و من خطبة له عليه السّلام تسمى القاصعة و من خطبة له عليه السّلام تسمى القاصعة
و هى تتضمن ذم إبليس على استكباره و تركه السجود لآدم عليه السّلام و أنه أول من أظهر العصبية و تبع الحمية، و تحذير الناس من سلوك طريقته و فيها فصول:
الفصل الأوّل:
قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَ الْكِبْرِيَاءَ- وَ اخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ- وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ- وَ اصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ- وَ جَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ- ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ- لِيَمِيزَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ- فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ وَ مَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ- فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ- فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ- وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ- فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ- الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ- وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ أَ لَا تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ- وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً- وَ أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيراً وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ- يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ- وَ طِيبٍ يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ- وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً- وَ لَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ- وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ابْتَلَي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ- تَمْيِيزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ- وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ
أقول: نقل في سبب هذه الخطبة: أنّ أهل الكوفة كانوا في آخر خلافته عليه السّلام قد فسدوا و كانوا قبائل متعدّدة فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمرّ بمنازل قبيلة اخرى فيقع به أدنى مكروه فيستعدى قبيلته، و ينادى باسمها مثلا يا للنخع أو يا لكنده نداء عاليا يقصد به الفتنه و إثارة الشرّ فيتّألب عليه فتيان القبيلة الّتي قد مرّ بها و ينادون يا لتميم يا لربيعة فيضربونه فيمرّ إلى قبيلته و يستصرخ بها و تسّل بينهم السيوف و تثور الفتنة، و لا يكون لها أصل في الحقيقة و لا سبب يعرف إلّا تعرّض الفتيان بعضهم ببعض، و كثر ذلك منهم فخرج عليه السّلام إليهم على ناقة فخطبهم هذه الخطبة. إذا عرفت ذلك فنقول:
اللغة
القصع: ابتلاع الماء و الجرّة، و قصعت الرجل قصعا: صغّرته و حقّرته، و قصعت هامّته: إذا ضربتها ببسط كفّك، و قصع اللّه شبابه: إذا بقى قميئا. فهو مقصوع لا يزداد.
و أصل هذه الكلمة للتصغير و التحقير.
و الجبريّة و الجبروت: الكبر.
و ادّرعه: لبسه كالدرع.
و الدحر: الطرد.
و خطف بالكسر. يخطف: أخذ البصر بسرعة استلابا.
و تبهر العقول: أى يغلب نوره أنوارها و ينمحق فيه.
و الرواء: المنظر الحسن.
و العرف: الرائحة الطيّبة.
و الخيلاء: الكبر.
و الإحباط: الإبطال.
و الجهد بفتح الجيم: الاجتهاد.
و الهوادة: الصلح.
المعنى
و قد ذكر الشارحون في تسمية هذه الخطبة القاصعة وجوها:
أحدها: و هو أقربها أنّه عليه السّلام كان يخطبها على ناقته و هى تقصع بجرّتها فجاز أن يقال: إنّ هذه الحال لمّا نقلت عنه فى أسناد هذه الخطبة نسبت الخطبة إلى الناقة القاصعة فقيل: خطبة القاصعة ثمّ كثر استعمالها فجعلت من صفات الخطبة نفسها، أو لأنّ الخطبة عرفت بهذه الصفة لملازمة قصع الناقة لإنشائها. و العرب يسمّى الشيء باسم لازمه. الثاني: إنّها سميّت بذلك لأنّ المواعظ و الزواجر فيها متتابعة فأشبهت جرّات الناقة و تتابعها. الثالث: سميّت بذلك لأنّها هاشمة كاسرة لإبليس، و مصغّرة و محقّرة لكلّ جبّار. و هو وجه حسن أيضا. الرابع: لأنّها تسكّن نخوة المتكبّرين و كبرهم فأشبهت الماء الّذى يسكّن العطش فيكون من قولهم: قصع الماء عطشه إذا سكّنه و أذهبه.
و اعلم أنّ مدار هذه الخطبة على النهى عن الكبر و التوبيخ عليه و على ما يلزمه
من الحميّة و العصبيّة لغير اللّه تعالى ليكون الناس على ضدّ ذلك من التواضع و الرفق، و قد علمت في المقدّمات أنّ من شأن الخطيب أن يورد في صدر الخطبة ما ينبّه على المطلوب الّذي يورده بقول كلّىّ ليتنبّه السامعون لما يريده إجمالا فلذلك صدّر عليه السّلام الخطبة بنسبة العزّ و الكبرياء و العظمة إلى من هو أولى به و هو اللّه تعالى، و أشار إلى أنّ ذلك خاصّة له و حرام على غيره، و ذكر إبليس و قصّته مع آدم عليه السّلام في معرض الذمّ بتكبّره عليه ليترتّب على ذكره و ذمّه بتلك الرذيلة النهى و التحذير عن ارتكابها و ليحصل التنفير بحاله إذ كان بذلك ملعونا مطرودا على ألسنة الأنبياء بأسرهم. و إذ كان مدار الخطبة ذمّ الكبر و النهى عنه فلنشر إلى حقيقته في الإنسان أوّلا ثمّ إلى ما يلزمه من الآفات و إلى المذامّ الواردة فيه.
فنقول: أمّا حقيقته فهى هيئة نفسانيّة تنشأ عن تصوّر الإنسان نفسه أكمل من غيره و أعلى رتبة و تلك الهيئة تعود إلى ما يحصل للنفس عن ذلك التصوّر من النفخ و الهزّة و التعزّز و التعظّم و الركون إلى ما تصوّرته من كمالاتها و شرفها على الغير، و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعوذ بك من نفخة الكبر. و هى رذيلة تحت الفجور تقابل فضيلة التواضع. و ما يلزم عن ذلك التصوّر أعنى تصوّر الإنسان فضيلته على الغير إن قطع النظر فيه عن قياسه على متكبّر عليه و عن إضافته إلى اللّه تعالى باعتبار أنّه منه و لم يكن خائفا من فوت تلك الفضيلة بل كان ساكنا إليها مطمئنّا فذلك هو العجب فإذن العجب هيئة تلزم عن تصوّر الكمال في النفس و استقطاعه عن المنعم به و الركون إليه و الفرح به مع الغفلة عن قياس النفس إلى الغير بكونها أفضل منه. و بهذا الفصل الأخير ينفصل عن الكبر. إذ كان لا بدّ في الكبر من أن يرى الإنسان لنفسه مرتبة و للغير مرتبة ثمّ يرى مرتبته فوق مرتبة غيره. و أمّا آفاته و هى ثمراته و ما يلزم عنه من الأعمال و التروك فإنّ هذا الخلق يوجب أعمالا إذا ظهرت على الجوارح قد تسمّى كبرا: فمنها باطنة كتحقير الغير و ازدرائه، و اعتقاد أنّه ليس أهلا للمجالسة و المواكلة و الأنفة عن ذلك. و اعتقاد أنّه يصلح أن يكون ماثلا بين يديه قائما، بل قد يعتقد من هو أشدّ كبرا أنّ ذلك لا يصلح للمثول بين يديه، و كحسده و الحقد عليه، و كنظر العالم المتكبّر إلى الجاهل العامّى بعين الاستخفاف و الاستجهال. و أمّا الظاهرة فكالتقدّم عليه في الطرق و الارتفاع عليه في المجالس، و كإبعاده عن مجالسته و مؤاكلته، و العنف به في النصح، و الغضب عند ردّ قوله، و الغلظة على المتعلّمين و إذلالهم و استخدامهم، و الغيبة و التطاول بالقول. و أمّا التروك: فكترك التواضع و الاستنكاف عن مجالسة من دونه و معاشرته و عدم الرفق بذوى الحاجات و نحو ذلك ممّا لا يحصى من الرذائل.
و أمّا المذامّ الواردة فيه: فهى كثيرة في القرآن الكريم و السنّة النبويّة كقوله تعالى كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ«» و قوله وَ اسْتَفْتَحُوا وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ«» و قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يقول اللّه عزّ و جلّ الكبرياء ردائى و العظمة إزارى فمن ناز عنى واحدا منهما ألقيته في جهنّم. و قوله عليه السّلام: لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال ذرّة من كبر. و إنّما صار حجابا عن الجنّة لأنّه يحول بين العبد و بين أخلاق المؤمنين الّتي هى أبواب الجنّة. فالكبر و العجب يغلق تلك الأبواب كلّها لأنّها لا تقدر على أنّ يحبّ للمؤمن ما يحبّ لنفسه و فيه شيء من العزّة، و لا يتمكّن من ترك هذه الرذائل و فعل أضدادها من الفضائل كالتواضع و كظم الغيظ و قبول النصح و الرفق في القول و غيرها و فيه شيء من العزّة و الكبرياء. و ما من خلق ذميم إلّا و صاحب العزّة و الكبر مضطرّ إليه ليحفظ به عزّه. و ما من خلق فاضل إلّا و هو عاجز عنه خوفا أن يفوته عزّه فلذلك لم يدخل الجنّة من في قلبه مثقال حبّة من كبر. و بعض الأخلاق الذميمة مستلزم للبعض. و شرّ أنواع الكبر ما منع العلم و استعماله و قبول الحقّ و الانقياد له.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّه عليه السّلام حمد اللّه تعالى باعتبارات:
أحدها: لبسه للعزّ و الكبرياء.
و لمّا علمت أنّ الكبرياء لا بدّ فيه من أمرين: أحدهما: العلم بكمال الذات. و الثاني: اعتبار الشرف و العلوّ على الغير فكان هذان الاعتباران صادقين عليه تعالى أتمّ من صدقهما على كلّ موجود لا جرم كان بالكبرياء و العظمة أحقّ من كلّ موجود أمّا الأوّل: فلأنّه لمّا كان كمالات الذات عبارة عن الوجود و كماله فكان وجوده تعالى أتمّ الوجودات بحيث لم يفته من كماله شيء بل كلّ ما ينبغي له فهو حاصل بالفعل لا جرم صدق عليه هذا الاعتبار أتمّ صدق. و أمّا الثاني: فلأنّ وجوده تعالى هو الوجود الّذي يصدر عنه وجود كلّ موجود عداه، و هو تعالى عالم بجميع المعلومات كلّيّها و جزئيّها فهو إذن عالم بكماله و شرفه على عبيده. و استعار لفظ اللبس باعتبار إحاطة كماله بكلّ اعتبار له كما يحيط القميص و الرداء بجسد لابسه.
الثاني: كونه تعالى اختارهما لنفسه دون خلقه.
و معنى اختياره هنا تفرّده باستحقاقهما لذاته فإنّ المستحقّ للعزّ و الكبرياء بالذات ليس إلّا هو، و دلّ على ذلك المنقول و المعقول. و أمّا المنقول: فقوله تعالى عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ«» و الألف و اللام هنا يفيد حصر الكبرياء و العلوّ فيه، و أمّا المعقول فلأنّه تعالى لمّا استحقّ ذلك الاعتبار لذاته لا بأمر خارج و إلّا لكان مفتقرا إلى الغير. ثمّ ذمّ المتكبّرين و توعّدهم في كتابه العزيز و على لسان نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث قال حكاية عنه: الكبرياء ردائى. الخبر. علمنا أنّه قد اختار الاختصاص بهما دون خلقه.
الثالث: و جعلهما حمى و حرما على غيره.
استعار لفظ الحمى و الحرم باعتبار اختياره لهما و تحريمهما على غيره من خلقه كما يحمى الملك المرعى و الحرم.
الرابع: و اصطفاهما لجلاله
أى لتقدّسه و علوّه عن شبه مخلوقاته استحقّ الانفراد بهذين فتفرّد بهما. و هو معنى اصطفائه لهما.
الخامس: جعله اللعنة على من نازعه فيهما من عباده
إشارة إلى نحو قوله في الخبر المذكور: فمن نازعني فيهما ألقيته في جهنّم. و لا شكّ أنّ الملقى في جهنّم مبعّد مطرود عن الخير و الرحمة. و لفظ المنازعة في الخبر مجاز في محادّة المتكبّرين و مجانبتهم له و مخالفتهم لأمره في الاتّصاف بالكبر فكأنّهم يجاذبونه ما اختص به و من لوازم المجاذبة المنازعة القوليّة فاطلقت هنا إطلاقا لاسم اللازم على ملزومه.
السادس: اختباره بذلك ملائكته المقرّبين. إلى قوله: ساجدين
أى ابتلاهم بالتكبّر و عدمه. و قد علمت معنى ابتلائه و اختباره تعالى لخلقه فيما سبق. و نزيده بيانا. فنقول لمّا كانت حقيقة الاختبار طلب الخبر بالشيء و معرفته لمن لا يكون عارفا به، و كان هو تعالى عالما بمضمرات القلوب و خفيّات القلوب فيميّز المطيعين من عبيده من العصاة لم يكن إطلاق هذا اللفظ في حقّه حقيقة بل على وجه الاستعارة باعتبار أنّه لمّا كان ثوابه و عقابه للخلق موقوفين على تكليفهم بما كلّفهم به فإن أطاعوه فيما أمرهم أثابهم و إن عصوه عاقبهم أشبه ذلك اختبار الإنسان لعبيده و تمييزه لمن أطاعه منهم ممّن عصاه، و أطلق عليه لفظه.
و قوله: ليميز المتواضعين منهم من المتكبّرين.
ترشيح لاستعارة الاختبار لأنّ التميز من لوازمه و عوارضه. و يحتمل أن يريد ليميز المطيعين عن العصاة بإعطاء الثواب لهم دونهم فلا يكون التميز بمعنى العلم بل الانفصال الخارجىّ لكلّ من المطيعين و العصاة بما يستحقّه من ثواب و عقاب.
و قوله: و هو العالم. إلى قوله: العيوب.
قرينة مخرجة للاختبار عن حقيقته، و هى جملة معترضة بين القول و المقول للملائكة و هو قوله تعالى وَ إِذْ إلى آخره. و المختبر به هو قوله فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ«» و قال بعض الشارحين: إنّما اختبرهم مع علمه بمضمراتهم لأنّ اختباره تعالى ليس ليعلم بل ليعلم غيره من خلقه طاعة من يطيع و عصيان من يعصى قال: و قوله لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ و قوله لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أى لتعلم أنت و غيرك. و فيه بعد. و قد شرحنا قصّة الملائكة و إبليس و آدم في الخطبة الاولى بقدر الوسع فلا حاجة إلى التطويل بالإعادة غير أنّ هاهنا ألفاظا يحتاج إلى الإيضاح. و افتخار إبليس و تعصّبه و تكبّره على آدم في قوله قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ و قوله: أ أسجد لمن خلقت طينا أ أسجد لبشر خلقته من صلصال من حماء مسنون. فكان تعصّبه عليه و استكباره نظرا إلى أصلهما، و كونه إمام المتعصّبين باعتبار كونه المنشأ لرذيلة العصبيّة في غير الحقّ و المعتدى به فيها. و أمّا العصبيّة في الحقّ فهى محمودة كما جاء في الخبر: العصبيّة في اللّه تورث الجنّة، و العصبيّة في الشيطان تورث النار. و كذلك كونه سلفا للمتكبّرين باعتبار تقدّمه للمتكبّرين بالاستكبار على آدم. و السلف هو التقدّم.
و قوله: الّذى وضع أساس العصبيّة.
إذ كانت عصبيّته لأصله كالأساس للخلق يبنى عليه الخلق سائر العصبيّات و يقتدى به فيها.
و قوله: و نازع اللّه رداء الجبريّة.
أى بتجبّره و تكبّره. و قد عرفت وجه الاستعارة في المنازعة في الرداء، و كذلك قوله: و ادّرع لباس التعزّز. لمّا استعار لفظ الادّراع لإبليس من جهة اشتماله و تلبّسه بالتعزّز رشّح بذكر اللباس، و كذلك قوله: و خلع قناع التذلّل. استعارة للفظ الخلع، و ترشيح بلفظ القناع.
و قوله: أ لا ترون. إلى قوله: بترفّعه.
تنبيه على كيفيّة تصغير اللّه إيّاه و وضعه له بسبب تكبّره و تعظّمه، و ذلك التصغير و الوضع هو جعله في الدنيا مدحورا بعد إخراجه من الجنّة بقوله تعالى اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً«» و إعداده له في الآخرة سعيرا بقوله تعالى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ«» و نحوه.
و قوله: و لو أراد اللّه. إلى قوله: على الملائكة.
في صورة قياس اقترانىّ مركّب من متّصلين صغراهما قوله: و لو اراد اللّه. إلى قوله: لفعل. و كبراهما: قوله: و لو فعل إلى آخره. و تالى الكبرى مركّب من جملتين عطفت إحداهما على الاخرى. و معنى الصغرى أنّه تعالى لو أراد قبل خلق آدم أن يخلقه من نور شفّاف لطيف يخطف الأبصار، و يبهر العقول حسنه، و طيب يأخذ الأنفاس رائحته و لم يخلقه من طين ظلمانىّ كثيف لفعل لأنّ ذلك أمر ممكن مقدور له، و يحتمل أن يريد بخلقه من النور خلقه روحانيّا مجرّدا عن علاقة الموادّ المظلمة. و قد يوصف المجرّدات بالنور فيقال: أنوار اللّه، و أنوار جلاله، و أنوار حضرته، و قد أضاءنا بنور علمه و يوصف بالرايحة أيضا فيقال: فلان لم يشمّ رائحة العلم. و بالطعم فيقال: فلان لم يذق حلاوة العلم. و كلّ ذلك استعارة لفظ المحسوس للمعقول تقريبا للأفهام. و معنى الكبرى أنّه لو فعل ذلك و خلقه كذلك لظلّت أعناق الملائكة و إبليس خاضعة له. و ذلك لشرف جوهره على الطين و فضل خلقته على ما يخلق منه و لم يكن ممّن يفسد في الأرض و يسفك الدماء حتّى تقول الملائكة: أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء. و لا من طين منتن حتّى يفخر عليه إبليس بأصله يقول: أنا خير منه خلقتنى من نار و خلقته من طين، أ أسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون و لخفّت البلوى فيه على الملائكة. و بيان الخفّة من وجهين: أحدهما: لشرف جوهره فإنّه من العادة أن يستنكف الشريف من الخضوع لمن هو دونه في أصله و يشقّ عليه التكليف بذلك في حقّه فأمّا إذا كان أصله مناسبا لأصله و مقارنا في الشرف فلا شكّ أنّ تكليفه بخدمته يكون عليه أسهل و أخفّ. و الثاني: أنّهم ما كانوا عالمين بالسرّ الّذي خلق له آدم و هو كونه صالحا لخلافة اللّه سبحانه في عمارة الأرض و إصلاح أبناء نوعه و إعدادهم للكمالات و غير ذلك ممّا لا يعلمونه كما قال تعالى في جواب قولهم أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها إلى وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ«» و كما علّمه الأسماء و أمره بعرضها عليهم فقال وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ«» و ظاهر أنّ تكليف النفس بما يطّلع على سرّه و يعلم وجه الحكمة فيه أسهل عليها من تكليفها بما تجهله. فلو خلقه تعالى من نور مناسبا لخلقهم لعلموا نوعيّته و سرّ خلقه فلم يشقّ عليهم التكليف بالسجود له. و يؤيّد هذا الوجه قوله: و لكنّ اللّه سبحانه مبتلى خلقه ببعض ما يجهلون أصله و في هذا الاستثناء تنبيه على عدم إرادة خلق آدم من نور. و ذلك العدم هو نقيض مقدّم نتيجة القياس المذكور اللازم عن استثناء نقيض تاليها. و تقدير النتيجة أنّه لو أراد خلقه من نور لظلّت الأعناق له خاضعة و خفّت البلوى على الملائكة لكن لم يكن الأمر كذلك فاستلزم أنّه لم يرد خلقه من نور.
فكان معنى قوله: و لكنّ اللّه ابتلى خلقه. أنّه لم يرد خلقه من نور بل أراد أن يبتلى خلقه ببعض ما يجهلون أصله و هو تكليفهم بالسجود لآدم مع جهلهم بأصل ذلك التكليف و الغرض منه أو جهلهم بآدم و سرّ خلقته الّذي هو أصل لذلك التكليف. و نصب قوله: تمييزا و نفيا و إبعادا على المفعول له: أى ليميّز بذلك التكليف و بما يستلزم من الذلّة و الانقياد و الخضوع المطيع من العاصى، و لينفى رذيلة الكبر و الخيلاء عنهم و باللّه التوفيق.
الفصل الثاني:
في أمر السامعين بالاعتبار بحال إبليس و ما لزمه من اللعنة و بطلان أعماله الصالحة في المدّة المتطاولة بسبب التكبّر و العصبيّة الفاسدة، و التحذير من سلوك طريقته و اقتفاء أثره في الكبر و لوازمه من الرذائل الّتي عدّدناها.
و ذلك قوله: فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِيسَ- إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِيدَ- وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ- لَا يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الْآخِرَةِ- عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ- فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ- كَلَّا مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً- بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً- إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَ أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ- وَ مَا بَيْنَ اللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ- فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ- وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ وَ أَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجْلِهِ- فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ- وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ- وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ- فَقَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ- وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ- قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّ غَيْرِ مُصِيبٍ- صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ- وَ فُرْسَانُ الْكِبْرِ وَ الْجَاهِلِيَّةِ- حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ- وَ اسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ مِنْهُ فِيكُمْ- فَنَجَمَتِ فِيهِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ- اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ- وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ- فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ- وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ- وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ- وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ- وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ- إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ- فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً- وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً- مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ- فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ- فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ- وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ- وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِيلَكُمْ- يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ- لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لَا تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ- فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ حَلْقَةِ ضِيقٍ- وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلَاءٍ- فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ- مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ- فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ- مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ- وَ اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ- وَ إِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ- وَ خَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ- وَ اتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ- مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ وَ جُنُودِهِ- فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً- وَ رَجْلًا وَ فُرْسَاناً- وَ لَا تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ- مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ- سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ- وَ قَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ- وَ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ- الَّذِي أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَةَ- وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَلَا وَ قَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي الْبَغْيِ وَ أَفْسَدْتُمْ فِي الْأَرْضِ- مُصَارَحَةً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ- وَ مُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَارَبَةِ- فَاللَّهَ اللَّهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَ فَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ- فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ وَ مَنَافِخُ الشَّيْطَانِ- الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ وَ الْقُرُونَ الْخَالِيَةَ- حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِي ضَلَالَتِهِ- ذُلُلًا عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ- أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ وَ تَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَيْهِ- وَ كِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَ كُبَرَائِكُمْ- الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ- وَ أَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ- وَ جَاحَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ- مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَةً لِآلَائِهِ- فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ- وَ دَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ وَ سُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ- فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لَا تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً- وَ لَا لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً- وَ لَا تُطِيعُوا الْأَدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ- وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَ أَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ- وَ هُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ وَ أَحْلَاسُ الْعُقُوقِ- اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلَالٍ- وَ جُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ- وَ تَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ- اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَ دُخُولًا فِي عُيُونِكُمْ- وَ نَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ- فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ وَ مَأْخَذَ يَدِهِ
اللغة
أقول:
الإحباط: الإبطال.
و الجهد بفتح الجيم: الاجتهاد.
و الهوادة: الصلح.
و استفزّه: استخفّه و أزعجه.
و فوّق السهم: جعل له فوقا و هو موضع الوتر منه.
و نزع القوس نزعا: أى مدّها.
و الإغراق في المدّ: استيفائه و استيعابه.
و القذف: الرمى و الطماعية: الطمع.
و نجمت: ظهرت.
و دلف. مشى و دنا.
و أقحموكم: أدخلوكم قهرا.
و الولجات: جمع و لجة بفتح الجيم و هى الموضع كالكهف و نحوه تستتر به المارّة من المطر و غيره.
و الورطات: جمع ورطة و هى الأرض المطمئنّة لا طريق فيها، و الورطة: الهلاك أيضا.
و الحزّ: القطع.
و الخزائم- جمع خزامة بكسر الخاء- : و هى حلقة من شعر فى أنف البعير يشدّ فيها الزمام.
و أورى: أفعل من الورى و هو إظهار النار.
و المناصبة: المعاداة و المقابلة في الحرب لأنّ كلّا قد نصب نفسه و شرّه للآخرة.
و التألّب: الاجتماع.
و حسب الرجل: ما يعدّه من مفاخر آبائه.
و أجلب عليه: جمع، و أصل الجلبة: الأصوات في الحرب و الغارة.
و حومة الشيء: معظمه، و ما استدار منه على كثرة.
و كذلك الحلقة للقوم. و عرصة موت: أى معرض له، و بصدده. و الجولة: كالحلقة.
و النخوة: الكبر.
و النزع: الإفساد.
و النفث: النفخ و هو أقلّ من التفل.
و المسلحة: قوم ذو سلاح يحفظون الثغور و المراقب، و قد يطلق على تلك الأماكن أنفسها.
و الإمعان في الشيء: التباعد فيه، و الايصال.
و المصارحة: المكاشفة و المجاهرة.
و الملاقح: الفحول- واحدها ملقح بفتح الميم- و يحتمل أن يكون مصدرا.
و الشنئان- بفتح النون و سكونها- : البغضاء.
و أعنق الجمل في السير: مدّ عنقه و أوسع خطوته.
و الحنادس جمع حندس بكسر الحاء و الدال- : الليل شديد الظلمة.
و الذلل: جمع ذليلة فعيلة بمعنى مفعولة.
و السلس: جمع سلس و هى سهلة القياد.
و الهجينة: الفعل القبيح بمعنى مفعولة.
