منزله ابنه عبد الرحمن- فما قدر أن يدخله في الإسلام طوعا- برفقه و لطف احتجاجه- و لا كرها بقطع النفقة عنه و إدخال المكروه عليه- و لا كان لأبي بكر عند ابنه عبد الرحمن- من القدر ما يطيعه فيما يأمره به و يدعوه إليه- كما روي أن أبا طالب فقد النبي ص يوما- و كان يخاف عليه من قريش أن يغتالوه- فخرج و معه ابنه جعفر يطلبان النبي ص- فوجده قائما في بعض شعاب مكة يصلي- و علي ع معه عن يمينه- فلما رآهما أبو طالب قال لجعفر- تقدم و صل جناح ابن عمك- فقام جعفر عن يسار محمد ص- فلما صاروا ثلاثة تقدم رسول الله ص و تأخر الأخوان- فبكى أبو طالب و قال-

إن عليا و جعفرا ثقتي
عند ملم الخطوب و النوب‏

لا تخذلا و انصرا ابن عمكما
أخي لأمي من بينهم و أبي‏

و الله لا أخذل النبي و لا
يخذله من بني ذو حسب‏

فتذكر الرواة أن جعفرا أسلم منذ ذلك اليوم- لأن أباه أمره بذلك و أطاع أمره- و أبو بكر لم يقدر على إدخال ابنه عبد الرحمن في الإسلام- حتى أقام بمكة على كفره ثلاث عشرة سنة- و خرج يوم أحد في عسكر المشركين ينادي- أنا عبد الرحمن بن عتيق هل من مبارز- ثم مكث بعد ذلك على كفره حتى أسلم عام الفتح- و هو اليوم الذي دخلت فيه قريش في الإسلام طوعا و كرها- و لم يجد أحد منها إلى ترك ذلك سبيلا- و أين كان رفق أبي بكر و حسن احتجاجه- عند أبيه أبي قحافة و هما في دار واحدة- هلا رفق به و دعاه إلى الإسلام فأسلم-

و قد علمتم أنه بقي على الكفر إلى يوم الفتح- فأحضره ابنه عند النبي ص و هو شيخ كبير رأسه كالثغامة- فنفر رسول الله ص منه و قال غيروا هذا- فخضبوه ثم جاءوا به مرة أخرى فأسلم- و كان أبو قحافة فقيرا مدقعا سيئ الحال- و أبو بكر عندهم كان مثريا فائض المال- فلم يمكنه استمالته إلى الإسلام بالنفقة و الإحسان- و قد كانت امرأة أبي بكر أم عبد الله ابنه- و اسمها نملة بنت عبد العزى بن أسعد بن عبد بن ود العامرية لم تسلم- و أقامت على شركها بمكة و هاجر أبو بكر و هي كافرة- فلما نزل قوله تعالى وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ- فطلقها أبو بكر- فمن عجز عن ابنه و أبيه و امرأته- فهو عن غيرهم من الغرماء أعجز- و من لم يقبل منه أبوه و ابنه و امرأته- لا برفق و احتجاج و لا خوفا من قطع النفقة عنهم- و إدخال المكروه عليهم فغيرهم أقل قبولا منه- و أكثر خلافا عليه- .

قال الجاحظ و قالت أسماء بنت أبي بكر- ما عرفت أبي إلا و هو يدين بالدين- و لقد رجع إلينا يوم أسلم فدعانا إلى الإسلام- فما رمنا حتى أسلمنا و أسلم أكثر جلسائه- و لذلك قالوا- من أسلم بدعاء أبي بكر أكثر ممن أسلم بالسيف- و لم يذهبوا في ذلك إلى العدد بل عنوا الكثرة في القدر- لأنه أسلم على يديه خمسة من أهل الشورى-كلهم يصلح للخلافة و هم أكفاء علي ع- و منازعوه الرئاسة و الإمامة- فهؤلاء أكثر من جميع الناس- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- أخبرونا من هذا الذي أسلم ذلك اليوم- من أهل بيت أبي بكر إذا كانت امرأته لم تسلم- و ابنه عبد الرحمن لم يسلم و أبو قحافة لم يسلم- و أخته أم فروة لم تسلم- و عائشة لم تكن قد ولدت في ذلك الوقت- لأنها ولدت بعد مبعث النبي ص بخمس سنين- و محمد بن أبي بكر ولد بعد مبعث رسول الله ص- بثلاث و عشرين سنة- لأنه ولد في حجة الوداع- و أسماء بنت أبي بكر التي قد روى الجاحظ هذا الخبر عنها- كانت يوم بعث رسول الله ص بنت أربع سنين-

و في رواية من يقول بنت سنتين- فمن الذي أسلم من أهل بيته يوم أسلم- نعوذ بالله من الجهل و الكذب و المكابرة- و كيف أسلم سعد و الزبير و عبد الرحمن بدعاء أبي بكر- و ليسوا من رهطه و لا من أترابه و لا من جلسائه- و لا كانت بينهم قبل ذلك صداقة متقدمة و لا أنس وكيد- و كيف ترك أبو بكر عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة- لم يدخلهما في الإسلام برفقه و حسن دعائه- و قد زعمتم أنهما كانا يجلسان إليه- لعلمه و طريف حديثه- و ما باله لم يدخل جبير بن مطعم في الإسلام-

و قد ذكرتم أنه أدبه و خرجه- و منه أخذ جبير العلم بأنساب قريش و مآثرها- فكيف عجز عن هؤلاء الذين عددناهم- و هم منه بالحال التي وصفنا- و دعا من لم يكن بينه و بينه أنس و لا معرفة- إلا معرفة عيان- و كيف لم يقبل منه عمر بن الخطاب و قد كان شكله- و أقرب الناس شبها به في أغلب أخلاقه- و لئن رجعتم إلى الإنصاف- لتعلمن أن هؤلاء لم يكن إسلامهم- إلا بدعاء الرسول ص لهم و على يديه أسلموا- و لو فكرتم في حسن التأتي في الدعاء- ليصحن لأبي طالب في ذلكعلى شركه- أضعاف ما ذكرتموه لأبي بكر- لأنكم رويتم أن أبا طالب قال لعلي ع- يا بني الزمه فإنه لن يدعوك إلا إلى خير-

