و من خطبة له عليه السّلام فى التوحيد، و تجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة
مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ وَ لَا حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ- وَ لَا إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ- وَ لَا صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَ تَوَهَّمَهُ- كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ وَ كُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ- فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَابِ آلَةٍ مُقَدِّرٌ لَا بِجَوْلِ فِكْرَةٍ- غَنِيٌّ لَا بِاسْتِفَادَةٍ- لَا تَصْحَبُهُ الْأَوْقَاتُ وَ لَا تَرْفِدُهُ الْأَدَوَاتُ- سَبَقَ الْأَوْقَاتَ كَوْنُهُ- وَ الْعَدَمَ وُجُودُهُ وَ الِابْتِدَاءَ أَزَلُهُ بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ- وَ بِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الْأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَهُ- وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِينَ لَهُ- ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ وَ الْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ- وَ الْجُمُودَ بِالْبَلَلِ وَ الْحَرُورَ بِالصَّرَدِ مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا- مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا- لَا يُشْمَلُ بِحَدٍّ وَ لَا يُحْسَبُ بِعَدٍّ- وَ إِنَّمَا تَحُدُّ الْأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا- وَ تُشِيرُ الْآلَاتُ إِلَى نَظَائِرِهَا مَنَعَتْهَا مُنْذُ الْقِدْمَةَ وَ حَمَتْهَا قَدُ الْأَزَلِيَّةَ- وَ جَنَّبَتْهَا لَوْلَا التَّكْمِلَةَ بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ- وَ بِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ- وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ السُّكُونُ وَ الْحَرَكَةُ- وَ كَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ- وَ يَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ وَ يَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَهُ- إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ وَ لَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ- وَ لَامْتَنَعَ مِنَ الْأَزَلِ مَعْنَاهُ- وَ لَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ- وَ لَالْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ- وَ إِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ- وَ لَتَحَوَّلَ دَلِيلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ- وَ خَرَجَ بِسُلْطَانِ الِامْتِنَاعِ- مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ مَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِ الَّذِي لَا يَحُولُ وَ لَا يَزُولُ وَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْأُفُولُ- لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً وَ لَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً- جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَبْنَاءِ وَ طَهُرَ عَنْ مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ- لَا تَنَالُهُ الْأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ وَ لَا تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ- وَ لَا تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ وَ لَا تَلْمِسُهُ الْأَيْدِي فَتَمَسَّهُ- وَ لَا يَتَغَيَّرُ بِحَالٍ وَ لَا يَتَبَدَّلُ فِي الْأَحْوَالِ- وَ لَا تُبْلِيهِ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامُ وَ لَا يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَ الظَّلَامُ وَ لَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ- وَ لَا بِالْجَوَارِحِ وَ الْأَعْضَاءِ وَ لَا بِعَرَضٍ مِنَ الْأَعْرَاضِ- وَ لَا بِالْغَيْرِيَّةِ وَ الْأَبْعَاضِ- وَ لَا يُقَالُ لَهُ حَدٌّ وَ لَا نِهَايَةٌ وَ لَا انْقِطَاعٌ وَ لَا غَايَةٌ- وَ لَا أَنَّ الْأَشْيَاءَ تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ أَوْ تُهْوِيَهُ- أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ فَيُمِيلَهُ أَوْ يَعْدِلَهُ- لَيْسَ فِي الْأَشْيَاءِ بِوَالِجٍ وَ لَا عَنْهَا بِخَارِجٍ- يُخْبِرُ لَا بِلِسَانٍ وَ لَهَوَاتٍ- وَ يَسْمَعُ لَا بِخُرُوقٍ وَ أَدَوَاتٍ يَقُولُ وَ لَا يَلْفِظُ- وَ يَحْفَظُ وَ لَا يَتَحَفَّظُ وَ يُرِيدُ وَ لَا يُضْمِرُ- يُحِبُّ وَ يَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ- وَ يُبْغِضُ وَ يَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ- يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَهُ كُنْ فَيَكُونُ- لَا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ وَ لَا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ- وَ إِنَّمَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَ مَثَّلَهُ- لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً- وَ لَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلَهاً ثَانِياً لَا يُقَالُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ- فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ- وَ لَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ فَصْلٌ- وَ لَا لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ وَ الْمَصْنُوعُ- وَ يَتَكَافَأَ الْمُبْتَدَعُ وَ الْبَدِيعُ- خَلَقَ الْخَلَائِقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَيْرِهِ- وَ لَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ- وَ أَنْشَأَ الْأَرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ- وَ أَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَارٍ وَ أَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ- وَ رَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعَائِمَ- وَ حَصَّنَهَا مِنَ الْأَوَدِ وَ الِاعْوِجَاجِ- وَ مَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ وَ الِانْفِرَاجِ- أَرْسَى أَوْتَادَهَا وَ ضَرَبَ أَسْدَادَهَا- وَ اسْتَفَاضَ عُيُونَهَا وَ خَدَّ أَوْدِيَتَهَا- فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاهُ وَ لَا ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ هُوَ الظَّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِهِ وَ عَظَمَتِهِ- وَ هُوَ الْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَ مَعْرِفَتِهِ- وَ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا بِجَلَالِهِ وَ عِزَّتِهِ- لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ مِنْهَا طَلَبَهُ- وَ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبَهُ- وَ لَا يَفُوتُهُ السَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسْبِقَهُ- وَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِي مَالٍ فَيَرْزُقَهُ- خَضَعَتِ الْأَشْيَاءُ لَهُ وَ ذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ- لَا تَسْتَطِيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ- فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَ ضَرِّهِ- وَ لَا كُفْءَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ- وَ لَا نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ- هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا- حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا كَمَفْقُودِهَا- وَ لَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا- بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا وَ اخْتِرَاعِهَا- وَ كَيْفَ وَ لَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوَانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وَ بَهَائِمِهَا- وَ مَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وَ سَائِمِهَا- وَ أَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وَ أَجْنَاسِهَا- وَ مُتَبَلِّدَةِ أُمَمِهَا وَ أَكْيَاسِهَا- عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا- وَ لَا عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى إِيجَادِهَا- وَ لَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذَلِكَ وَ تَاهَتْ- وَ عَجَزَتْ قُوَاهَا وَ تَنَاهَتْ- وَ رَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَةً- عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا- مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لَا شَيْءَ مَعَهُ- كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا- بِلَا وَقْتٍ وَ لَا مَكَانٍ وَ لَا حِينٍ وَ لَا زَمَانٍ- عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الْآجَالُ وَ الْأَوْقَاتُ- وَ زَالَتِ السِّنُونَ وَ السَّاعَاتُ- فَلَا شَيْءَ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ- الَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَمِيعِ الْأُمُورِ- بِلَا قُدْرَةٍ مِنْهَا كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا- وَ بِغَيْرِ امْتِنَاعٍ مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا- وَ لَوْ قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا-
لَمْ يَتَكَاءَدْهُ صُنْعُ شَيْءٍ مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ- وَ لَمْ يَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا خَلَقَهُ وَ بَرَأَهُ وَ لَمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ- وَ لَا لِخَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ وَ نُقْصَانٍ- وَ لَا لِلِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى نِدٍّ مُكَاثِرٍ- وَ لَا لِلِاحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِرٍ- وَ لَا لِلِازْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ- وَ لَا لِمُكَاثَرَةِ شَرِيكٍ فِي شِرْكِهِ- وَ لَا لِوَحْشَةٍ كَانَتْ مِنْهُ- فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا- ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا- لَا لِسَأَمٍ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي تَصْرِيفِهَا وَ تَدْبِيرِهَا- وَ لَا لِرَاحَةٍ وَاصِلَةٍ إِلَيْهِ- وَ لَا لِثِقَلِ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْهِ- لَا يُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَهُ إِلَى سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا- وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ- وَ أَمْسَكَهَا بِأَمْرِهِ وَ أَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ- ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا- وَ لَا اسْتِعَانَةٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْهَا- وَ لَا لِانْصِرَافٍ مِنْ حَالِ وَحْشَةٍ إِلَى حَالِ اسْتِئْنَاسٍ- وَ لَا مِنْ حَالِ جَهْلٍ وَ عَمًى إِلَى حَالِ عِلْمٍ وَ الْتِمَاسٍ- وَ لَا مِنْ فَقْرٍ وَ حَاجَةٍ إِلَى غِنًى وَ كَثْرَةٍ- وَ لَا مِنْ ذُلٍّ وَ ضَعَةٍ إِلَى عِزٍّ وَ قُدْرَةٍ
اللغة
أقول:
صمده: أى قصده.
و ترفده: تعينه.
و الوضوح و الوضح: البياض.
و البهمة: السواد.
و الحرور هنا: الحرارة.
و الصرد: البرد.
و الافول: الغيبة.
و الوالج: الداخل.
و خلا: مضى و سبق.
و الأود: الاعوجاج.
و التهافت: التساقط.
و الأسداد: جمع سدّ- و قد يضمّ- و هو كلّ ما حال و حجز بين شيئين.
و خدّ: شقّ.
و مراحها: ما يراح منها في مرابطها و معاطنها.
و سائمها: ما ارسل منها للرعى.
و أسناخها: اصولها.
و المتبلّدة: ذو البلادة و هى ضدّ الذكاء.
و الأكياس: ذوو الذكاء و الفهم.
و تكاءده الأمر: شقّ عليه و صعب.
و آده: أثقله، و المثاور: المواثب.
و اعلم أنّ مدار هذه الخطبة على التوحيد المطلق و التنزيه المحقّق،و قد أشار إلى توحيده تعالى و تنزيهه باعتبارات من الصفات الإضافيّة و السلبيّة:
فالأوّل: قوله: ما وحّده من كيّفه.
