231 و من خطبة له ع
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الشَّوَاهِدُ- وَ لَا تَحْوِيهِ الْمَشَاهِدُ- وَ لَا تَرَاهُ النَّوَاظِرُ- وَ لَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ- الدَّالِّ عَلَى قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ- وَ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى وُجُودِهِ- وَ بِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لَا شَبَهَ لَهُ- الَّذِي صَدَقَ فِي مِيعَادِهِ- وَ ارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ- وَ قَامَ بِالْقِسْطِ فِي خَلْقِهِ- وَ عَدَلَ عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِهِ- مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الْأَشْيَاءِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ- وَ بِمَا وَسَمَهَا بِهِ مِنَ الْعَجْزِ عَلَى قُدْرَتِهِ- وَ بِمَا اضْطَرَّهَا إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ عَلَى دَوَامِهِ- وَاحِدٌ لَا بِعَدَدٍ وَ دَائِمٌ لَا بِأَمَدٍ وَ قَائِمٌ لَا بِعَمَدٍ- تَتَلَقَّاهُ الْأَذْهَانُ لَا بِمُشَاعَرَةٍ- وَ تَشْهَدُ لَهُ الْمَرَائِي لَا بِمُحَاضَرَةٍ- لَمْ تُحِطْ بِهِ الْأَوْهَامُ بَلْ تَجَلَّى لَهَا بِهَا- وَ بِهَا امْتَنَعَ مِنْهَا وَ إِلَيْهَا حَاكَمَهَا- لَيْسَ بِذِي كِبَرٍ امْتَدَّتْ بِهِ النِّهَايَاتُ فَكَبَّرَتْهُ تَجْسِيماً- وَ لَا بِذِي عِظَمٍ تَنَاهَتْ بِهِ الْغَايَاتُ فَعَظَّمَتْهُ تَجْسِيداً- بَلْ كَبُرَ شَأْناً وَ عَظُمَ سُلْطَاناً- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ الصَّفِيُّ- وَ أَمِينُهُ الرَّضِيُّ ص- أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ وَ ظُهُورِ الْفَلَجِ وَ إِيضَاحِ الْمَنْهَجِ- فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ صَادِعاً بِهَا- وَ حَمَلَ عَلَى الْمَحَجَّةِ دَالًّا عَلَيْهَا- وَ أَقَامَ أَعْلَامَ الِاهْتِدَاءِ وَ مَنَارَ الضِّيَاءِ- وَ جَعَلَ أَمْرَاسَ الْإِسْلَامِ مَتِينَةً- وَ عُرَا الْإِيمَانِ وَثِيقَةً
الشواهد هاهنا يريد بها الحواس- و سماها شواهد إما لحضورها- شهد فلان كذا أي حضره- أو لأنها تشهد على ما تدركه و تثبته عند العقل- كما يشهد الشاهد بالشيء و يثبته عند الحاكم- . و المشاهد هاهنا المجالس و النوادي- يقال حضرت مشهد بني فلان أي ناديهم و مجتمعهم- . ثم فسر اللفظة الأولى و أبان عن مراده بها بقوله- و لا تراه النواظر- و فسر اللفظة الثانية و أبان عن مرادها- فقال و لا تحجبه السواتر- .
ثم قال الدال على قدمه بحدوث خلقه- و بحدوث خلقه على وجوده- هذا مشكل لأن لقائل أن يقول- إذا دل على قدمه بحدوث خلقه- فقد دخل في جملة المدلول كونه موجودا- لأن القديم هو الموجود و لم يزل- فأي حاجه إلى أن يعود فيقول- و بحدوث خلقه على وجوده- . و لمجيب أن يجيب على طريقة شيوخنا أصحاب أبي هاشم- فيقول لا يلزم من الاستدلال بحدوث الأجسام- على أنه لا بد من محدث قديم كونه موجودا- لأن عندهم أن الذات المعدومة قد تتصف بصفات ذاتية- و هي معدومة- فلا يلزم من كون صانع العالم عندهم عالما قادرا حيا- أن يكون موجودا بل لا بد من دلالة زائدة- على أن له صفة الوجود و هي و الدلالة التي يذكرونها- من أن كونه قادرا عالما- تقتضي تعلقه بالمقدور و المعلوم و كل ذات متعلقة- فإن عدمها يخرجها عن التعلق كالإرادة- فلو كان تعالى معدوما لم يجز أن يكون متعلقا- فحدوث الأجسام إذا قد دل على أمرين من وجهين مختلفين- أحدهما أنه لا بد من صانع له و هذا هو المعني بقدمه- .
و الثاني أن هذا الصانع له صفة- لأجلها يصح على ذاته أن تكون قادرة عالمة- و هذا هو المعني بوجوده- . فإن قلت أ يقول أصحاب شيخكم أبي هاشم- إن الذات المعدومة التي لا أول لها تسمى قديمة- قلت لا و البحث في هذا بحث في اللفظ لا في المعنى- . و المراد بقوله ع الدال بحدوث الأشياء على قدمه- أي على كونه ذاتا لم يجعلها جاعل- و ليس المراد بالقدم هاهنا الوجود لم يزل- بل مجرد الذاتية لم يزل- . ثم يستدل بعد ذلك بحدوث الأشياء- على أن له صفة أخرى لم تزل زائدة على مجرد الذاتية- و تلك الصفة هي وجوده- فقد اتضح المراد الآن- .