و الاعتزاء: الايتماء، و الانتساب إلى أب أو قبيلة.
و الأدعياء: جمع دعىّ و هو الّذي يدعى إلى غير أبيه و ينسب إليه.
و الحلس: ما يلزم الشيء.
و أصله من حلس البعير و هو كساء رقيق يجعل تحت بردعته وقايه لظهره.
و العقوق: مشاقّة الوالد و ذى الرحم، و منع برّه.
المعنى
فقوله: فاعتبروا.
أمر للسامعين باعتبار حال إبليس في الكبر بعد شرح حاله في طاعة اللّه و طول مدّة عبادته له و ما لزمه بسبب كبر ساعة واحدة من إحباط عمله و لعنته و البعد عن رحمة اللّه ليتنبّهوا للتخلّي عن هذه الرذيلة. وجه الاعتبار أن يقال: إذا كان حال من تكبّر من الملائكة بعد عبادة ستّة آلاف سنة كذلك فكيف بالمتكبّرين من البشر على قصر مدّة عبادتهم و كونهم بشرا. فبطريق الأولى أن يكونوا كذلك. و جهده الجهيد: أى اجتهاده الّذي جهده و شقّ عليه.
و قوله: و كان قد عبد اللّه. إلى قوله: الآخرة.
فيشبه أن يكون قد أشار بسنى الآخرة إلى سنين موهومة عن مثل اليوم المشار إليه بقوله تعالى: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ«» و قوله فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ«» و تقريره أنّ الأيّام في الآخرة ممّا لا يمكن حملها على حقائقها لأنّ اليوم المعهود عبارة عن زمان طلوع الشمس إلى مغيبها، و بعد خراب العالم على ما نطقت به الشريعة لا يبقى ذلك الزمان، و على رأى من أثبت بقاء الفلك تكون القيامة عبارة عن مفارقة النفوس لأبدانها أو عن أحوال تعرض لها بعد المفارقة، و المجرّدات المفارقات لا يكون لأحوالها زمان و لا مكان حتّى تجرى في يوم أو سنة فتعيّن حمل اليوم على مجازه و هو الزمان المقدّر بحسب الوهم القايس لأحوال الآخرة إلى أحوال الدنيا و أيّامها إقامة لما بالقوّة مقام ما بالفعل.
و كذلك السنة. و هذه الأزمنة هى الّتي أشار إلى مثلها المتكلّمون بقولهم: إنّ تقدّم البارى تعالى على وجود العالم بتقدير أزمنة لا نهاية لها. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ قوله تعالى فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ و في موضع مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ إشارة إلى تفاوت تلك الأزمنة الموهومة بشدّة أهوال أحوال أهل الآخرة و ضعفها و طولها و قصرها و سرعة حساب بعضهم و خفّة ظهره و ثقل أوزار قوم آخرين و طول حسابهم كما روى عن ابن عبّاس في قوله كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قال: هو يوم القيامة جعله اللّه على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة، و أراد أنّ أهل الموقف لشدّة أهوالهم يستطيلون بقاهم فيها و شدّتها عليهم حتّى يكون في قوّة ذلك المقدار. و عن أبي سعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في يوم القيامة كان مقداره خمسين ألف سنة: ما أطول هذا اليوم فقال: و الّذي نفسى بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون عليه أخفّ من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا. و هذا يدلّ على أنّه يوم موهوم و إلّا لما تفاوت في الطول و القصر إلى هذه الغاية. إذا ثبت هذا فنقول: يحتمل أن يكون مراده عليه السّلام أنّ عبادة إبليس و الملائكة الّذين نقلنا في الخبر في الخطبة الاولى أنّهم اهبطوا إلى الأرض و طردوا الجنّ إلى البحار و رءوس الجبال و عبدو اللّه في الأرض زمانا كانت عبادة روحانيّة لا يستدعى زمانا موجودا بل أحوالا موهومة تشبه الزمان، و أنّ إبليس عبد اللّه في تقدير أزمنة مبلغها ستّة آلاف سنة قبل خلق آدم. و يحتمل أن يقال: إنّها كانت جسمانيّة في زمان من أزمنة الدنيا و لكن يكون في كميّة كمقدار خمسين ألف سنة من سنى الدنيا.
فأمّا قوله: لا يدرى.
ففى نسخة الرضى بالبناء للفاعل. و في غيرها من النسخ بالبناء للمفعول.
و الرواية الاولى تستلزم أنّه ممّن لا يدرى أنّ تلك السنين من أىّ السنين و الثانية يحتمل فيها كونه ممّن يدرى ذلك. و بالجملة فلمّا كانت مدّة عبادة إبليس قبل آدم يحتمل أن يكون روحانيّة و أن يكون جسمانيّة، و يحتمل أن يكون بحسب ذلك في زمان موهوم أو موجود. و على تقدير أن يكون موجودا يحتمل أن يكون ستّة آلاف سنة من السنين المعهودة المتعارفة لنا، و يحتمل أن يكون من سنين كانت قبل ذلك مصطلحا على تقدير كلّ منها بألف سنة أو بخمسين ألف سنة من سنينا لا جرم لم يمكن الجزم بواحد من هذه الاحتمالات فلذلك قال: لا يدرى. قال بعض الشارحين: و يفهم من تقديره عليه السّلام تلك المدّة بستّة آلاف سنة لا يدرى من أىّ السنين هي أنّه سمع فيه نصّا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مجملا و لم يفسّره له، أو أنّه سمعه و علم تفصيله لكنّه لم يفصّله للناس بل أبهم القول عليهم في تعيينه لعلمه أنّ تعيين سنى الآخرة ممّا يستعظمونه و لا يحتمله أذهانهم. فإنّ عبادته إذا كانت ستّة آلاف سنة و كل يوم منها خمسين ألف سنة من سنى الدنيا كان مبلغ ذلك ممّا يخرج من ضرب ستّة آلاف سنة في ثلاث مائة و ستّين مضروبة في خمسين ألفا و هو مائة و ثمانية ألف ألف ألف- بتكرير لفظ الألف ثلاث مرات- و على تقدير أن يكون مقدار كلّ يوم ألف سنة يكون مبلغها ما يخرج من ضرب ستّة آلاف في ثلاث مائة و ستّين ألفا و هو ألفا ألف ألف سنة- بتكرير الألف ثلاث مرات و تثنية الأوّل- و مائة ألف ألف- بلفظتين- و ستّون ألف ألف- بلفظتين أيضا- و ذلك مما لا يحتمله أذهان السامعين. فلذلك أبهم القول فيه.
و قوله: فمن. إلى قوله: معصية.
استفهام إنكار لوجود من يسلم من لعنة اللّه و عقوبته ممّن يكون فيه رذيلة الكبر.
و قوله: يسلم على اللّه.
في معنى يرجع إليه سالما من طرده و لعنته و عذابه. تقول: سلم علىّ هذا الشيء إذا رجع إليك سالما و لم يلحقه تلف. و الباء في قوله: بمثل معصيته. للاستصحاب: أى فمن يرجع إلى اللّه سالما من عذابه و قد استصحب مثل معصية إبليس: أى تكبّر كتكبّره و خالف أمر ربّه.
و قوله: كلّا.
ردّ لما عساه يدّعى من تلك السلامة الّتى استنكر وقوعها باستفهامه. و فسّر ذلك الردّ بقوله: ما كان اللّه. إلى قوله: ملكا. و الباء في قوله: بأمر للاستصحاب أيضا: أى ما كان ليدخل الجنّة بشرا مستصحبا لأمر أخرج به منها ملكا. و ذلك الأمر هو رذيلة الكبر الّتي يستصحبها الإنسان بعد الموت ملكة و خلقا في جوهر نفسه. و القضيّة سالبة عرفيّة عامّة: أى لا يدخل الجنّة بشر بوصف الكبر ما دام له ذلك الوصف.
فإن كان ذلك الوصف يدوم كما في حقّ الكافر لم يدخل الجنّة أبدا، و إن كان لا يدوم جاز أن يدخل بعد زواله الجنّة. فإذن لا مسكة للرعية به قول القائلين بتخليد الفاسق من أهل القبلة في هذا الكلام. و أمّا حديث الإحباط فيقول: إنّما كان بسبب الكفر كما قال تعالى إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ«».
فإن قلت: الكلام يقتضى أنّ إحباط عمله و إخراجه من الجنّة كان بسبب تكبّره لا بسبب كفره.
قلت: الأصل هو الكبر إلّا أنّ تكبّره كان تكبّرا على اللّه و إباء لطاعته و استصغارا لما امر به حيث قال: أ أسجد لبشر خلقته من صلصال، أ أسجد لمن خلقت طينا و ذلك محادّة للّه و كفر به مصارحة فكان ذلك مستلزما لكفره. و لا شكّ أنّ الكفر يستلزم إحباط العمل و اللعن و الخروج من الجنّة.
و قوله: إنّ حكمه في أهل السماء. إلى قوله: لواحد.
أى في إفاضته للخير و الشرّ على من يستعدّ لأحدهما فمن استعدّ من أهل السماء أو أهل الأرض لخير أو شرّ فحكمه فيه أن يفيض على ما استعدّ له و ذلك حكم لا يختلف اعتباره من جهته تعالى.
و قوله: و ما بين اللّه. إلى قوله: العالمين.
أى ليس بينه و بين أحد من خلقه صلح فيخصّصه بإباحة حكم حرّمه على سائر خلقه فيختلف بذلك حكمه فيهم لأنّ الصلح من عوارض الحاجة أو الخوف المحالين عليه تعالى. و قال بعض الشارحين: كلّ ما جاء من الإحباط في القرآن و الأثر فمحمول على أنّ ذلك الفعل المحبط قد أخلّ فاعله ببعض شرائطه اللازمة إذ لم يوقعه على الوجه المأمور به المرضىّ، أو فعله لا على بصيرة و يقين بل على ظنّ و تخمين.
و بالجملة فحيث يقع لا على وجه يستحقّ به ثوابا، لا على أنّه استحقّ به شيئا ثمّ احبط. فإنّ ذلك ممّا قام البرهان على استحالته. ثمّ حذّرهم من إبليس باعتبار كونه عدوّ اللّه بعد أمرهم باعتبار حاله و ما لزمه من الشقاوة بسبب معصية له أن يعديهم بذلك الداء و هو الكبر الّذى بسببه لزمته تلك الشقاوة. و معنى عداوته للّه مجانبته لأوامره و مجاوزته لطاعته إلى معصيته و هو مستعار. و لفظ الداء مستعار للكبر يقرب من الحقيقة فإنّ أدواء النفوس أشدّ من أدواء الأبدان. و محلّ أن يعديكم نصب على البدل من عدوّ، و نقل عن القطب الراوندى- رحمه اللّه- أنّه مفعول ثان عن احذروا. و هو سهو. إذ هذا الفعل لا يتعدّى إلى مفعولين.
و قوله: بخيله و رجله.
كناية عن أعوانه من الضالّين المضلّين الّذين يستخفّون الناس بالوسوسة و الدعوة إلى طرق الضلال.
و قوله: فلعمرى. إلى قوله: الشديد.
و قوله: فلعمرى. إلى قوله: الشديد. استعار لفظ السهم لوساوسه و تزييناته في الوعيد المحكىّ عنه بقوله تعالى:قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي«» و وجه الاستعارة كونه يرمى بتلك الوساوس وجوه نفوسهم فيكون سببا لهلاكها في الآخرة كما يكون السهم سببا للقتل. و رشّح بذكر التفويق و الإغراق و النزع و الرمى. و أمّا مكانه القريب فكما نطق به الخبر النبوىّ في قوله: إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. و قوله: لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بنى آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات. و قرب من كان كذلك ظاهر. و الكلام في قوله: فلعمرى. في معرض الإغراء به. و في الباء و ما يتعلّق به وجوه: أحدها: قال أبو عبيد: معناها القسم. فإن قلت: كيف نسب الإغواء إليه تعالى و كيف يصلح الإغواء مقسما به.
قلت: على الأوّل لمّا كان تعالى خالق أسباب الغواية فيه كالقدرة و العلم و غيرهما كانت له تعالى سببيّة في إيجاد الغواية و إن كانت بعيدة فلذلك صحّ إسناد فعلها إليه تعالى، و على الثاني أنّه يجوز أن يكون ما بمعنى الّذي و العائد من الصلة محذوف و تقديره بالّذي أغويتنى به لازيّننّ لهم و ذلك هو الأمر بالسجود لآدم إذ كان بسببه استكبر و عصى فغوى، و القسم جايز بأمره تعالى و تكليفه. و من جعل ما مصدريّة فله أن يقول: إنّ إبليس أطلق على الأمر و التكليف الّذي حصل له بسببهما الغواية لفظ الإغواء مجازا إطلاقا لاسم المسبّب على السبب. ثمّ أقسم به باعتبار ما هو أمر و تكليف لا باعتبار ما هو غواية.
الثاني: قال غيره: هي للسببيّة: أي بكونى غاويا لازيّننّ كما يقول: بطاعته ليدخلنّ الجنّة و بمعصيته ليدخلنّ النار. و مفعول التزيين محذوف: أى لازيّننّ لهم الباطل حتّى يقعوا فيه. الثالث: قال بعضهم: يجوز أن يكون الباء للسببيّة و يقدّر قسم محذوف.
و المعنى بسبب ما كلّفتنى فاستلزم غوايتى اقسم لازيّننّ لهم. و قوله: قذفا بغيب بعيد.
كقوله تعالى وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ«» و هو مصدر حذف فعله و سدّ مسدّ الحال. قال المفسّرون: و الغيب هنا بمعنى الظنّ. و فيه نظر لأنّ إطلاق لفظ الغيب على الظنّ مجاز و العدول عن الحقيقة إنّما يكون بعد تعذّر حمل اللفظ عليها و لا تعذّر هاهنا في ذلك لأنّ مفهوم الغيب هو ما غاب عن الخلق فلم يعلموه فكان القذف بكلّ ما لا يعلم و الحكم به قذفا بالغيب و حكما به. و لمّا كان إبليس لا يعلم ما حكم به بأنّه يفعله في الخلق من التزيين و الإغواء و هو بعيد عن علمه ثمّ حكم به كان حاكما بما هو غائب عن علمه و عازب عنه و هو معنى قذفه بالغيب البعيد. و في نسخة الرضىّ- رحمة اللّه عليه- بظنّ مصيب. و في أكثر النسخ غير مصيب و هو المناسب لقوله: بغيب بعيد. لأنّ ما يقال عن غيب بعيد قلّما يصيب ظنّه.
فإن قلت: فلم قال غير مصيب مع أنّ إبليس صدّق ظنّه في إغواء الناس و تمّ له ما ظنّ كما قال تعالى وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ«» الآية.
قلت: الجواب عن وجوه: أحدها: أنّه يريد بالظنّ المصيب العلم لأنّه المصيب الحقّ فكأنّه قال: بظنّ ليس بعلم.
الثاني: قال بعض الشارحين: إنّما كان غير مصيب لأنّه ظنّ أنّ إغوائهم يكون منه فقال: لاغوينّهم. و هذا ظنّ فاسد لأنّ إغواءهم كان منهم اختيارا لأنّهم اختاروا العمى على الهدى فغووا عن طريق اللّه. و تصديق أبناء الحميّة له في ذلك يعود إلى وقوع الغواية منهم وفق ظنّه لأنّه لمّا ظنّ أنّه يغويهم فقد ظنّ أنّ الغواية تلحقهم منه فصدّقوه في الغواية و أخطأ ظنّه في تسبّبها إليه.
الثالث: أنّ الكلام لمّا كان في معرض ذمّ إبليس و إغراء الخلق بعداوته وقف عليه السّلام في الآية على قوله: أجمعين. فيكون المعنى أنّ إبليس ظنّ أنّه يغوى جميع الخلق.
و أمّا استثنائه لعباد اللّه المخلصين فذاك ليس بحسب ظنّه بل تصديقا لقوله تعالى إِنَ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ«» و معلوم أنّ ذلك الظنّ فاسد و غير مصيب. إذ كان إنّما قدر على إغواء البعض.
الرابع: قال بعض الشارحين: يحتمل أن يكون أراد بالإغواء الّذي ظنّ أنّه يفعله بالخلق هو إغواء الشرك، و بالإخلاص في قوله إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ«» العصمة من المعاصى فيكون الناس إذن في ظنّه إمّا معصوم أو مشرك و هذا ظنّ غير مصيب إذ وجد من ليس بمشرك و لا معصوم.
و قوله: صدّقه به أبناء الحميّة.
و قوله: صدّقه به أبناء الحميّة. فالحميّة لازم من لوازم الكبر لأنّها مأخوذة من قولك: حميت. إذا غضبت. فكانت حقيقتها تعود إلى الغضب عن تصوّر المؤذى مع الترفّع على فاعله و اعتقاد الشرف عليه.
و استعار لفظ الأبناء لأصحاب هذه الرذيلة و أهل الكبر من الناس. و وجه الاستعارة ملازمتهم لها كما يلازم الولد امّه حتّى صاروا كأنّهم خلقوا منها و هى أصل لهم.
و تصديقهم له بذلك الظنّ هو ارتكابهم للرذائل و المعاصى اتّباعا له و غوايتهم لها عن سبيل اللّه قال بعض الشارحين: و الباء في قوله: به. بمعنى في: أى صدّقه فيه.
و صدّقه في موضع الجرّ صفة لظنّ.
و قوله: و إخوان العصبيّة.
يحتمل أن يريد إخوانها فيكون قد جعل لها إخوانا على سبيل الاستعارة و هم ملازموها كما جعل للحميّة أبناء، و يحتمل أن يريد الإخوان فيها: أى الّذين عقدوا الاخوّة بينهم على العصبيّة الباطلة فيها. و كذلك فرسان الكبر و الجاهليّة، و يحتمل أن يكون قد استعار لفظ الفرسان لمرتكبى الكبر و الأفعال الجاهليّة. و وجه الاستعارة ظاهر، و يحتمل أن يريد فرسان الجاهليّة الموصوفين بالكبر.
و قوله: حتّى. إلى قوله: الجلىّ.
غاية من قوله: فوّق و أغرق و رماكم. و استعار وصف الجامحة للنفوس الّتي كانت عاصية لإبليس آبية عن الانقياد له.
و قوله: فنجمت الحال.
أى ظهرت الحال الّتي كان يرومها منكم و يظنّها فيكم و هي الغواية و الضلال من السرّ الخفىّ إلى الأمر الجلىّ. أى من القوّة فيكم إلى الفعل.
و قوله: استفحل.
جواب الشرط. و استعار لفظ الاستفحال لشدّة سطوته و سلطانه إشارة إلى كمال قدرته على تطويع النفوس و قهرها. و جنوده كناية عن أهل الفساد في الأرض كما علمته فيما سبق. و دلفه بهم دخولهم بالفساد على الناس و تزيينهم لهم رذائل الأخلاق و إغواؤهم إيّاهم. و من لوازم ذلك التحاسد و التباغض و التقاطع و التدابر و تفرّق الكلمة، و من لوازم تفرّق الكلمة أن يقحمهم العدوّ و لجأت الذلّ و يحلّهم و رطات القتل و يوطئهم إثخان الجراحة و يحتمل أن يريد بسلطانه الّذي استفحل عليه هو سلطان عدوّهم و من خالفهم كمعاوية و غيره و قوّتهم عليهم بعد تفرّق كلمتهم و قلّة طاعتهم له عليه السّلام و إضافة ذلك السلطان و جنوده إلى الشيطان ظاهرة لأنّ سلطان الحقّ و جنوده يقال له سلطان اللّه و جنود اللّه، و سلطان الباطل يقال له سلطان الشيطان و جنوده جنود الشيطان و أوليائه و أعوانه. و ظاهر أنّهم عند تفرّق كلمتهم قد استفحل عليهم سلطان إبليس و دلف بجنوده إليهم و هم مخالفوه عليه السّلام. و انتصب إثخان الجراحة على أنّه مفعول ثان لأوطئوكم. و لفظ الولجات و الورطات مستعار ان للأحوال الّتي هى مظانّ الذلّ و القتل كالأماكن الّتي يفرّون إليها من عدوّهم ذلا و المواطن الّتي قتلوا فيها، أو لطاعتهم و الاستسلام لهم. و إقحامهم و إحلالهم إيّاها إلجاؤهم لهم إلى تلك الأحوال و الأماكن و لذلك استعار وصف إيطائهم إثخان الجراحة ملاحظة لمشابهة وقوعها بهم للوطء في استلزامه للأذى. و كنّى بذلك المستعار عن إيقاعهم في حرارات الجراح. و إثخان مصدر قولك: أثخن في الجراح إذا كثر فيه و بالغ حتّى فشا فكأنّه ثخن.
و قوله: طعنا. إلى قوله: لمقاتلكم.
جعل محلّ الطعن العيون، و الحزّ الحلوق، و الدقّ المناخر، و القصد المقاتل لأنّها محالّها المتعارفة عند إرادة الإذلال و الإهانة و الإهلاك. لأنّ الطعن و إن كان قد يقع في سائر البدن إلّا أنّه أبلغ في العيون و أفحش. و كذلك في باقيها. قال بعض الشارحين: انتصب طعنا و حزّا و دقّا و قصدا و سوقا على المصادر عن أفعالها المقدّرة. و من روى: لإثخان الجراحة.- بوجود اللام- فيحتمل أن يجعل طعنا مفعولا ثانيا لأوطئوكم، و يكون اللام في الإثخان لام الغرض: أى أوطأوكم طعنا و حزّا و دقّا ليثخنوا الجراحة فيكم قال: و يكون قصدا و سوقا خالصين للمصدريّة لبعدهما عن المفعول به. و الأظهر هو الوجه الأوّل أعنى كون كلّ منها مصدرا لفعله.
و لمّا كان الفاعل بهم هذه الأفعال كلّها هو إبليس و جنوده فإن كان المراد بجنوده الساعين بين الناس بالوسوسة و الفساد في الأرض فمعنى فعلهم بهم هذه الأفعال كونهم أسبابا معدّة لهم بالوسوسة المستلزمه لتفريق الكلمة و مخالفة الإمام لوقوع هذه الأفعال بهم من أعدائهم و محاربيهم ثمّ يتبع فعل العدوّ لهم أن يسوقوهم إلى النار بخزائم القهر. و لفظ الخزائم مستعار لما يمكّن في جواهر نفوسهم من الرذائل الموبقة و ملكات السوء الّتي لا محيص لهم من النار بسببها لمشابهتها الخزائم الّتي يقاد بها الإبل في كونها لا مخلص عمّا يقاد إليه بسببها. و لفظ السوق ترشيح للاستعارة. و إن كان المراد بجنوده هم المخالفون له عليه السّلام و المحاربون لأصحابه ففعلهم بهم تلك الأفعال ظاهر. و أمّا السائق لهم إلى النار فيحتمل أن يكون هؤلاء و ذلك بإذلالهم لهم و إدخالهم في باطلهم عن قهر و ذلّة. و لا شكّ أنّ الدخول في باطلهم سبب جاذب إلى النار. و لفظ الخزائم مستعار إذن إمّا لما يتمكّن من باطلهم و عبثهم في النفوس، و إمّا لأوامرهم بالباطل و حملهم على ارتكاب المنكر، و يحتمل أن يكون السائق لهم هو إبليس و جنوده من أهل الوسوسة. ثمّ رجع إلى إفراده بالفعل نظرا إلى قوله: و دلف بجنوده. فقال بعده: فأصبح أعظم في دينكم جرحا. فاستعار لفظ الجرح للفساد المعقول الحاصل بسبب إبليس في دينهم. و وجه المشابهة كون الجرح فسادا في العضو أيضا، و كذلك استعار لفظ القدح لوساوس إبليس المستلزمة لوجود الإحن و التباغض و التحاسد بينهم الموجب لتفريق كلمتهم المستلزم لتشتّت سلطانهم و فساد نظامهم و ما هم عليه من الابّهة و استقامة المعاش في الدنيا. و وجه المشابهة إفساد تلك الوساوس لأحوال معاشهم كإفساد قدح النار ما يقدح فيه. و جعله في حرج دينهم و إفساد دنياهم أشدّ من أعدائهم الّذين هم مناصبون لهم و الحكم ظاهر الصدق.
إذ كانت پپپفتنة إبليس لهم في دينهم و دنياهم أصلا لكلّ فتنة تلحقهم من أعدائهم باعتبار أنّها سبب تفرّقهم كما سبق. ثمّ أمرهم أن يجعلوا عليه حدّهم: أي بأسهم و سطوتهم لأنّ حدّ الرجل بأسه و سطوته، أو منعهم و دفعهم. و أن يجعلوا له جدّهم: أي يجتهدوا للخلاص من فتنته بمقاومته و قهره.
و قوله: فلعمر اللّه. إلى قوله: بلاء.