دلّت هذه الكلمة بالمطابقة على سلب التوحيد له تعالى عمّن وصفه بكيفيّة، و بالالتزام على أنّه لا يجوز تكيّفه لمنافاة ذلك التوحيد الواجب له تعالى. و لنشر إلى معنى الكيفيّة ليتبيّن أنّه لا يجوز وصفه بها. فنقول: أمّا رسمها فقيل: إنّها هيئة قارّة في المحلّ لا يوجب اعتبار وجودها فيه نسبة إلى أمر خارج عنه و لا قسمة في ذاته و لا نسبة واقعة في أجزائه.
و بهذه القيود يفارق سائر الأعراض، و أقسامها أربعة: فإنّها إمّا أن تكون مختصّة بالكمّ من جهة ما هو كمّ كالمثلثيّة و المربعيّة و غيرها من الأشكال للسطوح. و كالاستقامة و الانحناء للخطوط و كالفرديّة و الزوجيّة للأعداد، و إمّا أن لا تكون مختصّة به و هي إمّا أن تكون محسوسة كالألوان و الطعوم و الحرارة و البرودة، و هذا ينقسم إلى راسخة كصفرة الذهب و حلاوة العسل، و تسمّى كيفيّات انفعالية إمّا لانفعال الحواسّ عنها و إمّا لانفعالات حصلت في الموضوعات عنها، أو غير راسخة إمّا سريعة الزوال كحمرة الخجل و تسمّى انفعالات لكثرة انفعالات موضوعاتها بسببها بسرعة، و هذا قسم ثاني، و إمّا أن لا يكون محسوسة، و هي إمّا لاستعدادات ما لكمالات كالاستعداد للمقاومة و الدفع، و إمّا لانفعال و يسمّى قوّة طبيعيّة كالمصحاحيّة و الصلابة، أو لنقائص مثل الاستعداد بسرعة الإدغان و الانفعال، و يسمّى ضعفا و لا قوّة طبيعيّة كالممراضيّة، و إمّا أن لا يكون استعداد لكمالات أو نقايص بل يكون في أنفسها كمالات أو نقايص، و هي مع ذلك غير محسوسة بذواتها فما كان منها ثابتا يسمّى ملكة كالعلم و العفّة و الشجاعة، و ما كان سريع الزوال يسمّى حالا كغضب الحليم و مرض الصحاح. فهذه أقسام الكيف. إذا عرفت ذلك فنقول: إنّما قلنا: إنّه يلزم من وصفه بالكيفيّة عدم توحيده لما نبّه في الخطبة الاولى من قوله عليه السّلام في وصف اللّه سبحانه: فقد قرنه و من قرنه فقد ثنّاه. و كما سبق تقريره فينتج أنّ من وصف اللّه سبحانه فقد ثنّاه. و حينئذ تبيّن أنّ من كيّفه لم يوحّده لأنّ توحيده و تثنيته ممّا لا يجتمعان.
الثاني: و لا حقيقته أصاب من مثّله
أى جعل له مثلا، و ذلك أنّ كلّ ماله مثل فليس بواجب الوجود لذاته لأنّ المثليّة إمّا أن يتحقّق من كلّ وجه فلا تعدّد إذن لأنّ التعدّد يقتضى المغايرة بأمر ما و ذلك ينافي الاتّحاد و المثليّة من كلّ وجه هذا خلف، و إمّا أن يتحقّق من بعض الوجوه و حينئذ ما به التماثل إمّا الحقيقة أو جزؤها أو أمر خارج عنها فإن كان الأوّل كان ما به الامتياز عرضيّا للحقيقة لازما أو زائلا لكن ذلك باطل لأنّ المقتضى لذلك العرضيّة إمّا المهيّة فيلزم أن يكون مشتركا بين المثلين لأنّ مقتضى المهيّة الواحدة لا يختلف فما به الامتياز لأحد المثلين عن الآخر حاصل للآخر هذا خلف. أو غيرها فتكون ذات واجب الوجوده مفتقرة في تحصيل ما تميّزها من غيرها إلى غير خارجى هذا محال، و إن كان ما به التماثل و الاتّحاد جزء من المثلين لزم كون كلّ منهما مركّبا فكلّ منهما ممكن هذا خلف. و بقي أن يكون التماثل بأمر خارج عن حقيقتهما مع اختلاف الحقيقتين لكن ذلك باطل أمّا أوّلا فلامتناع وصف واجب الوجود بأمر خارج عن حقيقته لاستلزام إثبات الصفة له تثنيته و تركّبه على ما مرّ، و أمّا ثانيا فلأنّ ذلك الأمر الخارجى المشترك إن كان كمالا لذات واجب الوجود فواجب الوجود لذاته مستفيد للكمال من غيره هذا خلف، و إن لم يكن كمالا كان إثباته له نقصا لأنّ الزيادة على الكمال نقص. فثبت أنّ كلّ ماله مثل فليس بواجب الوجود لذاته فالطالب لمعرفته إذا أصاب ما له مثل فقد أصاب ما ليس بواجب الوجود لذاته فلم يصب صانع العالم، و مقصود الكلمة نفى المثل له تعالى في مقام التوجّه إليه و النظر لطلب معرفته.
الثالث: و لا إيّاه عنى من شبّهه
و معنى هذه القرينة كالّتي قبله.
الرابع: و لا صمده من أشار إليه و توهّمه،
و ذلك لأنّ الإشارة إليه إمّا حسيّة أو عقليّة. و الاولى مستلزمة للوضع و الهيئة و الشكل و التحيّز كما علم في غير هذا الموضع، و ذلك على واجب الوجود محال، و أمّا الثانية فقد علمت أنّ النفس الإنسانيّة ما دامت في عالم الغربة إذا توجّهت لاقتناص أمر معقول من عالم الغيب فلا بدّ أن تستتبع القوّة الخياليّة و الوهميّة للاستعانة بهما على استثبات المعنى المعقول و ضبطه فإذن يستحيل أن يشير العقل الإنسانيّ إلى شيء من المعاني الإلهيّة إلّا بمشاركة من الوهم و الخيال و استثباته حدّا و كيفيّة يكون عليها لكن قد علمت تنزيهه تعالى عن الكيفيّات و الصفات و الحدود و الهيئة فكان المشير إليه و المدّعى لإصابة حقيقته قاصدا في تلك الإشارة إلى ذى كيفيّة و حال ليس هو واجب الوجود فلم يكن قاصدا لواجب الوجود، و قد بيّنا فيما سلف امتناع الإشارة إليه.
الخامس: قوله: كلّ معروف بنفسه مصنوع.
صغرى ضمير من الشكل الأوّل استغنى معها عن ذكر الدعوى لدلالتها عليها، و هى أنّه تعالى ليس معلوما بنفسه: أى ليس معلوم الحقيقة بالكنه. و تقدير الكبرى: و لا شيء ممّا هو مصنوع بإله للعالم واجب الوجود لذاته دائما. ينتج أنّه لا شيء من المعلوم بنفسه بواجب الوجود و إله العالم دائما، و ينعكس لا شيء من واجب الوجود معلوم بنفسه. أو من الشكل الثاني، و يكون تقدير الكبرى: و لا شيء ممّا هو واجب الوجود بمصنوع. و ينتج النتيجة المذكورة، و ينعكس. و يحتمل أن تكون المقدّمة المذكورة هى الكبرى من الشكل الأوّل و لا حاجة إلى العكس المذكورة. و يحتمل أن يبيّن المطلوب المذكور بقياس استثنائى متّصل، و تكون المقدّمة المذكورة تنبيها على ملازمة المتّصلة و بيانا لها و تقديرها: لو كان تعالى معلوما بنفسه لكان مصنوعا لأنّ كلّ معلوم بنفسه مصنوع لكن التالى باطل فالمقّدم كذلك فأمّا بيان أنّ كلّ معلوم بنفسه مصنوع فهو أنّ كلّ معلوم بحقيقته فإنّما يعلم من جهة أجزائه، و كلّ ذى جزء فهو مركّب فكلّ مركّب فمحتاج إلى مركّب يركّبه و صانع يصنعه فإذن كلّ معلوم الحقيقة فهو مصنوع، و أمّا بطلان التالى فلأنّه تعالى لوكان مصنوعا لكان ممكنا مفتقرا إلى الغير فلا يكون واجب الوجود لذاته هذا خلف.
السادس: و كلّ قائم في سواه معلول
كالمقدّمة الّتي قبلها في أنّها يحتمل أن تكون صغرى قياس ضمير من الشكل الأوّل أو الثاني دلّ به على أنّه تعالى ليس بقائم في سواه: أى ليس لعرض فيحتاج إلى محلّ يقوم. تقديره أنّ كلّ قائم سواه فهو معلول، و لا شيء من المعلول بواجب الوجود أولا شيء من واجب الوجود بمعلول فينتج أنّه لا شيء من القائم في سواه بواجب الوجود، و ينعكس كنفسها لا شيء من واجب الوجود بقائم في سواه. و يحتمل أن يكون كبرى القياس و لا حاجة إلى عكس النتيجة، و يحتمل أن يكون ذكرها تنبيها على ملازمة قياس استثنائىّ: أى لو كان قائما في سواه لكان معلولا و لكن التالى باطل فالمقدّم كذلك، و بيان الملازمة أنّ القائم بغيره مفتقر إلى محلّ و كلّ مفتقر إلى غيره ممكن و كلّ ممكن معلول في وجوده و عدمه، و أمّا بطلان التالى فلأنّه لو كان معلولا لما كان واجب الوجود.
السابع: فاعل لا باضطراب آلة.
أمّا أنّه فاعل فلأنّه موجد العالم، و أمّا أنّه منزّه في فاعليّته عن اضطراب الآلة فلتنزّهه عن الآلة الّتي هى من عوارض الأجسام.
و قد سبق بيانه.