فإن قلت فهل لهذا الكلام مساغ على مذهب البغداديين- قلت نعم إذا حمل على منهج التأويل- بأن يريد بقوله و بحدوث خلقه على وجوده- أي على صحة إيجاده له فيما بعد- أي إعادته بعد العدم يوم القيامة- لأنه إذا صح منه تعالى إحداثه ابتداء- صح منه إيجاده ثانيا على وجه الإعادة- لأن الماهية قابلة للوجود و العدم- و القادر قادر لذاته- فأما من روى بحدوث خلقه على وجوده- فإنه قد سقطت عنه هذه الكلف كلها- و المعنى على هذا ظاهر- لأنه تعالى دل المكلفين بحدوث خلقه على أنه جواد منعم- و مذهب أكثر المتكلمين- أنه خلق العالم جودا و إنعاما و إحسانا إليهم- . قوله ع و باشتباههم على أن لا شبه له- هذا دليل صحيح- و ذلك لأنه إذا ثبت أن جسما ما محدث- ثبت أن سائر الأجسام محدثة لأن الأجسام متماثلة- و كل ما صح على الشيء صح على مثله- و كذلك إذا ثبت أن سوادا ما أو بياضا ما محدث- ثبت أن سائر السوادات و البياضات محدثة- لأن حكم الشيء حكم مثله- و السواد في معنىكونه سوادا غير مختلف- و كذلك البياض- فصارت الدلالة هكذا- الذوات التي عندنا يشبه بعضها بعضا و هي محدثة- فلو كان الباري سبحانه يشبه شيئا منها لكان مثلها- و لكان محدثا لأن حكم الشيء حكم مثله- لكنه تعالى ليس بمحدث- فليس بمشابه لشيء منها- فقد صح إذا قوله ع و باشتباههم على أن لا شبه له- .
قوله ع الذي صدق في ميعاده- لا يجوز ألا يصدق لأن الكذب قبيح عقلا- و الباري تعالى يستحيل منه- من جهة الداعي و الصارف أن يفعل القبيح- . قوله ع و ارتفع عن ظلم عباده- هذا هو مذهب أصحابنا المعتزلة و عن أمير المؤمنين ع أخذوه- و هو أستاذهم و شيخهم في العدل و التوحيد- فأما الأشعرية- فإنها و إن كانت تمتنع عن إطلاق القول- بأن الله تعالى يظلم العباد- إلا أنها تعطي المعنى في الحقيقة- لأن الله عندهم يكلف العباد ما لا يطيقونه- بل هو سبحانه عندهم لا يكلفهم إلا ما لا يطيقونه- بل هو سبحانه عندهم لا يقدر على أن يكلفهم ما يطيقونه- و ذلك لأن القدرة عندهم مع الفعل- فالقاعد غير قادر على القيام- و إنما يكون قادرا على القيام عند حصول القيام- و يستحيل عندهم أن يوصف الباري تعالى- بإقدار العبد القاعد على القيام- و هو مع ذلك مكلف له أن يقوم- و هذا غاية ما يكون من الظلم- سواء أطلقوا هذه اللفظة عليه أو لم يطلقوها- .
ثم أعاد الكلام الأول في التوحيد تأكيدا- فقال حدوث الأشياء دليل على قدمه- و كونها عاجزة عن كثير من الأفعال دليل على قدرته- و كونها فانية دليل على بقائه- . فإن قلت- أما الاستدلال بحدوث الأشياء على قدمه فمعلوم- فكيف يكون الاستدلال على الأمرين الأخيرين-قلت إذا شاركه سبحانه- بعض الموجودات في كونه موجودا- و افترقا في أن أحدهما لا يصح منه فعل الجسم- و لا الكون و لا الحياة و لا الوجود المحدث- و يصح ذلك من الموجودات القديمة- دل على افتراقهما في أمر لأجله صح من القديم ذلك- و تعذر ذلك على المحدث- و ذلك الأمر هو الذي يسمى من كان عليه قادرا- و ينبغي أن تحمل لفظة العجز هاهنا على المفهوم اللغوي- و هو تعذر الإيجاد- لا على المفهوم الكلامي- .
و أما الاستدلال الثاني- فينبغي أن يحمل الفناء هاهنا على المفهوم اللغوي- و هو تغير الصفات و زوالها- لا على المفهوم الكلامي فيصير تقدير الكلام- لما كانت الأشياء التي بيننا تتغير و تتحول- و تنتقل من حال إلى حال- و علمنا أن العلة المصححة لذلك كونها محدثة- علمنا أنه سبحانه لا يصح عليه التنقل و التغير- لأنه ليس بمحدث- ثم قال واحد لا بعدد- لأن وحدته ذاتية و ليست صفة زائدة عليه- و هذا من الأبحاث الدقيقة في علم الحكمة- و ليس هذا الكتاب موضوعا لبسط القول في أمثاله- .
ثم قال دائم لا بأمد لأنه تعالى ليس بزماني- و داخل تحت الحركة و الزمان- و هذا أيضا من دقائق العلم الإلهي- و العرب دون أن تفهم هذا أو تنطق به- و لكن هذا الرجل كان ممنوحا من الله تعالى- بالفيض المقدس و الأنوار الربانية- . ثم قال قائم لا بعمد- لأنه لما كان في الشاهد كل قائم فله عماد يعتمد عليه- أبان ع تنزيهه تعالى عن المكان- و عما يتوهمه الجهلاء من أنه مستقر على عرشه بهذه اللفظة- و معنى القائم هاهنا ليس ما يسبق إلى الذهن- من أنه المنتصب بل ما تفهمه من قولك- فلان قائم بتدبير البلد و قائم بالقسط- . ثم قال تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة- أي تتلقاه تلقيا عقليا- ليس كما يتلقى الجسم الجسم- بمشاعره و حواسه و جوارحه- و ذلك لأن تعقل الأشياء- و هو حصول صورهافي العقل بريئة من المادة- و المراد بتلقيه سبحانه هاهنا تلقي صفاته- لا تلقي ذاته تعالى لأن ذاته تعالى لا تتصورها العقول- و سيأتي إيضاح أن هذا مذهبه ع- .