عود إلى الإغراء بعداوته يذكر أسباب العداوة المنفّرة، و هى كونه فخر على أصلهم، و ذلك قوله تعالى حكاية عنه قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ«» و وقع في نسبهم. و ذلك قوله قالَ لَم ْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ«» فبيّن بذكر أصلهم و هو الصلصال و الحمأ المسنون المنتن و نسبهم منه أنّه ساقط عن درجة الافتخار به. و خيله و رجله كناية عن جنوده من أهل الباطل، و إجلابه بخليه عليهم جمعه لجنوده على محاربتهم أو على الوسوسة لهم و الإضلال، و قصده لسبيلهم: أى السبيل الحقّ الّذي هم سالكوه إلى اللّه كقوله تعالى حكاية عنه لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ«» و هو كناية عن جذبه لهم إلى طرف الباطل عند توجّههم إلى طرف الحقّ و سبيل الدين، و اقتناصهم لهم بكلّ مكان كقوله ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ«» الآية و هو كناية عن أخذه بوسوسته لهم من كلّ وجه و إغوائه لهم عن كلّ سبيل حقّ، و ضربهم منهم كلّ بنان كناية أيضا عن كونه هو و جنوده أسبابا معدّة لقتلهم و قطعهم بأيدي أعدائهم. و على احتمال أن يريد بجنوده هم مخالفوه عليه السّلام من أهل الضلال فمعنى قصدهم لسبيلهم ابتلائهم بالفتن و القتل و منعهم لهم بذلك عن إقامة حدود اللّه و الاستقامة على سبيله، و اقتناصهم بكلّ مكان و ضربهم منهم كلّ بنان كناية عن استقصائهم و قتلهم و أذاهم، و لفظ الاقتناص مستعار، و ظاهر أنّهم لا يمتنعون من أفعاله بعد استحكام طمعه فيهم و استفحال سلطانه عليهم بحيلة، و لا يدفعون عن الفتهم بعزيمة: أى جدّ و اجتهاد و صرامة في أمر لما سبق منهم من التخاذل و الانفعال، و الحومة و الحلقة و العرصة و الجولة ألفاظ كنّى بها عن الدنيا. إذ كانت محلّ ذلّهم و الضيق عليهم و عرصة موتهم و منصة بلائهم. و الإضافات الأربع بمعنى اللام. ثمّ عاد إلى أمرهم بتطهير قلوبهم من رذيلة العصبيّة و أحقاد الجاهليّة، و استعار لفظ النيران لما يثور من حرارة الغضب و عنه العصبيّة، و قد علمت أنّ مبدء تلك الحرارة القلب، و رشّح بذكر الإطفاء، و لك أن تسمّى تلك النيران حميّة كما سبق فلذلك فسرّها بها فقال: و إنّما تلك الحميّة. و يفهم من الحميّة أنّها خبر المبتدأ، و قوله: تكون. خبر بعد خبر، و يحتمل أن يكون صفة لتلك و الخبر تكون، و ظاهر أنّ الحميّة و العصبيّة الباطلة من خطرات الشيطان الّتي يخطرها للنفوس، و نخواته الّتي يحدثها فيها بتحسينه الغلبة و الانتقام و الترفّع و الترأس على الخلق، و من نزغاته الّتي يفسد بها الناس، و نفثاته الّتي يلقيها إلى أذهانهم لغرض الإفساد و الإضلال، و أراد بإضافتها إلى الشيطان التنفير عنها. ثمّ أردفه بالأمر بالتذلل و أراد به التواضع و أمرهم أن يعتمدوا وضعه على رؤوسهم و هو كناية عن إعزازهم و العناية به لكونه فضيلة، و أن يلقوا التعزّز تحت أقدامهم و هو كناية عن إطراحه و عدم العناية به لكونه رذيلة، و أن يخلعوا التكبّر من أعناقهم. و استعار لفظ الخلع لطرح التكبّر و نسبه إلى الأعناق ملاحظة لشبهه بما يلبس من قميص أو طوق فأمرهم بخلعه إذ ليسوا أهلا له و ليس ممّا ينبغي لهم، و أن يلزموا التواضع. و استعار له لفظ المسلحة، و وجه المشابهة أنّه لمّا كان المتواضعون بسبب تواضعهم و تخلّقهم به حافظين لدينهم و أنفسهم من دخول إبليس و جنوده عليهم برذيلة الكبر و ما يلزمها من سائر الرذائل المعدودة المهلكة أشبه تواضعهم المسلحة الّتي هى محلّ الحفظ بها من غارات العدوّ. و لمّا علمت ما يلزم الكبر من الرذائل فلا يخفى عليك ما يلزم التواضع من أضدادها و نقائضها.
و قوله: فإنّ له من كلّ امّة. إلى قوله: فرسانا.
بيان لجنوده و إشارة إلى أنّ له من هذه الامّة جنودا و أعوانا و رجلا و فرسانا اتّصفوا بصفته و استشعروا شعاره و هو الكبر فينبغى أن يجتنبوهم و يطرحوا شعارهم.
و قوله: و لا تكونوا كالمتكبّرين على ابن امّه.
أراد بذلك المتكبّر قابيل حين قتل أخاه هابيل عن كبر و حسد، و هو نهى عن الكبر أيضا من بعضهم على بعض. و إلى قصّة قابيل و هابيل أشار القرآن الكريم بقوله وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً إلى قوله جَزاءُ الظَّالِمِينَ«» و المنقول في السبب أنّ حوّاء كانت تلد في بطن اثنين ذكرا و انثى. فولدت في أوّل بطن قابيل و اخته ثمّ مكثت سنين فولدت هابيل و اخته. فلمّا أدركوا أمر اللّه آدم أن ينكح قابيل اخت هابيل و ينكح هابيل أخت قابيل فرضى هابيل بذلك و لم يرض قابيل لأنّ أخته كانت أحسنهما فقال آدم: قرّ باقربانا فأيّكما تقبّل قربانه زوّجتها منه. و قيل: بل قال آدم لهابيل و قابيل: إنّ ربّى أوحى إلىّ أنّه يكون من ذرّيّتى من يقرّب القربان فقرّبا قربانا حتّى تقرّ عينى إذا تقبّل قربانكما. و كان قابيل صاحب زرع و هابيل صاحب ضرع. فتقرّب قابيل بأردء قمح عنده، و تقرّب هابيل بأجود حمل عنده و وضعا قربانهما على الجبل فدعا آدم فنزلت نار بيضاء من السماء فدفعت قربان هابيل دون قابيل لأنّ نيّته لم تكن خالصة في قربانه.
و قيل: لأنّه كان مصرّا على كبيرة لا يقبل اللّه معها طاعة. فذلك قوله تعالى وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ«» فحسده قابيل و كان أكبر منه سنّا. فقال: لأقتلنّك. قال هابيل: إنّما يتقبّل اللّه من المتّقين لئن بسطت إلىّ يدك. الآية. إلى قوله فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ«» أى لأخيه في الدنيا و للجنّة في الآخرة. و روى أنّه بقى زمانا يحمله على ظهره لا يدرى ما ذا يصنع به حتّى بعث اللّه غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه. و روى أنّه كان غرابان قتل أحدهما الآخر و احتفر له و دفّنه. فقال قابيل: يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب. الأية. إذا عرفت ذلك فنقول: قال الثعلبى: إنّما أضافه إلى الامّ دون الأب لأنّ الولد في الحقيقة من الامّ: أى الولد بالفعل فإنّ النطفة في الحقيقة ليست ولدا بل جزء مادّى له و نسبة الولد إليه في الحكم دون الحقيقة. و قيل: لأنّ قابيل لقتله هابيل فإنّه قطع نسبه عن أبيه كما قال تعالى في ولد نوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ«» و قيل: لأنّ شفقّة الأخ من الامّ أزيد من شفقّة الأخ من الأب لزيادة شفقّة الأمّ. و الأوّل أليق. و قد أشار بهذه الإضافة إلى جهة مساواته له في كونهما من محلّ واحد لتبيّن قبح تكبّره عليه ليتنبّه السامعون لنهى الإنسان عن التكبّر على غيره من أبناء نوعه. و أكّد ذلك بقوله: من غير ما فضل جعله اللّه فيه.
و قوله: سوى ما ألحقت العظمة. إلى قوله: ريح الكبر.
إشارة إلى تكبّره عليه و أسبابه و هى العداوة عن حسد، و جعل تلك العداوة مسبّبة عن العظمة و هو ظاهر كما علمت فإنّ المتعظّم معتقد لكمال نفسه و أنّه أولى بكلّ كمال يليق به من غيره و أنّه لا ينبغي أن تشاركه فيه أحد، و ذلك يستلزم حسده للغير على ما يعتقده كمالا يصل إليه كاعتقاد قابيل أنّه أولى بالأخت الحسناء من أخيه لكونه أكبر سنّا منه إلى غير ذلك من الأسباب، و عن ذلك الحسد تكون الحميّة و ثوران نار الغضب و العصبيّة، و لفظ النار مستعار كما سبق، و لفظ القدح ترشيح، و كذلك لفظ الريح مستعار لتلك الوساوس و الخطرات الّتى ينفثها إبليس في روع المتكبّر من كونه أولى فأحقّ بذلك الكمال و نحوه، و كذلك لفظ النفخ لإلقاء تلك الخطرات و نفثها.
و قوله: الّذي أعقبه اللّه.
أى الندامة المشار إليه كما ذكرناه.
و قوله: و ألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة.
إشارة إلى مقتضى قوله تعالى مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً«» أى يكون عقابه في الغلظ و الشدّة و التأبيد كعقاب قاتل الناس جميعا كما قال تعالى وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً«» الآية، و كذلك مقتضى قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها و وزر من يعمل بها إلى يوم القيامة. و قابيل هو من أوّل من سنّ القتل فلا جرم لزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة، و كذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من نفس فقتل ظلما إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل منها. ذلك بأنّه أوّل من سنّ القتل. ثمّ شرع في تنبيههم على إمعانهم و تشمّرهم في البغى و الإفساد في الأرض و إعلامهم بذلك من أنفسهم. و الخطاب أشبه أن يكون للبغاة من أصحاب معاوية و هم الّذين كاشفوا اللّه بمحادّة أوليائه و معاداة دينه و بارزوا المؤمنين بالمحاربة. و مصارحة و مبارزة مصدران سدّا مسدّ الحال. ثمّ كرّر التحذير من اللّه تعالى في الكبر و أضافه إلى الحميّة ليتميّز الكبر المحمود، و كذلك إضافة الفخر إلى الجاهليّة فإنّ من التكبّر و الفخر ما هو محمود كتكبّر الفقراء على الأغنياء. ثمّ ذكر في ذكر ما نفرّ عنه من الأوصاف كونه ملاقح الشنئان و هو البغض و العداوة. و لفظ الملاقح مستعار من الفحول للكبر و الفخر، و وجه المشابهة كونهما مظنّة وجود البغضاء بين الناس و سبب له كما أنّ الفحول سبب الإلقاح، و أمّا على تقدير كونه مصدرا فاستعارة لإثمار الفخر للبغضاء للمشابهة المذكورة.
ثمّ إنّه أخبر بذلك المصدر نفسه عن الفخر حيث جعله خبر إنّ فكأنّه قال: فإنّ الفخر لقح الشنئان، و لقح الشنئان نفسه ليس عين الفخر بل من ثماره و لوازمه فكان إطلاقا لاسم السبب على المسبّب و هو في الدرجة الثانية، و إنّما ذكره بلفظ الجمع نظرا إلى تكثّر معنى الفخر في موارده و هى أذهان المتكبّرين. و منافخ الشيطان. جمع منفخ مصدر نفخ، و ظاهر أنّ أفراد مهيّة الفخر المنتشرة في الأدمغة نفخات و نفثات من إبليس. و يقال في العرف للمتكبّر و المترّفع قدره: قد نفخ الشيطان في أنفه. و وصف تلك المنافخ بأنّها اللاتى خدع بها الامم الماضية و القرون الخالية. و صورة الخداع هاهنا كونهم أراهم الباطل في صورة الحقّ كتزيه الكبر و تحسينه للوازمه و تخييل أنّ ذلك هو الأصلح و الأنفع مع أنّه في نفس الأمر ليس بحقّ حتّى كان ذلك سببا لارتكابهم في ظلمات الجهالات و مهاوى الضلالات، و استعار وصف الإعناق لما يتوهّم من شدّة دخولهم في ظلمات الجهالات و قوّة سيرهم فيها، و كذلك لفظ الحنادس مستعار لما يتخيّل من ظلمة الجهل، و لفظ المهاوى مستعار لما يتخيّل من كون الضلالة و طرقها محالّ للهوىّ عن افق الكمال و مدارج السعادة، و أضاف الجهالة و الضلالة إليه إضافة للمسبّب إلى السبب. و ذلل جمع ذليل، و سلس: جمع سلس و هما سهلا الانقياد. و انتصابهما على الحال من الضمير في أعنقوا: أى أسرعوا سهلى الانقياد لسوقه.
و قوله أمرا.
منصوب بفعل مضمر تقديره فاعتمد أمرا تشابهت قلوبهم فيه و تتابعت القرون الماضية منهم على اعتماده و هو الفخر و نفخ الشيطان و الإعناق في جهالته و ضلالته، و كبرا عطف عليه، و كنّى بتضايق الصدور به من كثرته و عظمته. ثمّ عقّب بالتحذير من طاعة ساداتهم و كبرائهم تذكيرا بما نبّه عليه القرآن الكريم بذمّ المطيعين لساداتهم و كبرائهم على طاعتهم فيما حرّم اللّه عليهم و خروجهم بذلك عن سبيل اللّه، و ذلك قوله تعالى حكاية لما يقولونه يوم القيامة وَ قالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً«» و التابعين على متابعة متبوعهم في قوله حكاية عنهم تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ«».
و قوله: الّذين تكبّروا عن حسبهم و ترفّعوا فوق نسبهم.
فحسبهم و نسبهم إشارة إلى الطين و الصلصال من الحمأ المسنون و الماء المهين الّذى هو أصلهم، و لمّا كان من شأنه أن لا فخر فيه و لا تكبّر لمن هو أصل له ثمّ تكبّروا فقد تكبّروا عن ذلك الأصل و ترفّعوا عليه و تركوا ما ينبغي لهم من النظر إليه و التواضع لحسبه، و إليه أشار القائل: ما بال من أوّله نطفة، و جيفة آخره يفخر لا يملك تقديم ما يرجو و لا تأخير ما يحذر.
و قوله: و ألقوا الهجينة على ربّهم.
أى نسبوا ما في الإنسان من القبايح بزعمهم إلى ربّهم كما قال بعض الشارحين: كأن يقول أحدهم في الافتخار على غيره: أنا عربىّ و أنت أعجمىّ. فإنّ ذلك عيب و إزراء لخلق اللّه فهو عيب على اللّه و نسبة للقبح إليه، و هم في ذلك مقتفون لأثر إبليس حيث قال: أ أسجد لبشر خلقته من صلصال. إذ كان ذلك عيبا لخلق اللّه و نسبة للفعل القبيح.
و قوله: و جاحدوا اللّه ما صنع بهم.
و وجه المجاحدة هنا أنّهم لمّا غفلوا عن اللّه تعالى و جحدوا حقّه لم يشكروا على نعمائه و صنيعه بهم. و لمّا كان الشكر يعود إلى الاعتراف بالنعمة كان الجحد و الإنكار منهم عبارة عن عدم ذلك الاعتراف لغفلتهم، و أيضا فإنّ الشكر كما يكون بالاعتراف بالنعمة كذلك يكون بالاتيان بما يوافق ذلك الاعتراف و يدلّ عليه من الأقوال و الأفعال الصالحة المطلوبة للمنعم و الموافقة لأوامره و نواهيه و يسمّيان شكرا أيضا فكان الإصرار على تركهما و عدم الاتيان بهما جحدا لنعمة اللّه، و ذلك هو مجاحدتهم. فأمّا مجاحدة اللّه لهم فيعود إلى ما يتخيّل من إنكاره عليهم جحدهم، و تقريره عليهم صنعه بهم، و تذكيره نعمته في حقّهم. و ما مصدريّة. و يحتمل أن تكون بمعنى الّذي و العائد من الصلة محذوف: أى ما صنعه بهم.
و قوله: مكابرة لقضائه.
أى مقابلة لحكمه عليهم بوجوب شكره و لزوم طاعته بردّ ذلك الحكم و إنكاره و عدم الانقياد له. و حقيقة المكابرة يعود إلى المقابلة بالقول في الأمر و المنازعة فيه على وجه المغالبة و التكبّر من الطرفين. و هى هنا ترشيح لاستعارة المجاحدة. و كذلك المغالبة لآلائه. و النصب فيهما على المفعول له. و المغالبة هنا لشبه الغاية من المجاحدة و ليست غاية على الحقيقة. و بيان ذلك أنّه لمّا كان من لوازم المجاحدة و كفران النعمة زوالها و انقطاعها كانوا بفعلهم لتلك المجاحدة و ذلك الكفران كالمغالبين للنعم و القاصدين لزوالها و عدمها. إذ كان زوالها لازما لفعلهم.
و قوله: فإنّهم. إلى قوله: الجاهليّة.
تنبيه على ما يلزم ساداتهم من الرذائل المنفّرة، و استعار لفظ الأساس للكبر.
إذ كان مبدء للعصبيّة و أصلا لها، و لفظ القواعد لهم باعتبار قيام الكبر بهم و ثباته فيهم كما يقوم الأساس بقواعده و هى الصخور العظيمة و نحوها. و كذلك استعار لفظ الأركان لأجزاء الفتنة و أبعاضها، و لفظ الدعائم لهم باعتبار قيام الفتن بهم و اعتمادها عليهم كما يعتمد أركان البيت و جوانبه بدعائمه. و استعار لفظ السيوف لهم باعتبار صرامة عزومهم و مضيّهم عند الاعتزاء فيما يعتزى له كمضىّ السيوف و صرامتها في مضاربها. قال بعض الشارحين: و يحتمل أن يريد و أصحاب سيوف اعتزاء الجاهليّة، و ذلك عند قولهم: يالفلان. كما نقل في سبب الخطبة. و الاعتزاء منهىّ عنه لكونه مبدء للفتن. و روى أنّ ابىّ بن كعب سمع رجلا يقول: يا لفلان فقال: عضضت بهن أبيك. فقيل له: يا أبا المنذر ما كنت فاحشا. قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: من تعزّى بعزاء الجاهليّة فأعضّوه بهن أبيه و لا تكنّوا. و العزاء الاسم من الاعتزاء. ثمّ عاد إلى الأمر بتقوى اللّه. فقوله: و لا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا. نهى لهم عن ارتكاب ما يزيل نعمة اللّه عنهم و تضادّها فلا يجامعها من كفرانها و مقابلتها بسائر المعاصى الّتي يستلزم تبديل النعمة نقمة، و كذلك قوله: و لا لفضله عندكم حسّادا. استعار لفظ الحسّاد هنا باعتبار كفرهم المزيل للنعم. فحسّاد النعمة باعتبار حسدهم المزيل لها.
و قوله: و لا تطيعوا الأدعياء.
قال بعض الشارحين: مراده بالأدعياء الّذين ينسبون إلى الإسلام ظاهرا و هم منافقون. قلت: و يحتمل أن يريد بهم حقيقة الأدعياء، و هم الّذين ينتسبون إلى غير آبائهم ممّن لا دين له و قد ترأس في قبيلته الّتي انتسب إليها. ثمّ وصفهم فقال:الّذين شربتم بصفوكم كدرهم فاستعار لفظ الصفو و هو خالص الشراب إمّا لخلاص دينهم و إيمانهم أو لخالص دنياهم و صافيها، و لفظ الكدر للنفاق و ساير الرذائل النفسانيّة الّتي تخالط إيمان المرء كالحسد و نحوه فتكدّره و تكدّر بسبب ذلك ما صفا من دنياه لسبب ثوران الفتنة عنها، و رشّح بذكر الشرب. و المعنى أنّكم مزجتم بايمانكم نفاقهم فشربتموه به كما يمزج بالماء الشراب فيساغ به. و إنّما قال: شربتم بصفوكم كدرهم، و لم يقل: بكدرهم صفوكم لأنّ غرضه أن يقرن عليهم شرب الكدر بالقصد الأوّل و لا يتمّ ذلك الغرض إلّا بعبارته عليه السّلام. و الباء هنا للمصاحبة، و كذلك قوله: و خلطتم بصحّتكم مرضهم. و أراد بمرضهم نفاقهم و كبرهم و سائر الرذائل النفسانيّة فيهم، و بالصحّة سلامة نفوس المؤمنين بايمانهم عن شوب تلك الرذائل. و وبّخهم بتخليطهم ايمانهم بها، و كذلك قوله: و أدخلتم في حقّكم باطلهم. و أراد بالحقّ الايمان و الجدّ في العمل الصالح أو ما يستحقّونه من الملك و الخلافة في الأرض، و بباطل اولئك الكذب و النفاق و اللعب و سائر الرذائل أو ما لا يستحقّ لهم من أمر الدنيا، و ذلك الخلط و الإدخال بسبب تخاذلهم عن نصرته عليه السّلام و عدم اجتماعهم على ما ينبغي لهم من طاعته. ثمّ عاد إلى وصف اولئك الكبراء بأوصاف: الأوّل: استعار لهم لفظ الأساس باعتبار
كونهم أصلا للفسوق يقوم بهم كما يقوم البناء بأساسه. الثاني: لفظ الأحلاس باعتبار ملازمتهم للعقوق و قطع الرحم كما يلازم حلس البعير ظهره، و روى: أسئاس- بسكون السين- بوزن أحلاس، و هو جمع أسّ كحمل و أحمال و هو الاسّ. الثالث: كون إبليس اتّخذهم مطايا ضلال. فاستعار لهم لفظ المطايا باعتبار كونهم أسبابا موصلة إلى الضلال لمن اتّبعهم و اعتمد أقوالهم نيابة عن إبليس، و كانوا في ذلك المطايا الّتي يركبها الناس و يقودها في طرق الضلال. الرابع: كونهم جندا بهم يصول على الناس، و ذلك باعتبار كونهم جاذبين للخلق إلى طريقته داعين لهم إلى الهلاك الأبد من جهته.
الخامس: كونهم تراجمة ينطق على ألسنتهم. و لفظ التراجمة مستعار لهم باعتبار نطقهم بما يريده إبليس من الوساوس للناس فأشبهوا التراجمة له. ثمّ أشار إلى كيفيّات اتّخاذهم مطايا و جندا و تراجمة فمنها الاستراق لعقول الناس بالأقوال الكاذبة و الأفعال الباطلة و العادات المضلّة جذبا إلى محبّة الدنيا و باطلها و التفاتا لهم إليها عمّا لأجله خلقوا و إليه دعوا، و منها الدخول في عيونهم بزينة الحياة الدنيا أيضا و سائر ما يجذب إليها من جهة حسّ البصر، و منها النفث في أسماعهم و إلقاء الوساوس بالأقوال الواصفة للدنيا و باطلها و المنفّرة عن الآخرة و سائر ما يجذب عن الافق الأعلى من الجواذب السمعيّة. و انتصب استراقا و دخولا و نفثا على المصدر كلّ عن فعله: أى يسترق عقولكم استراقا. و كذلك الآخران.
و قوله: فجعلكم مرمى نبله
أى غرضا، و استعار لفظ النبل لجزئيّات وساوسه المردية لكلّ من أصابته إلى مهاوى الهلاك كما يردى النبل من رمى به، و لفظ المرمى باعتبار كونهم مقصد الوساوسة كالهدف، و كذلك استعار لهم لفظ الموطىء باعتبار كونهم مظنّة إذلاله و إهانته. و رشّح بذكر القدم إذ الموطىء يستدعى موطوءا به و هو القدم، و كذلك استعار لفظ المأخذ باعتبار كونهم مقتنصين في حبايل وساوسه، و رشّح بذكر اليد. إذ من شأن المأخوذ أن يكون أخذه باليد.
الفصل الثالث:
في أمرهم بالاعتبار بحال الماضين، و ما أصاب الامم المستكبرين منهم من بأس اللّه و صولاته و عقوباته و مصارعهم و بحال الأنبياء على جلاله قدرهم في التواضع لمن ارسلوا إليه من المتكبّرين، و حال اختبار اللّه تعالى خلقه بأحجار نصبها بيتا لعبادته اختبارا للمتواضعين له و تمييزا لهم من المستكبرين عن عبادته.