الثامن: مقدّر لا بحول فكرة،
و معنى كونه مقدّرا كونه معطيا لكلّ موجود المقدار الّذي تستحقّه من الكمال من الوجود و لواحق الوجود كالأجل و الرزق و نحوهما على وفق القضاء الإلهى، و كون ذلك لا بحول فكرة لأنّ الفكر من لواحق النفوس البشريّة بآلة بدنيّة، و قد تنزّه قدسه تعالى عن ذلك.
التاسع: كونه غنيّا لا باستفادة
و كونه غنيّا يعود إلى عدم حاجته في شيء ما إلى شيء ما. إذ لو حصل له شيء باستفادة من خارج كسائر الأغنياء لزم كونه ناقصا بذاته مفتقرا إلى ذلك المستفاد موقوفا على حصول سببه فكان ممكنا هذا خلف و هو تنزيه له عن الغنى المشهور المتعارف.
العاشر: كونه لا تصحبه الأوقات،
و ذلك أنّ الصحبة الحقيقيّة تستدعى المعيّة و المقارنة اللذين هما من لواحق الزمان الّذي هو من لواحق الحركة الّتي هى من لواحق الجسم المتأخّر وجوده عن وجوده بعض الملائكة المتأخّر وجوده عن وجود الصانع الأوّل- جلّت عظمته- فكان وجود الزمان و الوقت متأخّرا عن وجوده تعالى بمراتب من الوجود فلم تصدق صحبة الأوقات لوجوده و لا كونها ظرفا له و إلّا لكان مفتقرا إلى وجود الزمان فكان يمتنع استغناؤه عنه لكنّه سابق عليه فوجب استغناؤه عنه. نعم قد يحكم الوهم بصحبة الزمان للمجرّدات و معيّته لها حيث تقسمها إلى الزمانيّات. إذ كان لا تعقل المجرّدات إلّا كذلك.
الحادى عشر: كونه لا ترفده الأدوات
و ظاهر أنّ المفتقر إلى المعونة بأداة و غيرها ممكن لذاته فلا يكون واجب الوجود لأنّه تعالى خالق الأدوات فكان سابقا عليها في تأثيره فكان غنيّا عنها فيمتنع عليه الحاجة إلى الاستعانة بها.
الثاني عشر: سبق الأوقات كونه
أى وجوده. و قد مرّ بيانه.
الثالث عشر: و العدم وجوده
أى و سبق وجوده العدم، و بيانه أنّه تعالى مخالف لسائر الموجودات الممكنة فإنّها محدثة فيكون عدمها سابقا على وجودها.
ثمّ إن لم تكن كذلك، وجودها و عدمها بالسبة إلى ذواتها على سواء كما بيّن في مظانّه و لها من ذواتها أنّها لا تستحقّ وجودا و عدما لذواتها و ذلك عدم سابق على وجودها. فعلى كلّ تقدير فوجودها يكون مسبوقا بعدم. بخلاف الموجود الأوّل- جلّت عظمته- فإنّه لمّا كان واجب الوجود لذاته كان لما هو هو موجودا فكان لحوق العدم له محالا فكان وجوده سابقا على العدم المعتبر لغيره من الممكنات، و لأنّ عدم العالم قبل وجوده كان مستندا إلى عدم الداعى إلى إيجاده المستند إلى وجوده فكان وجوده تعالى سابقا على عدم العالم. ثمّ تبيّن.
الرابع عشر. و الابتداء أزله،
و ذلك أنّ الأزل عبارة عن عدم الأوّليّة و الابتداء و ذلك أمر يلحق واجب الوجود لما هو هو بحسب الاعتبار العقلىّ و هو ينافي لحوق الابتداء و الأوّليّة لوجوده تعالى فاستحال أن يكون له مبدء لامتناع اجتماع النقيضين بل سبق في الأزليّة ابتداء ما كان له ابتداء وجود من الممكنات إذ هو مبدأها و مصدرها.
الخامس عشر: بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له
و ذلك أنّه تعالى لمّا خلق المشاعر و أوجدها و هو المراد بتشعيره لها امتنع أن يكون له مشعر و حاسّة و إلّا لكان وجودها له إمّا من غيره و هو محال: أمّا أوّلا فلأنّه مشعّر المشاعر و أمّا ثانيا فلأنّه يكون محتاجا في كماله إلى غيره فهو ناقص بذاته هذا محال، و إمّا منه و هو أيضا محال لأنّها إن كانت من الكمالات الوهميّة كان موجدا لها من حيث هو فاقد كمالا فكان ناقصا بذاته هذا محال، و إن لم يكن كمالا كان إثباتها له نقصا لأنّ الزيادة على الكمال نقصان فكان إيجاده لها مستلزما لنقصانه و هو محال.
السادس عشر: و بمضادّته بين الامور عرف أنّ لا ضدّ له
لأنّه لمّا كان خالق الأضداد فلو كان له ضدّ لكان خالقا لنفسه و لضدّه و ذلك محال، و لأنّك لمّا علمت أنّ المضادّة من باب المضاف و علمت أنّ المضاف ينقسم إلى حقيقىّ و غير حقيقىّ فالحقيقىّ هو الّذي لا تعقل مهيّته إلّا بالقياس إلى غيره، و غير الحقيقىّ هو الّذي له في ذاته مهيّة غير الإضافة تعرض لها الإضافة و كيف ما كان لا بدّ من وجود الغير حتّى يوجد المضاف من حيث هو مضاف فيكون وجود أحد المضافين متعلّقا بوجود الآخر فلو كان لواجب الوجود ضدّ لكان متعلّق الوجود بالغير فلم يكن واجب الوجود لذاته هذا خلف، و لأنّ الضدّين هما الأمران الثبوتيان اللذان يتعاقبان على محلّ واحد، و يمتنع اجتماعهما فيه فلو كان بينه و بين غيره مضادّة لكان محتاجا إلى محلّ يعاقب ضدّه عليه، و قد ثبت أنّه تعالى غنىّ من كلّ شيء.
السابع عشر: و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له،
و برهانه أمّا أوّلا فلأنّه تعالى خلق المقترنات و مبدء المقارنة بينها فلو كان تعالى مقارنا لغيره لكان خالقا لنفسه و لقرينه و ذلك محال، و لأنّ المقارنة من باب المضاف و يمتنع أن يلحقه. على ما تقدّم.
الثامن عشر: كونه تعالى مضادّا بين الامور.
المضادّة تأكيد لقوله: ولمضادّته للأشياء. فمنها النور و الظلمة، و في كونهما ضدّين خلاف بين العلماء مبنىّ على كون الظلمة أمرا وجوديّا أو عدميّا و الأقرب أنّها أمر وجوديّ مضادّ للنور، و قال بعضهم: إنّها عبارة عن عدم الضوء عمّا من شأنه أن يضيء و ليست على هذا القول عدما صرفا فجاز أن يطلق عليها أنّها ضدّ مجازا، و منها البياض و السواد و الجمود و البلل: أى اليبوسة و الرطوبة و الحرارة و البرودة. و مضادّته بينها خلقه لها على ما هى عليه من الطبايع المتضادّة.
التاسع عشر: كونه مؤلّفا بين متعادياتها
في أمزجة المركّبات من العناصر الأربعة فإنّه جمع بينها فيها على وجه الامتزاج حتّى حصل بينها كيفيّة متوسّطه على ما مرّ بيانه في الخطبة الاولى.
العشرون:كونه مقارنا بين متبايناتها.
الحادى و العشرون: كونه مقرّبا بين متباعداتها،
و مرّ نظير هاتين الفقرتين في الخطبة الاولى.
الثاني و العشرون: كونه مفرّقا بين متدانياتها
أى بالموت و الفناء لهذه المركّبات في هذا العالم. و أشار إلى استناد فسادها إليه أيضا إذ هو مسبّب الأسباب.
و قد طاوعته عليه السّلام المطابقة في هذه القرائن فالتأليف بإزاء المعاداة، و المقارنة بإزاء المباينة، و القرب بإزاء البعد، و التفريق بإزاء التدانى.
الثالث و العشرون: كونه تعالى لا يشمله حدّ،
و المراد: إمّا الحدّ الاصطلاحى و ظاهر كونه تعالى لا حدّ له، إذ لا أجزاء له فلا تشمل و تحاط حقيقة بحدّ، و إمّا الحدّ اللغوىّ و هى النهاية الّتي تحيط بالجسم مثلا فيقف عندها و ينتهى بها و ذلك من لواحق الكمّ المتّصل و المنفصل و هما من الأعراض و لا شيء من واجب الوجود سبحانه بعرض أو محلّ له فامتنع أن يوصف بالنهاية. و أمّا وصفه باللانهاية فعلى سبيل سلب النهاية عنه مطلقا بسلب معروضها كالمقدار مثلا لا على سبيل العدول بمعنى أنّه معروض النهاية و اللانهاية لكن ليست النهاية حاصلة له.
الرابع و العشرون: كونه لا يحسب بعد
أى لا يلحقه الحساب و العدّ فيدخل في جملة المحسوبات المعدودة، و ذلك أنّ العدّ من لواحق الكمّ المنفصل الّذي هو العدد كما هو معلوم في مظانّه و الكمّ عرض، و قد ثبت أنّه تعالى ليس بعرض و لا محلّ له، و استحال أن يكون معدودا. و قوله: و إنّما تحدّ الأدوات أنفسها. فالأدوات إشارة إلى الآلات البدنيّة و القوى الجسمانيّة، و قد ثبت أنّها لا يتعلّق إدراكها إلّا بما كان جسما أو جسمانيّا على ما علم في موضعه فمعنى قوله: و إنّما تحدّ الأدوات أنفسها. أى إنّما تدرك الأجسام و الجسمانيّات ما هو مثلها من الأجسام و الجسمانيّات، و مثل الشيء هو هو في النوع أو الجنس، و يحتمل أن يدخل في ذلك النوع الفكر لامتناع انفكاكه عن الوهم و الخيال حين توجّهه إلى المعقولات لما بيّناه من حاجته إليهما في التصوير و الشبح فكان لا يتعلّق إلّا بمماثل ممكن، و لا يحيط إلّا بما هو في صورة جسم أو جسمانيّ، و كذلك قوله: و يشير الأشياء إلى نظائرها. و قوله: منعتها منذ القدميّة و حمتها قد الأزليّة و جنّبتها لو لا التكملة. الضمائر المتّصلة بالافعال الثلاثة تعود إلى الآلات و الأدوات و هى مفعولات اولى. و القدميّة و الأزليّة التكملة مفعولات ثانية، و منذ و قد و لولا محلّها الرفع بالفاعليّة، و معنى الكلمة الاولى أنّ إطلاق لفظة- منذ- على الآلات و الأدوات في مثل قولنا: هذه الآلات وجدت منذ كذا يمنع كونها قديمة.