ثم قال و تشهد له المرائي لا بمحاضرة- المرائي جمع مرئي و هو الشيء المدرك بالبصر- يقول المرئيات تشهد بوجود الباري- لأنه لو لا وجوده لما وجدت- و لو لم توجد لم تكن مرئيات- و هي شاهدة بوجوده لا كشهادتها بوجود الأبصار- لأنها شهدت بوجود الأبصار لحضورها فيها- و أما شهادتها بوجود الباري- فليست بهذه الطريق بل بما ذكرناه- و الأولى أن يكون المرائي هاهنا جمع مرآة بفتح الميم- من قولهم هو حسن في مرآة عيني- يقول إن جنس الرؤية يشهد بوجود الباري- من غير محاضرة منه للحواس- . قوله ع لم تحط به الأوهام- إلى قوله ع و إليها حاكمها- هذا الكلام دقيق و لطيف- و الأوهام هاهنا هي العقول- يقول إنه سبحانه لم تحط به العقول- أي لم تتصور كنه ذاته- و لكنه تجلى للعقول بالعقول- و تجليه هاهنا هو كشف ما يمكن أن تصل إليه العقول- من صفاته الإضافية و السلبية لا غير- و كشف ما يمكن أن تصل إليه العقول- من أسرار مخلوقاته- فأما غير ذلك فلا- و ذلك لأن البحث النظري قد دل- على أنا لم نعلم منه سبحانه إلا الإضافة و السلب- أما الإضافة فكقولنا عالم قادر- و أما السلب فكقولنا ليس بجسم- و لا عرض و لا يرى- فأما حقيقة الذات المقدسة المخصوصة من حيث هي هي- فإن العقل لا يتصورها- و هذا مذهب الحكماء و بعض المتكلمين- من أصحابنا و من غيرهم- .
ثم قال و بالعقول امتنع من العقول- أي و بالعقول و بالنظر- علمنا أنه تعالى يمتنع أن تدركه العقول- . ثم قال و إلى العقول حكم العقول- أي جعل العقول المدعية أنها أحاطتبه- و أدركته كالخصم له سبحانه- ثم حاكمها إلى العقول السليمة الصحيحة النظر- فحكمت له سبحانه- على العقول المدعية لما ليست أهلا له- . و اعلم أن القول بالحيرة في جلال ذات الباري- و الوقوف عند حد محدود لا يتجاوزه العقل- قول ما زال فضلاء العقلاء قائلين به
من أشعار الشارح في المناجاة
و من شعري الذي أسلك فيه مسلك المناجاة عند خلواتي- و انقطاعي بالقلب إليه سبحانه قولي-
و الله لا موسى و لا عيسى
المسيح و لا محمد
علموا و لا جبريل و هو
إلى محل القدس يصعد
كلا و لا النفس البسيطة
لا و لا العقل المجرد
من كنه ذاتك غير أنك
واحدي الذات سرمد
وجدوا إضافات و سلبا
و الحقيقة ليس توجد
و رأوا وجودا واجبا
يفنى الزمان و ليس ينفد
فلتخسأ الحكماء عن
جرم له الأفلاك تسجد
من أنت يا رسطو و من
أفلاط قبلك يا مبلد
و من ابن سينا حين قرر
ما بنيت له و شيد
هل أنتم إلا الفراش
رأى الشهاب و قد توقد
فدنا فأحرق نفسه
و لو اهتدى رشدا لأبعد
و مما قلته أيضا في قصور العقل- عن معرفته سبحانه و تعالى-
فيك يا أعجوبة الكون
غدا الفكر كليلا
أنت حيرت ذوي اللب
و بلبلت العقولا
كلما أقدم فكري
فيك شبرا فر ميلا
ناكصا يخبط في عمياء
لا يهدى السبيلا
و لي في هذا المعنى-
فيك يا أغلوطة الفكر
تاه عقلي و انقضى عمري
سافرت فيك العقول فما
ربحت إلا أذى السفر
رجعت حسرى و ما وقفت
لا على عين و لا أثر
فلحى الله الألى زعموا
أنك المعلوم بالنظر
كذبوا إن الذي طلبوا
خارج عن قوة البشر
و قلت أيضا في المعنى-
أفنيت خمسين عاما معملا نظري
فيه فلم أدر ما آتي و ما أذر
من كان فوق عقول القائسين فما
ذا يدرك الفكر أو ما يبلغ النظر
و لي أيضا-
حبيبي أنت لا زيد و عمرو
و إن حيرتني و فتنت ديني
طلبتك جاهدا خمسين عاما
فلم أحصل على برد اليقين
فهل بعد الممات بك اتصال
فأعلم غامض السر المصون
نوى قذف و كم قد مات قبلي
بحسرته عليك من القرون
و من شعري أيضا في المعنى- و كنت أنادي به ليلا- في مواضع مقفرة خالية من الناس بصوت رفيع- و أجدح قلبي أيام كنت مالكا أمري- مطلقا من قيود الأهل و الولد و علائق الدنيا-
يا مدهش الألباب و الفطن
و محير التقوالة اللسن
أفنيت فيك العمر أنفقه
و المال مجانا بلا ثمن
أتتبع العلماء أسألهم
و أجول في الآفاق و المدن
و أخالط الملل التي اختلفت
في الدين حتى عابد الوثن
و ظننت أني بالغ غرضي
لما اجتهدت و مبرئ شجني
و مطهر من كل رجس هوى
قلبي بذاك و غاسل درني
فإذا الذي استكثرت منه هو
الجاني علي عظائم المحن
فضللت في تيه بلا علم
و غرقت في يم بلا سفن
و رجعت صفر الكف مكتئبا
حيران ذا هم و ذا حزن
أبكي و أنكت في الثرى بيدي
طورا و أدعم تارة ذقني
و أصيح يا من ليس يعرفه
أحد مدى الأحقاب و الزمن
يا من له عنت الوجوه و من
قرنت له الأعناق في قرن
آمنت يا جذر الأصم من الأعداد
بل يا فتنة الفتن
أن ليس تدركك العيون و أن
الرأي ذو أفن و ذو غبن
و الكل أنت فكيف يدركه
بعض و أنت السر في العلن
و مما قلته في المعنى-
ناجيته و دعوته اكشف عن عشا
قلبي و عن بصري و أنت النور
و ارفع حجابا قد سدلت ستوره
دوني و هل دون المحب ستور
فأجابني صه يا ضعيف فبعض ذا
قد رامه موسى فدك الطور
أعجبني هذا المعنى فنقلته إلى لفظ آخر فقلت-
حبيبي أنت من دون البرايا
و إن لم أحظ منك بما أريد
قنعت من الوصال بكشف حال
فقيل ارجع فمطلبها بعيد
أ لم تسمع جواب سؤال موسى
و ليس على مكانته مزيد
تعرض للذي حاولت يوما
فدك الصخر و اضطرم الصعيد
و لي في هذا المعنى أيضا-
قد حار في النفس جميع الورى
و الفكر فيها قد غدا ضائعا
و برهن الكل على ما ادعوا
و ليس برهانهم قاطعا
من جهل الصنعة عجزا فما
أجدره أن يجهل الصانعا
و لي أيضا في الرد على الفلاسفة- الذين عللوا حركة الفلك- بأنه أراد استخراج الوضع أولا- ليتشبه بالعقل المجرد في كماله- و أن كل ما له بالقوة فهو خارج إلى الفعل-
تحير أرباب النهى و تعجبوا
من الفلك الأقصى لما ذا تحركا
فقيل بطبع كالثقيل إذا هوى
و قيل اختيارا و المحقق شككا
فرد حديث الطبع إذ كان دائرا
و ليس على سمت قويم فيسلكا
و قيل لمن قال اختيارا فما الذي
دعاه إلى أن دار ركضا فأوشكا
فقالوا لوضع حادث يستجده
يعاقب منه مطلبا ثم متركا
فقيل لهم هذا الجنون بعينه
و لو رامه منا امرؤ كان أعفكا
و لو أن إنسانا غدا ليس قصده