إلى غير ذلك، و ذلك قوله: فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ- مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ صَوْلَاتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلَاتِهِ- وَ اتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ- وَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ- كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ- لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ- وَ مَلائِكَتِهِ وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ- وَ رَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ- فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ- وَ عَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ- وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ- وَ كَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِينَ- قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَ ابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ- وَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَحَّصَهُمْ بِالْمَكَارِهِ- فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَا وَ السُّخْطَ بِالْمَالِ وَ الْوَلَدِ- جَهْلًا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ- وَ الِاخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى وَ الِاقْتِدَارِ وَ قَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ- نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ- بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ ع- عَلَى فِرْعَوْنَ وَ عَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ- وَ بِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ- بَقَاءَ مُلْكِهِ وَ دَوَامَ عِزِّهِ- فَقَالَ أَ لَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ- وَ بَقَاءَ الْمُلْكِ- وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَ الذُّلِّ- فَهَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرُ مِنْ ذَهَبٍ- إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ- وَ احْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ- وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ- حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ- وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ- وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَ وُحُوشَ الْأَرَضِ لَفَعَلَ- وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُ وَ اضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ- وَ لَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ- وَ لَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا- وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ- وَ ضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ- مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَ الْعُيُونَ غِنًى- وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَ الْأَسْمَاعَ أَذًى وَ لَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وَ عِزَّةٍ لَا تُضَامُ- وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ- لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ- وَ أَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ- وَ لَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ- فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَ الْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً- وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ- وَ التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ الْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ- وَ الِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَ الِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ- أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا يَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ وَ كُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَ الِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ- كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَ الْجَزَاءُ أَجْزَلَ أَ لَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ- الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ص إِلَى الْآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ- بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَ لَا تَنْفَعُ وَ لَا تَسْمَعُ- وَ لَا تُبْصِرُ فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً- ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً- وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً- وَ أَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً- بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَ رِمَالٍ دَمِثَةٍ- وَ عُيُونٍ وَشِلَةٍ وَ قُرًى مُنْقَطِعَةٍ- لَا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لَا حَافِرٌ وَ لَا ظِلْفٌ- ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ع وَ وَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ- فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَ غَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ- تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ- وَ مَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ- حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلًا- يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَ يَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ- شُعْثاً غُبْراً لَهُ قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ- وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ- ابْتِلَاءً عَظِيماً وَ امْتِحَاناً شَدِيداً- وَ اخْتِبَاراً مُبِيناً وَ تَمْحِيصاً بَلِيغاً- جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَ وُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ- وَ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ- أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ وَ مَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ- بَيْنَ جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ- جَمَّ الْأَشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ- مُلْتَفَّ الْبُنَى مُتَّصِلَ الْقُرَى- بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ وَ رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ- وَ أَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ- وَ رِيَاضٍ نَاضِرَةٍ وَ طُرُقٍ عَامِرَةٍ- لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ- وَ لَوْ كَانَ الْأَسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا- وَ الْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا- بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَ نُورٍ وَ ضِيَاءٍ- لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ- وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ- وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ- وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ- وَ يَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ- وَ يَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ- إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ- وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ- وَ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ- وَ أَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ فَاللَّهَ اللَّهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ- وَ آجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ- فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى- الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ- فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لَا تُشْوِي أَحَداً- لَا عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لَا مُقِلًّا فِي طِمْرِهِ- وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ- بِالصَّلَوَاتِ وَ الزَّكَوَاتِ- وَ مُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ- تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ- وَ تَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ- وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ- وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً- وَ الْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً- وَ لُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا- مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ- وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَ الْفَقْرِ انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ- مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ
اللغة
أقول:
المثلات: العقوبات.
و المثاوى: جمع مثوى و هو المقام.
و التكابر: التعاظم.
و التعفير: إلصاق الخدود بالعفر و هو التراب.
و المخمصة. المجاعة: و المجهدة: المشقّة.
و الإقتار: الفقر.
و الأساورة: جمع أسورة جمع سوار، و يجوز أن يكون جمع أساور، و قال أبو عمرو بن العلاء: هو جمع أسوار، و هو السوار.
و الذهبان: جمع ذهب كحزب لذكر الحبارى و حزبان.
و العقيان: خالص الذهب.
و اضمحلّ: فنى.
و الأنباء: الأخبار.
و الخصاصة: الجوع.
و الشوب: الخلط.
و الوعر بالتسكين: الصعب.
و النتائق: جمع نتيقة فعيلة بمعنى مفعولة، و النتق: الجذب، و سميت المدن و الأماكن المشهورة و المرتفعة نتائق لارتفاع بنائها و شهرتها و علوّها عن غيرها من الأرض كأنّها جذبت و رفعت.
و القطر: الجانب.
و الدمثة: الليّنة.
و الوشلة: قليلة الماء.
و المثابة: المرجع.
و المنتجع: اسم المفعول من الانتجاع و هو طلب الكلاء و الماء. و المفاوز: الفلوات الواسعة.
و القفار: جمع قفر و هى المفازة الّتي لا نبت فيها و لا ماء.
و سحيقة: بعيدة.
و الفجاج: جمع فجّ و هي الطريق الواسع بين الجبلين.
و يهلّلون: يرفعون أصواتهم بالتلبية، و الإهلال: رفع الصوت.
و الرمل بالتحريك: الهرولة: و الأشعث: أغبر الراس متفرّق الحال.
و النبذ: الإلقاء.
و السرابيل: القمصان.
و التشويه: تقبيح الخلقة.
و التمحيض: الابتلاء و الاختبار، و أصله التخليص و التمييز.
و المشاعر: مواضع المناسك.
و القرار: المستقرّ من الأرض.
و الجمّ: الكثير.
و البنى: جمع بنية- بالضمّ- .
و الأرياف: جمع ريف بالكسر، و هى الأرض ذات الزرع و الخصب.
و المحدقة: المحيطة.
و المغدقة: كثيرة الماء و الخصب.
و المعتلج: اسم المفعول من الاعتلاج و هو التغالب و الاضطراب، يقال: اعتلجت الأمواج: أى تلاطمت و اضطربت.
و فتحا: فعل بمعنى مفعولة: أى مفتوحة موسّعة، و كذلك ذللا مسّهلة.
و وخامة الظلم: و باره و سوء عاقبته.
و المصيدة- بكسر الميم- : الشبكة و ما يصاد به.
و المساورة: المواثبة.
و أكدى الحافر: إذا بلغ في حفره إلى موضع صلب لا يمكنه حفره.
و أكدت المطالب: إذا صعبت في وجه طالبها فعجز عنها.
و أشوت الضربة تشوى: إذا لم تصب المقتل، يقال: أشواه يشويه: إذا رماه فلم يصب مقتله.
و الطمر: الثوب الخلق.
و عتائق: جمع عتيقة و هى كرايم الوجوه و حسانها.
و القمع: الردّ.
و النواجم: الطوالع جمع ناجمة.
و القدع: الكفّ.
المعنى
و اعلم أنّه عليه السّلام أمرهم بأوامر:
أحدها: الأمر بالاعتبار بما أصاب المتكبّرين من سابق الامم من عقوبات اللّه
و وجه الاعتبار أن يفكّر العاقل في حال اولئك فيرى ما أصابهم إنّما هو بسبب استعدادهم بالاستكبار عن طاعة اللّه و الرفع على عباده كما أشار إليه تعالى قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ إلى قوله فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ«» و نحوه في القرآن كثير فينتقل ذهنه منه إلى نفسه و يقيس حال استكباره على استكبارهم فيما يلزمه من أمثال العقوبات بهم.
الثاني: أن يتّعظوا بمثاوى خدودهم و مصارع جنوبهم
أى يلحظوا مقاماتهم من التراب و محالّ انصراعهم في القبور ليحصل لهم بذلك الانزجار عن الكبر.
إذ كانت عاقبته و غايته ذلك الهوان و الذلّ في تلك المثاوى و المصارع.
الثالث: أن يستعيذوا باللّه من لواقح الكبر.
و استعار اللواقح لما يستلزم الكبر من أسبابه، و أراد استعاذة كثيرة خالصة كاستعاذتكم من طوارق الدهر و آفاته.
و قوله: فلو رخّص اللّه. إلى قوله: التواضع.
استدلال على تحريم الكبر مطلقا، و أنّه لا رخصة فيه لأحد من خلق اللّه بقياس شرطىّ متّصل، و وجه الملازمة فيه أنّ الأنبياء خواصّ اللّه و أحبّاؤه و أهل طاعته فلو كان له فيه رخصة لم يجعلها إلّا لهم، و تقدير الاستثناء فيه لنقيض التالى: لكنّه لم يرخّص فيه لهم فينتج أنّه لم يرخّص فيه لأحد من عباده، لكنّه حذف هنا استثناء النقيض و استثنى بعض لوازمه و هو تكريهه التكابر إليهم، و ذلك بوعيده للمستكبرين على الكبر. ثمّ برضى التواضع لهم، و ذلك بأمرهم فيه كما قال تعالى وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ«» و نحوه.
قوله: فألصقوا. إلى قوله: مستضعفين.
إشارة إلى امتثالهم لما أمرهم به من التواضع و موافقتهم له فيما رضيه لهم فإلصاق خدودهم بالأرض و تعفير وجوههم إشارة إلى معاملتهم له في عبادته مع أنفسهم و خفض أجنحتهم للمؤمنين، و كونهم أقواما مستضعفين إشارة إلى امتثالهم و معاملتهم له في خلقه، و لفظ الأجنحة مستعار من الطائر ليد الإنسان و جانبه باعتبار ما هو محلّ البطش و النفرة. و خفض الجناح كناية عن لين الجانب. و قال ابن عبّاس في قوله تعالى وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ أى ارفق بهم و لا تغلظ عليهم قال: و العرب تقول لمن كان ساكنا و قورا: إنّه خافض الجناح.
و قوله: قد اختبرهم. إلى قوله: بالمكاره.
إشارة إلى أنّه أعدّهم بأنواع الشقاوة الدنيويّة من الجوع و المشاقّ و المخاوف و المكاره، و التنفير بها عن الدنيا للإقبال عليه تعالى و محبّة ما عنده من الثواب الجزيل و قد علمت معنى ابتلائه تعالى لعباده و اختباره لهم غير مرّة.
و قوله: فلا تعتبروا الرضا و السخط بالمال و الولد إلى قوله: الاقتدار [الإقتار خ].
أى لا تعتبروا رضاه تعالى عن عباده بإعطائه لهم المال و الولد و سخطه عليهم بمنعه لهم ذلك. و كأنّه جواب اعتراض مقدّر كأنّ قائلا قال: فإذا كانوا هؤلاء خواصّه و أهل طاعته و رضاه فلم امتحنهم بالشدائد و ابتلاهم بالمخاوف و المكاره و لم يعطهم الأموال و الأولاد كما قال فرعون لموسى عليه السّلام: فلو لا القى عليه أساورة من ذهب، و كما قالت كفّار قريش: أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنّة تأكل منها فأجاب عليه السّلام بأنّ ذلك الوهم للجهل بمواقع الفتنة و الاختبار في مواضع الغنى و الإقتار: أى أنّ الاختبار كما يكون بالفقر و المشاقّ و المكاره كذلك يكون بالمال و الولد، و ليس المال و الولد من الخيرات الّتي تعجّل في الدنيا لمن يعطى إيّاهما كما يزعمون، و استشهد على ذلك بقوله تعالى أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ«» أى يحسبون أنّا نعجّل في تقديم ثواب أعمالهم لرضانا عنهم حتّى بسطناهم الرزق و أكثرنا لهم أولادهم بل لا يعلمون أنّ ذلك استدراج لهم من اللّه و محنة و بلاء. و جهلا نصب على المفعول له.
و قوله: فإنّ اللّه سبحانه يختبر عباده المستكبرين. إلى قوله: في أعينهم.
كلام منقطع يستدعى ابتداء يكون معلّلا به. و قد فصّل الرضىّ- رحمه اللّه- بينه و بين ما قبله بصفر لكنّه بيان لنوع آخر من ابتلاء اللّه تعالى عباده المستكبرين في أنفسهم و اختبارهم بأوليائه المستضعفين و هم الأنبياء في أعينهم: أى في أعين المتكبّرين و هو في معنى ما قبله، و فيه تنبيه على بعض أسراره تعالى في خلقه لسائر أنبيائه و أوليائه المستضعفين، و هو أن يبتلى بهم المستكبرين عن عبادته في أرضه كما سيشير إليه عليه السّلام في الحكمة في خلقهم كذلك. ثمّ ضرب مثل ذلك الابتلاء في موسى و هرون عليهما السّلام حين دخلا على فرعون يدعوانه إلى اللّه تعالى، و ذلك قوله: و لقد دخل. إلى قوله: و لبسه روى الطبرىّ في تاريخه: أنّ موسى و هرون قدما مصر حين بعثهما اللّه إلى فرعون فمكثا سنتين يغدوان على بابه و يروحان يلتمسان الإذن عليه فلا يعلم بهما و لا يجترى أحد أن يخبره بشأنهما و كانا يقولان في الباب: إنّا رسولا ربّ العالمين إلى فرعون حتّى دخل عليه بطّال له يلاعبه و يضحكه فقال: أيّها الملك إنّ ببابك رجلا يقول قولا عجيبا، و يزعم أنّ له إلها غيرك. فقال: أدخلوه. فدخل و بيده عصاه و معه أخوه هرون فقال: أنا رسول ربّ العالمين. و ذكر تمام الخبر و صريح قصّتهما و محاورتهما مستوفى في القرآن الكريم كسورة الشعراء و القصص و غيرهما، و الّذى ذكره عليه السّلام منها واضح بيّن، و قال كعب: كان موسى عليه السّلام من رجال شنوءة، و كان آدم طوالا، و كان أخوه هارون أطول منه و أكثر لحما و أشدّ بياضا و أغلظ ألواحا و أسنّ من موسى بثلاث سنين، و كانت في جبهة هرون شامة و في طرف أرنبة موسى شامة و على طرف لسانه شامة، و لم يعرف أحد قبله و لا بعده كذلك. قال: و هى العقده الّتي ذكرها اللّه تعالى. قال: و فرعون موسى هو فرعون يوسف عليه السّلام عمّر أكثر من أربع مائة سنة. و اسمه الوليد بن مصعب، و أنكر غيره ذلك. و قالوا: هو غيره. و قبض هارون قبل موسى و هو ابن مائة و سبع عشره سنة، و بقى موسى بعده ثلاث سنين، و مات موسى في سنّه يوم مات. فأمّا شرطهما له بقاء ملكه بإسلامه فلما علمته من كون النواميس الشرعيّة و التمسّك بها و العمل بقوانينها ناظما لحال أبناء النوع الإنسانىّ و سببا لصلاح معاشهم و معادهم. و بانتظام شمل مصلحتهم باستعمال تلك القوانين تكون بقاؤهم و ثبات دولهم و ملكهم و دوام عزّهم. فأمّا استبكاره لشرطهما له دوام العزّ و الملك بإسلامه و تعجّبه منهما في ذلك فمستنده اعتقاده الجهل أنّ مبدء التمكّن من ذلك الشرط و القدرة على الوفاء به هو الغنى و جمع المال فلذلك احتقرهما من حيث كانا بزىّ الفقر و الذلّ و لبس الصوف و ليس عليهما آثار الغنى و المال و هو التحلّى بأساورة الذهب. فكان إعظام الذهب و لبسه الّذي هو شعار الغنىّ و احتقار الصوف و لبسه ممّا هو شعار الفقر سببا حاملا له على ذلك الاستكبار و التعجّب.
و قوله: و لو أراد اللّه سبحانه لأنبيائه. إلى قوله: معانيها.
قياس إقترانىّ من الشكل الأوّل من متّصلتين: إحداهما: قوله: و لو أراد اللّه. إلى قوله: لفعل، و الثانية: قوله: و لو فعل لسقط البلاء. إلى آخره، و النتيجة أنّه لو أراد اللّه بأنبيائه ذلك لزمت المحالات المذكورة. بيان الملازمة في الصغرى أنّ الامور المعدودة و هى فتح كنوز الذهب و معادنه و مغارس الجنان و حشر الطير و الوحش امور ممكنة في أنفسها و اللّه سبحانه قادر على جميع الممكنات و عالم بها فلو حصل مع قدرته عليها إرادة وقوعها عن قدرته كان مجموعها مستلزما لوقوعها عنها، و أمّا الكبرى فإنّه جعل مقدّمتها و هو فعله لتلك الامور ملزوما لامور خمسة: أحدها: أنّه كان يسقط البلاء: أى ذلك البلاء المشار إليه و هو بلاء المتكبّرين بالمستضعفين من أولياء اللّه و هو ظاهر. إذ لا مستضعف يبتلون به إذن، و ذلك أنّ الأنبياء عليه السّلام كانوا ينقطعون إلى الدنيا حينئذ عن جناب اللّه فينقطع عنهم الوحى كما سيشير إليه عليه السّلام و حينئذ ينقطع الابتلاء بهم و بما أتوا به من التكليف، و كذلك يسقط بلاء الأنبياء بالفقر و الصبر على أذى المسكنة من المكذّبين لهم بالضرب و القتل. الثاني: و كان يبطل الجزاء: أى جزاء العبادات و الطاعات إمّا لسقوط البلاء بها أو لأنّ الطاعات إذن تكون عن رهبة أو رغبة فيسقط الجزاء الاخروىّ عليها و كذلك يبطل جزاء الأنبياء الّذي كانوا يسحقّونه بحسب فقرهم و صبرهم عليه. الثالث: و كان تضمحلّ الأنباء: أى الأخبار الواردة من قبل اللّه تعالى على ألسنة رسله و الوحى إليهم، و ذلك أنّك علمت أنّ الدنيا و الآخرة ضرّتان بقدر ما يقرب من إحداهما يبعد من الاخرى، و الأنبياء عليهم السّلام و إن كانوا أكمل الخلق نفوسا و أقواهم استعدادا لقبول الكمالات النفسانيّة كما أشرنا إليه إلّا أنّهم محتاجون أيضا إلى الرياضة التامّة بالإعراض عن الدنيا و طيّباتها و هو الزهد الحقيقىّ، و إلى تطويع نفوسهم الأمّارة بالسوء لنفوسهم المطمئنّة بالعبادة التامّة كما هو المشهور من أحوالهم عليهم السّلام فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يربط على بطنه الحجر من الجوع و يسمّيه المشبع لا لأنّه كان لا يقدر على شيء يأكله، و كان يرقع ثوبه لا لعدم قدرته على ثوب يلبسه، و كان يركب الحمار العارى و يردف خلفه لا لعجزه عن فرس يركبه و غلام يمشى معه، و كيف و قد توفّى و بيده هذه القطعة العظيمة من المعمورة، بل ذلك و أمثاله ممّا سيحكيه عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في آخر هذه الخطبة زهادة في الدنيا و إعراض عن متاعها و زينتها لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وجد من الكمالات العقليّة و الموعودة ما هو أشرف و أعلى من هذه الكمالات الحسيّة الفانية، و اعلم أنّ الوصول إلى تلك الكمالات لا يتمّ و لا يتحقّق إلّا بالإعراض عن هذه فرفض به ما هو أخسّ في جنب ما هو أشرف و لذلك قام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في العبادة حتّى تورّمت قدماه.
فقيل له: يا رسول اللّه أليس قد بشّرك اللّه بالجنّة فلم تفعل ذلك قال: أفلا أكون عبدا شكورا. و ذلك لعلمه أنّ الاستعداد بالشكر يفيد كمالا أعلى و أزيد ممّا اوتى.
و إذا كان حال أشرف الأنبياء و أكملهم كذلك فما ظنّك بسايرهم و حينئذ تعلم أنّ تركهم للدنيا و عدم اشتغالهم بها شرط في بلوغهم درجات الوحى و الرسالة و تلقّى أخبار السماء، و أنّهم لو خلقوا منغمسين في الدنيا و فتحت عليهم أبوابها فاشتغلوا بقيناتها لا نقطعوا إليها عن حضرة جلال اللّه و اضمحلّ بسبب ذلك عنهم الأنباء و انقطع عنهم الوحى و انحطّوا عن مراتب الرسالة، و قال بعض الشارحين: أراد باضمحلال الأنباء سقوط الوعد و الوعيد و الإخبار عن أحوال الجنّة و النار و أحوال القيامة. و هو لازم من لوازم سقوط النبوّة فيكون راجعا إلى ما قلناه. الرابع: و لكان لا يجب للقابلين اجور المبتلين: أى لقابلى كلام الأنبياء لأنّه إذا سقط البلاء عنهم لم يكن لهم أجر المبتلين، و كذلك لا يجب لقابلى النبوّة منهم اجور المبتلين بالتكذيب و الأذى. الخامس: و كان لا يستحقّ المؤمنون ثواب المحسنين إلى أنفسهم بمجاهدة الشيطان عنها و تطهيرها عن الرذائل و تحليتها بالفضائل، و ذلك لأنّ ايمانهم بهم يكون عن رغبة أو رهبة كما علمته لا عن حقيقة و إخلاص للّه. السادس: و لا لزمت الأسماء معانيها. روى بنصب الأسماء على أن تكون هى المفعول و معانيها الفاعل، و المعنى أنّه لم تكن المعاني لازمة الأسماء فيمن سمّى بها، مثلا من سمّى مؤمنا لا يكون معنى الإيمان الحقّ لازما لاسمه فيه. إذ كان إيمانه بلسانه فقط عن رغبة أو رهبة، و كذلك من سمّى مسلما أو زاهدا بل من سمّى نبيّا أو رسولا لا يكون في الحقيقة كذلك لانقطاع النبوّة و الرسالة عنه، و في نسخة الرضىّ- رحمه اللّه- برفع الأسماء، و المراد أنّها كانت تنفكّ عنها فتصدق الأسماء بدون مسمّياتها و هو كالأوّل. و ببيان هذه اللوازم ظهرت كبرى القياس. و النتيجة إذن متّصلة مقدّمها قوله: لو أراد اللّه. إلى قوله: الأرض، و تاليها قوله: لسقط البلاء. إلى قوله: معانيها، و حاصل النتيجة أنّه كان يلزم من إرادته تعالى بأنبيائه تلك الامور وقوع جميع هذه المفاسد. ثمّ يرجع البيان إلى استثناء نقيض تالى هذه النتيجة لاستثناء نقيض مقدّمها و هو أنّ هذه المفاسد لم توجد و ليست ممّا ينبغي أن توجد فلذلك لم يرد بهم تلك الامور.
و قوله: و لكنّ اللّه سبحانه جعل رسله. إلى قوله: أذى.
كاللازم لنقيض مقدّم النتيجة المذكورة ذكره بعد بيانه. إذ كان اللّه تعالى لمّا لم يرد بعث أنبيائه على ذلك الوجه أراد بعثهم على هذا الوجه، و هو أن جعلهم أصحا ب قوّة في عزائمهم و إجماع على إنفاذ ما امروا به و تبليغ رسالات ربّهم، و لذلك سمّوا أولى العزم لمضاء عزائمهم و قوّتهم في دين اللّه بالقتال و المجاهدة و الصبر على الأذى، و جعلهم مع ذلك ضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم من المسكنة و الذلّ و الفقر و القناعة و الصبر على العرى و الجوع. و استعار وصف الملأ للقناعة باعتبار استلزامها لقوّة غنائهم و قلّة حاجتهم إلى شيء من متاع الدنيا بحيث لا تميل نفوسهم و لا عيونهم إلى شيء من زينتها و قيناتها فكأنّها قد امتلأت فلا- تتّسع لشيء من ذلك فتطلبه، و كذلك للخصاصة باعتبار استلزامها لقوّة الأذى في أسماعهم و أبصارهم. إذ الجوع المفرط مستلزم لأذى هاتين القوّتين لتحلّل الأرواح الحاملة لهما و ضعفهما فكان الأذى حشو أبصارهم و أسماعهم بحيث لا يتّسع لغيره كلّ ذلك طلب لكمال الاستعداد لما علمت أنّ البطنة تذهب الفطنة و تورث القسوة و تزيل الرقّة و تستلزم رذائل كثيرة لا دواء لها إلّا بالخصاصة و القناعة فضيلة تحت العفّة.
و قوله: و لو كانت الأنبياء. إلى قوله: مقتسمة.
متّصلة اخرى هى كبرى قياس من الشكل الأوّل أيضا من متّصلتين مقدّم الصغرى منهما هو من مقدّم كبرى القياس الأوّل، و هو قوله: و لو فعل. و نبّه على تاليها بمقدّم هذه الكبرى، و تقدير الكلام: و لأنّه تعالى لو فعل بأنبيائه ما ذكرناه لكانوا أهل قوّة لا ترام و عزّة لا تضام و ملك تمتدّ نحوه الأعناق، و لو كانوا كذلك لكان في كونهم كذلك مفاسد اخرى فينتج أنّه لو فعل بأنبيائه ما ذكرناه للزمت مفاسد اخرى: أحدها: أنّه لكان ذلك أى ما حصلوا عليه من العزّ و الملك أهون على الخلق و أسهل من حيث إنّ اعتبارهم لما يدعوهم إليه أسهل و إجابتهم إلى دعوتهم أسرع. إذ كانت الملوك في اعتبار الخلق أهلا لأن يطاعوا فلا تصعب عليهم إجابتهم كما تصعب إجابة الفقراء على من يدعونه من المتكبّرين. الثاني: و أبعد لهم عن الاستكبار، و هو ظاهر لأنّ الملوك أبعد من أن يتكبّر عليهم الناس و يأنفوا من طاعتهم و حينئذ لم يكن للخلق ثواب من ترك رذيلة الكبر عن مجاهدة نفسه في ترك الرذيلة. الثالث: و لآمنوا عن رهبة قاهرة لهم. أى على الايمان أو رغبة مايلة بهم إليه فلم يكن نيّاتهم و لا حسناتهم خالصة للّه بل هى مشتركة و مقتسمة بعضها له و بعضها للرغبة و بعضها للرهبة، و حينئذ لا يكون لهم ثواب من جاهد إبليس فقهره و قمع نواجم وسوسته الجاذبة عن سبيل اللّه، و استعدّ بذلك للخيرات الباقية.
و قوله: و ملك تمتدّ نحوه أعناق الرجال، و تشدّ إليه عقد الرحال.
كنايتان عن قوّته و عظمته لأنّ الملك إذا كان عظيما قويت الآمال فيه و توجّهت نحوه و امتدّت أعناق الرجال إليه بالرجاء و شدّت عقد الرحال إليه.
و قوله: و لكنّ اللّه سبحانه. إلى قوله: شائبة.
كالمقدّمة لصغرى في بيان أنّ القسم الأخير من التالى ليس ممّا ينبغي أن يكون و يراد للّه تعالى. كأنّه قال لو جعل اللّه تعالى الأنبياء أهل الملك و العزّ لكان ايمان الخلق بهم إمّا لرغبة أو رهبة فكانت النيّات و الايمان و العبادة منهم مشتركة غير خالصة للّه و ذلك مفسدة ليس ممّا ينبغي أن تكون و لا أن تراد للّه تعالى لأنّه تعالى إنّما أراد أن يكون ايمانهم بالرسل و اتّباعهم و تصديقهم لما جاءوا به من كتبه و امروا به من الخشوع لوجهه و الاستكانة لأمره و الاستسلام لطاعته امورا له خاصّة لا يشوبها من غيرها شائبة رغبة و رهبة. و تقدير الكبرى: و كلّ ما أراد اللّه إخلاصه له فليس ممّا ينبغي أن يكون مشتركا بينه و بين غيره و لا مشوبا بشائبة غيره فينتج أنّ ايمانهم بأقسامه ليس ممّا ينبغي أن يكون مشتركا لشائبة رغبة أو رهبة.