إذ كان وضعها لابتداء الزمان و كانت لإطلاقها عليها متعيّنة الابتداء و لا شيء من القديم بمتعيّن الابتداء فينتج أنّه لا شيء من هذه الأدوات و الآلات بقديم، و كذلك إطلاق لفظة- قد- عليها يحميها و يمنعها من كونها أزليّة إذ كانت- قد- تفيد تقريب الماضى من الحال فإطلاقها عليها كما في قولك: قد وجدت هذه الآلة وقت كذا. يحكم بقربها من الحال و عدم أزليّتها و لا شيء من الأزلىّ بقريب من الحال فلا شيء من هذه الآلات بأزلىّ. و كذلك إطلاق لفظ- لولا- على هذه الآلات تجنّبها التكملة. إذ كان وضع لولا دالّا على امتناع الشيء لوجود غيره فإطلاقها عليها في مثل قولك عند نظرك إلى بعض الآلات المستحسنة و الخلقة العجيبة و الأذهان المتوقّدة: ما أحسنها و أكملها لولا أنّ فيها كذا. فيدلّ بها على امتناع كمالها لوجود نقصان فيها فهى مانعة لها من الكمال المطلق، و إنّما أشار إلى حدوثها و نقصانها ليؤكّد كونها غير متعلّقة بتحديده سبحانه، و أنّها في أبعد بعيد من تقديره و الإشارة إليه. إذ كان القديم الكامل في ذاته التامّ في صفاته أبعد الأشياء عن مناسبته المحدث الناقص في ذاته فكيف يمكن أن يدركه أو يليق أن يطمع في ذلك، و قال بعض الشارحين: المراد بالأدوات و الآلات أهلها. و قد روى برفع القدميّة و الأزليّة و التكملة على الفاعليّة. و الضمائر المتّصلة بالأفعال مفعولات اولى، و منذ و قد و لولا مفعولات ثانية، و يكون المعنى أنّ قدمه تعالى و أزليّته و كماله منعت الأدوات و الآلات من إطلاق منذ و قد و لو لا عليه سبحانه لدلالتها على الحدوث و الابتداء المنافيين لقدمه و أزليّته و كماله. و الرواية الاولى أولى لوجودها في نسخة الرضيّ- رضى اللّه عنه- بخطّه. و قوله: بها تجلّى صانعها للعقول. أى بوجود هذه الآلات ظهور وجوده تعالى للعقول. إذ كان وجودها مستلزما لوجود صانعها بالضرورة، و إحكامها و إتقانها شاهد بعلمه و حكمته شهادة تضطرّ إلى الحكم بها العقول، و كذلك تخصيصها بما تخصّصت به من الكمالات شاهد بإرادته و كمال عنايته فيكون ما شهد به وجودها من وجود صانعها أجلى و أوضح من أن يقع فيه شكّ أو يلحقه شبهة، و يتفاوت ذلك الظهور و التجلّى بحسب تفاوت صقال النفوس و جلائها فمنها من يراه بعد، و منها من يراه مع، و منها من يراه قبل، و منها من يراه لا شيء معه و اولئك عليهم صلوات من ربّهم و رحمة و اولئك هم المهتدون. و قوله: و بها امتنع عن نظر العيون. أى بإيجادها و خلقها بحيث تدرك بحاسّة البصر علم أنّه تعالى يمتنع أن يكون مرئيّا مثلها، و بيانه أنّ تلك الآلات إنّما كانت متعلّقة حسّ البصر باعتبار أنّها ذات وضع و جهة و لون و غيره من شرائط الرؤية، و لمّا كانت هذه الامور ممتنعة في حقّه تعالى لا جرم امتنع أن يكون محلّا لنظر العيون، و قال بعض الشارحين في بيان ذلك: إنّه لمّا كان بالمشاعر و الحواسّ الّتي هى الآلات المشار إليها أكملت عقولنا، و بعقولنا استخرجنا الدليل على أنّه لا يصحّ رؤيته فإذن بخلق هذه الأدوات و الآلات لنا عرفناه عقلا و عرفناه أنّه يستحيل أن يعرف بغير العقل.
الخامس و العشرون: كونه تعالى منزّها أن يجرى عليه السكون و الحركة،
و قد أشار عليه السّلام إلى بيان امتناعهما عليه من أوجه: أحدها: قوله: و كيف يجرى عليه. إلى قوله: أحدثه، و هو استفهام على سبيل الاستنكار لجريان ما أجراه عليه و عود ما أبداه و أنشأه إليه و حدوث ما أحدثه فيه. و بيان بطلان ذلك أنّ الحركة و السكون من آثاره سبحانه في الأجسام و كلّ ما كان من آثاره يستحيل أن يجرى عليه و يكون من صفاته: أمّا المقدّمة الاولى فظاهرة، و أمّا الثانية فلأنّ المؤثّر واجب التقدّم بالوجود على الأثر فذلك الأثر إمّا أن يكون معتبرا في صفات الكمال فيلزم أن يكون تعالى باعتبار ما هو موجد له و مؤثّر فيه ناقصا بذاته مستكملا بذلك الأثر، و النقص عليه تعالى محال، و إن لم يكن معتبرا في صفات كماله فله الكمال المطلق بدون ذلك الأثر فكان إثباته صفة له نقصا في حقّه لأنّ الزيادة على الكمال المطلق نقصان و هو عليه تعالى محال. الثاني: لو كان كذلك للزم التغيّر في ذاته تعالى و لحوق الإمكان له، و دلّ على ذلك بقوله: إذن لتفاوتت ذاته: أى تغيّرت بطريان الحركة عليها تارة و السكون اخرى لأنّ الحركة و السكون من الحوادث المتغيّرة فيكون تعالى بقوله: لتعاقبهما محلّا للحوادث في التغيّرات فكان متغيّرا لكن التغيّر مستلزم للإمكان فالواجب لذاته ممكن لذاته هذا خلف. الثالث: لو كان كذلك للزم حقيقته التجزية و التركيب لكنّ التالى باطل و المقدّم كذلك. أمّا الملازمة فلأنّ الحركة و السكون من عوارض الجسم الخاصّة به فلو يوصف تعالى بها لكان جسما و كلّ جسم فهو مركّب قابل للتجزئة، و أمّا بطلان التالى فلأنّ كلّ مركّب مفتقر إلى أجزائه و ممكن فالواجب ممكن.
هذا خلف. الرابع: أنّه لو كان كذلك للزم أن يبطل من الأزل معناه: أمّا على طريق المتكلّمين فظاهر لأنّ الحركة و السكون من خواصّ الأجسام الحادثة فكان الموصوف بهما حادثا فلو كان تعالى موصوفا بهما لبطل من الأزل معناه و لم يكن أزليّا.
و أمّا على رأى الحكماء فلأنّه تعالى لكونه واجب الوجود لذاته يستحقّ الأزليّة، و لكون الممكن ممكنا لذاته فهو إنّما يستحقّ الأزليّة لالذاته بل لأزليّة علّته و تمامها أزلا حتّى لو توقّفت علّته على أمر ما في مؤثريّتها لزم حدوث الممكن و لم يكن له من ذاته إلّا كونه لا يستحقّ لذاته وجودا و لا عدما و هو معنى الحدوث الذاتىّ عندهم. فعلى هذا لو كان تعالى قابلا للحركة و السكون لكان جسما ممكنا لذاته فكان مستحقّا للحدوث الذاتىّ بذاته فلم يكن مستحقّا للأزليّة بذاته فيبطل من الأزليّة معناه و هو استحقاقه الأزليّة بذاته لكن التالى باطل لما مرّ. الخامس: أنّه لو كان كذلك للزم أن يكون له وراء إذ وجد له أمام، و وجه الملازمة أنّه لو جرت عليه الحركة لكان له أمام يتحرّك إليه و حينئذ يلزم أن يكون له وراء إذ له أمام لأنّهما إضافيّتان لا تنفكّ إحداهما عن الاخرى لكن ذلك محال لأنّ كلّ ذى وجهين فهو منقسم و كلّ منقسم فهو ممكن على ما مرّ. السادس: لو كان كذلك لالتمس التمام إذ لزمه النقصان، و بيان الملازمة أنّ جريان الحركة عليه مستلزم لتوجّهه بها إلى غاية إمّا جلب منفعة أو دفع مضرّة. إذ من لوازم حركات العقلاء ذلك، و على التقديرين فهما كمال مطلوب له لنقصان لازم لذاته لكنّ النقصان بالذات و الاستكمال بالغير مستلزم الإمكان فالواجب ممكن. هذا خلف. السابع: لو كان كذلك لقامت آية المصنوع فيه، و بيان الملازمة أنّه حينئذ يكون قادرا على الحركة و السكون فقدرته عليهما ليست من خلقه و إلّا لافتقر إيجاده لها إلى قدرة اخرى سابقة عليها و لزم التسلسل و كان قادرا قبل أن كان قادرا و هما محالان فهى إذن من غيره فهو إذن مفتقر في كماله إلى غيره فهو مصنوع و فيه آيات الصنع و علامات التأثير فليس هو بواجب الوجود. هذا خلف. الثامن: لو كان كذلك لتحوّل دليلا بعد أن كان مدلولا عليه، و ذلك أن يكون مصنوعا على ما مرّ و كلّ مصنوع فيستدلّ به على صانعه كما هو المشهور في الاستدلال بوجود العالم و حدوثه على وجود صانعه، و لأنّه يكون جسما فيكون مصنوعا فكان دليلا على الصانع لكنّه هو الصانع الأوّل للكلّ و هو المدلول عليه فاستحال أن يكون دليلا من جهة آثار الصنع فيه فاستحال أن يكون قابلا للحركة و السكون فاستحال أن يجريا عليه. فانظر إلى هذه النفس الملكيّة له عليه السّلام كيف يفيض عنها هذه الأسرار الإلهيّة فيضا من غير تقدّم مزاولة الصنائع العقليّة و ممارسة البحث في هذه الدقائق الإلهيّة. و أمّا قوله: و خرج بسلطان الامتناع.