سوى الوضع و استخراجه عد مضحكا
و لي أيضا في الرد على من زعم أن النبي ص- رأى الله سبحانه بالعين و هو الذي أنكرته عائشة- و العجب لقوم من أرباب النظر- جهلوا ما أدركته امرأة من نساء العرب-
عجبت لقوم يزعمون نبيهم
رأى ربه بالعين تبا لهم تبا
و هل تدرك الأبصار غير مكيف
و كيف تبيح العين ما يمنع القلبا
إذا كان طرف القلب عن كنهه نبا
حسيرا فطرف العين عن كنهه أنبى
و المقطعات التي نظمتها في إجلال الباري سبحانه- عن أن تحيط به العقول كثيرة- موجودة في كتبي و مصنفاتي فلتلمح من مظانها- و غرضنا بإيراد بعضها أن لها هنا تشييدا- لما قاله أمير المؤمنين ع علي في هذا الباب- .
قوله ع ليس بذي كبر- إلى قوله و عظم سلطانا- معناه أنه تعالى يطلق عليه من أسمائه الكبير و العظيم- و قد ورد بهما القرآن العزيز- و ليس المراد بهما ما يستعمله الجمهور من قولهم- هذا الجسم أعظم و أكبر مقدارا من هذا الجسم- بل المراد عظم شأنه و جلالة سلطانه- . و الفلج النصرة و أصله سكون العين- و إنما حركه ليوازن بين الألفاظ- و ذلكلأن الماضي منه فلج الرجل على خصمه بالفتح- و مصدره الفلج بالسكون- فأما من روى و ظهور الفلج- بضمتين فقد سقط عنه التأويل- لأن الاسم من هذا اللفظ- الفلج بضم أول الكلمة- فإذا استعملها الكاتب أو الخطيب- جاز له ضم الحرف الثاني- .
و صادعا بهما مظهرا مجاهدا و أصله الشق- . و الأمراس الحبال و الواحد مرس بفتح الميم و الراء مِنْهَا فِي صِفَةِ عَجِيبِ خَلْقِ أَصْنَافٍ مِنَ الْحَيَوَانِ: وَ لَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَ جَسِيمِ النِّعْمَةِ- لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ وَ خَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ- وَ لَكِنِ الْقُلُوبُ عَلِيلَةٌ وَ الْبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ- أَ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ- وَ أَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ وَ فَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ- وَ سَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَ الْبَشَرَ- انْظُرُوا إِلَى النَّمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا وَ لَطَافَةِ هَيْئَتِهَا- لَا تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ وَ لَا بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ- كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا وَ صُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا- تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا وَ تُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا- تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا وَ فِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا- مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا- لَا يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ وَ لَا يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ- وَ لَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ وَ الْحَجَرِ الْجَامِسِ- وَ لَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا- وَ فِي عُلْوِهَا وَ سُفْلِهَا- وَ مَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا- وَ مَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وَ أُذُنِهَا- لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً وَ لَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً-فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا- وَ بَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا- لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ- وَ لَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ- وَ لَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ- مَا دَلَّتْكَ الدَّلَالَةُ إِلَّا عَلَى أَنَّ فَاطِرَ النَّمْلَةِ- هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ- لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْءٍ- وَ غَامِضِ اخْتِلَافِ كُلِّ حَيٍّ- وَ مَا الْجَلِيلُ وَ اللَّطِيفُ وَ الثَّقِيلُ وَ الْخَفِيفُ- وَ الْقَوِيُّ وَ الضَّعِيفُ فِي خَلْقِهِ إِلَّا سَوَاءٌ- وَ كَذَلِكَ السَّمَاءُ وَ الْهَوَاءُ وَ الرِّيَاحُ وَ الْمَاءُ- فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ وَ الْقَمَرِ وَ النَّبَاتِ وَ الشَّجَرِ- وَ الْمَاءِ وَ الْحَجَرِ وَ اخْتِلَافِ هَذَا اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ- وَ تَفَجُّرِ هَذِهِ الْبِحَارِ وَ كَثْرَةِ هَذِهِ الْجِبَالِ- وَ طُولِ هَذِهِ الْقِلَالِ وَ تَفَرُّقِ هَذِهِ اللُّغَاتِ- وَ الْأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ- فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمُقَدِّرَ وَ جَحَدَ الْمُدَبِّرَ- زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ- وَ لَا لِاخْتِلَافِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ- وَ لَمْ يَلْجَئُوا إِلَى حُجَّةٍ فِيمَا ادَّعَوْا- وَ لَا تَحْقِيقٍ لِمَا دَعَوْا- وَ هَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَانٍ أَوْ جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ جَانٍ مدخولة معيبة و فلق شق و خلق- و البشر ظاهر الجلد- . قوله ع و صبت على رزقها- قيل هو على العكس أي و صب رزقها عليها- و الكلام صحيح و لا حاجة فيه إلى هذا- و المراد كيف همت حتى انصبت على رزقها انصبابا- أي انحطت عليه و يروى و ضنت على رزقها- بالضاد المعجمة و النون أي بخلت- و جحرها بيتها- .