و قال لجعفر صل جناح ابن عمك فأسلم بقوله- و لأجله أصفق بنو عبد مناف على نصرة رسول الله ص بمكة- من بني مخزوم و بني سهم و بني جمح- و لأجله صبر بنو هاشم على الحصار في الشعب- و بدعائه و إقباله على محمد ص- أسلمت امرأته فاطمة بنت أسد- فهو أحسن رفقا و أيمن نقيبة من أبي بكر و غيره- و إنما منعه عن الإسلام أن ثبت أنه لم يسلم إلا تقية- و أبو بكر لم يكن له إلا ابن واحد و هو عبد الرحمن- فلم يمكنه أن يدخله في الإسلام- و لا أمكنه إذ لم يقبل منه الإسلام- أن يجعله كبعض مشركي قريش في قلة الأذى لرسول الله ص- و فيه أنزل وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما- أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي- وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ- فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ-

و إنما يعرف حسن رفق الرجل و تأتيه- بأن يصلح أولا أمر بيته و أهله- ثم يدعو الأقرب فالأقرب- فإن رسول الله ص لما بعث كان أول من دعا زوجته خديجة- ثم مكفوله و ابن عمه عليا ع- ثم مولاه زيدا ثم أم أيمن خادمته- فهل رأيتم أحدا ممن كان يأوي إلى رسول الله ص لم يسارع- و هل التاث عليه أحد من هؤلاء- فهكذا يكون حسن التأتي و الرفق في الدعاء- هذا و رسول الله مقل- و هو من جملة عيال خديجة حين بعثه الله تعالى- و أبو بكر عندكم كان موسرا و كان أبوه مقترا- و كذلك ابنه و امرأته أم عبد الله- و الموسر في فطرة العقول أولى أن يتبع من المقتر- و إنما حسن التأتي و الرفق في الدعاء- ما صنعه مصعب بن عمير لسعد بن معاذ لما دعاه- و ما صنع سعد بن معاذ ببني عبد الأشهل لما دعاهم- و ما صنع بريدة بن الحصيب بأسلم لما دعاهم- قالوا أسلم بدعائه ثمانون بيتا من قومه-

و أسلم بنو عبد الأشهل بدعاء سعد في يوم واحد- و أما من لم يسلم ابنه و لا امرأته- و لا أبوه و لا أخته بدعائه- فهيهات أن يوصف و يذكر بالرفق في الدعاء- و حسن التأتي و الأناة- قال الجاحظ ثم أعتق أبو بكر بعد ذلك- جماعة من المعذبين في الله- و هم ست رقاب منهم بلال و عامر بن فهيرة- و زنيرة النهدية و ابنتها- و مر بجارية يعذبها عمر بن الخطاب فابتاعها منه و أعتقها- و أعتق أبا عيسى فأنزل الله فيه فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اتَّقى‏- وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى‏ إلى آخر السورة- . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- أما بلال و عامر بن فهيرة فإنما أعتقهما رسول الله ص-

روى ذلك الواقدي و ابن إسحاق و غيرهما- و أما باقي مواليهم الأربعة- فإن سامحناكم في دعواكم- لم يبلغ ثمنهم في تلك الحال لشدة بغض مواليهم لهم- إلا مائة درهم أو نحوها فأي فخر في هذا- و أما الآية فإن ابن عباس قال في تفسيرها- فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اتَّقى‏ وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏- فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى‏ أي لأن يعود- . و قال غيره نزلت في مصعب بن عمير قال الجاحظ و قد علمتم ما صنع أبو بكر في ماله- و كان ماله أربعين ألف درهم- فأنفقه في نوائب الإسلام و حقوقه- و لم يكن خفيف الظهر قليل العيال و النسل- فيكون فاقد جميع اليسارين- بل كان ذا بنين و بنات و زوجة و خدم و حشم- و يعول والديه و ما ولدا- و لم يكن النبي ص قبل ذلك عنده مشهورا- فيخاف العار في ترك مواساته- فكان إنفاقه على الوجه الذي لا نجد في غاية الفضل مثله- و لقدقال النبي ص ما نفعني مال كما نفعني مال أبي بكر- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- أخبرونا على أي نوائب الإسلام أنفق هذا المال- و في أي وجه وضعه- فإنه ليس بجائز أن يخفى ذلك و يدرس- حتى يفوت حفظه و ينسى ذكره- و أنتم فلم تقفوا على شي‏ء- أكثر من عتقه بزعمكم ست رقاب- لعلها لا يبلغ ثمنها في ذلك العصر مائة درهم- و كيف يدعي له الإنفاق الجليل- و قد باع من رسول الله ص بعيرين عند خروجه إلى يثرب- و أخذ منه الثمن في مثل تلك الحال- و روى ذلك جميع المحدثين- و قد رويتم أيضا أنه كان حيث كان بالمدينة غنيا موسرا- و رويتم عن عائشة أنها قالت- هاجر أبو بكر و عنده عشرة آلاف درهم- و قلتم إن الله تعالى أنزل فيه- وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى‏- قلتم هي في أبي بكر و مسطح بن أثاثة- فأين الفقر الذي زعمتم أنه أنفق حتى تخلل بالعباءة-

و رويتم أن لله تعالى في سمائه ملائكة قد تخللوا بالعباءة- و أن النبي ص رآهم ليلة الإسراء- فسأل جبرائيل عنهم فقال- هؤلاء ملائكة تأسوا بأبي بكر بن أبي قحافة- صديقك في الأرض- فإنه سينفق عليك ماله حتى يخلل عباءه في عنقه- و أنتم أيضا رويتم أن الله تعالى لما أنزل آية النجوى- فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ- فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ الآية- لم يعمل بها إلا علي بن أبي طالب وحده- مع إقراركم بفقره و قلة ذات يده- و أبو بكر في الحال التي ذكرنا من السعة أمسك عن مناجاته- فعاتب الله المؤمنين في ذلك فقال- أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ- فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ- فجعله سبحانه ذنبا يتوب عليهم منه- و هو إمساكهم عن تقديم الصدقة- فكيف سخت نفسه بإنفاق أربعين ألفا- و أمسك عن مناجاة الرسول- و إنما كان يحتاج فيها إلى إخراج درهمين- .