و قوله: و كلّما كانت البلوى. إلى قوله: أجزل.
يحتمل أن يكون كبرى قياس بيّن به أنّ الأجزاء الثلاثة للتالى و هو قوله: لكان ذلك أهون. إلى آخره ليس ممّا ينبغي أن يكون، و تقدير البيان أنّ ذلك مستلزم كون الاعتبار معه أهون على الخلق و أن يكونوا معه أبعد عن الاستكبار و أن يؤمنوا عن رغبة أو رهبة و هذه الامور ليس ممّا ينبغي أن تكون. و إنّما قلنا ذلك لأن نقايضها و هي مشقّة الاعتبار على الخلق و قربهم من الاستكبار و خلوص إيمانهم للّه ممّا ينبغي أن يكون، و بيان ذلك أنّ مع هذه الامور يكون البلوى و الاختبار عليهم أعظم. و ذلك هو صغرى القياس. ثمّ نقول: و كلّما كانت البلوى و الاختبار لهم أعظم كانت المثوبة و الجزاء على الايمان و الطاعة موافقة لتلك البلوى أجزل فينتج أنّ مع مشقّة الاعتبار و القرب من الاستكبار و إخلاص الايمان تكون المثوبة لهم و الجزاء على الإيمان و الطاعة أجزل، و يحتمل أن يكون من تمام البيان الأوّل كأنّه قال: و لكنّه تعالى أراد أن تكون هذه الامور خالصة له لا يشوبها شائبة، و ذلك الإخلاص و إن كانت فيه مشقّة و كانت البلوى فيه عظيمة إلّا أنّه كلّما كانت البلوى أعظم كان الثواب فيها أجزل. ثمّ أردف ذلك بالتنبيه على صدق هذه المقدّمة بالمثال و ذلك قوله: أ لا ترون. إلى قوله: و وصلة إلى جنّته، و أراد بالأحجار الّتي بنى بها البيت الحرام.
قوله: جعله للناس قياما.
أى مقيما لأحوالهم في الآخرة. يقال: فلان قيام أهله و قوام بيته. إذا كانت به استقامة أحوالهم، و كون مكّة أقلّ بقاع الأرض مدرا لأنّ الحجريّة أغلب عليها. و إنّما أتى بالرمال الليّنة في معرض الذمّ لأنّها أيضا ممّا لا يزكو بها الدوابّ لأنّ ذوات الحافر ترسغ فيها و تتعب في المشى بها. قال الشارحون: و أراد بالخفّ و الحافر و الظلف دوابّها و هي الجمال و الخيل و الغنم و البقر مجازا إطلاقا لاسم الجزء على الكلّ أو على تقدير إرادة المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه، و أراد بكونها لا تزكو: أى لا تسمن و تزيد للجدب و خشونة الأرض، و الضمير في بها راجع إلى ما دلّ عليه أو عر من الموصوف فإنّه أراد بواد أوعر بقاع الأرض حجرا كما قال: إنّي أسكنت من ذرّيّتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرّم.
و قوله: ثمّ أمر آدم و ولده أن يثنوا أعطافهم نحوه
قد دلّ كلامه عليه السّلام على أنّ البيت الحرام كان منذ آدم عليه السّلام و التواريخ شاهدة بذلك. و قال الطبرى: روى عن ابن عبّاس أنّ اللّه تعالى أوحى إلى آدم لما اهبط إلى الأرض أنّ لى حرما حيال عرشى فانطلق فابن لى بيتا فيه ثمّ طف به كما رأيت ملائكتى تحفّ بعرشى فهنا لك استجيب دعاك و دعاء من تحفّ به من ذرّيّتك. فقال آدم: إنّي لست أقوى على بنيانه و لا اهتدى إليه. فبعث اللّه تعالى ملكا فانطلق به نحو مكّة فكان آدم كلّما رأى روضة أو مكانا يعجبه سأل الملك أن ينزل به هنالك لتبنى فيه فيقول له الملك: ليس هاهنا. حتّى أقدمه مكّة فبنى البيت من خمسة جبال طور سيناء و طور زيتون و لبنان و الجودىّ، و بنى قواعده من حرّاء. فلمّا فرغ من بنيانه خرج به الملك إلى عرفات و أراه المناسك كلّها الّتى يفعلها الناس اليوم، ثمّ قدم به مكّة و طاف بالبيت اسبوعا، ثمّ رجع إلى أرض الهند. و قيل: إنّه حجّ على رجليه إلى الكعبة أربعين حجّة. و روى عن وهب بن مبنّة أنّ آدم دعا ربّه فقال: يا ربّ أما لأرضك هذه عامر يسّبحك فيها و يقدّسك غيرى فقال له تعالى: إنّى سأجعل فيها من ولدك من يسبّح بحمدى و يقدّسنى، و سأجعل فيها بيوتا ترفع لذكرى يسبّحنى فيها خلقى و يذكر فيها اسمى، و سأجعل من تلك البيوت بيتا اختصّه بكرامتى و اوثره باسمى فاسميّه بيتى و عليه وضعت جلالتى و عظّمته بعظمتى، و أنا مع ذلك في كلّ شيء و مع كلّ شيء، أجعل ذلك البيت حرما آمنا يحرم بحرمته من حوله و ما حوله و من تحته و من فوقه فمن حرّمه بحرمتى استوجب كرامتى و من أخاف أهله فقد أباح حرمتى و استحقّ سخطى، و أجعله بيتا مباركا يأتيه بنوك شعثا غبر اعلى كلّ ضامر من كلّ فجّ عميق يزجّون بالتلبية زجيجا و يعجّون بالتكبير عجيجا، من اعتمده لا يريد غيره و وفد إلىّ و زارنى و استضاف بى أسعفته بحاجته، و حقّ على الكريم أن يكرم و فده و أضيافه. تعمره يا آدم ما دمت حيّا ثمّ تعمره الامم و القرون و الأنبياء من ولدك امّة بعد امّة و قرنا بعد قرن. ثمّ أمر آدم إلى أن يأتي البيت الحرام فيطوف به كما كان يرى الملائكة تطوف حول العرش. و بقى أساسه بعد طوفان نوح فبوّأه اللّه لإبراهيم فبناه. و لنرجع إلى المتن فنقول: إنّه كنّى بثنى أعطافهم نحوه عن التفاتهم إليه و قصدهم له.
و قوله: فصار مثابة لمنتجع أسفارهم.
أى مرجعا لما تنجع من أسفارهم: أى لطلب منه النجعة و الخصب كما قال تعالى وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً«» و كقوله تعالى لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ«» و ذلك أنّه مجمع الخلق و به يقام الموسم أيّام الحجّ فيكون فيه التجارات و الأرباح كما أشرنا إليه في الخطبة الاولى. و كذلك كونه غاية لملقى رحالهم: أى مقصدا.
و قوله: تهوى إليه ثمار الأفئدة.
أى تميل و تسقط. و هوى الأفئدة ميولها و محبّتها إلّا أنّه لمّا كان الّذي يميل إلى الشيء و يحبّه كأنّه يسقط إليه و لا يملك نفسه استعير لفظ الهوى للحركة إلى المحبوب و السعي إليه، و أمّا ثمار الأفئدة فقال بعض الشارحين: ثمرة الفؤاد سويد القلب. و لذلك يقال للولد: ثمرة الفؤاد. و أقول: يحتمل أن يكون لفظ الثمار مستعارا للخلق باعتبار أنّ كلّا منهم محبوب لأهله و آبائه فهو كالثمرة الحاصلة لأفئدتهم من حيث هو محبوب لهم كأنّ أفئدتهم و محبّتهم له قد أثمرته من حيث إنّها أفادت تربيته و العناية به حتّى استوى إنسانا كاملا، و يحتمل أن يريد بثمار الأفئدة الأشياء المجبيّة المعجبة من كلّ شيء كما قال تعالى يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ«» و وجه إضافتها إلى الأفئدة أنّها لمّا كانت محبوبة مطلوبة للأفئدة الّتي حصلت عن محبّتها كما تحصل الثمرة عن أصلها اضيفت إليها، و الإضافة يكفى فيها أدنى سبب و نحوه قوله تعالى رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ«» و لمّا استعار لفظ الهوى رشّح بذكر المهاوى إذ من شأن الهوى أن يكون له موضع. و عميقة صفة لفجاج كما قال تعالى يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ«» و وصف العمق له باعتبار طوله و الانحدار فيه من أعالى البلاد إلى مكّة، و وصف الجزائر بالانقطاع لأنّ البحر يقطعها عن سائر الأرض و البحار يحيط بها. و حتّى غاية من قوله: تهوى. بمعنى اللام، و كنّى بهزّ مناكبهم عن حركاتهم في الطواف بالبيت. إذ كان ذلك من شأن المتحرّك بسرعة. و ذللا: جمع ذلول. و النصب على الحال من الضمير في تهزّ. و قال بعضهم: يحتمل أن يكون من مناكبهم و كذلك موضع يهلّلون النصب على الحال و كذلك شعثا و غبرا من الضمير في يرملون. و كنّى بنبذهم للسرابيل وراء ظهورهم عن طرحها و عدم لبسها و تشويههم بإعفاء الشعور محاسن خلقهم لأنّ حلق شعر المحرم أو نتفه و التنظيف منه حرام تجب فيه الفدية. و ظاهر أنّ إعفاء الشعور يستلزم تقبيح الخلقة و تشويهها و تغيير ما هو معتاد من تحسينها بحلقه و إزالته.
و قوله: ابتلاء. و امتحانا. و اختبارا. و تمحيصا.
منصوبات على المفعول له. و العامل فيه قوله: أمر اللّه آدم، و يحتمل أن يكون على المصدر كلّ من فعله. و عدّد هذه الألفاظ و إن كانت مترادفة على معنى واحد تأكيدا و تقريرا لكون اللّه تعالى شدّد عليهم في البلوى بذلك ليكون استعدادهم بتلك القوى العظيمة للثواب أتمّ و أشدّ فيكون الجزاء لهم أفضل و أجزل فلذلك قال: جعله اللّه سببا لرحمته و وصلة إلى جنّته: أى سببا معدّا لإفاضة رحمة تستلزم الوصول إلى جنّته. و قد تأكّد بهذا المثال صدق قوله: و كلّما كانت البلوى و الاختبار أعظم كان الثواب أجزل. لأنّ اللّه سبحانه لمّا اختبر عباده بأمر الحجّ و مناسكه الّتي يستلزم شقاء الأبدان و احتمال المشاقّ الكثيرة المتعبة في الأسفار من المسافات البعيدة و ترك مفاخر الدنيا عنده و نزع التكبّر حتّى كأنّه لم يوضع إلّا لخلع التكبّر من الأعناق مع ما في جزئيّات مناسكه و مباشرته من المشاقّ المتكلّفة مع كونه كما ذكر أحجارا لا تضرّ و لا تنفع و لا تسمع و لا تبصر لا جرم كان الاستعداد به لقبول آثار اللّه و إفاضة رحمته أتمّ من أكثر وجوه الاستعدادات لسائر العبادات فكان الثواب عليه و الرحمة النازلة بسببه أتمّ و أجزل.
و قوله: و لو أراد اللّه. إلى قوله: ضعف البلاء.
صغرى قياس ضمير استثنائى حذف استثنائه. و هى نتيجة قياس آخر من متّصلتين تقدير صغراهما: أنّه لو أراد أن يضع بيته الحرام بين هذه المواضع الحسنة المبهجة لفعل، و تقدير الكبرى: و لو فعل لكان يجب منه تصغير قدر الجزاء على قدر ضعف البلاء، و تقدير استثناء هذه المتّصلة: لكنّه لا يجب منه ذلك و لا يجوز لأنّ مراد العناية الإلهيّة مضاعفة الثواب و بلوغ كلّ نفس غاية كمالها و ذلك لا يتمّ إلّا بكمال الاستعداد بالشدائد و الميثاق فلذلك لم يرد أن يجعل بيته الحرام في تلك المواضع لاستلزامها ضعف البلاء. و كنّى بدنوّ الثمار عن سهولة تناولها و حضورها، و بالتفاف البنى عن تقارب بعضه من بعض. و البرّة: واحدة البرّ و قد يقام مقام اسم الجنس فيقال: هذه برّة حسنة، و لا يراد بها الحبّة الواحدة و اعتبار السمرة لها لأنّ وصفها بعد الخضرة السمرة.
و قوله: و لو كان الأساس. إلى قوله: من الناس.
في تقدير قياس ضمير آخر استثنائى كالّذي قبله، و تلخيصه أنّه تعالى لو جعل الأساس المحمول عليها بيته الحرام بين هذه الأحجار المنيرة المضيئة لخفّف ذلك مسارعة الشكّ في الصدور. و أراد شكّ الخلق في صدق الأنبياء و عدم صدقهم و شكّهم في أنّ البيت بيتا للّه أو ليس. فإنّه على تقدير كون الأنبياء عليهم السّلام بالحال المشهورة من الفقر و الذلّ و كون البيت الحرام من هذه الأحجار المعتادة يقوى الشكّ في كونهم رسلا من عند اللّه و في كون البيت بيتا له، و على تقدير كونهم في الملك و العزّ و كون البيت من الأحجار النفيسة المذكورة ينتفي ذلك الشكّ.
إذ يكون ملكهم و نفاسة تلك الأحجار من الامور الجاذبة إليهم و الداعية إلى محبّتهم و المسارعة إلى تصديقهم و الحكم بكون البيت بيت اللّه لمناسبته في كماله ما ينسبه الأنبياء إلى اللّه سبحانه من الوصف بأكمل طرفي النقيض و لكون الخلق أميل إلى المحسوس، و استعار لفظ المسارعة هنا للمغالبة بين الشكّ و صدق الأنبياء و الشكّ في كذبهم فإنّ كلّا منهما يترجّح على الآخر و كذلك كان وضع مجاهدة إبليس عن القلوب لأنّ الايمان بكونه بيتا للّه ينبغي حجّه و القصد إليه لا يكون عن مجاهدة إبليس في تصديق الأنبياء في ذلك و في وجوب عبادة اللّه بل لعزّة البيت و حسن بنيانه و ميل النفوس إلى شريف جواهره لكن هذه الامور و هى مسارعة الشكّ و مجاهدة إبليس و معتلج الريب لا تخفّف و لا تنتفى لكونها مرادة من الحكمة الإلهيّة لإعداد النفوس بها لتدرك الكمالات الباقية و السعادات الدائمة فلذلك لم- يجعل تعالى بنيان بيته من تلك الأحجار النفيسة.
و قوله: و لكنّ اللّه يختبر عباده. إلى قوله: المكاره.
استثناء لعلّة النقائض المذكورة فيقوم مقام استثناء مسارعة الشكّ و مجاهدة إيليس من جملة أنواع الشدائد و ألوان المجاهد و المشاقّ و اختباره لعباده بها علّة لوجودها.
و قوله: إخراجا للتكبّر. إلى قوله: لعفوه.
إشارة إلى كونها أسبابا غائيّة من العناية الإلهيّة لإعداد النفوس لإخراج الكبر منها و إفاضة ضدّه و هو التذلّل و التواضع عليها و إلى كونها أسبابا معدّة لفضله و عفوه، و استعار لفظ الأبواب لها باعتبار الدخول منها إلى رضوان اللّه و ثوابه. و لفظ الذلل لكون الدخول منها إلى ذلك سهلا للمستعدّين لها. ثمّ عاد إلى التحذير من اللّه تعالى في البغى و الظلم و عاقبته. و حاصل الكلام أنّه جعل عاجل البغى و آجل الهلاك عنه و سوء عاقبة الكبر محلّا للحذر من اللّه تعالى و ذلك باعتبار وعيده تعالى عند التلبّس بالبغى و النظر في تلك الحال إلى ما يستلزم من الهلاك في الآخرة و ما يستلزمه التكبّر من سوء العاقبة. و الضمير في قوله: فإنّها قال السيّد فضل اللّه الراوندى- رحمه اللّه- : يعود إلى الجملة من البغى و الظلم و الكبر و إن لم يجر لها ذكر. و قال غيره: الضمير للكبر و إنّما أنّثه باعتبار جعله مصيدة باعتبار أنّه يصير الداخل فيه من حزب إبليس و في قبضته كالشبكة و حبائل الصايد.
و وصفها بالعظم باعتبار قوّته و كثرة ما يستلزمه من الرذائل، و كذلك استعار له لفظ المكيدة الكبرى باعتبار ما هو سبب قوىّ في جذب الخلق إلى الباطل و ضلالهم عن طريق اللّه كالحيلة و الخدعة، و استعار وصف المساورة له باعتبار مواثبته النفوس و مغالبته لها بالكبر و ذلك أنّه تارة يلقى إليها تحسين الكبر و تزيينه فتنفعل عنه و تقبل الكبر و تلك هى الوثبة من جانبه. و تارة تقوى النفس عليه فتردّ وسوسته بقهره و تلك الوثبة من قبلها. ثمّ شبّه مساورته للقلوب بالكبر بمساورة السموم القاتلة للطبيعة البدنيّة، و كنّى عن وجه الشبه بقوله: فما تكدى أبدا و لا تشوى أحدا: أى إنّ مساورته بالكبر لا تكاد يقابلها ما يقاومها من العقول و يمنع تأثيرها في النفوس كما لا يكاد يقاوم مواثبة السموم القاتلة من طبايع الحيوان و لا تكاد تخطىء المقاتل كما لا يخطىء السموم و حركاتها في الأبدان مقاتلها. و يحتمل أن يكون وجه الشبه كون مساورته غالبة قويّة كمشاورة السموم للأبدان، و يكون قوله: لا تكدى أبدا و لا تشوى أحدا استعارتين لوصفى السمّ الّذي لا يكاد يقف دون المقاتل و لا يخطئها لتلك المساورة باعتبار أنّها لا يخطىء رميتها القلوب بسهام الكبر و البغى و ساير ما يلقى من الوساوس المهلكة.
و قوله: لا عالما لعلمه و لا مقلّا في طمره.
أى أنّ هذه الرذيلة تؤثّر في نفس العالم في علمه و الفقير في فقره فلا يردّها العالم بعلمه أنّها رذيلة و لا المقلّ المفتقر في طمره لمنافاة حاله في قلّته و فقره الكبر.
و قوله: و عن ذلك ما حرس اللّه. إلى قوله: تذلّلا.
تنبيه على الامور الّتي حرس اللّه تعالى بها عبادة من هذه الرذيلة و جعلها أسبابا للتحرّز من نزغات الشيطان بها، و أشار إلى ثلاثة منها و هى الصلوات و الزكوات و مجاهدة الصيام في الأيّام المفروض صومها. أمّا الصلوات فلكونها بأجزائها و أوضاعها منافية للكبر. إذ كان مدارها على تضرّع و خضوع و خشوع و ركوع.
و كلّ واحد من هذه الأجزاء بكيفيّاته و هيئاته موضوع على المذلّة و التواضع و الاستسلام لعزّة اللّه و عظمته و تصوّر كماله و تذكّر وعده و وعيده و أهوال الموقف بين يديه و كلّ ذلك ينافي التكبّر و التعظّم، و إلى ذلك أشار بقوله: تسكينا لأطرافهم و تخشّعا لأبصارهم. إلى قوله: تصاغرا، و نصب تسكينا و تخشيعا و تذليلا و تخفيضا و إذهابا على المفعول له، و العامل ما دلّ عليه قوله: حرس. من معنى الأمر: أى حرسهم بهذه و أمرهم بكذا و كذا. و انتصب تواضعا و تصاغرا، و العاملان المصدران: تعفير، و التصاق.
فأمّا الزكاة فوجه منفعتها في دفع هذه الرذيلة أمران: أحدهما: أنّها شكر للنعمة الماليّة كما أنّ العبادات البدنيّة شكر للنعمة البدنيّة، و ظاهر أنّ شكر النعمة مناف للتكبّر عن المنعم و الاستنكاف عن عبادته. الثاني: أنّ من أوجبت عليه الزكاة يتصوّر قدرة موجبها و سلطانه و قهره على إخراجها فينفعل عن حكمه و ينقهر تحت أوامره مع تصوّره لغنائه المطلق و ذلك مناف لتكبّره و استنكافه عن عبادته. و أمّا مجاهدة الصيام فلما فيها من المشقّة الشاقّة و مكابدة الجوع و العطش في الأيّام الصيفيّة كما كنّى عنه عليه السّلام بقوله: و إلصاق البطون بالمتون من الصيام. و الإنسان في كلّ تلك الأحوال متصوّر لجلال اللّه و عظمته و أنّه إنّما يفعل ذلك امتثالا لواجب أمره و خضوعا تحت عزّ سلطانه، و ذلك مناف للكبر و الترفّع، و قد علمت ما في الصوم من كسر النفس الأمّارة بالسوء كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الشيطان ليجرى من ابن آدم مجرى الدم فضيّقوا مجاريه بالجوع، و ذلك أنّ وسيلة الشيطان هى الشهوات و مبدء الشهوات و قوّتها مداومة الأكل و الشرب. و بتضييق مجاريه ينقهر و ينكسر نواجم وسوسته بالرذائل عن العبد، و يسكن حركات الأطراف الّتى مبدءها تلك الوساوس، و تخشع الأبصار، و تذلّ النفوس، و تنخفض القلوب.
و قوله: مع ما في الزكاة. إلى قوله: الفقير.
إشارة إلى سرّ آخر من أسرار الزكاة و هو ظاهر. و قد ذكرنا أسرارها مستقصاة في الفصل الّذي أوّله: إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون.
قوله: انظروا. إلى آخره.
أمر باعتبار ما في هذه الأفعال: أى الّتي تقع في الصلاة و الزكاة و الصيام من تعفير عتائق الوجوه و إلصاق كرائم الجوارح و هى الأيدى و الأرجل و لحوق البطون بالمتون إلى غير ذلك من الأفعال المستلزمة للتواضع و التذلّل تأكيدا لما قرّره أوّلا من كون هذه العبادات حارسة لعباد اللّه عن رذيلة الكبر. و باللّه التوفيق.
الفصل الرابع:
في توبيخهم على المعصية
من غير سبب يعرف أو حجّة يقبلها عقل، و أمرهم بالتعصّب لمحامد الأخلاق و مكارمها، و تحذيرهم من العقوبات النازلة بمن قبلهم من الامم و النظر في عاقبة أمرهم، و غير ذلك من الامور الواعظة.
و ذلك قوله: وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ- يَتَعَصَّبُ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّةٍ- تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلَاءِ- أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ- فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لَا عِلَّةٌ- أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ- وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ- فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَ أَنْتَ طِينِيٌّ- وَ أَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ- فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ- فَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً- وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ- فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ- فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ- وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ- الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ- مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ القَبَائِلِ- بِالْأَخْلَاقِ الرَّغِيبَةِ وَ الْأَحْلَامِ الْعَظِيمَةِ- وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ وَ الْآثَارِ الْمَحْمُودَةِ- فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ- وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ الطَّاعَةِ لِلْبِرِّ- وَ الْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ- وَ الْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ- وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ الْكَظْمِ لِلْغَيْظِ- وَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَ احْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ- مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ وَ ذَمِيمِ الْأَعْمَالِ- فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَ الشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ- وَ احْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ- فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ- فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ- وَ زَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ- وَ مُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ- وَ انْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ- مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَ اللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ- وَ التَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَ التَّوَاصِي بِهَا- وَ اجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ- مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ الصُّدُورِ- وَ تَدَابُرِ النُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ الْأَيْدِي وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ- كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ وَ الْبَلَاءِ- أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلَائِقِ أَعْبَاءً- وَ أَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً وَ أَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالًا- اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ- وَ جَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَ قَهْرِ الْغَلَبَةِ- لَا يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ وَ لَا سَبِيلًا إِلَى دِفَاعٍ- حَتَّى إِذَا رَأَى اللَّهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ- وَ الِاحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ- جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلَاءِ فَرَجاً- فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ وَ الْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ- فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَ أَئِمَّةً أَعْلَاماً- وَ قَدْ بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ الْآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً- وَ الْأَهْوَاءُ مُتَّفَقَةً وَ الْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً- وَ الْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَ السُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً- وَ الْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَ الْعَزَائِمُ وَاحِدَةً- أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ- وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ- فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ- حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ- وَ اخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَ الْأَفْئِدَةُ- وَ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ- وَ قَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ- وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ- وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ- عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ مِنْكُمْ فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ- وَ بَنِي إِسْحَاقَ وَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ع- فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ- تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ- لَيَالِيَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ وَ الْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ- يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الْآفَاقِ وَ بَحْرِ الْعِرَاقِ- وَ خُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ- وَ مَهَافِي الرِّيحِ وَ نَكَدِ الْمَعَاشِ- فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ- أَذَلَّ الْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً- لَا يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍ يَعْتَصِمُونَ بِهَا- وَ لَا إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا- فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَ الْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ- وَ الْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ- فِي بَلَاءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ- مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ- وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا- فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ- كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا- وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا- وَ الْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا- فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ- وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ- قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ- وَ آوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ- وَ تَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ- فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ- وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الْأَرَضِينَ- يَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ- وَ يُمْضُونَ الْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ- لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ أَلَا وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ- وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ- فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَةِ- الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا- بِنِعْمَةٍ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً- لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ- وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً- وَ بَعْدَ الْمُوَالَاةِ أَحْزَاباً- مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ- وَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ- تَقُولُونَ النَّارَ وَ لَا الْعَارَ- كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ- انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ- حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ- وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ- ثُمَّ لَا جَبْرَائِيلُ وَ لَا مِيكَائِيلُ- وَ لَا مُهَاجِرُونَ وَ لَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ- إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ- وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ الْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ- وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ- فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلًا بِأَخْذِهِ- وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ- إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ- فَلَعَنَ اللَّهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي وَ الْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِي أَلَا وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الْإِسْلَامِ- وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ
اللغة
أقول:
التمويه: التلبيس.