إلى قوله: غيره. فقد يسبق إلى الوهم عطفه على الأدلّة المذكورة، و ظاهر أنّه ليس كذلك، بل هو عطف على قوله: امتنع. أى بها امتنع عن نظر العيون و خرج ذلك الامتناع: أى امتناع أن يكون مثلها في كونها مرئيّة للعيون و محلّا للنظر إليها عن أن يؤثّر فيه ما يؤثّر في غيره من المرئيّات، و هى الأجسام و الجسمانيّات، و ظاهر أنّه تعالى لمّا امتنع عن نظر العيون إذ لم يكن جسما و لا قائما به فخرج بسلطان استحقاق ذلك الامتناع عن أن يؤثّر فيه ما يؤثّر في غيره من الأجسام و الجسمانيّات و عن قبول ذلك. و قال بعض الشارحين: إنّه عطف على قوله: تجلّى: أى بها تجلّى للعقول و خرج بسلطان الامتناع كونه مثلا لها: أى يكون واجب الوجود ممتنع العدم عن أن يكون ممكنا فيقبل أثر غيره كما يقبل الممكنات.
السادس و العشرون: كونه تعالى لا يحول
أى لا ينتقل و يتغيّر من حال إلى حال لما علمت من استلزام التغيّر للإمكان الممتنع عليه.
السابع و العشرون : و كذلك لا يزول.
الثامن و العشرون: و كذلك لا يجوز عليه الافول
و الغيبة بعد الظهور لما يستلزم من التغيّر أيضا.
التاسع و العشرون: كونه لم يلد فيكون مولودا و لم يولد فيكون محدودا.
فالجملة الاولى تشتمل على دعوى و الإشارة إلى البرهان، و هو في صورة قياس استثنائىّ تقديره: لو كان له ولد لكان مولودا و حينئذ يكون الجملة الثانية و هى قوله: و لم يولد. في قوّة استثناء نقيض التالى، و قوله: فيكون محدودا في قوّة قياس استثنائىّ يدلّ على بطلان التالى، و تقديره: لأنّه لو كان مولودا لكان محدودا. و اعلم أنّه يحتمل أن يريد بقوله: مولودا. ما هو المتعارف فيكون قد سلك في ذلك مسلك المعتاد الظاهر في بادى النظر بحسب الاستقراء أنّ كلّ ماله ولد فإنّه يكون مولودا و إن لم يجب ذلك في العقل، و قد علمت أنّ الاستقراء ممّا يستعمل في الخطابة و يحتجّ به فيكون مقنعا. إذ كانت غايتها الاقناع، و يحتمل أن يريد به ما هو أعمّ من المفهوم المتعارف أعنى التولّد عن آخر مثله من نوعه فإنّ ذلك غير واجب كما في اصول أنواع الحيوان الحادثة، و حينئذ يكون بيان الملازمة الاولى على الاحتمال الأوّل ظاهر، و أمّا على تقدير الثاني فنقول في بيانها: إنّ مفهوم الولد هو الّذي يتولّد و ينفصل عن آخر مثله من نوعه لكن أشخاص النوع الواحد لا يتعيّن في الوجود مشخّصا إلّا بواسطة المادّة و علاقتها على ما علم ذلك في مظانّه من الحكمة، و كلّ ما كان ماديّا و له علاقة بالمادّة كان متولّدا عن غيره و هو مادّته و صورته و أسباب وجوده و تركيبه، و أمّا بيان الملازمة الثانية في برهان بطلان التالى فلأنّه لمّا لزم من كونه ذا ولد أن يكون مشاركا في النوع لغيره ثبت أنّه متولّد من مادّة و صورة و مركّب عنهما و عن جزئين بأحدهما يشارك نوعه و بالآخر ينفصل. فهو إذن منته إلى حدود و هي أجزاؤه الّتي يقف عندها و ينتهى في التحليل إليها. فثبت أنّه تعالى لو كان مولودا لكان محدودا لأنّه لو كان مولودا لكان محاطا و محدودا بالمحلّ المتولّد منه لكن كلّ محدود على الاعتبارين مركّب و كلّ مركّب ممكن. هذا خلف. فإذن ليس هو بمحدود فليس هو بمولود فليس هو بذى ولد، و إن شئت أن تجعل المقدّمتين في قوّة قياس حملىّ مركّب من شرطيّتين متّصلتين و الشركة بينهما في جزء تامّ، و تقديره: لو كان تعالى ذا ولد لكان مولودا و لو كان مولودا لكان محدودا، و النتيجة لو كان ذا ولد لكان محدودا. ثمّ يستنتج من استثناء نقيض تالى هذه النتيجة عن المطلوب.
و بيان الملازمتين و نقيض تالى النتيجة ما سبق.
الثلاثون: كونه جلّ عن اتّخاذ الأبناء
أى علا و تقدّس عن ذلك، و هو تأكيد لما سبق. و بيانه أنّه يستلزم لحوق مرتبته بمراتب الأجسام الّتي هى في معرض الزوال و قبول التغيّر و الاضمحلال.
الحادى و الثلاثون: كونه طهر عن ملامسة النساء
و ذلك لما يستلزمه الملامسة من الجسميّة و التركيب الّذي تنزّه قدسه عنه، و طهارته تعود إلى تقدّسه عن الموادّ و علائقها من الملامسة و المماسّة و غيرها.
الثاني و الثلاثون: كونه لا تناله الأوهام فيقدّره
أى لو نالته الأوهام لقدّرته لكنّ التالى باطل فالمقدّم كذلك. بيان الملازمة: أنّك علمت أنّ الوهم إنّما يدرك المعاني المتعلّقة بالمادّة و لا ترتفع إدراكه عن المعاني المتعلّقة بالمحسوسات، و شأنه فيما يدركه أن يستعمل المتخيّلة في تقديره بمقدار مخصوص و كميّة معيّنة و هيئة معيّنة و يحكم بأنّها مبلغه و نهايته. فلو أدركته الأوهام لقدّرته بمقدار معيّن و في محلّ معيّن. فأمّا بطلان التالى فلأنّ المقدار محدود و مركّب و محتاج إلى المادّة و التعلّق بالغير، و قد سبق بيان امتناعه.
الثالث و الثلاثون: و لا يتوهّمه الفطن فتصوّره.
و فطن العقول: سرعة حركتها في تحصيل الوسط في المطالب، و إنّما قال: لا يتوهّمه الفطن لأنّ القوّة العقليّة عند توجّهها في تحصيل المطالب العقليّة المجرّدة لا بدّ لها من استتباع الوهم و المتخيّلة و الاستعانة بها في استثباتها بالشبح و التصوير بصورة يحطّها إلى الخيال على ما علم ذلك في موضعه. و لذلك ما كانت رؤيتها لجبرئيل في صورة دحية الكلبىّ. و كذلك المعاني المدركة للنفوس في النوم من الحوادث فإنّها لا يتمكّن من استثباتها عند اقتناصها من عالم التجريد و بقائها إلى حال اليقظة في صورة خياليّة مشاهدة كما علمت ذلك في صدر الكتاب. فظهر إذن معنى قوله: لا يتوهّمه الفطن فتصوّره: أى لو أدركته لكان ذلك بمشاركة الوهم فكان يلزم أن يصوّره بصورة خياليّة لكنّه تعالى منزّه عن الصورة فكان منزّها عن إدراكها.
الرابع و الثلاثون: لا تدركه الحواسّ فتحسّه.
و أراد لو أدركته الحواسّ لصدق عليه أنّها تحسّه و لزم كونه محسوسا، و بيان ذلك أنّ الإدراك و إن كان أعمّ من الإحساس لكن بإضافته إلى الحواسّ صار مساويا و ملازما له.
فإن قلت: إنّه لا معنى للإحساس إلّا إدراك الحواسّ فيكون كأنّه قال: لا تحسّه الحواسّ فتحسّه. و ذلك تكرار غير مفيد.
قلت: ليس مقصوده أنّه يلزم من معنى الإدراك معنى الإحساس بل مراده أنّ الّذي يصدق عليه أنّه إدراك الحواسّ هو المسمّى بالإحساس فيكون التقدير أنّ الحواس لو أدركته لصدق أنّها أحسّته أى لصدق هذا الاسم و لزم من صدقه عليها أن يصدق عليه كونه محسوسا، و إنّما ألزم ذلك كون الإحساس أشهر و أبين في الاستحالة عليه تعالى من الادراك فجعله كالأوسط في نفى إدراكها عنه لشنعته، و أمّا بيان أنّه تعالى ليس بمحسوس فلأنّه تعالى ليس بجسم و لا جسمانىّ و كلّ محسوس فإمّا جسم أو جسمانىّ فينتج أنّه تعالى ليس بمحسوس.