و أما ما ذكر من كثرة عياله و نفقته عليهم- فليس في ذلك دليل على تفضيله- لأن‏نفقته على عياله واجبة- مع أن أرباب السيرة ذكروا- أنه لم يكن ينفق على أبيه شيئا- و أنه كان أجيرا لابن جدعان- على مائدته يطرد عنها الذبان- . قال الجاحظ و قد تعلمون ما كان يلقى أصحاب النبي ص- ببطن مكة من المشركين- و حسن صنيع كثير منهم- كصنيع حمزة حين ضرب أبا جهل بقوسه ففلق هامته- و أبو جهل يومئذ سيد البطحاء و رئيس الكفر- و أمنع أهل مكة- و قد عرفتم أن الزبير سل سيفه و استقبل به المشركين- لما أرجف أن محمدا ص قد قتل- و أن عمر بن الخطاب قال حين أسلم- لا يعبد الله سرا بعد اليوم- و أن سعدا ضرب بعض المشركين بلحي جمل فأراق دمه- فكل هذه الفضائل- لم يكن لعلي بن أبي طالب فيها ناقة و لا جمل- و قد قال الله تعالى- لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ- أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً- مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا- فإذا كان الله تعالى قد فضل من أنفق قبل الفتح- لأنه لا هجرة بعد الفتح على من أنفق بعد الفتح- فما ظنكم بمن أنفق من قبل الهجرة- و من لدن مبعث النبي ص إلى الهجرة و إلى بعد الهجرة- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- إننا لا ننكر فضل الصحابة و سوابقهم- و لسنا كالإمامية- الذين يحملهم الهوى على جحد الأمور المعلومة- و لكننا ننكر تفضيل أحد من الصحابة- على علي بن أبي طالب- و لسنا ننكر غير ذلك- و ننكر تعصب الجاحظ للعثمانية- و قصده إلى فضائل هذا الرجل و مناقبه بالرد و الإبطال- و أما حمزة فهو عندنا ذو فضل عظيم و مقام جليل- و هو سيد الشهداء الذين استشهدوا على عهد رسول اللهص- و أما فضل عمر فغير منكر- و كذلك الزبير و سعد- و ليس فيما ذكر ما يقتضي كون علي ع مفضولا لهم أو لغيرهم- إلا قوله و كل هذه الفضائل- لم يكن لعلي ع فيها ناقة و لا جمل- فإن هذا من التعصب البارد و الحيف الفاحش- و قد قدمنا من آثار علي ع قبل الهجرة- و ما له إذ ذاك من المناقب و الخصائص- ما هو أفضل و أعظم و أشرف من جميع ما ذكر لهؤلاء- على أن أرباب السيرة يقولون- إن الشجة التي شجها سعد- و إن السيف الذي سله الزبير- هو الذي جلب الحصار في الشعب على النبي ص و بني هاشم- و هو الذي سير جعفرا و أصحابه إلى الحبشة- و سل السيف- في الوقت الذي لم يؤمر المسلمون فيه بسل السيف- غير جائز- قال تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ- كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ- فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ- إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ- فتبين أن التكليف له أوقات- فمنها وقت لا يصلح فيه سل السيف- و منها وقت يصلح فيه و يجب- فأما قوله تعالى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ- فقد ذكرنا ما عندنا من دعواهم لأبي بكر إنفاق المال-

و أيضا فإن الله تعالى لم يذكر إنفاق المال مفردا- و إنما قرن به القتال- و لم يكن أبو بكر صاحب قتال و حرب فلا تشمله الآية- و كان علي ع صاحب قتال و إنفاق قبل الفتح- أما قتاله فمعلوم بالضرورة- و أما إنفاقه فقد كان على حسب حاله و فقره- و هو الذي أطعم الطعام على حبه مسكينا و يتيما و أسيرا- و أنزلت فيه و في زوجته و ابنيه سورة كاملة من القرآن- و هو الذي ملك أربعة دراهم- فأخرج منها درهما سرا و درهما علانية ليلا- ثم أخرج منها في النهار درهما سرا و درهما علانية- فأنزل فيه قوله تعالى- الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً- و هو الذي قدم بين يدي نجواه صدقة-دون المسلمين كافة- و هو الذي تصدق بخاتمه و هو راكع فأنزل الله فيه- إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ- .

قال الجاحظ- و الحجة العظمى للقائلين بتفضيل علي ع- قتله الأقران و خوضه الحرب- و ليس له في ذلك كبير فضيلة- لأن كثرة القتل و المشي بالسيف إلى الأقران- لو كان من أشد المحن و أعظم الفضائل- و كان دليلا على الرئاسة و التقدم- لوجب أن يكون للزبير و أبي دجانة- و محمد بن مسلمة و ابن عفراء و البراء بن مالك- من الفضل ما ليس لرسول الله ص- لأنه لم يقتل بيده إلا رجلا واحدا- و لم يحضر الحرب يوم بدر و لا خالط الصفوف- و إنما كان معتزلا عنهم في العريش و معه أبو بكر- و أنت ترى الرجل الشجاع قد يقتل الأقران- و يجندل الأبطال- و فوقه من العسكر من لا يقتل و لا يبارز- و هو الرئيس أو ذوي الرأي و المستشير في الحرب- لأن للرؤساء من الاكتراث و الاهتمام- و شغل البال و العناية و التفقد ما ليس لغيرهم- و لأن الرئيس هو المخصوص بالمطالبة- و عليه مدار الأمور- و به يستبصر المقاتل و يستنصر- و باسمه ينهزم العدو- و لو لم يكن له إلا أن الجيش لو ثبت و فر هو- لم يغن ثبوت الجيش كله و كانت الدبرة عليه- و لو ضيع القوم جميعا و حفظ هو- لانتصر و كانت الدولة له- و لهذا لا يضاف النصر و الهزيمة إلا إليه- ففضل أبي بكر بمقامه في العريش مع رسول الله يوم بدر- أعظم من جهاد علي ع ذلك اليوم و قتله أبطال قريش- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- لقد أعطي أبو عثمان مقولا و حرم معقولا- إن كان‏يقول هذا على اعتقاد و جد- و لم يذهب به مذهب اللعب و الهزل- أو على طريق التفاصح و التشادق و إظهار القوة- و السلاطة و ذلاقة اللسان- و حدة الخاطر و القوة على جدال الخصوم- أ لم يعلم أبو عثمان أن رسول الله ص كان أشجع البشر- و أنه خاض الحروب- و ثبت في المواقف التي طاشت فيها الألباب- و بلغت القلوب الحناجر- فمنها يوم أحد- و وقوفه بعد أن فر المسلمون بأجمعهم- و لم يبق معه إلا أربعة- علي و الزبير و طلحة و أبو دجانة- فقاتل و رمى بالنبل حتى فنيت نبله- و انكسرت سية قوسه و انقطع وتره- فأمر عكاشة بن محصن أن يوترها- فقال يا رسول الله لا يبلغ الوتر فقال أوتر ما بلغ- قال عكاشة فو الذي بعثه بالحق لقد أوترت حتى بلغ- و طويت منه شبرا على سية القوس-