قوله ع و في وردها لصدرها- أي تجمع في أيام التمكن من الحركة لأيام العجز عنها- و ذلك لأن النمل يظهر صيفا- و يخفى في شدة الشتاء لعجزه عن ملاقاة البرد- . قوله ع رزقها وفقها أي بقدر كفايتها- و يروى مكفول برزقها مرزوقة بوفقها- . و المنان من أسماء الله تعالى العائد إلى صفاته الفعلية- أي هو كثير المن و الإنعام على عباده- . و الديان المجازي للعباد على أفعالهم قال تعالى- إِنَّا لَمَدِينُونَ أي مجزيون- و الحجر الجامس الجامد- و الشراسيف أطراف الأضلاع المشرفة على البطن
فصل في ذكر أحوال الذرة و عجائب النملة
و اعلم أن شيخنا أبا عثمان- قد أورد في كتاب الحيوان في باب النملة و الذرة- و هي الصغيرة جدا من النمل- كلاما يصلح أن يكون كلام أمير المؤمنين ع أصله- و لكن أبا عثمان قد فرع عليه- قال الذرة تدخر في الصيف للشتاء- و تتقدم في حال المهلة و لا تضيع أوقات إمكان الحزم- ثم يبلغ من تفقدها و صحة تمييزها- و النظر في عواقب أمورها- أنها تخاف على الحبوب التي ادخرتها للشتاء في الصيف- أن تعفن و تسوس فيبطن الأرض- فتخرجها إلى ظهرها لتنثرها و تعيد إليها جفوفها- و يمر بها النسيم فينفي عنها اللخن و الفساد- .
ثم ربما بل في الأكثر تختار ذلك العمل ليلا- لأن ذلك أخفى و في القمر لأنها فيه أبصر- فإن كان مكانها نديا و خافت أن تنبت الحبة- نقرت موضع القطمير من وسطها- لعلمها أنها من ذلك الموضع تنبت- و ربما فلقت الحبة نصفين- فأما إن كان الحب من حب الكزبرة فإنها تفلقه أرباعا- لأن أنصاف حب الكزبرة تنبت من بين جميع الحبوب- فهي من هذا الوجه مجاوزة لفطنة جميع الحيوانات- حتى ربما كانت في ذلك أحزم من كثير من الناس- و لها مع لطافة شخصها و خفة وزنها- في الشم و الاسترواح ما ليس لشيء- فربما أكل الإنسان الجراد أو بعض ما يشبه الجراد- فيسقط من يده الواحدة أو صدر واحدة- و ليس بقربه ذرة و لا له عهد بالذر في ذلك المنزل- فلا يلبث أن تقبل ذرة قاصدة إلى تلك الجرادة- فترومها و تحاول نقلها و جرها إلى جحرها- فإذا أعجزتها بعد أن تبلي عذرا مضت إلى جحرها راجعة- فلا يلبث ذلك الإنسان أن يجدها قد أقبلت- و خلفها كالخيط الأسود الممدود- حتى يتعاون عليها فيحملنها- فاعجب من صدق الشم لما لا يشمه الإنسان الجائع- ثم انظر إلى بعد الهمة و الجرأة- على محاولة نقل شيء في وزن جسمها مائة مرة- و أكثر من مائة مرة بل أضعاف أضعاف المائة- و ليس شيء من الحيوان- يحمل ما يكون أضعاف وزنه مرارا كثيرة غيرها- .
فإن قال قائل- فمن أين علمتم أن التي حاولت نقل الجرادة- فعجزت هي التي أخبرت صواحباتها من الذر- و أنها التي كانت على مقدمتهن- قيل له لطول التجربة- و لأنا لم نر قط ذرة حاولت جر جرادة فعجزت عنها- ثمرأيناها راجعة إلا رأينا معها مثل ذلك- و إن كنا لا نفصل في مرأى العين بينها و بين أخواتها- فإنه ليس يقع في القلب غير الذي قلنا- فدلنا ذلك على أنها في رجوعها عن الجرادة- أنها إنما كانت لأشباهها كالرائد الذي لا يكذب أهله قال أبو عثمان و لا ينكر قولنا- إن الذرة توحي إلى أخواتها بما أشرنا إليه- إلا من يكذب القرآن فإنه تعالى قال في قصة سليمان- قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ- لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ- فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها- فهل بعد هذا ريب أو شك في أن لها قولا و بيانا و تمييزا- .
فإن قلت فلعلها مكلفة- و مأمورة و منهية و مطيعة و عاصية- قيل هذا سؤال جاهل- و ذلك أنه لا يلزم أن يكون كل ذي حس و تمييز- مكلفا مأمورا منهيا مطيعا عاصيا- لأن الإنسان غير البالغ الحلم قد يحفظ القرآن- و كثيرا من الآثار و ضروبا من الأخبار- و يشتري و يبيع و يخدع الرجال و يسخر بالمعلمين- و هو غير مكلف و لا مأمور- و لا منهي و لا عاص و لا مطيع- فلا يلزم مما قلناه في الذرة أن تكون مكلفة- . قال أبو عثمان و من عجيب ما سمعته من أمر النملة- ما حدثني به بعض المهندسين- عن رجل معروف بصنعة الأسطرلابات- أنه أخرج طوقا من صفر أو قال من حديد من الكير- و قد أحماه فرمى به على الأرض ليبرد- فاشتمل الطوق على نملة- فأرادت أن تنفر يمنة فلقيها وهج النار- فأخذت يسرة فلقيها وهج النار- فمضت قدما فكذاك فرجعت إلى خلفها فكذلك- فرجعت إلى وسط الدائرة فوجدها قد ماتت- في موضع رجل البركار من الدائرة- و هذا من العجائب- .