الخامس و الثلاثون: كونه تعالى لا تلمسه الأيدى فتمسّه
أى لو صدق عليها أنّها تلمسه لصدق أنّها تمسّه و هو ظاهر. إذ كان المسّ أعم من اللمس، و كلاهما ممتنعان عليه لاستلرامهما الجسميّة الممتنعة عليه تعالى.
السادس و الثلاثون: كونه لا يتغيّر بحال
أى أبدا و البتّة و على وجه من الوجوه.
السابع و الثلاثون و لا يتبدّل في الأحوال
أى لا ينتقل من حال إلى حال.و قد سبق بيان ذلك.
الثامن و الثلاثون: كونه لا تبليه الليالى و الأيّام
أمّا أوّلا فلأنّه تعالى ليس بزمانىّ يدخل تحت تصريف الزمان حتّى تبليه، و أمّا ثانيا فلأنّ لحوق الإبلاء له تغيّر في ذاته. و قد علمت امتناع التغيّر عليه، و أمّا ثالثا فلأنّ البالى من الامور الماديّة. و كلّ ذى مادّة فهو مركّب على ما مرّ.
التاسع و الثلاثون: كونه لا يغيّره الضياء و الظلام،
و ذلك لامتناع التغيّر عليه.
الأربعون: كونه لا يوصف بشيء من الأجزاء
لأنّ كلّ ذى جزء مفتقر إلى جزء الّذي هو غيره فكان مفتقرا إلى غيره فكان ممكنا في ذاته. هذا خلف.
الحادى و الأربعون: و لا بالجوارح و الأعضاء
لما يلزم من الجسميّة و التركيب و التجزية.
الثاني و الأربعون: و لا بعرض من الأعراض
أقول: الأعراض تنحصر في تسعة أجناس كما هو معلوم في مظانّه، و ذلك أنّ كلّ الموجودات سوى اللّه تعالى مقسوم بعشرة أقسام واحد منها جوهر و التسعة الباقية أعراض، و يظهر بتقسيم هكذا: كلّ ما عداه سبحانه فوجوده زايد على مهيّته بالبراهين القاطعة فمهيّته إمّا أن تكون بحيث إذا وجدت كان وجودها لا في موضوع. و هذا المعنىّ بالجوهر، أو يكون وجودها في موضوع و هو المعنىّ بالعرض. و نعني بالموضوع المحلّ الّذي لا يتقوّم بما يحلّ فيه بل يبقى حقيقته كما كانت قبل حلوله كالجسم الّذي يحلّه السواد. ثمّ العرض ينقسم إلى أقسامه التسعة و هى الكم و الكيف و المضاف و أين و متى و الوضع و الملك و أن يفعل و أن ينفعل. و تسمّى هذه الأقسام مع القسم العاشر و هو الجوهر المقولات العشر و الأجناس العالية، و لنرسم كلّ واحد منها ليظهر أنّه تعالى منزّه عن الوصف بشيء منها. فنقول، أمّا الجوهر فقد عرفت رسمه، و أمّا الكمّ فرسم بأنّه العرض الّذي يقبل لذاته المساواة و اللامساواة و التجزّى. و يقبل الجوهر بسببه هذه الصفات، و أمّا الكيف فقد عرفته و عرفت أقسامه، و أمّا الإضافة فهى حالة للجوهر تعرض بسبب كون غيره في مقابلته و لا يعقل وجودها إلّا بالقياس إلى ذلك الغير كالابّوة و البنوّة و قد عرفتها و عرفت أيضا أقسامها من قبل، و امّا الأين فهي حالة و هيئة تعرض للجسم بسبب نسبته إلى المكان و كونه فيه و ليس مجرّد النسبة إليه، و أمّا متى فهى حالة تعرض للشيء بسبب نسبته إلى زمانه و كونه فيه أو في طرفه و هو الآن، و أمّا الوضع فهو هيئة يعرض للجسم بسبب نسبة أجزائه بعضها إلى بعض نسبة يختلف الأجزاء لأجلها بالقياس إلى سائر الجهات كالقيام و القعود، و أمّا الملك فقد عرفت بأنّه نسبة إلى ملاصق ينقل بانتقال ما هو منسوب إليه كالتسلّخ و التقمّص، و أمّا أن يفعل فهو كون الشيء بحيث يؤثّر في غيره ما دام مؤثّرا فيه كالتقطيع حالة التأثير، و أمّا أن ينفعل و هو كون الشيء متأثّرا عن غيره ما دام متأثّرا كالقطيع.
إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا البرهان الجملىّ على امتناع اتّصافه تعالى بهذه الأعراض و استحالة كونه موضوعا لها فما سبق بيانه عليه السّلام بقوله: فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه و من قرنه فقد ثنّاه، و كذلك ما بيّناه من استلزام وصفه بشيء حصول التغيّر في ذاته و امتناع التغيّر عليه، و أمّا التفصيلىّ فأمّا امتناع وصفه بالكمّ فلأنّه لو صدق عليه الكمّ لصدق عليه قبول المساواة و المقارنة و التجزّى و كلّما قبل التجزية كان متكثّرا و قابلا للكثرة و قد ثبت أنّه تعالى واحد من كلّ وجه فيمتنع عليه الكمّ، و أمّا امتناع وصفه بالكيف فقد علمته في أوّل الخطبة، و كذلك امتناع وصفه بالمضاف، و أمّا وصفه بالأين فلأنّه يستلزم أن يكون متحيّزا محويّا لكن كونه كذلك محال فكونه في المكان محال، و أمّا وصفه بمتى فقد عرفته أنّه تعالى ليس بزمانىّ فاستحال أن يوصف بالنسبة إلى زمان يكون له، و أمّا وصفه بالوضع فلأنّ الوضع من خواصّ المحيّزات فإنّ الجسم المتناهي يحيط به سطح لا محالة أو سطوح ينتهى عندها فيكتنف حدّا و حدودا و نهايات و يكون له شكل و هيئة لكنّه تعالى ليس بمتحيّز فاستحال أن يكون ذا وضع، و أمّا الملك فلأنّه أيضا من خواصّ الأجسام المحاط بها إذ ما ليس بجسم و لا يحاط به بشيء ينتقل بانتقاله و قد تنزّه تعالى عن الجسميّة و أن يحيط به شيء، و أمّا أن يفعل فلأنّ الفعل لا يصدق عليه إلّا بطريق الإبداع و محض الاختراع و الإبداع هو أن يكون للشيء وجود من غيره متعلّق به فقط دون توسّط مادّة أو آلة أو زمان و الفعل أعمّ من الإبداع إذ المفهوم من الفعل هو أن يوجد بسبب وجوده شيء آخر سواء كان ذلك لسبب حركة من الفاعل أو آلة أو مادّة أو زمان أو قصد اختيارىّ فيقال للنجّار: إنّه فاعل و للسرير إنّه فعل، و يقال: لا بتوسط شيء من ذلك بل بطبع و تولّد كالشمس فإنّها فاعلة للنور و النور فعلها فالفعل إذن ينقسم إلى ما يكون بقصد و اختيار و إلى ما لا يكون كذلك بل يصدر عنه لأنّه ذات تفيض عنها ذلك الشيء. ثمّ إن كان عالما بفيضان الشيء عنه سميّت تلك الإفاضة جودا و الفاعل بذلك الاعتبار جوادا و إن لم يكن عالما به تسمّى تلك الإفاضة طبعا و تولّدا كفيضان النور عن الشمس فالفاعل إمّا أن يفعل بالقصد و الغرض أو بالجود المحض أو بالطبع المحض، و البارى تعالى لا يجوز أن يفعل لغرض لأنّ الغرض و القصد إن كان أولى به لذاته كانت ذاته مستكملة بتلك الأوليّة ناقصة بعدمها هذا محال، و إن لم تكن أولى به كان ترجيحا من غير مرجّح. ثمّ لا يجوز أن يكون أولى بالنظر إلى العبد لأنّ تلك الأوليّة و عدمها إن كانا بالنسبة إليه على سواء فلا ترجيح أولا على سواء فيعود حديث النقصان و الكمال فكان تعالى منزّها عن الفعل بهذا الوجه بل إنّما يصدر منه على وجه الإبداع بجوده المحض. و في هذه المسألة بحث طويل ليس هذا موضعه، و أمّا وصفه بأن ينفعل فلأنّ الانفعال يستلزم التغيّر في ذاته المستلزم للإمكان و قد تنزّه قدسه عنه.
الثالث و الأربعون: و لا بالغيريّة و الأبعاض
أى ليس له أبعاض يغاير بعضها بعضا لأنّ ذلك مستلزم للتجزئة و التركيب الممتنعين عليه و امتناع اللازم يستلزم امتناع الملزوم.
الرابع و الأربعون: و لا يقال له حدّ و لا نهاية
لأنّ الحدود و النهايات من عوارض الأجسام ذوات الأوضاع و لواحقها. على ما سبق.
الخامس و الأربعون: و كذلك و لا انقطاع و لا غاية
أى لا انقطاع لوجوده و لا غاية له، و ذلك لأنّ الانقطاع عند الغايات من لواحق الامور الزمانيّة المحدثة الكاينة الفاسدة، و قد بيّنا امتناع كونه تعالى زمانيّا و كونه ماديّا، و لأنّه تعالى واجب الوجود فيستحيل أن يلحقه العدم أو يتناهى وجوده و ينقطع عند غاية.
السادس و الأربعون. و لا أنّ الأشياء تحويه فتقلّه أو تهويه
روي ما بعد الفاء منصوبا و عليه نسخه الرضى- رحمه اللّه- و ذلك بإضمار أن عقيبها في جواب النفى، و روي مرفوعا على العطف. و المعنى أنّه ليس بذى مكان يحويه فيرتفع بارتفاعه و ينخفض بانخفاضه لما أنّ ذلك من لواحق الجسميّة، و كذلك أو أنّ شيئا يحمله فيميله أو يعدله.