ثم أخذها فما زال يرميهم- حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت- و بارز أبي بن خلف فقال له أصحابه إن شئت عطف عليه بعضنا فأبى- و تناول الحربة من الحارث بن الصمة ثم انتقض بأصحابه- كما ينتقض البعير- قالوا فتطايرنا عنه تطاير الشعارير فطعنه بالحربة- فجعل يخور كما يخور الثور- و لو لم يدل على ثباته حين انهزم أصحابه و تركوه- إلا قوله تعالى إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى‏ أَحَدٍ- وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ- فكونه ع في أخراهم و هم يصعدون و لا يلوون هاربين- دليل على أنه ثبت و لم يفر- و ثبت يوم حنين في تسعة من أهله و رهطه الأدنين- و قد فر المسلمون كلهم و النفر التسعة محدقون به- العباس آخذ بحكمة بغلته- و علي بين يديه مصلت سيفه- و الباقون حول بغلة رسول الله ص يمنة و يسرة- و قد انهزم المهاجرون و الأنصار- و كلما فروا أقدم هو ص يمنة و يسرة- و قد انهزم المهاجرون و الأنصار- و كلما فرو أقدم هو ص و صمم مستقدما- يلقى السيوف و النبال بنحره و صدره- ثم أخذ كفا منالبطحاء و حصب المشركين-

و قال شاهت الوجوه والخبر المشهور عن علي ع و هو أشجع البشر كنا إذا اشتد البأس- و حمي الوطيس اتقينا برسول الله ص و لذنا به- فكيف يقول الجاحظ إنه ما خاض الحرب و لا خالط الصفوف- و أي فرية أعظم من فرية من نسب رسول الله ص- إلى الإحجام و اعتزال الحرب- ثم أي مناسبة بين أبي بكر و رسول الله ص في هذا المعنى- ليقيسه و ينسبه إلى رسول الله ص صاحب الجيش و الدعوة- و رئيس الإسلام و الملة- و الملحوظ بين أصحابه و أعدائه بالسيادة- و إليه الإيماء و الإشارة- و هو الذي أحنق قريشا و العرب- و ورى أكبادهم بالبراءة من آلهتهم- و عيب دينهم و تضليل أسلافهم- ثم وترهم فيما بعد بقتل رؤسائهم و أكابرهم- و حق لمثله إذا تنحى عن الحرب و اعتزلها-

أن يتنحى و يعتزل- لأن ذلك شأن الملوك و الرؤساء- إذا كان الجيش منوطا بهم و ببقائهم- فمتى هلك الملك هلك الجيش- و متى سلم الملك أمكن أن يبقى عليه ملكه- و إن عطب جيشه فإنه يستجد جيشا آخر- و لذلك نهى الحكماء أن يباشر الملك الحرب بنفسه- و خطئوا الإسكندر لما بارز قوسرا ملك الهند- و نسبوه إلى مجانبة الحكمة و مفارقة الصواب و الحزم- فليقل لنا الجاحظ أي مدخل لأبي بكر في هذا المعنى- و من الذي كان يعرفه من أعداء الإسلام ليقصده بالقتل- و هل هو إلا واحد من عرض المهاجرين- حكمه حكم عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان و غيرهما- بل كان عثمان أكثر منه صيتا و أشرف منه مركبا- و العيون إليه أطمح- و العدو إليه أحنق و أكلب- و لو قتل أبو بكر في بعض تلك المعارك- هل كان يؤثر قتله في الإسلام ضعفا- أو يحدث فيه وهنا- أو يخاف على الملة- لو قتل أبو بكر في بعض تلك الحروب- أن تندرس و تعفى آثارها و ينطمس منارها- ليقول الجاحظ إن أبا بكر كان حكمه حكم رسول الله ص- في مجانبة الحروب و اعتزالها- نعوذ بالله من الخذلان- و قد علم العقلاء كلهم ممن لهبالسير معرفة- و بالآثار و الأخبار ممارسة- حال حروب رسول الله ص كيف كانت- و حاله ع فيها كيف كان-

و وقوفه حيث وقف و حربه حيث حارب- و جلوسه في العريش يوم جلس- و إن وقوفه ص وقوف رئاسة و تدبير- و وقوف ظهر و سند يتعرف أمور أصحابه- و يحرس صغيرهم و كبيرهم بوقوفه من ورائهم- و تخلفه عن التقدم في أوائلهم- لأنهم متى علموا أنه في أخراهم اطمأنت قلوبهم- و لم تتعلق بأمره نفوسهم- فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدوهم- و لا يكون لهم فئة يلجئون إليها و ظهر يرجعون إليه- و يعلمون أنه متى كان خلفهم- تفقد أمورهم و علم مواقفهم- و آوى كل إنسان مكانه في الحماية و النكاية- و عند المنازلة في الكر و الحملة- فكان وقوفه حيث وقف أصلح لأمرهم- و أحمى و أحرس لبيضتهم- و لأنه المطلوب من بينهم إذ هو مدبر أمورهم- و والي جماعتهم- أ لا ترون أن موقف صاحب اللواء موقف شريف- و أن صلاح الحرب في وقوفه- و أن فضيلته في ترك التقدم في أكثر حالاته- فللرئيس حالات- الأولى حالة يتخلف و يقف آخرا ليكون سندا و قوة- و ردءا و عدة- و ليتولى تدبير الحرب و يعرف مواضع الخلل- .

و الحالة الثانية يتقدم فيها في وسط الصف- ليقوي الضعيف و يشجع الناكص- . و حالة ثالثة و هي إذا اصطدم الفيلقان- و تكافح السيفان- اعتمد ما تقتضيه الحال من الوقوف حيث يستصلح- أو من مباشرة الحرب بنفسه فإنها آخر المنازل- و فيها تظهر شجاعة الشجاع النجد و فسالة الجبان المموه- . فأين مقام الرئاسة العظمى لرسول الله ص- و أين منزلة أبي بكر ليسوي بين المنزلتين و يناسب بين الحالتين- .