و تليط: تلتصق و تختلط.
و السفه: خفّة العقل.
و المجداء: جمع ماجد و هو كريم الآباء و شريفهم.
و النجداء: جمع نجيد، و هو دو النجدة و هى فضيلة تحت الشجاعة.
و يعاسيب القبايل: ساداتها.
و زاحت: بعدت.
و التحاضّ: التحاثّ و الفقرة: الواحدة من خرزات الظهر.
و روى فقرهم: جمع فقرة.
و المنّة: القوّة.
و التضاغن: التحاقد.
و التشاحن: التعادى.
و التدابر: التقاطع.
و التخاذل: عدم التناصر.
و العبء: الحمل.
و أجهد: أشقّ.
و سمته كذا: أوليته إيّاه.
و المرار بضمّ الميم: شجر مرّ إذا أكلت منه الإبل قلصت عنه مشافرها.
و الترادف: التعاضد و التعاون.
و غضارة النعمة: طيبها.
و الاحتياز: الاقتطاع عن الشيء و الأخذ عنه.
و الريف: الأرض ذات الزرع و الخصب.
و مها في الريح: جمع مهفاة و هى محلّ هفو الريح: أى حركتها و هبوبها.
و نكد المعاش: قلّته و شدّته و العالة: جمع عائل و هو دو العيلة و هى الفقر.
و الدبر: الجرح في ظهر البعير.
و الوتر: الحقد.
و في بعض النسخ: دبر و وبر.
و الأزل: الضيق.
و الموءودة: البنت تدفن في التراب حيّة.
و شنّ الغارة: فرّقها من كلّ جانب.
و الفكه: طيّب النفس المسرور، و الفكه: الأشر البطر.
و تربّعت: أقامت.
و أصله الإقامة في الربيع، و يحتمل أن يريد تمكّنت كالمتربّع بجلسته المخصوصة بكونها ذات تمكّن.
و الذرى: جمع ذروة و هى أعلى الجبل.
و عطف عليه و تعطّف: إذا أشفق عليه و التفت إليه بإحسانه.
و الخطر: المنزلة و القدر.
و الأعراب: سكّان البادية.
و إكفاء الإناء: قلبه لوجهه.
و انتهاك الحرمة: أخذها بما لا يحلّ.
و المقارعة: المضاربة.
المعنى
فقوله: و لقد نظرت. إلى قوله: بمعذّبين.
فقوله: و لقد نظرت. إلى قوله: بمعذّبين.
في معرض التوبيخ لهم على تعصّبهم الباطل الّذي تثور به الفتن مع أنّه ليس لأمر يعرف من وجه المنفعة و المصلحة الحاملة عليه. و لفظ إلّا يقتضى حصر وجدانه لمن يتعصّب لشيء في وجدانه له متعصّبا عن علّة تحتمل تشبيه الأمر على أهل الجهل بحيث يظنّ سببا صحيحا للتعصّب أو عن حجّة ملتصق بعقول السفهاء فيقبلها، و هذا هو مقتضى العقل. إذ كان الترجيح من غير مرجّح محال في بداية العقول. و تقدير الكلام: فما وجدت أحدا يتعصّب إلّا وجدته يتعصّب عن علّة.
و قوله: غيركم.
استثناء من معنى الإثبات في الجملة المفيدة للحصر كأنّه قال: وجدت كلّ أحد يتعصّب عن علّة إلّا أنتم.
و قوله: تتعصّبون لأمر ما يعرف له سبب و لا علّة.
أي سبب يحتمل التموية على الجهلاء و علّة ملتصق بعقول السفهاء و لم يرد نفى مطلق السبب. إذ سبب تعصّبهم و ثوران الفتنة بينهم هو الاعتزاء الّذي كان بينهم و كان يقع من جهّالهم كما ذكرناه في سبب الخطبة لكنّه ترك الوصف هنا لتقدّمه. ثمّ أخذ في تفصيل وجوه العصبيّة و أسبابها فبدء بذكر مبدء العصبيّة لإبليس. و سبب عصبيّته لأصله اعتقاده لطف جوهره و شرفه. إذا لنار أشرف من الطين مع جهله بسرّ البشريّة و وضع آدم على هذه الخلقة و خلقته الّتي وضع عليها خلقه فلذلك فضّل نفسه قياسا للفرع على الأصل في الشرف و الخسّة فقال: أنا نارىّ و أنت طينىّ. و لذلك قيل: إنّ أوّل من قاس إبليس. ثمّ بعصبيّة الأغنياء و الجهّال من مترفة الامم لكونهم تلامذه إبليس في العصبيّة، و أشار إلى علّة تعصّبهم و هى آثار مواقع النعم، و مواقعها هى الأموال و الأولاد و سائر ما ينتفع به كما قال تعالى حكاية عنهم نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً«» و آثار تلك المواقع هى الغنى و الترفّه بها و التنعّم و الالتذاذ، و كان تعصّبهم لذلك و فخرهم به. و يجب أن يعلم أنّ الأموال و الأولاد أنفسها ليست نعما مطلقا لأنّ النعمة من الامور الإضافيّة إنّما يقال بالنسبة إلى منعم و منعم عليه و ليس المال مطلقا كذلك و لا الولد باعتبار ذاته بل إنّما يطلق عليهما لفظ النعمة باعتبار انتفاع الإنسان بهما حتّى لو كانا سببا لهلاكه و أذاه لم يكونا بذلك الاعتبار إلّا نعمة عليه و فتنة له فلذلك جعلها مواقع النعم: أى محالّ قابلة لكونها نعما، و يحتمل أن يريد بالنعم الأموال و الأولاد و بمواقعها وقوعها فإنّه كثيرا ما يريد بمفعل المصدر و آثارها هى الغنى و الترفّه كما قدّمناه.
ثمّ لمّا وبّخهم على التعصّبات الباطلة نبّههم على مواقع العصبيّة و ما ينبغي أن يكون له و هى مكارم الأخلاق و محامد الأفعال و محاسن الامور الّتي تفاضلت فيها أهل المجد و الشرف و النجدة من بيوتات العرب و سادات القبائل. و الباء في قوله: بالأخلاق. متعلّقه بتفاضلت فإنّ المذكورين تفاضلوا في محاسن الامور بالأخلاق الرغيبة: أى المرغوب فيها، و قد علمت فيما سبق اصول الأخلاق الفاضلة و ما تحتها من أنواعها، و الحلم ملكة تحت الشجاعة و هى الإناءة و الرزانة عند الغضب و موجباته و المفاضلة بالأخطار الجليلة مراعاتا للمراتب المحمودة و منازل الشرف بالمحافظة على تلك الأخلاق المحمودة و ملازمتها، و كذلك المفاضلة بالآثار المحمودة يعود إلى ملازمة الأفعال الجميلة الموافقة للأخلاق النفسانيّة كفعل البذل عن السخاء و كقتل القريب مثلا مراعاة للعدل و الوفاء. ثمّ أمرهم بعد التنبيه على تلك المكارم بالعصبيّة لها فقال: فتعصّبوا لخلال الحمد. و أشار إلى تفصيلها: فمنها: حفظ الجوار و هى فضيلة تتشعّب عن فضيلتين لأنّ حفظه يكون بالكفّ عن أذاه و ذلك فضيلة تحت العدل، و يكون بالإحسان إليه و مصادقته و مسامحته و مواساته و تلك امور تحت العفّة. و منها: الوفاء بالذمام و هو تحت العفّة. و منها: الطاعة للبرّ و الأولى أن يريد بالبرّ هنا ما أراد به القرآن الكريم بقوله لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ. إلى قوله لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا و لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى«». فإنّ المراد في هاتين القرينتين بالبرّ كمال الايمان و التقوى و الأعمال الجميلة، و معنى طاعة البرّ التلبّس بهذه الأفعال و ملازمتها و اعتقاد وجوبها، و يحتمل أن يريد و الطاعة للأمر بالبرّ فحذف الأمر للعلم به. و قد يطلق البرّ و يراد به العفّة و بذلك الاعتبار يقابله الفجور، و يحتمل أن يريد هاهنا ما يقابل العقوق و هو الشفقّة على ذوى الرحم و الإحسان إلى الوالدين، و هو داخل تحت العفّة. و منها: المعصية للكبر و المراد بمعصية الكبر مجانبته مجازا إطلاقا لاسم السبب على المسبّب أو معصية الأمر بالكبر و هو كناية عن التواضع و هو فضيلة تحت العفّة، و المعصية هنا في مقابلة الطاعة. و منها: الأخذ بالفضل و أراد استكمال الفضيلة و لزومها، و يحتمل أن يريد بالفضل التفضّل على الغير و الإحسان إليه و الأخذ به فيكون أمرا بالإحسان و الجود و هو فضيلة تحت العفّة. و منها: الكفّ عن البغى و يعود إلى فضيلة العدل. و منها: تعظيم القتل و هو كناية عن تركه لما يستلزمه من رذيلة الظلم ثمّ للوعيد عليه في الآخرة و يعود إلى فضيلة العدل أيضا، و كذلك الانصاف للخلق هو لزوم العدل في معاملاتهم. و منها: كظم الغيظ و هو فضيلة تحت فضيلة الشجاعة. و منها: اجتناب الفساد في الأرض و هو من لوازم فضيلة العدل. ثمّ لمّا أمر بلزوم مكارم الأخلاق و الأعمال الجميلة أردفه بالتنفير عن الكون على ذلك من رذائلها و ذمائمها، و ذلك التنفير بتذكير السامعين حال الامم الماضين و ما أصابهم من عقوبات اللّه بسبب سوء أفعالهم و ذميم أعمالهم، و تحذيرهم أن يرتكبوا تلك الرذائل فيصيبهم ما أصاب اولئك من بأس اللّه. و أمرهم أن يتذكّروا حالهم في الخير أوّلا حين كانوا في طاعة أنبيائهم و الالفة الجامعة بينهم و حالهم في الشرّ الّتي انقلبوا إليها عن تلك الحال حين خالفوا صالح الأعمال و حالفوا ذميم الأفعال، و حذّرهم أن يكونوا أمثالهم: أى في ذلك الانقلاب و استبدال الشرّ بالخير و أن يلزموا عند تفكّرهم في تفاوة حاليهم كلّ أمر لزمت العزّة به حالهم و أزالت الأعداء عنهم و مدّت العافية فيه بهم. و الباء للاستصحاب: أى مدّت مستصحبة لهم. و في نسخة الرضى- رحمه اللّه- و مدّت بالفتح على البناء للفاعل كقولك مدّ الماء: أى جرى و سال. و كذلك انقادت النعم لذلك الأمر معهم: أى بسببه. إذ كان سببا معدّا لإفاضة النعم عليهم، و وصلت الكرامة عليه حبلهم. و استعار لفظ الوصل لاجتماعهم عن كرامة اللّه لهم حال كونهم على ذلك الأمر، و رشّح بذكر الحبل.
و قوله: من الاجتناب. إلى قوله: و التواصى بها.
و قوله: من الاجتناب. إلى قوله: و التواصى بها. و ظاهر أنّ لزوم الالفة سبب للامور الّتي عددّها.
و قوله: و اجتنبوا. إلى قوله: و تخاذل الأيدى.
و قوله: و اجتنبوا. إلى قوله: و تخاذل الأيدى. أى و اجتنبوا كلّ أمر استبدلوا به تلك الامور الّتي أوجبت لهم العزّة و الكرامة و كان سببا لكسر فقرتهم و وهن قوّتهم و هو التضاغن و التشاحن و التقاطع و التخاذل لأنّها امور تضادّ الالفة و تنافيها فكانت مضادّة لما يستلزمه الالفة، و أراد التخاذل المطلق. و إضافته إلى الأيدى كناية لأنّ الأغلب أن يكون التناصر بالأيدي، و هؤلاء الّذين أمر باعتبار حالهم لا يريد بهم امّة معيّنة بل الحال عامّ في كلّ امّة سبقت فإنّ كلّ امّة ترادفت أيديهم و تعاونوا و تناصروا كان ذلك سببا لعزّة حالهم و دفع الأعداء عنهم، و كلّ قوم افترقوا و تقاطعوا استلزم ذلك ذلّهم و قهر الأعداء لهم.
و قوله: و تدبّروا أحوال الماضين من المؤمنين. إلى قوله: إليه بهم.
أمر لهم باعتبار هذه الأحوال فيمن هو أخصّ و هم المؤمنون من الماضين في أزمان الأنبياء السابقين فإنّهم حيث كانوا مع كلّ نبىّ في مبدء أمرهم في حال التمحيص و الاستخلاص لقلوبهم بالبلاء أثقل أهل الأرض أعباء قد اتّخذتهم الفراعنة عبيدا يسومونهم سوء العذاب و هؤلاء كيوسف عليه السّلام مع فرعون زمانه، و كموسى و هرون و من آمن معهما من بني إسرائيل في مبدء أمرهم فإنّهم كانوا حال التمحيص و البلاء بالصفات الّتي ذكرها عليه السّلام قد اتّخذتهم الفراعنة عبيدا يسومونهم سوء العذاب و يجرّعونهم المرار فلم يزالوا كذلك مقهورين حتّى إذا رأى استعدادهم بالصبر على دينه لإفاضة رحمته عليهم أفاضها عليهم و جعل لهم من مضايق البلاء فرجا فأبدلهم بالعزّ مكان الذلّ و الأمن مكان الخوف كما امتنّ عليهم تعالى في كتابه حيث قال وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ«» الآية. و قبل ذلك ما كان المؤمنون مع نوح عليه السّلام و إبراهيم عليه السّلام و غيرهما. فأمّا كونهم ملوكا و حكّاما و أئمّة أعلاما و بلوغهم الكرامة من اللّه لهم ما لم يذهب آمالهم إليه فإنّ موسى عليه السّلام و هرون عليه السّلام بعد هلاك فرعون ملكا مصر و استقرّ لهما الملك و الدين و كطالوت و داود بعد مجاهدتهما بجالوت و قتله، و ذلك أنّ طالوت لمّا جاوز النهر هو و من معه لقتال جالوت كان معه داود عليه السّلام فرماه من مقلاعه بحجر فقتله و انكسر أصحابه فكان الملك و الغلبة لطالوت و أصحابه و كان الملك بعده لداود عليه السّلام كما قال تعالى وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ«» و كذلك لم يزل الملك و النبوّة في سليمان و ولده و أولادهم إلى الأعرج من ولده فطمعت الملوك في بيت المقدس لضعفه و زمنه و أنّه لم يكن نبيّا فسار إليه ملك الجزيرة و كان يسكن بريّة سنجار و كان بخت نصر كاتبه فأرسل اللّه تعالى عليه ريحا فأهلكت جيشه و أفلت هو و كاتبه فقتله ابنه فغضب له بخت نصر فاغترّه حتّى قتله و ملك بعده و كان ذلك أوّل ملك بخت نصر.
و قوله: فانظروا كيف كانوا. إلى قوله: للمعتبرين منكم.
أمر لهم باعتبار حالهم في الفتهم و اجتماعهم، و إشارة إلى أنّ المستلزم لتلك الخيرات كلّها إنّما كان هو الالفة و الاجتماع و باعتبار ما صاروا إليه في آخر امورهم حين وقعت الفرقة بينهم و تشتّت الفتهم و اختلفت كلمتهم و أفئدتهم فخلع اللّه عنهم لباس كرامته و سلبهم غضارة نعمته و بقى قصص أخبارهم عبرة للمعتبرين، و هو إشارة إلى أنّ المستلزم لتلك الشرور هو ما حصلوا عليه من تفرّق الكلمة و ذلك صادق على كلّ قرن قرن و امّة امّة آمنوا و لحلقتهم المجاهد من الفراعنه و الجبابرة ثمّ صبروا فانتصروا على أعدائهم. و أراد باعتدال القلوب استقامتها على الحقّ.
و قوله: و السيوف متناصرة.
قال بعضهم: أراد أهل السيوف فحذف المضاف، و يحتمل أن يكون قد استعار وصف التناصر لها باعتبار كونها أسبابا يقوّى بعضها بعضا فصارت كالجماعة الّتي ينصر بعضها بعضا. و نفوذ البصاير خرقها حجب الشبهات عن الحقّ واصلة إليه. و اتّحاد العزائم اتّفاق الإرادات الجازمة على طلب الحقّ. و مختلفين و متحاربين منصوبان على الحال، و كذلك موضع قوله: قد خلع، و كذلك عبرتا.
و قوله: فاعتبروا بحال ولد إسماعيل و بنى إسحاق و إسرائيل عليهم السّلام. إلى قوله: صفاة.
و قوله: فاعتبروا بحال ولد إسماعيل و بنى إسحاق و إسرائيل عليهم السّلام. إلى قوله: صفاة. أمر لهم باعتبار أخصّ. و ولد إسماعيل إشارة إلى العرب من آل قحطان و آل معد، و من بنى إسحاق أولاد روم بن عيص بن إسحاق و بنو إسرائيل و هو يعقوب ابن إسحاق. فأمّا حال تشتّتهم و تفرّقهم و استيلاء الأكاسرة و القياصرة عليهم و فعلهم بهم ما ذكر فتفرّق كلمة العرب قبل ظهور محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمر ظاهر معلوم لكلّ من طالع كتب السير، و بسبب ذلك كانت الأكاسرة أربابا لهم يحتازونهم و يبعّدونهم عن ريف الآفاق و بحر العراق و خضرة الدنيا إلى البادية، و أمّا حال بني إسحاق و إسرائيل في ذلك فنحو ما جرى لأولاد روم بن عيص من اختلاف النسطوريّة و اليعقوبيّة و الملكاتيّه حتّى كان ذلك سببا لضعفهم و استيلاء القياصرة عليهم في الروم و على بني إسرائيل في الشام و إزعاج بخت نصر لهم عن بيت المقدس حتّى غزاهم المرّة الثانية كما أشار إليه القرآن الكريم بقوله فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ«» الآية. و قد كان غزاهم مرّة اولى حين أحدثوا و غيّروا فرغبوا إلى اللّه تعالى و تابوا فردّه عنهم و هي المرّة الاولى الّتى حكى اللّه تعالى بقوله فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما«» الآية ثمّ أحدثوا بعد ذلك فبعث اللّه إليهم أرميا فقام فيهم بوحى اللّه فضربوه و قيّدوه و سجنوه فغضب اللّه عليهم فبعث إليهم عند ذلك بخت نصر فقتل منهم و صلب و أحرق و جدع و باع ذراريهم و نسائهم و سارت منهم طايفة إلى مصر و لجئوا إلى ملكها فسار إليه بخت نصر فأسره و أسر بني إسرائيل. و الّذين فرّوا منهم ارتحلوا إلى حدود المدينة كيهود خيبر و بنى قريظة و النضير و وادى قرى و قينقاع. إذا عرفت ذلك فنقول: إنّه عليه السّلام أمر باعتبار حالهم و تأمّل أمرهم في حال تشتّتهم و تفرّقهم قبل بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فعل أعدائهم ما كانوا يفعلون كيف فرجّ اللّه عنهم من تلك الشدائد بظهور محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم نبيّا.
و اعلم أنّ غايته عليه السّلام عن أمره باعتبار حال المؤمنين من الامم الماضية قبلهم اقتدائهم في الصبر على المكاره و لزوم الالفة و الاجتماع مع ذلك و انتظار الفرج به.
و قوله: فما أشدّ اعتدال الأحوال.
أى تساويها، و أراد أنّ أحوالكم الشبه و المساواة لأحوالهم، و كذلك ما أقرب اشتباه الأمثال: أى إنّ أحوالكم شديدة المماثلة لأحوالهم لأنّكم أمثالهم.
و هو إشارة إلى وجه علّة الاعتبار فإنّهم إذا كانوا أمثالهم و اعتدلت أحوالهم و تشابهت امورهم وجب اعتبار حالهم بحالهم و لذلك أتى بالفاء للتعليل.
و قوله: تأمّلوا أمرهم في حال تشتّتهم. إلى آخر الكلام.
إشارة إلى حال شدّتهم و رخائهم لتنقل أذهان السامعين إلى إثبات تلك الحال لأنفسهم. فالماضون أصل ذلك الاعتبار، و السامعون فرعه، و حكم الأصل أحوالهم الخيريّة و الشريّة، و علّة ذلك الحكم كونهم أمثالا لهم.
و قوله: ليالى كانت الأكاسرة و القياصرة أربابا لهم.
أى مالكون لامورهم يحتازونهم: أى كانت القياصرة يحتازون بني إسرائيل و بني إسحاق، و الأكاسرة يحتازون بني إسرائيل و يمنعونهم من أعمال العراق فصار الجميع مطرودا للجميع عن خضرة الآفاق و جنان الشام و بحر العراق. و أراد دجلة و الفرات.
و قوله: إلى منابت الشيح و مها في الريح.
كنايتان عن البريّة و ظاهر أنّها محلّ نكد العيش و ضيقه كما وبّخهم عليه السّلام بوصف معاشهم في الفصول السابقة. و يختصّ الأكاسرة- و هو جمع كسرى- بملوك الفرس و القياصرة بملوك الروم و هو جمع على غير قياس. و كنّى بالدبر و الوبر عن الجمال، و فيه إيماء إلى فقرهم و ضيق معاشهم لأنّ دبر الجمال و استعمال الوبر و أكله بالدم من لوازم الفقر و ضيق الحال، و على الرواية الاخرى فالدبر كناية عن الفقر أيضا، و ظاهر أنّهم أذلّ الأمم دارا لأنّ أهل البادية ليسوا أصحاب حصون و قلاع يعتصم بها و إن كان لبعضهم حصون فعساه يحميهم عن أمثالهم فيما يجرى بينهم من الغارات، و ليس ذلك ممّا يدفع عدوّا ذا قوّة أو يحتمل حصارا.
و قوله: و أجد بهم قرارا.
أى مستقرّا. إذ كانت البادية لا تقاس إلى المدن في الخصب، و استعار لفظ الجناح لما ينهض به دعوتهم و يقوى إذا دعوا، و كنّى بذلك عن كونهم لا يأوون إلى من يجيب دعوتهم فيعتصمون به، و كذلك استعار لفظ الظلّ لما يستلزمه الالفة من التعاون و التعاضد و التناصر، و وجه المشابهة هو ما يستلزمه هذه الامور من الراحة و السلامة من حرارة نار العدوّ و الحرب كما يستلزمه الظلّ من الراحة من حرّ الشمس.
و قوله: فالأحوال مضطربة.
شرح لحالهم يومئذ و كونهم على غير نظام، و كنّى باختلاف أيديهم عن عدم اتّفاقهم على التناصر و بتفرّق كلمتهم عن عدم الفتهم و اجتماعهم على مصالحهم.
و إضافة بلاء إلى الأزل بمعنى من. و كذلك إضافة أطباق، و قد علمت أنّ للجهل صفات و دركات متراكم بعضها فوق بعض أولاها عدم العلم بالحقّ، و فوقها الاعتقاد بغير الحقّ، و فوقها اعتقاد شبهة يقوى ذلك و يعضده مع تجويز نقيضه، و فوقها اعتقاد تلك الشبهة جزما. و في نسخه الرضى- رحمه اللّه- و إطباق بكسر الهمزة على أنّه مصدر و المعنى و جهل مطبق عليهم.
و قوله: من بنات.
تفصيل للوازم ذلك الجهل، و ذكر منها أربعة أنواع: أحدها: وءد البنات، و أشار إليه القرآن الكريم وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ«» قيل كان ذلك في بنى تميم و قيس و أسد و هذيل و بكر بن وابل.