قال أبو عثمان و حدثني أبو عبيد الله الأفوه- و ما كنت أقدم عليه- في زمانه من مشايخالمعتزلة إلا القليل- قال قد كنت ألقى من الذر و النمل- في الرطب يكون عندي و في الطعام عنتا كثيرا- و ذلك لأني كنت لا أستقذر النملة و لا الذرة- ثم وجدت الواحدة منهما- إذا وقعت في قارورة بان أو زئبق أو خيري- فسد ذلك الدهن و زنخ فقذرتها و نفرت منها- و قلت أخلق بطبيعتها أن تكون فاسدة خبيثة- و كنت أرى لها عضا منكرا- فأقول إنها من ذوات السموم- و لو أن بدن النملة زيد في أجزائه- حتى يلحق ببدن العقرب- ثم عضت إنسانا لكانت عضتها- أضر عليه من لسعة العقرب- .
قال فاتخذت عند ذلك لطعامي منملة و قيرتها- و صببت في خندقها الماء- و وضعت سلة الطعام على رأسها- فغبرت أياما أكشف رأس السلة بعد ذلك- و فيها ذر كثير و وجدت الماء في الخندق على حاله- فقلت عسى أن يكون بعض الصبيان أنزلها- و أكل مما فيها و طال مكثها في الأرض- و قد دخلها الذر ثم أعيدت على تلك الحال- و تكلمت في ذلك و تعرفت الحال فيه- فعرفت البراءة في عذرهم و الصدق في خبرهم- فاشتد تعجبي و ذهبت بي الظنون- و الخواطر كل مذهب- فعزمت على أن أرصدها و أحرسها- و أتثبت في أمري و أتعرف شأني- فإذا هي بعد أن رامت الخندق فامتنع عليها تركته جانبا- و صعدت في الحائط ثم مرت على جذع السقف- فلما صارت محاذية للسلة أرسلت نفسها- فقلت في نفسي انظر كيف اهتدت إلى هذه الحيلة- و لم تعلم أنها تبقى محصورة- .
ثم قلت و ما عليها أن تبقى محصورة- بل أي حصار على ذرة و قد وجدت ما تشتهي- . قال أبو عثمان و من أعاجيب الذرة- أنها لا تعرض لجعل و لا لجرادة- و لا لخنفساء و لا لبنت وردان- ما لم يكن بها حبل أو عقر أو قطع رجل أو يد- فإن وجدت بها من ذلك أدنى علة وثبت عليها- حتى لو أن حية بها ضربة أو خرق أو خدش- ثم كانت من ثعابين مصر- لوثب عليها الذر حتى يأكلها- و لا تكاد الحية تسلم من الذر إذا كان بها أدنى عقر- . قال أبو عثمان و قد عذب الله بالذر و النمل أمما و أمما- و أخرج أهل قرى من قراهم و أهل دروب من دروبهم- .
و حدثني بعض من أصدق خبره- قال سألت رجلا كان ينزل ببغداد- في بعض الدروب التي في ناحية باب الكوفة- التي جلا أهلها عنها لغلبة النمل و الذر عليها- فسألته عن ذلك فقال و ما تصنع بالحديث- امض معي إلى داري التي أخرجني منها النمل- قال فدخلتها معه فبعث غلامه- فاشترى رءوسا من الرأسين ليتغذى بها- فانتقلنا هربا من النمل في أكثر من عشرين مكانا- ثم دعا بطست ضخمة و صب فيها ماء صالحا- ثم فرق عظام الرءوس في الدار و معه غلمانه- فكان كلما اسود منها عظم لكثرة النمل و اجتماعه عليه- و ذلك في أسرع الأوقات أخذه الغلام ففرغه في الطست- بعود ينثر به ما عليه في جوف الطست- فما لبثنا مقدار ساعة من النهار- حتى فاضت الطست نملا- فقال كم تظن أني فعلت مثل هذا قبل الجلاء- طمعا في أن أقطع أصلها- فلما رأيت عددها إما زائدا و إما ثابتا- و جاءنا ما لا يصبر عليه أحد- و لا يمكن معه مقام خرجت عنها- . قال أبو عثمان و عذب عمر بن هبيرة- سعيد بن عمرو الحرشي بأنواع العذاب- فقيل له إن أردت ألا يفلح أبدا- فمرهم فلينفخوا في دبره النمل- ففعلوا فلم يفلح بعدها- .
قال أبو عثمان و من الحيوان أجناس يشبه الإنسان- في العقل و الروية و النظر في العواقب و الفكر في الأمور- مثل النمل و الذر و الفأر و الجرذان- و العنكبوت و النحل- إلا أن النحل لا يدخر من الطعم إلا جنسا واحدا و هو العسل- . قال و زعم البقطري أنك لو أدخلت نملة في جحر ذر- لأكلتها حتى تأتي على عامتها- و ذكر أنه قد جرب ذلك- . قال و زعم صاحب المنطق- أن الضبع تأكل النمل أكلا ذريعا- لأنها تأتي قرية النمل وقت اجتماع النمل على باب القرية- فتلحس ذلك النمل كله بلسانها- بشهوة شديدة و إرادة قوية- .