و لو كان أبو بكر شريكا لرسول الله ص في الرسالة- و ممنوحا من الله‏بفضيلة النبوة- و كانت قريش و العرب تطلبه كما تطلب محمدا ص- و كان يدبر من أمر الإسلام و تسريب العساكر- و تجهيز السرايا و قتل الأعداء- ما يدبره محمد ص- لكان للجاحظ أن يقول ذلك- فأما و حاله حاله و هو أضعف المسلمين جنانا- و أقلهم عند العرب ترة لم يرم قط بسهم- و لا سل سيفا و لا أراق دما- و هو أحد الأتباع غير مشهور و لا معروف- و لا طالب و لا مطلوب- فكيف يجوز أن يجعل مقامه و منزلته- مقام رسول الله ص و منزلته- و لقد خرج ابنه عبد الرحمن- مع المشركين يوم أحد فرآه أبو بكر فقام مغيظا عليه- فسل من السيف مقدار إصبع يريد البروز إليه- فقال له رسول الله ص- يا أبا بكر شم سيفك و أمتعنا بنفسك- و لم يقل له و أمتعنا بنفسك- إلا لعلمه بأنه ليس أهلا للحرب و ملاقاة الرجال- و أنه لو بارز لقتل- .

و كيف يقول الجاحظ لا فضيلة لمباشرة الحرب- و لقاء الأقران و قتل أبطال الشرك- و هل قامت عمد الإسلام إلا على ذلك- و هل ثبت الدين و استقر إلا بذلك- أ تراه لم يسمع قول الله تعالى- إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ- صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ- و المحبة من الله تعالى هي إرادة الثواب- فكل من كان أشد ثبوتا في هذا الصف و أعظم قتالا- كان أحب إلى الله- و معنى الأفضل هو الأكثر ثوابا- فعلي ع إذا هو أحب المسلمين إلى الله- لأنه أثبتهم قدما في الصف المرصوص- لم يفر قط بإجماع الأمة و لا بارزه قرن إلا قتله- .

أ تراه لم يسمع قول الله تعالى- وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً- و قوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ- بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ‏فِي سَبِيلِ اللَّهِ- فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ- وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ- ثم قال سبحانه مؤكدا لهذا البيع و الشراء- وَ مَنْ أَوْفى‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ- فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ- وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ- و قال الله تعالى- ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا- إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ- .

فمواقف الناس في الجهاد على أحوال- و بعضهم في ذلك أفضل من بعض- فمن دلف إلى الأقران و استقبل السيوف و الأسنة- كان أثقل على أكتاف الأعداء لشدة نكايته فيهم- ممن وقف في المعركة و أعان و لم يقدم- و كذلك من وقف في المعركة و أعان و لم يقدم- إلا أنه بحيث تناله السهام و النبل أعظم غناء- و أفضل ممن وقف حيث لا يناله ذلك- و لو كان الضعيف و الجبان يستحقان الرئاسة- بقلة بسط الكف و ترك الحرب- و أن ذلك يشاكل فعل النبي ص- لكان أوفر الناس حظا في الرئاسة- و أشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت- و إن بطل فضل علي ع في الجهاد- لأن النبي ص كان أقلهم قتالا كما زعم الجاحظ- ليبطلن على هذا القياس فضل أبي بكر في الإنفاق- لأن رسول الله ص كان أقلهم مالا- .

و أنت إذا تأملت أمر العرب و قريش- و نظرت السير و قرأت الأخبار- عرفت أنها كانت تطلب محمدا ص- و تقصد قصده و تروم قتله- فإن أعجزها و فاتها طلبت عليا ع و أرادت قتله- لأنه كان أشبههم بالرسول حالا- و أقربهم منه قربا و أشدهم عنه دفعا- و أنهم متى قصدوا عليا فقتلوه- أضعفوا أمر محمد ص و كسروا شوكته- إذ كان أعلى من ينصره في البأس و القوة- و الشجاعةو النجدة و الإقدام و البسالة- أ لا ترى إلى قول عتبة بن ربيعة يوم بدر- و قد خرج هو و أخوه شيبة و ابنه الوليد بن عتبة- فأخرج إليه الرسول نفرا من الأنصار- فاستنسبوهم فانتسبوا لهم- فقالوا ارجعوا إلى قومكم ثم نادوا- يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا- فقال النبي ص لأهله الأدنين- قوموا يا بني هاشم فانصروا حقكم الذي آتاكم الله- على باطل هؤلاء- قم يا علي قم يا حمزة قم يا عبيدة- أ لا ترى ما جعلت هند بنت عتبة لمن قتله يوم أحد- لأنه اشترك هو و حمزة في قتل أبيها يوم بدر- أ لم تسمع قول هند ترثي أهلها-

ما كان عن عتبة لي من صبر
أبي و عمي و شقيق صدري‏

أخي الذي كان كضوء البدر
بهم كسرت يا علي ظهري‏

و ذلك لأنه قتل أخاها الوليد بن عتبة- و شرك في قتل أبيها عتبة- و أما عمها شيبة فإن حمزة تفرد بقتله- . و قال جبير بن مطعم لوحشي مولاه يوم أحد- إن قتلت محمدا فأنت حر- و إن قتلت عليا فأنت حر- و إن قتلت حمزة فأنت حر- فقال أما محمد فسيمنعه أصحابه- و أما علي فرجل حذر كثير الالتفات في الحرب- و لكني سأقتل حمزة فقعد له و زرقه بالحربة فقتله- .