قالوا: و السبب في ذلك أنّ رسول اللّه دعا عليهم فقال: اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر و اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف فأجدبوا سبع سنين حتّى أكلوا الوبر بالدم كانوا يسمّونه العلهز فوءدوا البنات لإملاقهم و فقرهم. و يؤيّد ذلك قوله تعالى وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ«» و قال قوم: بل كان وءدهم للبنات أنفة، و ذلك أنّ تميما منعت النعمان الإمارة سنة من السنين فوجّه إليهم أخاه الريّان بن المنذر و جلّ من معه من بكر بن وايل فاستاق النعم و سبا الذرارى فوفدت بنو- تميم إلى النعمان فاستعطفوه فرقّ لهم و أعاد عليهم السبى و قال: كلّ امرأة اختارت أباها ردّت إليه و إن اختارت صاحبها تركت عليه. فكلهنّ اخترن أباهنّ إلّا ابنة قيس بن عاصم فإنّها اختارت من سباها. فنذر قيس بن عاصم التميمىّ أنّه لا تولد له بنت إلّا وءدها. ففعل ذلك، ثمّ اقتدى به كثير من بنى تميم. الثاني: عبادة الأصنام، و قد كان لكلّ قبيلة صنم يعبدونه فكان لهذيل سواع، و لبنى كلب ودّ، و لمذحج يغوث و كان بدومة الجندل، و لذى الكلاع نسر، و لهمدان يعوق، و لثقيف اللات و العزّى، و لقريش و بنى كنانة و الأوس و الخزرج مناة، و كان هبل على الكعبة و إساف و نايلة كانا على الصفا و المروة و من نوادر جهلهم المشهورة أنّ بنى حنيفة اتّخذوا في الجاهليّة صنما من خبش فعبدوه دهرا طويلا ثمّ أصابتهم مجاعة فأكلوه فقال بعضهم في ذلك:
أكلت حنيفة ربّها زمن التقحّم و المجاعة
لم يحذروا من ربّهم
سوء العواقب و التباعة
الثالث: قطع أرحامهم و قد كان أحدهم يقتل أباه و أخاه عند الحميّة لأدنى سبب كما هو معلوم من حالهم. الرابع: الغارات و الحروب كيوم ذى قار و كأيّام حرب بكر و تغلب في بنى وابل و كحرب داحس و غير ذلك من الأيّام المشهورة. و مقاماتهم في الحروب و الغارات أكثر من أن تحصر و كلّ ذلك من لوازم الجهل.
و قوله: فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم.
أمر باعتبار حالهم عند مقدم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعثته فيهم بعد تلك الأحوال الشريّة.
و الضمير في عقد و جمع راجعان إلى اللّه تعالى لشهادة القرآن الكريم بنسبة الالفة بينهم إليه في قوله لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ«» و معنى عقده لطاعتهم بملّته جمعها بعد الانتشار و نظمها بعد التفرّق. إذ كانت طاعاتهم في الجاهليّة موافقة لأهوائهم المختلفة و منتشرة بحسب اختلافها، و استعار لفظ الجناح لما أسبغت عليهم رحمة اللّه من النعمة و عمّتهم به من الكرامة، و رشّح بذكر النشر، و كنّى به عن عمومهم بها. و كذلك استعار لفظ الجداول و هى الأنهار لأنواع نعيمها و سيول الخيرات الّتي جرت عليهم من الكمالات النفسانيّة و البدنيّة ملاحظة لشبه تلك الطرق و الأسباب بالجداول في جريان الماء بها، و رشّح بذكر الإسالة.
و قوله: و التقت الملّة بهم في عوائد بركتها.
أى اجتمعت بهم و لقيتهم في منافعها الّتي حصلت ببركتها. يقال: التقيت بفلان في موضع كذا: أى لقيته. و قيل: قوله: في موضع عوايد نصب على الحال: أى الحال كونها كذلك. و لفظ الالتقاء كناية عن ورود الدين عليهم و تلبّسهم به، و لذلك استعار لفظ الغرقى ملاحظة لشبههم بالغرقى في شمول نعمة الدين لهم و غمر نعمة الإسلام إيّاهم حتّى كأنّهم لاستيلائها عليهم كالغرقى فاستلزم ذلك لملاحظة تشبيهها بالبحر الذاخر، و كنّى بخضرة عيشها عن سعة المعاش بسبب الملّة و طيبه. و أراد بالسلطان هنا إمّا الحجّة و البرهان و الاقتداء، أو الغلبة و الدولة. و استعار لفظ الظلّ لما يستلزمه ذلك السلطان من النعمة: أى و تمكّنت بهم الامور و الأسباب الّتي أعدّتهم لنعمة اللّه في ذلك الظلّ و كذلك قوله: و آوتهم الحال: أى ألجأتهم و ضمنتهم الحال الّتي كانوا عليها إلى عزّ غالب، و هو عزّ الإسلام و دولته ملاحظة لشبهه بأعالى الجبل المنيع في علوّه و منعته. و كذلك استعار لفظ التعطّف لإقبال السعادات الدنيويّة و الاخرويّة عليهم بالإسلام و هى الّتي عنى بالامور. و لا حظ في ذلك مشابهة ذلك الإقبال بتعطّف ذى الرحمة و الشفقّة على غيره.
و قوله: فهم حكّام. إلى قوله: يمضيها فيهم.
ظاهر، و كنّى بكونهم لا تغمز قناتهم عن قوّتهم و عدم انقهارهم للغير، و كذلك لا يقرع لهم صفاة. و هما يجريان مجرى المثل. ثمّ عقّب بتوبيخهم على قلّة طاعتهم، و استعار لفظ الحبل لما نظم بينهم من طاعتهم للّه و رسوله، و كنّى بوصف نفض الأيدى عن خروجهم من الطاعة و شدّة إطراحهم لها بكثير من أفعالهم، و كذلك استعار لفظ الحصن للإسلام و وجه المشابهة كونه حافظا لهم من أعدائهم الظاهرة و الباطنة كالحصن المضروب على أهله، و رشّح بذكر المضروب، و كذلك استعار لفظ الثلم لكسرهم الإسلام بأحكامهم الجاهليّة و مخالفتهم لكثير من أحكامه و نفّر عن تلك المخالفة بما يستلزمه من ذلك الثلم.
و قوله: و إنّ اللّه سبحانه قد امتنّ. إلى قوله: كلّ خطر.
. ترغيب في لزوم حبل الالفة و التمسّك به. و النعمة الّتي امتنّ اللّه تعالى بها في عقد حبل الالفة الّتي لا يعرف أحد لها قيمة هى الالفة نفسها باعتبار ما استلزمه من المنافع العظيمة و دفع المضارّ و علّل عدم معرفة الخلق لقيمتها بكونها أرجح من كلّ ثمن و أجلّ من كلّ خطر و هى صغرى قياس ضمير تقدير كبراه: و كلّ ما كان كذلك لم يعرف أحد قيمته، و صدق الصغرى ظاهر. إذ كانت تلك الالفة و الاجتماع على الدين سببا عظيما في استعدادهم لسعادتى الدنيا و الآخرة.
و قوله: و علموا. إلى قوله: بين خلقه.
توبيخ لهم بانتقالهم عن الأحوال و الأقوال الإسلاميّة إلى الأحوال الجاهليّة: أى قد صرتم بعد كونكم مهاجرين أعرابا، و لمّا كانت الأعراب أنقص رتبة من المهاجرين و أهل المدن لجفاهم و قسوتهم و بعدهم عن الفضائل النفسانيّة و تعلّمها و عن سماع ألفاظ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مجالسته و اقتباس الآداب من أهل الحضارة كما قال تعالى الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً«» الآية لا جرم وبّخهم لصيرورتهم كذلك. و ليس كلّ الأعراب بالصفة المذكورة لقوله تعالى وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ«» الآية. و كونهم بعد الموالاة أحزابا فالأحزاب الفرق الّتي ينقسم لمحاربة الرسل و أوصيائهم و يجتمع لمخالفتهم و ظاهر أنّ هؤلاء كذلك لانفسامهم و تشعّبهم إلى ناكثين و مارقين و قاسطين و منافقين و محاربتهم له حتّى ليس لهم إذن جامع في الإسلام يتعلّقون به إلّا اسم الإسلام و لا يعرفون من الايمان إلّا رسمه و أثره و شعاره الظاهر بالشهادتين و حضور الصلاة دون الشرائط الحقّه و ما ينبغي له. و قولهم: النار و لا العار كلمة يقولها أهل الكبر و الأنفة من احتمال الأذى و الضيم لأنفسهم أو لقومهم في الاستنهاض إلى الفتنة. و النار و العار منصوبان بفعلين مضمرين تقديرهما ادخلوا النار و لا تحتملوا العار. ثمّ شبّههم في حالهم و قولهم ذلك بمن يقصد أن يقلّب الإسلام على وجهه، و كنّى بذلك عن إفساده كناية بالمستعار ملاحظة لشبههه بالإناء يقلب فيخرج ما فيه عن الانتفاع به، و وجه التشبّه المذكور أنّ أفعالهم المذكورة كأفعال من يقصد ذلك من أعداء الإسلام لإرادة إفساده.
و قوله: انتهاكا و نقضا.
منصوبان على المفعول له و العامل قوله: تكفئوا، و يصلحان غايتين عقيب كلّ فعل نسبه إليهم يفسّرهما ذكرهما هاهنا، و ميثاقه ما اخذ عليهم فيه و أسلموا من جزئيّاته و هى الايمان الصادق باللّه و رسوله و ما جاء به من القوانين الشرعيّة. ثمّ وصف ذلك الميثاق بكون اللّه تعالى قد وضعه لهم حرما في أرضه يمنعهم من كلّ عدوّ و أمنا بين خلقه لمن دخله و أراد محلّ أمن فحذف المضاف أو تجوّز بلفظ الأمن في المأمن إطلاقا لاسم الحال على المحلّ.
و قوله: و إنّكم. إلى قوله: بينكم.
تحذير من الاعتماد على غير الإسلام و اللجأ إليه من شجاعة أو حميّة أو كثرة في قبيلة مع الخروج عن طاعة سلطان الإسلام و التفرّق فيه فإنّ ذلك يستلزم طمع الكفّار فيهم. و عدم نصرة الملائكة و المهاجرين و الأنصار حينئذ لهم إمّا لأنّ النصرة كانت مخصوصة بوجود الرسول و الاجتماع على طاعته و قد زالت بفقده أو لأنّها مشروطة بالاجتماع على الدين و الالفة فيه و الذبّ عنه و إذا التجئوا إلى غيره و حاربهم الكفّار لم يكن ناصر من الملائكة لعدم اجتماعهم على الدين، و لا من المهاجرين و الأنصار لفقدهم و هذا اللازم مخوف ينبغي أن يحذر منه فالملزوم و هو الالتجاء إلى غير الإسلام يجب أن يكون كذلك. و الضمير المضاف إليه في حريمه و ميثاقه يعود إلى الإسلام. و قال بعض الشارحين: الضمير في قوله يعود إلى اللّه و الأوّل أليق بسياق الكلام، و النصب في جبرئيل و ميكائيل على أنّهما اسمان ملاحظا فيهما التنكير و لذلك أتى عقيبهما بعد لا بالنكرتين، و ينصرونكم هو خبرها مفسّرا لمثله عقيب ما يكون منها.
و قوله: إلّا المقارعة بالسيف.
استثناء منقطع، و حكم اللّه الّذي جعله غاية للمقارعة هو إفاضة لصورة النصر على أحد الفريقين و الانقهار على الآخر.
و قوله: و إنّ عندكم الأمثال. إلى قوله: و وقائعه.
تذكير لهم بما ضرب اللّه لهم من الأمثال بالقرون الماضية و ما أصابهم من بأس اللّه و قوارعه و هى الدواهى العظام و أيّامه و هى كناية عن الأيّام الّتي أوقع بهم فيها عقوباته و بأسه حين استعدّوا لذلك بمعصيته و تهديد لهم بذلك إن خالفوا أمره.
و قوله: فلا تستبطئوا. إلى قوله: بأسه.
تهديد لهم أيضا و توعيد بقرب العقوبة على المعصية، و إطلاق لفظ الاستبطاء هنا مجاز لأنّ الاستبطاء للشيء استبعاد لوقوعه مع انتظار وقوعه المستلزم لطلبه و طلب تحقيق الوعيد ليس من مقاصد العقلاء حتّى ينهون عنه لكن لمّا كان الإنسان إذا همّ بالمعصية قد يستبعد تحقيق الوعيد و قربه فيكون ذلك ممّا يقوّى معه داعيته و شهوته لفعلها كان لذلك الاستبعاد سببيّة بوجه ما للمعصية، و لمّا كان ذلك الاستبطاء أطلق عليه إطلاقا لاسم الجزء على الكلّ فيكون التهديد و التوبيخ عليه أبلغ، و لأنّ الّذي يقدم على المعصية مع علمه بما يستلزمه من الإعداد لنزول العذاب يناسب في الحقيقة من يستبطىء العقوبة و يطلب تعجيلها بفعله و كانوا بمعصيتهم كالمستبطئين للوعيد فأطلق في حقّهم لفظة الاستبطاء و نهاهم عنه. و نصب جهلا و تهاونا و بأسا على المفعول له لصلوح الثلاثة عللا غائيّة لاستبطاء الوعيد بمعنى استبعاده لأنّ جهل العبد بكيفيّة أخذه تعالى له بالموت و أهواله و شدائد الآخرة ممّا يستبعد معه وقوع تلك الامور في حقّه كما هى. و كذلك تهاونه ببسطه و إملائه لعدم علمه بما في ذلك البسط من الاستدراج ممّا يحمله على استبعاد وعيده، و بعزمه بالمعصية و كذلك يأسه من بأسه بسبب ذلك الجهل و ذلك البسط ممّا يحمله على ذلك الاستبعاد أيضا.
و قوله: و إنّ اللّه. إلى قوله: التناهى.
تنبيه لهم على أنّ لعنة اللّه للقرن الماضى بين أيديهم قبل الإسلام كان لازما مساويا لتركهم الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر منحصرا فيه، و كانت لعنته لسفهائهم و ناقصى عقولهم لركوبهم المعاصى المنكرة، و أمّا للحكماء منهم و لذوى العقول فلعدم إنكارهم و تناهيهم عمّا يشاهدونه من ذلك المنكر. و ذلك اللعن في قوله تعالى لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ«» و كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه. و نبّههم بقوله: ألا و قد قطعتم قيد الإسلام. إلى قوله: أحكامه. على أنّهم من جملة من اتّصف بذلك الملزوم أعنى ترك الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و ركوب المعاصى فلزمهم الدخول في زمرة من لعنه اللّه بذلك الترك، و غاية هذا الشبه الجذب عن ركوب المعاصى إلى الانتهاء و التناهى عنها. و استعار لفظ قيد الإسلام للالفة و الاجتماع عليه و على امتثال أوامر اللّه فيه باعتبار كون ذلك حافظا للإسلام عليهم و مانعا له من التشرّد و الذهاب كما يمنع الجمل قيده من الشرود و التشتّت. و حدود اللّه: أحكامه الّتي حدّها للناس و منعهم من تجاوزها. و تعطيلهم لهم بإطراحها و تجاوزها، و كذلك إماتة أحكامه عدم العمل بها و وصف الإماتة مستعار لتركها و إهمالها لاعتبار أنّهم أخرجوها بذلك الإهمال عن انتفاعهم بها كما أنّ مميت الشيء يخرجه عن حدّ الانتفاع. و باللّه التوفيق.
الفصل الخامس:
في اقتصاصه عليه السّلام لحاله في تكليفه و موافقته لأوامر اللّه
ببلائه الحسن في سبيله، و شرح حاله مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و التنبيه على موضعه منه و كيفيّة تربيته له من أوّل عمره، و الإشارة إلى قوّته في دين اللّه. و ذلك قوله:
أَلَا وَ قَدْ أَمَرَنِيَ اللَّهُ- بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ النَّكْثِ وَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ- وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ- وَ أَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ- وَ أَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ- بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَ رَجَّةُ صَدْرِهِ- وَ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ- وَ لَئِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ- لَأُدِيلَن َّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ تَشَذُّراً أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ- وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ- وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص- بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَ الْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ- وَضَعَنِي فِي حَجْرِهِ وَ أَنَا وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ- وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ- وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ- وَ كَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ- وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ- وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ ص- مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ- يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ- وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ- وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ- يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً- وَ يَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ- وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ- فَأَرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي- وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ- غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ ص وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا- أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ- وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ ص- فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ- فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ- إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى- إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ- وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ ص لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ- فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً- لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَ لَا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ- وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَ أَرَيْتَنَاهُ- عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ- وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ- فَقَالَ ص وَ مَا تَسْأَلُونَ قَالُوا- تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا- وَ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَقَالَ ص- إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ- فَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ- قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ- وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ- وَ إِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ وَ مَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ- ثُمَّ قَالَ ص يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ- إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ- وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ- حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ- وَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا- وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ- وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ- حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ص مُرَفْرِفَةً- وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص- وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ ص- فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً- فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا- فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا- كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً- فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ ص- فَقَالُوا كُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ- فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ- فَأَمَرَهُ ص فَرَجَعَ- فَقُلْتُ أَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ- وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى- تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلَالًا لِكَلِمَتِكَ- فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ- عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ- وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَنِي- وَ إِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ- سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ وَ كَلَامُهُمْ كَلَامُ الْأَبْرَارِ- عُمَّارُ اللَّيْلِ وَ مَنَارُ النَّهَارِ- مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ يُحْيُونَ سُنَنَ اللَّهِ وَ سُنَنَ رَسُولِهِ- لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَ لَا يَعْلُونَ- وَ لَا يَغُلُّونَ وَ لَا يُفْسِدُونَ- قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ
اللغة
أقول:
النكث: نقض العهد.
و القسوط: الجور.
و دوّخت القوم، غلبتهم و قهرتهم.
و الردهة: نقرة في الجبل يجتمع فيها الماء.
و الصعقة: الغشية من صيحة و نحوها.
و الوجبة: واحدة الوجيب و هو اضطراب القلب.
و الرجّة: واحدة الرجّ: و هى الحركة و الزلزلة.
و الكرّة: الرجعة.
و لاديلنّهم: أى لا قهرنّهم و أكون ذا إدالة منهم و غلبة عليهم.
و التشذّر: التفرّق.
و الكلكل: الصدر.
و النواجم: جمع ناجمة و هو الطالع و الخارج.
و يكنفني في فراشه: أى يحفظني فيه و يحوطني و يلفّنى.
و عرفه: رائحته.
و الخطلة: السيّئة و القبيحة من قول أو فعل.
و الفطيم: المفطوم.
و حراء- بالمدّ و الكسر- : جبل بمكّة يذكّر و يؤنّث و يصرف و لا يصرف.
و الرنّة: صوت يصدر عند حصول المكاره كالحزن و نحوه.
القليب: البئر قبل أن تطوى يذكّر و يؤنّث.
و قال أبو عبيده: هى البئر القديمة العادية.
و الدوىّ: صوت حفيف الريح و النحل.
و القصف: صوت جناح الطير و إصفاقه في الهواء.
و السيما- مقصورا و ممدودا- : العلامة و الأثر في الشيء يعرف به.
و المنار: الأعلام.
و غلّ من المغنم يغلّ بالضمّ: إذا خان فيه. قال أبو عبيد: يقال منه: يغلّ- بالضمّ- و من الحقد:
يغلّ- بالكسر- و من الخيانة المطلقه: أغلّ يغلّ.
المعنى
و اعلم أنّه عليه السّلام نبّه في هذا الفصل على أنّ قتاله لهذه الفرق كان بأمر اللّه على لسان رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذلك الأمر إمّا من القرآن الكريم من قوله تعالى وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى«» أو من السنّة بأمر خاصّ و هو من أوامر اللّه أيضا. و قد ثبت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: سيقاتل بعدى الناكثين و القاسطين و المارقين. فكان الناكثون أصحاب الجمل لنكثهم بيعته عليه السّلام، و كان القاسطون أهل الشام، و المارقون الخوارج بالنهروان و الفرق الثلاث يصدق عليهم أنّهم أهل البغى و قاسطون لخروجهم عن سواء العدل إلى طرف الظلم و الجور، و تخصيص كلّ فرقة منهم بما سميّت به عرف شرعىّ. فأمّا وصف الخوارج بالمارقين فمستنده قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لذي الثدية: يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية و قد ذكرناه قبل. و الضئضىء: الأصل. و هذا الخبر من أعلام نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و دلّ قوله عليه السّلام: و أمّا القاسطون فقد جاهدت و أمّا المارقة فقد دوّخت. على أنّ هذه الخطبة في آخر خلافته بعد وقايع صفّين و النهروان. و أمّا شيطان الردهة فالأشبه أنّ المراد به ذو الثدية من الخوارج لما ورد الحديث أنّ النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذكره فقال: شيطان الردهة يحتذره رجل من بجيلة. فأمّا كونه شيطانا فباعتبار كونه ضالّا مضلّا، و أمّا نسبته إلى الردهة فيشبه أن يكون لما روى أنّه حين طلبه عليه السّلام في القتلى وجده في حفرة دالية فيها خرير الماء فنسبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليها لما كان يعلم من كيفيّة حاله في مقتله.
و روى عن يزيد بن رويم قال: قال لى على عليه السّلام في ذلك اليوم: يقتل اليوم أربعة ألف من الخوارج أحدهم ذو الثدية فلمّا طحن القوم ورام إخراج ذى الثدية فأتعبه أمرنى أن أقطع أربعة ألف قصبة و ركب بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ أمرنى أن أضع على كلّ رجل منهم قصبة فلم أزل كذلك و هو راكب خلفى و الناس حوله حتّى بقيت في يدي واحدة فنظرت إليه و قد اربدّ وجهه و هو يقول و اللّه ما كذبت و لا كذّبت فإذا نحن بخرير الماء في حفرة عند موضع دالية. فقال لى: فتّش هذا. ففتشّته فإذا قتيل قد صار في الماء و إذا رجله في يدي فجذبتها و قلت: هذه رجل إنسان. فنزل عن البغلة مسرعا فجذب الرجل الاخرى و جرّرناه فإذا هو المخدج. فكبّر عليه السّلام ثمّ سجد و كبّر الناس بأجمعهم. و أمّا الصعقة الّتي أشار إليها فهى ما أصاب ذا الثدية من الغشى و الموت بضربته عليه السّلام حتّى استلزم ذلك ما حكاه من سماعه لرجّة صدره و وجيب قلبه. و قال بعضهم المراد بالصعقة هنا الصاعقة و هى صيحة العذاب و ذلك أنّه روى أنّ عليّا عليه السّلام لمّا قابل القوم صاح القوم فكان ذو الثدية ممّن هرب من صيحته حتّى وجد قتيلا في الحفرة المذكورة. و قال بعضهم: يحتمل أن يشير بالشيطان إلى إبليس المتعارف كما أشرنا إليه في الخطبة الاولى و هو القوّة الوهميّة فاستعار لفظ الردهة و هى النقرة في الجبل للبطن الأوسط من الدماغ الّذي هو محلّ هذه القوّة لمكان المشابهة، و قد يعبّر بالجبل عن الدماغ في عرف المجرّدين و عن القوى فيه، و بالجنّ الشياطين تارة و بالملائكة اخرى. و لمّا كانت الأنبياء عليهم السّلام و الأولياء قد يشاهدون الامور المجرّدة و المعاني المقبولة كالملائكة و الجنّ و الشياطين في صورة محسوسة باستعانة من القوّة المحصّلة كما علمت في المقدّمات و كما سنشير إليه عن قرب احتمل أن يقال أنّه عليه السّلام رأى الشيطان المذكور بصورة محسوسة ذات صدر و قلب و أنّه عليه السّلام لمّا كان في مقام العصمة و ملكة للنصر على الشيطان و قهره و إبعاده سمع من الجناب الإلهىّ صيحة العذاب أرسلت على الشيطان فسمع لها وجيب قلبه ورّجة صدره كما سمعت رنّته فيما يحكيه في باقى الكلام. و اللّه أعلم. و أمّا البقيّة من أهل البغى فمعاوية و من بقى من جند الشام حيث وقعت الحرب بينهم و بينه بمكيدة التحكيم. و حكمه عليه السّلام بأنّه إن أذن اللّه سبحانه في الرجوع إليهم ليغلبنّهم و لتكونّن الدايرة عليهم ثقة بعموم توعّده تعالى في قوله و من بغى عليه لينصرنّه اللّه و قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ«» و قوله إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ«» و أمثاله. و كنّى بإذن اللّه عن توفيق أسباب العود إليهم و إتمامها من الفسحة في الأجل و غيرها. و استعمل ما هاهنا بمعنى من إطلاقا لاسم العامّ على الخاصّ أو تكون بمعنى الّذي.
و قوله: أنا وضعت في الصغر بكلكل العرب. إلى آخره.
تنبيه على فضيلته في الشجاعة و النجدة لغاية أن يخافه أعداؤه و تقوى به قلوب أوليائه لا على سبيل الفخر المجرّد فإن ذلك رذيلة قد بنى الخطبة على النهى عنها، و استعار لفظ الكلكل للجماعة من أكابر العرب الّذين قتلهم في صدر الإسلام و فرّق جمعهم، و وجه المشابهة كونهم محلّ قوّة العرب و مقدّميهم كما أنّ الصدر من الحيوان كذلك. و من روى كلاكل بلفظ الجمع فهو أيضا استعارة لساداتهم و أشرافهم ممّن قاتلهم و قتلهم، و وجه الاستعارة ما ذكرناه. و يحتمل أن يكون مجازا من باب إطلاق اسم الجزء على الكلّ. و الباء في قوله: بكلكل. زائدة. و المراد بوضعهم إذلالهم و إهانتهم. يقال: وضعه فاتّضع: إذا غضّ منه و حطّ منزلته. و يحتمل أن يكون للإلصاق: أى فعلت بهم الوضع و الإهانة. و كذلك استعار لفظ القرون لأكابر ربيعة و مضر ممّن قاتلهم و قتلهم، و وجه الاستعارة كون كلّ واحد منهم لقبيلته كالقرن يظهر فيها فيصول به و يمنع من عدوّها كذى القرن من الحيوان بقرنه. و أراد بالنواجم من علا منهم و ظهر أمره، و رشّح بذكر الكسر، و كنّى به عن قتلهم. و قتله للأكابر من مضر معلوم في بدو الإسلام فأمّا القرون من ربيعة فإشارة إلى من قتله منهم في وقايع الجمل و صفّين بنفسه و جيشه كما يقف على أسمائهم من يقف على تلك الوقايع.