قال و ربما أفسدت الأرضة على أهل القرى منازلهم- و أكلت كل شيء لهم- فلا تزال كذلك حتى ينشأ في تلك القرى النمل- فيسلط الله عز و جل ذلك النمل على تلك الأرضة- حتى تأتي على آخرها على أن النمل بعد ذلك سيكون له أذى- إلا أنه دون أذى الأرضة بعيدا- و ما أكثر ما يذهب النمل أيضا من تلك القرى- حتى يتم لأهلها السلامة من النوعين جميعا- . قال و قد زعم بعضهم أن تلك الأرضة- بأعيانها تستحيل نملا- و ليس فناؤها لأكل النمل لها- و لكن الأرضة نفسها تستحيل نملا- فعلى قدر ما يستحيل منها يرى الناس- النقصان في عددها و مضرتها على الأيام- . قال أبو عثمان و كان ثمامة يرى أن الذر صغار النمل- و نحن نراه نوعا آخر كالبقر و الجواميس- . قال و من أسباب هلاك النمل نبات أجنحته- و قال الشاعر
و إذا استوت للنمل أجنحة
حتى يطير فقد دنا عطبه
و كان في كتاب عبد الحميد إلى أبي مسلم- لو أراد الله بالنملة صلاحا لما أنبت لها جناحا- فيقال إن أبا مسلم لما قرأ هذا الكلام- في أول الكتاب لم يتم قراءته و ألقاه في النار- و قال أخاف إن قرأته أن ينخب قلبي- . قال أبو عثمان- و يقتل النمل بأن يصب في أفواه بيوتها- القطران و الكبريت الأصفر- و أن يدس في أفواهها الشعر- على أنا قد جربنا ذلك فوجدناه باطلا- . فأما الحكماء فإنهم لا يثبتون للنمل- شراسيف و لا أضلاعا- و يجب إن صح قولهم أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع- على اعتقاد الجمهور و مخاطبة العرب بما تتخيله و تتوهمه حقا- و كذلك لا يثبت الحكماء للنمل آذانا- بارزة عن سطوح رءوسها- و يجب إن صح ذلك أن نحمل كلام أمير المؤمنين ع- على قوة الإحساس بالأصوات- فإنه لا يمكن الحكماء إنكار وجود هذه القوة للنمل- و لهذا إذا صيح عليهن هربن- .
و يذكر الحكماء من عجائب النمل أشياء- منها أنه لا جلد له و كذلك كل الحيوان المخرز- . و منها أنه لا يوجد في صقلية نمل كبار أصلا- . و منها أن النمل بعضه ماش و بعضه طائر- . و منها أن حراقة النمل إذا أضيف إليها شيء- من قشور البيض و ريش هدهد- و علقت على العضد منعت من النوم قوله ع- و لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته- أي غايات فكرك- و ضربت بمعنى سرت- و المذاهب الطرق قال تعالى- وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِيالْأَرْضِ- و هذا الكلام استعارة- . قال لو أمعنت النظر لعلمت أن خالق النملة الحقيرة- هو خالق النخلة الطويلة- لأن كل شيء من الأشياء تفصيل جسمه و هيئته تفصيل دقيق- و اختلاف تلك الأجسام في أشكالها و ألوانها و مقاديرها- اختلاف غامض السبب- فلا بد للكل من مدبر يحكم بذلك الاختلاف و يفعله- على حسب ما يعلمه من المصلحة- . ثم قال و ما الجليل و الدقيق في خلقه إلا سواء- لأنه تعالى قادر لذاته لا يعجزه شيء من الممكنات- .
ثم قال فانظر إلى الشمس و القمر- إلى قوله و الألسن المختلفات- هذا هو الاستدلال بإمكان الأعراض على ثبوت الصانع- و الطرق إليه أربعة- أحدها الاستدلال بحدوث الأجسام- . و الثاني الاستدلال بإمكان الأعراض و الأجسام- . و الثالث الاستدلال بحدوث الأعراض- .
و الرابع الاستدلال بإمكان الأعراض- . و صورة الاستدلال هو أن كل جسم- يقبل للجسمية المشتركة بينه و بين سائر الأجسام- ما يقبله غيره من الأجسام- فإذا اختلفت الأجسام في الأعراض فلا بد من مخصص- خصص هذا الجسم بهذا العرض- دون أن يكون هذا العرض لجسم آخر- و يكون لهذا الجسم عرض غير هذا العرض- لأن الممكنات لا بد لها من مرجح- يرجح أحد طرفيها على الآخر- فهذا هو معنى قوله- فانظر إلى الشمس و القمر و النبات و الشجر- و الماء و الحجر و اختلاف هذا الليل و النهار- و تفجر هذه البحار و كثرة هذه الجبال- و طول هذه القلال و تفرق هذه اللغات- و الألسن المختلفات- أي أنه يمكن أن تكون هيئةالشمس و ضوءها- و مقدارها حاصلا لجرم القمر- و يمكن أن يكون النبات الذي لا ساق له شجرا- و الشجر ذو الساق نباتا- و يمكن أن يكون الماء صلبا و الحجر مائعا- و يمكن أن يكون زمان الليل مضيئا و زمان النهار مظلما- و يمكن ألا تكون هذه البحار متفجرة بل تكون جبالا- و يمكن ألا تكون هذه الجبال الكبيرة كبيرة- و يمكن ألا تكون هذه القلال طويلة- و كذلك القول في اللغات و اختلافها- و إذا كان كل هذا ممكنا فاختصاص الجسم المخصوص- بالصفات و الأعراض و الصور المخصوصة- لا يمكن أن يكون لمجرد الجسمية لتماثل الأجسام فيها- فلا بد من أمر زائد- و ذلك الأمر الزائد هو المعني بقولنا صانع العالم- .
ثم سفه آراء المعطلة و قال- إنهم لم يعتصموا بحجة و لم يحققوا ما وعوه- أي لم يرتبوا العلوم الضرورية ترتيبا صحيحا- يفضي بهم إلى النتيجة التي هي حق- . ثم أخذ في الرد عليهم من طريق أخرى- و هي دعوى الضرورة و قد اعتمد عليها كثير من المتكلمين- فقال نعلم ضرورة أن البناء لا بد له من بان- .