و لما قلنا من مقاربة حال علي ع في هذا الباب- لحال رسول الله ص و مناسبتها إياها- ما وجدناه في السير و الأخبار- من إشفاق رسول الله ص و حذره عليه- و دعائه له بالحفظ و السلامة-قال ص يوم الخندق و قد برز علي إلى عمرو- و رفع يديه إلى السماء بمحضر من أصحابه اللهم إنك أخذت مني‏حمزة يوم أحد- و عبيدة يوم بدر فاحفظ اليوم علي عليا- رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ‏- و لذلك ضن به عن مبارزة عمرو- حين دعا عمرو الناس إلى نفسه مرارا- في كلها يحجمون و يقدم علي فيسأل الإذن له في البراز- حتى قال له رسول الله ص- إنه عمرو فقال و أنا علي- فأدناه و قبله و عممه بعمامته- و خرج معه خطوات كالمودع له- القلق لحاله المنتظر لما يكون منه- ثم لم يزل ص رافعا يديه إلى السماء مستقبلا لها بوجهه- و المسلمون صموت حوله كأنما على رءوسهم الطير- حتى ثارت الغبرة و سمعوا التكبير من تحتها- فعلموا أن عليا قتل عمرا- فكبر رسول الله ص و كبر المسلمون- تكبيرة سمعها من وراء الخندق من عساكر المشركين- و لذلك قال حذيفة بن اليمان لو قسمت فضيلة علي ع بقتل عمرو يوم الخندق- بين المسلمين بأجمعهم لوسعتهم- و قال ابن عباس في قوله تعالى- وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ قال بعلي بن أبي طالب- .

قال الجاحظ على أن مشي الشجاع بالسيف إلى الأقران- ليس على ما توهمه من لا يعلم باطن الأمر- لأن معه في حال مشيه إلى الأقران بالسيف- أمورا أخرى لا يبصرها الناس- و إنما يقضون على ظاهر ما يرون من إقدامه و شجاعته- فربما كان سبب ذلك الهوج- و ربما كان الغرارة و الحداثة- و ربما كان الإحراج و الحمية- و ربما كان لمحبة النفخ و الأحدوثة- و ربما كان طباعا كطباع القاسي و الرحيم- و السخي و البخيل‏ قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله فيقال للجاحظ- فعلى أيها كان مشي علي بن أبي طالب إلى الأقران بالسيف- فأيما قلت من ذلك بانت عداوتك لله تعالى و لرسوله- و إن كان مشيه ليس على وجه مما ذكرت-

و إنما كان على وجه النصرة- و القصد إلى المسابقة إلى ثواب الآخرة- و الجهاد في سبيل الله و إعزاز الدين- كنت بجميع ما قلت معاندا و عن سبيل الإنصاف خارجا- و في إمام المسلمين طاعنا- و إن تطرق مثل هذا الوهم على علي ع- ليتطرقن مثله على أعيان المهاجرين و الأنصار- أرباب الجهاد و القتال- الذين نصروا رسول الله ص بأنفسهم و وقوه بمهجهم- و فدوه بأبنائهم و آبائهم- فلعل ذلك كان لعلة من العلل المذكورة- و في ذلك الطعن في الدين و في جماعة المسلمين- . و لو جاز أن يتوهم هذا في علي ع و في غيره- لماقال رسول الله ص حكاية عن الله تعالى لأهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم- و لاقال لعلي ع برز الإيمان كله إلى الشرك كله- و لا قال أوجب طلحة- .

و قد علمنا ضرورة من دين الرسول ص- تعظيمه لعلي ع- تعظيما دينيا لأجل جهاده و نصرته- فالطاعن فيه طاعن في رسول الله ص- إذ زعم أنه قد يمكن أن يكون جهاده لا لوجه الله تعالى- بل لأمر آخر من الأمور التي عددها- و بعثه على التفوه بها إغواء الشيطان و كيده- و الإفراط في عداوة من أمر الله بمحبته- و نهى عن بغضه و عداوته- .

أ ترى رسول الله ص خفي عليه من أمر علي ع- ما لاح للجاحظ و العثمانية فمدحه و هو غير مستحق للمدح- . قال الجاحظ فصاحب النفس المختارة المعتدلة- يكون قتاله طاعة و فراره معصية- لأن نفسه معتدلة كالميزان في استقامة لسانه و كفتيه- فإذا لم يكن كذلك كان إقدامه طباعا و فراره طباعا- . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله فيقال له- فلعل إنفاق أبي بكر على ما تزعم أربعين ألف درهم لا ثواب له- لأن نفسه ربما تكون غير معتدلة- لأنه يكون مطبوعا على الجود و السخاء- و لعل خروجه مع النبي ص- يوم الهجرة إلى الغار لا ثواب له فيه- لأن أسبابه كانت له مهيجة و دواعيه غالبة- محبة الخروج و بغض المقام- و لعل رسول الله ص في دعائه إلى الإسلام- و إكبابه على الصلوات الخمس في جوف الليل- و تدبيره أمر الأمة لا ثواب له فيه- لأنه قد تكون نفسه غير معتدلة- بل يكون في طباعه الرئاسة و حبها- و العبادة و الالتذاذ بها- و لقد كنا نعجب من مذهب أبي عثمان- أن المعارف ضرورة و أنها تقع طباعا-

و في قوله بالتولد و حركة الحجر بالطبع- حتى رأينا من قوله ما هو أعجب منه- فزعم أنه ربما يكون جهاد علي ع و قتله المشركين- لا ثواب له فيه لأنه فعله طبعا- و هذا أطرف من قوله في المعرفة و في التولد- . قال الجاحظ و وجه آخر أن عليا لو كان كما يزعم شيعته- ما كان له بقتل الأقران كبير فضيلة و لا عظيم طاعة- لأنه قدروي عن النبي ص أنه قال له‏ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين- فإذا كان قد وعده بالبقاء بعده- فقد وثق بالسلامة من الأقران- و علم أنه منصور عليهم و قاتلهم- فعلى هذا يكون جهاد طلحة و الزبير أعظم طاعة منه- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- هذا راجع على الجاحظ في النبي ص لأن الله تعالى قال له- وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ- فلم يكن له في جهاده كبير طاعة و كثير طاعة- وكثير من الناس يروي عنه ص اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمرفوجب أن يبطل جهادهما- وقد قال للزبير ستقاتل عليا و أنت ظالم له- فأشعره بذلك أنه لا يموت في حياة رسول الله ص- و قال في الكتاب العزيز لطلحة- وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ- وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ- قالوا نزلت في طلحة- فأعلمه بذلك أنه يبقى بعده- فوجب ألا يكون لهما كبير ثواب في الجهاد- و الذي صح عندنا من الخبر و هو قوله- ستقاتل بعدي الناكثين- أنه قال لما وضعت الحرب أوزارها- و دخل الناس في دين الله أفواجا- و وضعت الجزية و دانت العرب قاطبة- .