السابع و الأربعون: ليس في الأشياء بوالج و لا عنها بخارج
لأنّ الدخول و الخروج من لواحق الأجسام أيضا فما ليس بجسم و لا جسمانىّ فهما مسلوبان عنه سلبا مطلقا لا السلب المقابل للملكة.
الثامن و الأربعون: كونه يخبر بلا لسان و لهوات
لأنّ اللسان و اللهوات من لواحق الأجسام الحيوانيّة المنزّه قدسه عنها، و السلب هاهنا كالّذي قبله. و الأخبار هو النوع الأكثر من الكلام و لذلك خصّه هنا بالذكر، و زعمت الأشعريّة أنّ الخبر هو أصل الكلام كلّه و إليه يرجع أنواعه كالأمر و النهى و الاستفهام و التمنّى و الترجىّ و غيرها. ثمّ اختلف المتكلّمون في حقيقة الكلام فاتّفقت المعتزلة على أنّه المركّب من الحرف و الصوت، و جمهور الأشعريّة على أنّ وراء الكلام اللسانىّ معنى قائم بالنفس يعبّر عنه بالكلام النفسانىّ و لفظ الكلام حقيقة فيه و في اللسانىّ مجاز، و منهم من جعله حقيقة في اللسانىّ مجاز في النفسانىّ، و منهم من جعله مشتركا فيهما فكون اللّه تعالى متكلّما يعود إلى خلقه الكلام في جسم الشيء عند المعتزلة، و عند الأشعريّة أنّه معنى قائم بذاته و
هذه الأصوات و الحروف المسموعة دلالات عليه. و سيفسّر عليه السّلام معنى
شرحنهجالبلاغة(ابنميثم)، ج 4 ، صفحهى 170
كلامه تعالى.
التاسع و الأربعون: يسمع بلا خروق و أدوات
أى ليس سمعه بأداة هى الاذن و الصماخات كما يسمع الإنسان لتنزّهه تعالى عن الآلات الجسمانيّة، و قد كان هذا البرهان كافيا في منع إطلاق السميع عليه تعالى لكن لمّا ورد الإذن الشرعىّ بإطلاقه عليه و لم يمكن حمله على ظاهره و حقيقته وجب صرفه إلى مجازه و هو العلم بالمسموعات إطلاقا لاسم السبب على المسبّب. إذ كان السمع من أسباب العلم فإذن كونه تعالى سميعا يعود إلى علمه بالمسموعات.
الخمسون: يقول و لا يلفظ
و إطلاق لفظ القول عليه كإطلاق الكلام.
و أمّا التلفّظ فلمّا كان عبارة عن إخراج الحرف من آلة النطق و هى اللسان و الشفه لا جرم لم يصدق في حقّه لعدم الآلة هنالك و كان الشارع لم يأذن في إطلاقه عليه تعالى لما أنّ دلالته على الآلة المذكورة أقوى من الكلام و القول.
الحادى و الخمسون: كونه يحفظ و لا يتحفّظ.
و حفظه يعود إلى علمه بالأشياء، و لمّا كان المعروف من العادة أنّ الحفظ يكون بسبب التحفّظ و كان ذلك في حقّه تعالى محالا لاستلزامه الآلات الجسمانيّة لا جرم احترز عنه. و قال بعض الشارحين: إنّما يريد بالحفظ أنّه يحفظ عباده و يحرسهم و لا يتحفّظ منهم: أى لا يحتاج إلى حراسة نفسه منهم. و هذا بعيد الإرادة هنا.
الثاني و الخمسون: يريد و لا يضمر
فإرادته تعالى تعود إلى اعتبار كونه تعالى عالما بما في الفعل من الحكمة و المصلحة الّذي هو مبدء فعله، و لا فرق في حقّه تعالى بين الإرادة و الداعى، و لمّا كان المتعارف من الإرادة أنّها ميل القلب نحو ما يتصوّر كونه نافعا و لذيذا و ذلك الميل من المضمرات المستكنّة في القلب لا جرم كان إطلاق الإرادة في حقّه يستلزم تصوّر الإضمار و لمّا تنزّه سبحانه عن الإضمار لا جرم احترز عنه في إطلاق المريد عليه تعالى فكان ذلك الاحتراز كالقرينة الصارفة للّفظ عن حقيقته إلى مجازه و هو الاعتبار المذكور.
الثالث و الخمسون: كونه يحبّ و يرضى من غير رقّة
فالمحبّة منه تعالى
شرحنهجالبلاغة(ابنميثم)، ج 4 ، صفحهى 171
إرادة هى مبدء فعل ما فمحبّته للعبد إرادته لثوابه و تكميله و ما هو خير له، و أمّا من العبد فهى إرادة تقوى و تضعف بحسب تصوّر المنفعة و اللذّة و اعتقاد كمالها و نقصانها، و محبّته للّه هى إرادة طاعته، و أمّا الرضا فقريب من المحبّة و يشبه أن يكون أعمّ منها لأنّ كلّ محبّ راض عمّا أحبّه و لا ينعكس. فرضاه تعالى عن العبد يعود إلى علمه تعالى بموافقته لأمره و طاعته له، و المفهوم منه في حقّ العبد هو سكون نفسه بالنسبة إلى موافقة و ملايمة عند تصوّر كونه موافقا و ملايما، و لمّا كان الرضا و المحبّة من الإنسان لغيره يستلزم الرقّة القلبيّة له و الانفعال النفسانىّ عن تصوّر المعنى الّذي لأجله حصلت المحبّة و الميل إليه و الداعى إلى الرضا عنه و كان البارى سبحانه منزّها عن الرقّة و الانفعال لتنزّهه عن قوابلها لا جرم احترز بقوله: من غير رقّة.
الرابع و الخمسون: و يبغض و يغضب من غير مشقّة
فالبغض منه تعالى للعبد يضادّ محبّته له و يعود إلى كراهته لثوابه، و كراهته يعود إلى علمه بعدم استحقاقه للثواب و أنّه لا مصلحة في ثوابه و يلزمها إرادة إهانته و تعذيبه، و البغض من العبد هو كراهته للغير و ميل نفسه عنه لتصوّر كونه مضرّا و مولما و يلزم ذلك النفرة الطبعيّة منه و ثوران القوّة الغضبيّة عليه و إرادة إهانته. و أمّا الغضب فيعود من اللّه تعالى إلى علمه بمخالفة أوامره و عدم طاعته له، و المفهوم منه في حقّ العبد ثوران النفس و حركة قوّتها الغضبيّة عن تصوّر المؤذى و الضارّ لإرادة مقاومته و رفعه. و لمّا كان البغض و الغضب يستلزمان ثوران دم القلب و كان ذى النفس يستلزم مشقّة و كلفة لا جرم احترز عنها في إطلاق لفظ البغض و الغضب عليه فقال: من غير مشقّة. و اعلم أنّ إطلاق لفظ المحبّة و الرضا على ما ذكرناه من الاعتبارات في حقّه مجاز. إذ كانت حقيقة الرضا هى سكون النفس الإنسانيّة و المحبّة ميلها إلى النافع فإطلاقهما على العلم إطلاق لاسم اللازم على الملزوم، و كذلك إطلاق لفظى البغض و الغضب في حقّه تعالى على علمه المخصوص.
الخامس و الخمسون: يقول لما أراد كونه كن فيكون
فإرادته لكونه هو
شرحنهجالبلاغة(ابنميثم)، ج 4 ، صفحهى 172
عمله بما في وجوده من الحكمة، و قوله: كن. إشارة إلى حكم قدرته الأزليّة عليه بالايجاد و وجوب الصدور عن تمام مؤثريّته، و قوله: فيكون. إشارة إلى وجوده. و دلّ على اللزوم و عدم التأخّر و التراخى بالفاء المقتضية للتعقيب بلا مهلة.
السادس و الخمسون: لا بصوت يقرع
أى ليس بذى حاسّة للسمع فيقرعها الصوت، و ذلك أنّ الصوت كيفيّة يحدث في الهواء عن قلع أو قرع وقوعه لما يصل إليه من الصماخ أو جسم آخر هو وقع عليه بشدّة و عنف، و ذلك حال تعرض الأجسام فلو كان له تعالى آلة سمع لكان جسما لكن التالى باطل فالمقدّم كذلك.
السابع و الخمسون: و لا بنداء يسمع
أى لمّا بيّن في القرينة الاولى أنّه لا سمع له يقرع بصوت بيّن في الثانية أنّه لا يخرج منه الصوت لأنّ النداء صوت مخصوص و الصوت مستلزم المصوّت و هو جسم لما مرّ من استلزام الصوت القرع أو القلع المستلزمين الجسميّة. و قوله: و إنّما كلامه تعالى. إلى قوله: كاينا. فاعلم أنّ هذا الكلام ممّا استفادت المعتزلة منه كون كلامه تعالى محدثا، و فيه تصريح بغير ما ذهبوا إليه. فمعنى قوله: فعل منه أنشأه: أى أوجده في لسان النبىّ. فأمّا قوله: و مثله. فأراد صوّره في لسان النبىّ و سوّى مثاله في ذهنه. و قال بعض الشارحين: مثله لجبرئيل في اللوح المحفوظ حتّى بلّغه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ساير الرسل عليهم السّلام و دلّ بقوله: لم يكن من قبل ذلك كائنا. على أنّه محدث مسبوق الوجود بالعدم، و أشار بقوله: و لو كان. إلى قوله: ثانيا، إلى برهان حدوثه و هو قياس استثنائىّ و تقريره: لو كان كلامه تعالى قديما لكان كلامه إلها ثانيا لكن التالى باطل فالمقدّم كذلك. فأمّا بيان الملازمة فلأنّه لو كان قديما لكان إمّا واجب الوجود و إمّا ممكن الوجود. و التالى باطل لأنّه لو كان ممكنا مع أنّه موجود في الأزل لكان وجوده مفتقرا إلى مؤثّر فذلك المؤثّر إن كان غير ذاته فهو محال لوجهين:
شرحنهجالبلاغة(ابنميثم)، ج 4 ، صفحهى 173
أحدهما: أنّه يلزم افتقاره تعالى في تحصيل صفته إلى غيره فهو محال. الثاني: انّه يلزم أن يكون في الأزل مع اللّه غيره يكون مستندا إليه في حصول تلك الصفة فيكون إلها ثانيا بل هو أولى بالإلهيّة هذا محال. و إن كان المؤثّر في كلامه ذاته فهو محال أيضا لأنّ المؤثّر واجب التقدّم بالوجود على الأثر فالكلام إمّا أن يكون من صفات كماله أولا يكون فإن كان الأوّل فتأثيره فيه إن كان- و كلّ كمال له حاصلا له بالفعل- فقد كان وصف الكلام حاصلا له قبل أن كان حاصلا هذا خلف. و إن كان تأثيره في حال ما هو خال عن صفة الكلام فقد كان خاليا عن صفة كماله فكان ناقصا بذاته و هذا محال، و أمّا إن لم يكن الكلام من صفات كماله كان إثباته له في الأزل إثباتا لصفة زائدة على الكمال و الزيادة على الكمال نقصان. فتعيّن أنّه لو كان قديما لكان واجب الوجود لذاته فكان إلها ثانيا، و أمّا بطلان التالى فلمّا بيّنا من كونه تعالى واحدا. فثبت بهذا الدليل الواضح أنّه لا يجوز أن يكون كلامه قديما.