ثم قال و الجناية لا بد لها من جان- و هذه كلمة ساقته إليها القرينة- و المراد عموم الفعلية لا خصوص الجناية- أي مستحيل أن يكون الفعل من غير فاعل- و الذين ادعوا الضرورة في هذه المسألة من المتكلمين- استغنوا عن الطرق الأربع التي ذكرناها- و أمير المؤمنين ع اعتمد أولا على طريق واحدة- ثم جنح ثانيا إلى دعوى الضرورة و كلا الطريقين صحيح: وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ- إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ- وَ أَسْرَجَ لَهَاحَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ- وَ جَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ وَ فَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ- وَ جَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ وَ نَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ- وَ مِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ- يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهِمْ- وَ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا وَ لَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ- حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا وَ تَقْضِي مِنْهُ شَهَوَاتِهَا- وَ خَلْقُهَا كُلُّهُ لَا يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً- فَتَبَارَكَ الَّذِي يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَ الْأَرْضِ- طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ يُعَفِّرُ لَهُ خَدّاً وَ وَجْهاً- وَ يُلْقِي بِالطَّاعَةِ إِلَيْهِ سِلْماً وَ ضَعْفاً- وَ يُعْطِي الْقِيَادَ رَهْبَةً وَ خَوْفاً- فَالطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ لِأَمْرِهِ- أَحْصَى عَدَدَ الرِّيشِ مِنْهَا وَ النَّفَسِ- وَ أَرْسَى قَوَائِمَهَا عَلَى النَّدَى وَ الْيَبَسِ- وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهَا وَ أَحْصَى أَجْنَاسَهَا- فَهَذَا غُرَابٌ وَ هَذَا عُقَابٌ- وَ هَذَا حَمَامٌ وَ هَذَا نَعَامٌ- دَعَا كُلَّ طَائِرٍ بِاسْمِهِ وَ كَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ- وَ أَنْشَأَ السَّحَابَ الثِّقَالَ فَأَهْطَلَ دِيَمَهَا- وَ عَدَّدَ قِسَمَهَا فَبَلَّ الْأَرْضُ بَعْدَ جُفُوفِهَا- وَ أَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا قوله و أسرج لها حدقتين- أي جعلهما مضيئتين كما يضيء السراج- و يقال حدقة قمراء أي منيرة- كما يقال ليلة قمراء أي نيرة بضوء القمر- . و بهما تقرض أي تقطع و الراء مكسورة- . و المنجلان رجلاها- شبههما بالمناجل لعوجهما و خشونتهما- . و يرهبها يخافها و نزواتها وثباتها و الجدب المحل
ذكر غرائب الجراد و ما احتوت عليه من صنوف الصنعة
قال شيخنا أبو عثمان في كتاب الحيوان- من عجائب الجرادة التماسها لبيضها- الموضع الصلد و الصخور الملس- ثقة منها أنها إذا ضربت بأذنابها فيها انفرجت لها- و معلوم أن ذنب الجرادة ليس في خلقة المنشار- و لا طرف ذنبه كحد السنان و لا لها من قوة الأسر- و لا لذنبها من الصلابة ما إذا اعتمدت به- على الكدية خرج فيها- كيف و هي تتعدى إلى ما هو أصلب من ذلك- و ليس في طرفها كإبرة العقرب- و على أن العقرب ليس تخرق القمقم- من جهد الأيد و قوة البدن- بل إنما ينفرج لها بطبع مجعول هناك- و كذاك انفراج الصخور لأذناب الجراد- . و لو أن عقابا أرادت أن تخرق جلد الجاموس- لما انخرق لها إلا بالتكلف الشديد- و العقاب هي التي تنكدر على الذئب الأطلس- فتقد بدابرتها ما بين صلاه إلى موضع الكاهل- .
فإذا غرزت الجرادة و ألقت بيضها- و انضمت عليها تلك الأخاديد التي هي أحدثها- و صارت كالأفاحيص لها صارت حاضنة لها و مربية- و حافظة و صائنة و واقية- حتى إذا جاء وقت دبيب الروح فيها حدث عجب آخر- و ذلك لأنه يخرج من بيضهأصهب إلى البياض- ثم يصفر و تتلون فيه خطوط إلى السواد- ثم يصير فيه خطوط سود و بيض ثم يبدو حجم جناحه- ثم يستقل فيموج بعضه في بعض- . قال أبو عثمان و يزعم قوم- أن الجراد قد يريد الخضرة و دونه النهر الجاري- فيصير بعضه جسرا لبعض- حتى يعبر إلى الخضرة و أن ذلك حيلة منها- . و ليس كما زعموا و لكن الزحف الأول من الدباء- يريد الخضرة فلا يستطيعها إلا بالعبور إليها- فإذا صارت تلك القطعة فوق الماء طافية- صارت لعمري أرضا للزحف الثاني الذي يريد الخضرة- فإن سموا ذلك جسرا استقام- فأما أن يكون الزحف الأول مهد للثاني- و مكن له و آثره بالكفاية فهذا ما لا يعرف- و لو أن الزحفين جميعا أشرفا على النهر- و أمسك أحدهما عن تكلف العبور- حتى يمهد له الآخر لكان لما قالوه وجه- .
قال أبو عثمان و لعاب الجراد سم على الأشجار- لا يقع على شيء إلا أحرقه- . فأما الحكماء فيذكرون في كتبهم- أن أرجل الجراد تقلع الثآليل- و أنه إذا أخذت منه اثنتا عشرة جرادة- و نزعت رءوسها و أطرافها- و جعل معها قليل آس يابس- و شربت للاستسقاء كما هي نفعت نفعا بينا- و أن التبخر بالجراد ينفع من عسر البول- و خاصة في النساء و أن أكله ينفع من تقطيره- و قد يبخر به للبواسير و ينفع أكله من لسعة العقرب- . و يقال إن الجراد الطوال- إذا علق على من به حمى الربع نفعه
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 13