قال الجاحظ- ثم قصد الناصرون لعلي و القائلون بتفضيله- إلى الأقران الذين قتلهم فأطروهم و غلوا فيهم- و ليسوا هناك- فمنهم عمرو بن عبد ود- تركتموه أشجع من عامر بن الطفيل- و عتبة بن الحارث و بسطام بن قيس- و قد سمعنا بأحاديث حروب الفجار- و ما كان بين قريش و دوس و حلف الفضول- فما سمعت لعمرو بن عبد ود ذكرا في ذلك- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- أمر عمرو بن عبد ود أشهر و أكثر من أن يحتج له- فلنتلمح كتب المغازي و السير- و لينظر ما رثته به شعراء قريش لما قتل- فمن ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في مغازيه- قال و قال مسافع بن عبد مناف بن زهرة بن حذافة بن جمح- يبكي عمرو بن عبد الله بن عبد ود- حين قتله علي بن أبي طالب ع- مبارزة لما جزع المذاد أي قطع الخندق-

عمرو بن عبد كان أول فارس
جزع المذاد و كان فارس مليل‏

سمح الخلائق ماجد ذو مرة
يبغي القتال بشكة لم ينكل‏

و لقد علمتم حين ولوا عنكم
أن ابن عبد منهم لم يعجل‏

حتى تكفنه الكماة و كلهم‏
يبغي القتال له و ليس بمؤتل‏

و لقد تكنفت الفوارس فارسا
بجنوب سلع غير نكس أميل‏

سال النزال هناك فارس غالب‏
بجنوب سلع ليته لم ينزل‏

فاذهب علي ما ظفرت بمثلها
فخرا و لو لاقيت مثل المعضل‏

نفسي الفداء لفارس من غالب‏
لاقى حمام الموت لم يتحلحل‏

أعني الذي جزع المذاد و لم يكن
فشلا و ليس لدى الحروب بزمل‏

و قال هبيرة بن أبي وهب المخزومي- يعتذر من فراره عن علي بن أبي طالب- و تركه عمرا يوم الخندق و يبكيه-

لعمرك ما وليت ظهري محمدا
و أصحابه جبنا و لا خيفة القتل‏

و لكنني قلبت أمري فلم أجد
لسيفي غناء إن وقفت و لا نبلي‏

وقفت فلما لم أجد لي مقدما
صدرت كضرغام هزبر إلى شبل‏

ثنى عطفه عن قرنه حين لم يجد
مجالا و كان الحزم و الرأي من فعلي‏

فلا تبعدن يا عمرو حيا و هالكا
فقد مت محمود الثنا ماجد الفعل‏

و لا تبعدن يا عمرو حيا و هالكا
فقد كنت في حرب العدا مرهف النصل‏

فمن لطراد الخيل تقدع بالقنا
و للبذل يوما عند قرقرة البزل‏

هنالك لو كان ابن عمرو لزارها
و فرجها عنهم فتى غير ما وغل‏

كفتك علي لن ترى مثل موقف
وقفت على شلو المقدم كالفحل‏

فما ظفرت كفاك يوما بمثلها
أمنت بها ما عشت من زلة النعل‏

و قال هبيرة بن أبي وهب أيضا يرثي عمرا و يبكيه-

لقد علمت عليا لؤي بن غالب
لفارسها عمرو إذا ناب نائب‏

و فارسها عمرو إذا ما يسوقه‏
علي و إن الموت لا شك طالب‏

عشية يدعوه علي و إنه
لفارسها إذ خام عنه الكتائب‏

فيا لهف نفسي إن عمرا لكائن
بيثرب لا زالت هناك المصائب‏

لقد أحرز العليا علي بقتله‏
و للخير يوما لا محالة جالب‏

و قال حسان بن ثابت الأنصاري يذكر عمرا-

أمسى الفتى عمرو بن عبد ناظرا
كيف العبور و ليته لم ينظر

و لقد وجدت سيوفنا مشهورة
و لقد وجدت جيادنا لم تقصر

و لقد لقيت غداة بدر عصبة
ضربوك ضربا غير ضرب الحسر

أصبحت لا تدعى ليوم عظيمة
يا عمرو أو لجسيم أمر منكر

و قال حسان أيضا-

لقد شقيت بنو جمح بن عمرو
و مخزوم و تيم ما نقيل‏

و عمرو كالحسام فتى قريش‏
كأن جبينه سيف صقيل‏

فتى من نسل عامر أريحي
تطاوله الأسنة و النصول‏

دعاه الفارس المقدام لما
تكشفت المقانب و الخيول‏

أبو حسن فقنعه حساما
جرازا لا أفل و لا نكول‏

فغادره مكبا مسلحبا
على عفراء لا بعد القتيل‏

فهذه الأشعار فيه بل بعض ما قيل فيه- . و أما الآثار و الأخبار- فموجودة في كتب السير و أيام الفرسان و وقائعهم- و ليس‏أحد من أرباب هذا العلم يذكر عمرا إلا قال- كان فارس قريش و شجاعها- و إنما قال له حسانو لقد لقيت غداة بدر عصبةلأنه شهد مع المشركين بدرا و قتل قوما من المسلمين- ثم فر مع من فر و لحق بمكة- و هو الذي كان قال و عاهد الله عند الكعبة- ألا يدعوه أحد إلى واحدة من ثلاث إلا أجابه- و آثاره في أيام الفجار مشهورة- تنطق بها كتب الأيام و الوقائع- و لكنه لم يذكر مع الفرسان الثلاثة و هم- عتبة و بسطام و عامر- لأنهم كانوا أصحاب غارات و نهب و أهل بادية- و قريش أهل مدينة و ساكنو مدر و حجر- لا يرون الغارات و لا ينهبون غيرهم من العرب- و هم مقتصرون على المقام ببلدتهم و حماية حرمهم- فلذلك لم يشتهر اسمه كاشتهار هؤلاء- .