و قوله: و قد علمتم موضعى. إلى آخره.
شرح لتربية الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أوّل عمره و إعداده بتلك التربية للكمالات النفسانيّة من العلوم و الأخلاق الفاضلة.
و عدّ أحواله الّتي هى وجوه ذلك الاستعداد و أسبابه:
أحدها: القرابة.
و أشار بها إلى نسبته القريب منه و كان عليه السّلام ابن عمّه دنيا و أبواهما أخوان لأب و امّ دون غيرهما من بنى عبد المطلب إلّا الزبير.
الثانية: منزلته الخصيصة به
و أشار بها إلى ما شرحه من فعله به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو وضعه له في حجره وليدا و ساير ما ذكره. و مبدء ذلك ما روى عن مجاهد قال: كان من نعمة اللّه على علىّ عليه السّلام ما صنعه اللّه له و أراد به من الخير أنّ قريشا أصابتهم أزمّة شديدة و كان أبو طالب ذا عيال كثيرة فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعمّه العبّاس و كان أيسر بنى هاشم: يا عبّاس إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال و قد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمّة فانطلق بنا لنخفّف عنه من عياله فآخذ واحدا من بنيه و تأخذ واحدا فنكفيهم عنه فانطلقا إليه و قالا له. فقال: إن تركتمالى عقيلا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام و أخذ العبّاس جعفرا فكفّلاهما. و قد كان أبو طالب كفّل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دون غيره من أعمامه و ربّاه في حجره ثمّ حماه من المشركين في مبدء أمره و نصره عند ظهور دعوته و ذلك ممّا يؤكّد اختصاص منزلة علىّ عليه السّلام عنده. و من منزلته الخصيصة به ما كان بينهما من المصاهرة الّتي أفضت إلى النسل الأطهر دون غيره من الأصهار، و في معنى قوله: فكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه ما رواه الحسن بن زيد بن علىّ بن الحسين عليهم السّلام قال: سمعت زيدا أبى يقول: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يمضغ اللحمة أو التمرة حتّى تلين و يجعلها في فم علىّ عليه السّلام و هو صغير في حجره.
الثالثة: أنّه لم يجد له كذبة في قول و لا خطلة في فعل، و ذلك لما استعدّ به من تربيته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ساير متمّمات الرياضة و أعراضها لاستيلاء قوّته العاقلة على قوّتى الشهويّة و الغضبيّة و قهر نفسه الأمّارة الّتي هى مبدء خطأ الأقوال و خطل الأفعال حتّى حصلت له عن ذلك ملكة في ترك الرذائل و اجتناب المئاثم و المعاصى فصار له ذلك خلقا و طبعا. و إذا حقّق معنى العصمة في حقّه عليه السّلام و في حقّ من ادّعيت له العصمة من أولاده يعود إلى هذه الملكة. فليس لاستكبارها [لاستنكارها خ] في حقّهم عليه السّلام معنى، و أشار بالملك الّذي قرنه به إلى جبرئيل و هو العقل الفعّال في عرف قوم. و اقترانه به إشارة إلى تولّيه بتربية نفسه القدسيّة بإفاضة العلوم و مكارم الأخلاق و سائر الطرق المؤدّية إلى اللّه سبحانه من حين صغره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحسب حسن استعداد مزاجه و قوّة عقله الطفولىّ. ثمّ أشار في ذكر معرض أحواله معه إلى تربية الملك له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليعلم أنّه حصل بتبعيّته له على تلك المكارم، و ممّا روى في حاله مع الملك و عصمته به ما روى الباقر محمّد بن علىّ عليهما السّلام أنّه قال: وكّل اللّه بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ملكا عظيما منذ فصل عن الرضاع يرشده إلى الخيرات و مكارم الأخلاق و يصدّه عن الشرّ و مساوى الأخلاق و هو الّذي كان يناديه السلام عليك يا محمّد يا رسول اللّه و هو شابّ لم يبلغ درجة الرسالة بعد فيظنّ أنّ ذلك من الحجر و الأرض فيتأمّل فلا يرى شيئا. و روى أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أذكر و أنا ابن سبع سنين و قد بنى ابن جدعان دارا بمكّة فجئت مع الغلمان نأخذ التراب و المدر في حجورنا فننقله فملأت حجرى ترابا فانكشفت عورتى فسمعت نداء من فوق رأسى يا محمّد أرخ إزارك فجعلت أرفع رأسى فلا أرى شيئا إلّا أنّنى أسمع الصوت فتماسكت و لم ارخه فكأنّ إنسانا ضربنى على ظهرى فخررت لوجهى فانحلّ إزارى فسترنى و سقط التراب إلى الأرض فقمت إلى دار عمّى أبي طالب و لم أعد.
الرابعه: أشار إلى اتّباعه له و ملازمته إيّاه
بقوله: و لقد كنت أتبعه اتّباع الفصيل أثر امّة. و وجه الشبه في اتّباعه كونه لا ينفكّ عنه كالفصيل لامّه.
الخامسة: أشار إلى ثمرة ذلك الاتّباع
بقوله: يرفع لى في كلّ يوم علما من أخلاقه و يأمرنى بالاقتداء به. و استعار لفظ العلم لكلّ من أخلاقه باعتبار كونه هاديا إلى سبيل اللّه كما يهدى العلم.
السادسة: أنّه كان يجاور معه في كل سنة بحراء فيراه دون غيره،
و روى في الصحاح: أنّه كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يجاور بحراء في كلّ سنة شهرا و كان يطعم في ذلك الشهر من جاءه من المساكين فإذا قضى جواره انصرف إلى مكّة و طاف بها سبعا قبل أن يدخل بيته حتّى جاءت السنة الّتي أكرمه اللّه فيها بالرسالة فجاء في حراء في شهر رمضان و معه أهله خديجة و علىّ و خادم. و روى الطبرىّ و غيره: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل مبعثه كان إذا حضرت الصلاة يخرج إلى شعاب مكّة و يخرج معه علىّ مستخفين عن أبي طالب و من سائر أعمامه و قومه يصلّيان الصلاة فإذا أمسيا رجعا. فمكثا كذلك ما شاء اللّه. ثمّ إنّ أبا طالب عثر عليهما يوما و هما يصلّيان. فقال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يابن أخى ما هذا الّذي أراك تدين به فقال: يا عمّ هذا دين اللّه و دين ملائكته و رسله و دين أبينا إبراهيم بعثنى اللّه رسولا إلى العباد و أنت يا عمّ أحقّ من بذلت له النصيحة و دعوته إلى الهدى و أحقّ من أجابنى إليه و أعاننى عليه. فقال أبو طالب: يابن أخى إنّى لا أستطيع أن افارق دينى و دين آبائى و ما كانوا عليه و لكن و اللّه لا يخلص إليك شيء تكرهه ما بقيت. و روى أنّه قال لعلىّ: يا بنىّ ما هذا الّذي تدين به فقال يا أبه: إنّى آمنت باللّه و رسوله و صدّقته فيما جاء به و صلّيت للّه معه. قال: فقال له: أما إنّه لا يدعو إلّا إلى خير فالزمه.
السابعة: أشار إلى كونه أوّل من أسلم من الذكور
بقوله: لم يجمع بيت واحد. إلى قوله: و أنا ثالثهما. و قد مضى منه عليه السّلام مثل ذلك حيث قال: أكذب على اللّه و أنا أوّل من آمن به و قوله: فلا تتبّروا منّى فإنّى ولدت على الفطرة و سبقت إلى الإسلام و الهجرة. و روي الطبرى في تاريخه عن عباد بن عبد اللّه قال: سمعت عليّا عليه السّلام يقول: أنا عبد اللّه و أخو رسول اللّه و أنا الصدّيق الأكبر لا يقولها بعدى إلّا كاذب مفتر صلّيت قبل الناس لسبع سنين، و في رواية اخرى: أنا الصدّيق و الفاروق الأوّل أسلمت قبل إسلام أبي بكر و صلّيت قبل صلاته لسبع سنين، و روى ذلك أيضا من وجوه: أحدها: عن ابن مسعود قال: قدمت إلى مكّة فانتهيت إلى العبّاس بن عبد- المطّلب و هو يومئذ عطّار جالس إلى زمزم و نحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا عليه ثوبان أبيضان، عليه، وفرة جعدة إلى أنصاف اذنيه، أشم أقنى، أدعج العينين، كثّ اللحية، أبلج برّاق الثنايا، أبيض تعلوه حمرة، و على يمينه غلام مراهق أو محتلم حسن الوجه، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها. فقصدوا نحو الحجر فاستلمه الرجل ثمّ الغلام ثمّ طافوا بالبيت ثمّ استقبلوا الحجر و قام الغلام إلى جانب الرجل و المرأة خلفهما فأتوا بأركان الصلاة مستوفاة فلمّا رأينا ما لا نعرفه بمكّة قلنا للعبّاس: إنّا لا نعرف هذا الدين فيكم. فقال: أجل و اللّه. فسألناه عن هؤلاء فعرّفنا إيّاهم ثمّ قال: و اللّه ما على وجه الأرض أحد يدين بهذا الدين إلّا هؤلاء الثلاثة. و روى مثله عن عفيف بن قيس. الثاني: روى عن معقل بن يسار قال: كنت عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال لي: هل لك أن تعود فاطمه فقلت: نعم يا رسول اللّه فقمنا فدخلنا عليها فقال لها صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كيف تجدينك قالت: و اللّه لقد طال سقمى و اشتدّ حزنى و قال لى النساء: زوّجك أبوك فقيرا لا مال له فقال لها: أما ترضين أنّى زوّجتك أقدم امّتى سلما و أكثرهم علما و أفضلهم حلما قالت: بلى رضيت يا رسول اللّه.
و روى هذا الخبر عن أبي أيّوب الأنصارىّ، و عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام، و السدى، و ابن عبّاس، و جابر بن عبد اللّه الأنصارىّ، و أسماء بنت عميس، و امّ أيمن. الثالث: روى عن أبي رافع قال: أتيت أباذرّ بالربذة اودّعه. فقال لى: ستكون فتنة فاتّقوا اللّه و عليكم بالشيخ علىّ بن أبي طالب فاتّبعوه فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول له: أنت أوّل من آمن بى و أوّل من يصافحني يوم القيامة و أنت الصدّيق الاكبر و أنت الفاروق الّذي يفرّق بين الحق و الباطل و أنت يعسوب المؤمنين. الرابع: عن أبي أيّوب الأنصارىّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: لقد صلّت الملائكة علىّ و على علىّ سبع سنينّ و ذلك أنّه لم يصلّ معى رجل فيها غيره. و اعلم أنّه ربّما اعترض بعض الجهّال فقال: إنّ إسلامه عليه السّلام لم يكن معتبرا لكونه كان دون البلوغ. فجوابه من وجوه: أحدها: لا نسلّم أنّه كان دون البلوغ. و مستند هذا المنع وجوه: أحدها: رواية شدّاد بن أوس قال سألت خباب بن الأرتّ عن سنّ علىّ يوم أسلم. و قال أسلم و هو ابن خمس عشرة سنة و هو يومئذ بالغ مستحكم البلوغ. الثاني: ما رواه أبو قتادة عن الحسن أنّ أوّل من أسلم عليّ بن أبي طالب و هو ابن خمس عشرة سنة. الثالث: عن حذيفة بن اليمانىّ قال كنّا نعبد الحجارة و نشرب الخمر و علىّ من أبناء أربع عشرة سنة يصلّى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلا و نهارا و قريش يومئذ تسافهه ما يذبّ عنه إلّا علىّ. الثاني: أنّ المتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ المسلم و الكافر إنّما هو البالغ دون الصبىّ و المبادرة إلى الّذهن دليل الحقيقة فالواجب إذن أن يرجع إلى إطلاق قولهم أسلم علىّ. فإنّ ذلك يشهد بكونه بالغا عاقلا لما يفعله خصوصا في البلاد الحارّة مثل مكّة فإنّ- العادة في المزاج الصحيح فيها أن يبلغ صاحبه فيما دون خمس عشرة سنه و ربّما احتلم و هو ابن اثنى عشرة سنة. الثالث: و هو الحاسم لمادّة الإشكال أنّه عليه السّلام إمّا أن يكون أسلم و هو بالغ أو لم يكن فإن كان الأوّل فقد حصل الغرض و إن لم يكن فلا معنى للكفر في حقّه إذ كان عليه السّلام مولودا على الفطرة فمعنى الإسلام في حقّه إذن دخوله في طاعة اللّه و رسوله و الاستسلام لأوامرهما فله إذن الإسلام الفطرىّ و الإيمان الخالص الوارد على نفس قدسيّة لم تتدّنس بأدناس الجاهليّة و عبادة الأصنام و الاعتقادات الباطلة المضادّة للحقّ الّتي صارت ملكات في نفس من أسلم بعد علوّ السنّ. فكان ايمانه باللّه و رسوله واردا على نفس صاف لوحها عن كدر الباطل فهي المنتقشة بالحقّ متمثّلة به. و كانت غاية إسلام غيره أن يمحو على طول الرياضة من نفوسهم الآثار الباطلة و ملكات السوء فأين أحدهما من الآخر
الثامنة: كونه عليه السّلام يرى نور الوحى بالرسالة و يشمّ ريح النبوّة، و سماعه لرنّة الشيطان.
و هذه أعلى مراتب الأولياء، و استعار لفظ النور لما يشاهده بعين بصيرته الباقية من أسرار الوحى و الرسالة و علوم التنزيل و دقايق التأويل و إشراقها على لوح نفسه القدسيّة، و وجه الاستعارة كون هذه العلوم و الأسرار هادية في سبيل اللّه إليه من ظلمات الجهل كما يهدى النور من الطرق المحسوسة، و رشّح تلك الاستعارة بذكر الرؤية لأنّ النور حظّ البصر، و كذلك استعار لفظ الريح لما أدركه من مقام النبوّة و أسرارها، و رشّح بذكر الشمّ لأنّ الريح حظّ القوّة الشامّة، و أمّا سماعه لرنّة الشيطان فقد علمت كيفيّة سماع الإنسان لصوت الملك و الشيطان و كيفيّة رؤيته لصورته و أنّ ذلك باستعانة من النفس بالقوّة المتخيّلة في اقتناص المعاني المعقولة و حطّها إلى لوح الخيال مشاهدة للحسّ المشترك مسموعة.
و قد استلزمت هذه الإشارة أنّه عليه السّلام استعدّ لسماع صوت الشيطان في حزنه حين أيس من اتّباع الخلق له و انقيادهم لأمره و هو معنى عبادته إذ أصل العبادة الخضوع.
و كيفيّة ذلك أنّ نفسه القدسيّة أخذت معنى الشيطان مقرونا بمعنى اليأس و الحزن، و كسته المتخيّلة صورة حزين صارخ، و حطّته إلى لوح الخيال فصار مسموع الرنّة له. و يؤيّد ذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين سأله عن ذلك: إنّك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى إلّا أنّك لست بنبىّ. فإنّه شهد له في ذلك بالوصول إلى مقام سماع الوحى و كلام الملك و صوت الشيطان و سائر ما يراه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يسمعه ممّا قويت عليه نفسه القدسيّة إلّا كونه نبيّا فإنّ مقام النبوّة لا يتحقّق للإنسان إلّا بالشرط الّذي أشرنا إليه في المقدّمات و فرّقنا بين النبىّ و غيره من سائر النفوس الكاملة، و هو كون الإنسان مخاطبا من السماء بإصلاح أمر أبناء نوعه في معاشهم و معادهم و ذلك مقام أعلى و أكمل من كلّ مقام يبلغه إنسان بقوّته، و روى عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: كان علىّ عليه السّلام يرى مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل الرسالة الضوء و يسمع الصوت، و قال له الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لولا أنّى خاتم الأنبياء لكنت شريكا في النبوّة فإن لا تكن نبيّا فأنت وصىّ نبىّ و وارثه بل أنت سيّد الأوصياء و إمام الأتقياء. ثمّ لمّا نفى عنه مقام النبوّة جبره [أخبره ح] به مقام الوزارة إشارة إلى أنّه الصالح لتدبير أحوال الخلق في معاشهم و معادهم من ورائه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعده المعين له على ذلك.
ثمّ شهد له بأنّه على خير. و أشار به إلى ما هو عليه من الطريقة المحمودة و استقامة السيرة في خدمته و تربيته. و ذلك خير كثير. و في مسند أحمد بن حنبل عن علىّ قال: كنت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الليلة الّتي اسري به فيها و هو بالحجر يصلّى فلمّا قضى صلاته و قضيت صلاتى سمعت رنّة شديدة فقلت: يا رسول اللّه ما هذه الرنّة و قال ألا تعلم هذه رنّة الشيطان علم أنّى اسرى اليلة إلى السماء فأيس من أن يعبد في هذه الأرض. و أمّا حديث الوزارة فروى أنّه لمّا نزل قوله وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ«» دعانى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمرنى أن أصنع صاعا من طعام و أجعل عليه رجل شاة و أملأ له عسّا من لبن ففعلت ما أمرنى به. ثمّ أمرنى بجمع بنى عبد المطّلب فجمعتهم يومئذ و هم أربعون رجلا فيهم أعمامه أبو طالب و حمزه و العبّاس و أبو لهب فلمّا اجتمعوا دعا بالطعام الّذي صنعه فوضعه ثمّ تناول مضغة من لحم فشقّها بأسنانه ثمّ ألقاها فى نواحى الصحفة و قال: كلوا باسم اللّه فأكلوا حتّى ما بهم إلى شيء من حاجة. و الّذي نفس محمّد بيده كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمته لجميعهم. ثمّ قال اسق القوم يا علىّ. فجئتهم بذلك العسّ فشربوا منه حتّى رووا جميعا، و أيم اللّه كان الرجل الواحد ليشرب منه مثله. ثمّ قال لهم: يا بنى عبد المطّلب إنّي و اللّه ما أعلم شابّا في العرب جاء قومه بأفضل ما جئتكم به إنّي قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة و قد أمرنى اللّه أن أدعوكم إليه فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخى و وصيّى و خليفتى فيكم فأحجم القوم عنها جميعا فقلت و إنّى لأحدثهم سنّا و أرمصهم عينا و أعظمهم بطنا و أحمشهم ساقا: أنا يا رسول اللّه أكون وزيرك عليه فأعاد القول. فأمسكوا. و أعدت ما قلت. فأخذ برقبتى ثمّ قال لهم: هذا أخى و وصيّى و خليفتى فيكم فاسمعوا له و أطيعوا. فقام القوم يضحكون يقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك و تطيع.
التاسعة: كونه معه حين أتاه الملأ من قريش و سألوه ما سألوا من دعوة الشجرة و تصديقه عليه السّلام له في ذلك و ايمانه به. و قد علمت فيما سلف أنّ نفوس الأنبياء عليهم السّلام لها تصرّف في هيولى عالم الكون و الفساد فيستعدّ عن نفوسهم لقبول الامور الخارقة للعادات الخارجة عن وسع غيرهم من أبناء نوعهم. و صورة الحال في سؤالهم و كيفيّة دعوته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للشجرة و إجابتهم و تكذيبهم بذلك و تصديقه عليه السّلام له مستوفي في كلامه، و ذلك من قوله: و لقد كنت. إلى قوله: يعنوني. فأمّا حكمه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنّهم لا يفيئون إلى خير و أنّ منهم من يطرح في القليب و منهم من يحزّب الأحزاب فمن غيب اللّه الّذي اطّلعه عليه و ارتضاه له فعلمه بحسب قوّته الحدسيّة القدسيّة. و القليب هو قليب بدر، و من طرح فيه كعتبة و شيبة ابنى ربيعة و اميّة بن عبد شمس و أبي جهل و الوليد بن المغيرة و غيرهم طرحوا فيه بعد انقضاء الحرب و كان ذلك الخبر من أعلام نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من يحزّب الأحزاب هو أبو سفيان و عمرو بن عبدودّ و صفوان بن اميّة و عكرمة بن أبي جهل و سهل بن عمرو و غيرهم.
و أمّا حديث الشجرة فمشهور مستفاض رواه المحدّثون في كتبهم، و ذكره المتكلّمون في معجزاته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و منهم من روى ذلك مختصرا أنّه دعا شجرة فأقبلت تخدّ الأرض خدّا. و نقله البيهقيّ في كتاب دلايل النبوّة، و أمّا نداؤه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للشجرة.
و قوله لها: إن كنت تؤمنين باللّه. إلى قوله: بإذن اللّه. فقد علمت أنّ الخطاب مخصوص في عرف العقلاء لمن يعقل لكنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا وجّه نفسه القدسيّة من إعداد الشجرة لما يروم منها و علم أنّه واجبة الاستعداد بذلك لقبول أمر اللّه بما أراد منها خاطبها خطاب من يعقل استعارة ملاحظة لشبهها بمن يعقل في إجابة ندائه و إتيانه، و فايدة ذلك الخطاب أن يكون وجود ما رام منها عقيب خطابه أغرب و في نفوس الحاضرين أبلغ و أعجب فإذا كان وقوع تلك الحال بها غريبا كان كونها على تلك الحال وفق خطابه و دعائه لها أغرب لزيادة ايهام كونها سمعت ذلك النداء و عقلت ذلك الخطاب مع أنّها ليس من شأنها ذلك، و أعجب في نفوس السامعين. و لذلك خرج هذا عن كونه سفها و عبثا.
و قال الإمام الوبرىّ- رحمه اللّه- : و نحو ذلك قوله تعالى وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي«».
و اعلم أنّ ذلك على رأى الأشعريّة أمر ظاهر لأنّ البنية المخصوصة ليست شرطا في حصول الحياة و ما يكون مشروطا بها من السمع و الفهم فلذلك جاز أن يكون اللّه تعالى خلق في الشجرة علما و سمعا قبلت بها خطابه عليه السّلام.
و قال الإمام الوبرىّ: الخطاب في الأصل للّه تعالى فكأنّه قال: اللّهم إن كانت هذه الشجرة من آثارك الشاهدة بوجودك و أنت مرسل لى فاجعل ما سألت منها شاهدا على صدق دعواى. و لمّا كانت الشجرة محلّ ما سأل من اللّه خاطبها لذلك. فعلى هذا يكون مجازا من باب إقامة المسبّب مقام السبب. قال: و يحتمل أن يكون الخطاب في الأصل للملائكة الموكّلين بالشجر.
قوله: و إنّى لمن قوم. إلى قوله: لائم.
كناية عن بلوغه في طاعة اللّه الغاية المطلوبة منه فإنّه عليه السّلام لم يقف دون غاية منها حتّى يلام على النقص فيها.
و قوله: سيماهم سيما الصدّيقين. إلى آخر الصفات.
فالقوم هم المتّقون الّذين سأله همّام عن صفتهم. و الصفات المذكورة بعض صفاتهم و قد سبقت مستوفاة في خطبة مفردة. و ذكر هاهنا عشرا: إحداها: أنّ علاماتهم علامات الصدّيقين و هم الملازمون للصدق في أقوالهم و أفعالهم طاعة للّه تعالى و قد عرفت علاماتهم في خطبة همّام. الثانية: و كذلك كلامهم كلام الأبرار من الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و الذكر الدائم لمعبودهم الحقّ. الثالثة: كونهم عمّار الليل. و كنّى بعمارتهم له عن قيامهم فيه بالعبادة. روى أنّ أحدهم كان إذا كسل عن العمل علّق نفسه بحبل حتّى يصبح عقوبة لها. الرابعة: استعار لفظ المنار لهم بالنهار باعتبار كونهم يهدون الخلق إلى طريق اللّه كالمنار إلى الطريق المحسوس، و كذلك لفظ الحبل للقرآن باعتبار كونه سببا لمتعلّميه و متدبّريه إلى التروّى من ماء الحياة الباقية كالعلوم و الأخلاق الفاضلة كالحبل الّذي هو سبب الارتواء و الاستقاء من الماء، أو باعتبار كونه عصمة لمن تمسّك به صاعدا من دركات الجهل إلى أقصى درجات العقل كالحبل يصعد فيه من السفل إلى العلوّ. و لفظ القرآن مجرور بعطف البيان. الخامسة: و كذلك استعار وصف إحياء السنن لهم باعتبار إقامتها و إبقاء العمل بها. السادسة: عدم الاستكبار و العلوّ منهم. و لمّا كان الاستكبار في الإنسان رذيلة كان عدمه عنه فضيلة. السابعه: عدم الغلول. و هو فضيلة، لكون الغلول مستلزما لرذائل كالشره و الخيانة و الحرص و الدنائة و غيرها و كان عدمه كمالا. الثامنة: كونهم لا يفسدون. و لمّا كان كلّ فساد مستلزم رذيلة أو رذائل كالزنا المستلزم لرذيلة الفجور و كالقتل المستلزم لرذيلة الظلم و كذلك سائرها كان عدمه كمالا. التاسعة: كون قلوبهم في الجنان. و ذلك أنّك علمت أنّ أعلى غرفات الجنان و درجاتها هو المعارف الإلهيّة و القعود في مقاعد الصدق عند المليك المقتدر و ذلك من مقامات العارفين و أولياء اللّه الصدّيقين. العاشرة: كون أجسادهم في العمل. فالواو في قوله: و أجسادهم. يحتمل أن يكون للحال أى أنّ قلوبهم في الجنان ما يكون أجسادهم مستغرقة الحركات و السكنات في الأعمال الصالحات أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحهى 233