و يقال له إذا كان عمرو كما تذكر ليس هناك- فما باله لما جزع الخندق في ستة فرسان هو أحدهم- فصار مع أصحاب النبي ص على أرض واحدة- و هم ثلاثة آلاف- و دعاهم إلى البراز مرارا- لم ينتدب أحد منهم للخروج إليه- و لا سمح منهم أحد بنفسه- حتى وبخهم و قرعهم و ناداهم- أ لستم تزعمون أنه من قتل منا فإلى النار- و من قتل منكم فإلى الجنة- أ فلا يشتاق أحدكم إلى أن يذهب إلى الجنة- أو يقدم عدوه إلى النار- فجبنوا كلهم و نكلوا و ملكهم الرعب و الوهل- فإما أن يكون هذا أشجع الناس كما قيل عنه- أو يكون المسلمون كلهم أجبن العرب و أذلهم و أفشلهم- و قد روى الناس كلهم الشعر الذي أنشده- لما نكل القوم بجمعهم عنه- و أنه جال بفرسه و استدار- و ذهب يمنة ثم ذهب يسرة- ثم وقف تجاه القوم فقال-

و لقد بححت من النداء
بجمعهم هل من مبارز

و وقفت إذ جبن المشيع
وقفة القرن المناجز

و كذاك أني لم أزل‏
متسرعا نحو الهزاهز

إن الشجاعة في الفتى
و الجود من خير الغرائز

فلما برز إليه علي أجابه فقال له-

لا تعجلن فقد أتاك
مجيب صوتك غير عاجز

ذو نية و بصيرة
يرجو الغداة نجاة فائز

إني لأرجو أن أقيم
عليك نائحة الجنائز

من ضربة تفنى و يبقى‏
ذكرها عند الهزاهز

و لعمري لقد سبق الجاحظ بما قاله بعض جهال الأنصار- لما رجع رسول الله من بدر- و قال فتى من الأنصار شهد معه بدرا- إن قتلنا إلا عجائز صلعا- فقال له النبي ص- لا تقل ذلك يا ابن أخ أولئك الملأ- . قال الجاحظ- و قد أكثروا في الوليد بن عتبة بن ربيعة- قتيله يوم بدر- و ما علمنا الوليد حضر حربا قط قبلها و لا ذكر فيها- . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- كل من دون أخبار قريش و آثار رجالها- وصف الوليد بالشجاعة و البسالة- و كان مع شجاعته أنه يصارع الفتيان فيصرعهم- و ليس لأنه لم يشهد حربا قبلها- ما يجب أن يكون بطلا شجاعا- فإن عليا ع لم يشهد قبل بدر حربا- و قد رأى الناس آثاره فيها- .

قال الجاحظ- و قد ثبت أبو بكر مع النبي ص يوم أحد كما ثبت علي- فلا فخر لأحدهما على صاحبه في ذلك اليوم- . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما ثباته يوم أحد- فأكثر المؤرخين و أرباب السير ينكرونه- و جمهورهم يروي أنه لم يبق مع النبي ص- إلا علي و طلحة و الزبير و أبو دجانة- و قد روي عن ابن عباس أنه قال- و لهم خامس و هو عبد الله بن مسعود- و منهم من أثبت سادسا و هو المقداد بن عمرو- و روى يحيى بن سلمة بن كهيل قال قلت لأبي- كم ثبت مع رسول الله ص يوم أحد- فقال اثنان قلت من هما قال علي و أبو دجانة- .

و هب أن أبا بكر ثبت يوم أحد كما يدعيه الجاحظ- أ يجوز له أن يقول ثبت كما ثبت علي- فلا فخر لأحدهما على الآخر- و هو يعلم آثار علي ع ذلك اليوم- و أنه قتل أصحاب الألوية من بني عبد الدار- منهم طلحة بن أبي طلحة- الذي رأى رسول الله ص في منامه أنه مردف كبشا- فأوله و قال كبش الكتيبة نقتله- فلما قتله علي ع مبارزة- و هو أول قتيل قتل من المشركين ذلك اليوم- كبر رسول الله ص و قال- هذا كبش الكتيبة- . و ما كان منه من المحاماة عن رسول الله ص- و قد فر الناس و أسلموه- فتصمد له كتيبة من قريش فيقول- يا علي اكفني هذه فيحمل عليها فيهزمها و يقتل عميدها- حتى سمع المسلمون و المشركون صوتا من قبل السماء-

لا سيف إلا ذو الفقار
و لا فتى إلا علي‏

– و حتى قال النبي ص عن جبرائيل ما قال- . أ تكون هذه آثاره و أفعاله- ثم يقول الجاحظ لا فخر لأحدهما على صاحبه- .رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ- وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ- . قال الجاحظ و لأبي بكر في ذلك اليوم مقام مشهور- خرج ابنه عبد الرحمن فارسا مكفرا في الحديد- يسأل المبارزة و يقول- أنا عبد الرحمن بن عتيق فنهض إليه أبو بكر يسعى بسيفه- فقال له النبي ص- شم سيفك و ارجع إلى مكانك و متعنا بنفسك- . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- ما كان أغناك يا أبا عثمان- عن ذكر هذا المقام المشهور لأبي بكر- فإنه لو تسمعه الإمامية- لأضافته إلى ما عندها من المثالب- لأن قول النبي ص ارجع- دليل على أنه لا يحتمل مبارزة أحد- لأنه إذا لم يحتمل مبارزة ابنه- و أنت تعلم حنو الابن علي الأب و تبجيله له- و إشفاقه عليه و كفه عنه- لم يحتمل مبارزة الغريب الأجنبي- .

و قوله له و متعنا بنفسك- إيذان له بأنه كان يقتل لو خرج- و رسول الله كان أعرف به من الجاحظ- فأين حال هذا الرجل من حال الرجل الذي صلى بالحرب- و مشى إلى السيف بالسيف- فقتل السادة و القادة و الفرسان و الرجالة- . قال الجاحظ على أن أبا بكر- و إن لم تكن آثاره في الحرب كآثار غيره- فقد بذل الجهد و فعل ما يستطيعه و تبلغه قوته- و إذا بذل المجهود- فلا حال أشرف من حاله- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- أما قوله إنه بذل الجهد فقد صدق- و أما قوله لا حال أشرف من حاله فخطأ- لأن حال من بلغت قوته فأعملها في قتل المشركين- أشرف من حال من نقصت قوته عن بلوغ الغاية- أ لا ترى أن حال الرجل أشرف في الجهاد من حال المرأة- و حال البالغ الأيد أشرف من حال الصبي الضعيف- . فهذه جملة ما ذكره الشيخ أبو جعفر- محمد بن عبد الله الإسكافي رحمه الله- في نقض العثمانية اقتصرنا عليها هاهنا- و سنعود فيما بعد إلى ذكر جملة أخرى من كلامه- إذا اقتضت الحال ذكره

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

Show More

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.

Back to top button
-+=