الثامن و الخمسون: لا يقال. إلى قوله: لم يكن.
إشارة إلى أنّه ليس بمحدث لأنّ كون الشيء بعد أن لم يكن هو معنى حدوثه. و قوله: فتجرى عليه الصفات المحدثات. فالفاء في جواب النفى لتقدير الشرط: أى لو صدق عليه أنّه محدث للحقته الصفات المحدثة و إلّا لكانت صفاته قديمة فكان الموصوف بها قديما. هذا خلف. و التقدير لكن لحوق الصفات المحدثه له باطل فكونه محدثا باطل، و أشار إلى بطلان التالى بقوله: و لا يكون بينها و بينه فصل. إلى قوله: و البديع. و التقدير أنّه لو لحقته الصفات المحدثات و جرت عليه على تقدير كونه محدثا لكانت ذاته مساوية لها في الحدوث المستلزم للإمكان المستلزم للحاجة إلى الصانع فلم يكن بينها و بينه فصل في ذلك، و لاله عليها فضل لاشتراكه معها في الحاجة. و قوله: فيستوى. إلى قوله: المبتدع. إشارة إلى ما يلزم تلك المساواة من المحال. إذ كان استواء الصانع و مصنوعه
شرحنهجالبلاغة(ابنميثم)، ج 4 ، صفحهى 174
ظاهر الفساد. و أصل البديع من الفعل ما لم يسبق فاعله إلى مثله، و سمّى الفعل الحسن بديعا لمشابهته ما لم يسبق إليه في كونه محلّ التعجب منه، و المبدع هو فاعل البديع، و المصدر الإبداع. و قد عرفت معناه فيما قبل. و في نسخه الرضى المبدع بفتح الدال، و هو البديع بالمعنى الّذي ذكرناه، و يكون مراده بالبديع الصانع و هو فعيل بمعنى فاعل كقوله تعالى بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ«» و إذا ثبت أنّه لا يجرى عليه الامور المحدثة و لواحق الحدوث من سبق العدم و التغيّر و الإمكان و الحاجة إلى المؤثّر و غير ذلك و إلّا يلزم المحال المذكور أوّلا. و النسخة الاولى بخط الرضىّ- رضى اللّه عنه- .
التاسع و الخمسون: كونه تعالى خلق الخلق. إلى قوله: غيره،
و قد سبق بيانه في الخطبة الاولى، و هو تنزيه له عن صفات الصانعين من البشر فإنّ صنايعهم تحذو حذو أمثلة سبقت من غيرهم أو حصلت في أذهانهم.
الستّون: كونه لم يستعن على خلق ما خلق بأحد من خلقه
و إلّا لكان ناقصا بذاته مفتقرا إلى ما كان هو مفتقرا إليه و هو محال.
الحادى و الستّون: كونه أنشأ الأرض فأمسكها
أى أوجدها فقامت في حيّزها بمساك قدرته، و لمّا كان شأن من تمسك شيئا و يحفظه من ساير الفاعلين لا يخلو عن كلفة و مشقّة في حفظه و اشتغال بحفظه عن غيره من الأفعال نزّه حفظه تعالى لها عمّا يلزم حفظ غيره لما يحفظه من تلك الكلفة و الاشتغال بحفظها.
الثاني و الستّون: كونه أرساها
أى أثبتها في حيّزها على غير قرار اعتمدت عليه فأمسكها، و كذلك رفعه لها بغير دعائم، بل بحسب قدرته التامّة.
الثالث و الستّون: كونه حصّنها من الأود و الاعوجاج
أى من الميل إلى أحد جوانب العالم عن المركز الحقيقىّ و ذلك ممّا ثبت في موضعه من الحكمة.
الرابع و الستّون: كونه منعها عن التهافت و الانفراج
أى جعلها كرة واحدة ثابتة في حيّزها، و منعها أن يتساقط قطعا أو ينفرج بعضها عن بعض.
شرحنهجالبلاغة(ابنميثم)، ج 4 ، صفحهى 175
الخامس و الستّون: كونه أرسى أوتادها
أى أنبتها فيها. و أوتادها: جبالها.
و قد بيّنا في الخطبة الاولى معنى كونها أوتادا لها.
السادس و الستّون. كونه ضرب أسدادها
و أراد بأسدادها ما أحاط بها من الجبال أو الّتي يحجز بين بقاعها و بلادها.
السابع و الستّون: كونه استفاض عيونها.
و استفاض بمعنى أفاض كما قال تعالى وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً«» و قد سبقت الإشارة إلى ذلك.
الثامن و الستّون: كونه خدّ أوديتها
أى شقّها و بيّن جبالها و تلالها. و قوله: فلم يهن ما بناه و لا ضعف ما قوّاه. بعد تعديد ما عدّد من الآثار العظيمة إشارة إلى كمال هذه المخلوقات و قوّتها ليبيّن عظمة اللّه سبحانه بالقياس إليها.
التاسع و الستّون: كونه هو الظاهر عليها سلطانه و عظمته
فأشار بقوله: هو. إلى هويّته الّتي هى محض الوجود الحقّ الواجب، و لمّا لم يكن تعريف تلك الهويّة إلّا بالاعتبارات الخارجة عنها أشار إلى تعريفها بكونه ظاهرا عليها: أى غالبا قاهرا لها، و لمّا كان الظهور يحتمل الظهور الحسّيّ لا جرم قيّده بسلطانه و عظمته. إذ كان ظهوره عليها ليس ظهورا مكانيّا حسّيا بل بمجرّد ملكه و استيلاء قدرته و عظمة سلطانه.
السبعون: قوله: و هو الباطن لها
أى الداخل في بواطنها بعلمه، و لمّا كان البطون يحتمل الحسّىّ قيّده بعلمه تنزيها له عن سوء الأفهام و أحكام الأوهام. و الضمائر في قوله: عليها و لها يعود إلى الأرض و ما فيها ممّا بناه و سوّاه.
الحادى و السبعون: كونه عاليا على كلّ شيء
أى من الأرض و ساير مخلوقاته بها بجلاله و عزّته: فجلاله و عزّته بالنسبه إليها هو اعتبار كونه تعالى منزّها عن كلّ مالها من الصفات المحدثة و الكمالات المستفادة من الغير المستلزمة للنقصان الذاتىّ، و لمّا كانت هذه الاعتبارات الّتي تنزّه عنها في حضيض النقصان
شرحنهجالبلاغة(ابنميثم)، ج 4 ، صفحهى 176
كان هو باعتبار تنزيهه عنها في أوج الكمال الأعلى فكان عاليا عليها بذلك الاعتبار و لأنّه تعالى خالقها و موجدها فعلوّه عليها بجلال سلطان، و عزّته عن خضوع الحاجة و ذلّتها.
الثاني و السبعون: كونه لا يعجزه شيء منها طلبه. إلى قوله: فيسبقه،
و ذلك لكونه تعالى واجب الوجود تامّ العلم و القدرة لا نقصان فيه باعتبار، و كون كلّ ما عداه مفتقرا في وجوده و جميع أحوال وجوده إليه فلا جرم لم يتصوّر أن يعجزه شيء طلبه أو يمتنع عليه شيء بقوّة فيغلبه، أو يفوته سريع بحركته فيسبقه لما يستلزمه ذلك العجز عن الحاجة و الإمكان الممتنعين عليه.
الثالث و السبعون: و كذلك كونه لا يحتاج إلى ذى المال فيرزقه
لما يستلزمه الحاجة من الإمكان. و كلّ ذلك نفى الأحوال البشريّة عنه.
الرابع و السبعون: قوله: خضعت له الأشياء. إلى قوله. لعظمته
فخضوعها و ذلّها يعود إلى دخولها في ذلّ الإمكان تحت سلطانه و انقيادها في اسر الحاجة إلى كمال قدرته، و بذلك الاعتبار لم يستطع الهرب من سلطانه للزوم الحاجة لذواتها إليه و استناد كمالاتها إلى وجوده. فهو النافع لها بإفاضة كمالاتها و الضارّ لها بمنع ذلك. فإن قلت: إنّ النفع لا يهرب منه و لا يمتنع فكيف ذكره هنا.
قلت: المراد منه سلب قدرته عليها على تقدير امتناعها منه، و هذا كما تقول لمن عجز عنك: إنّ فلانا لا يقدر على نفع و لا ضرّ، و لأنّ النفع جاز أن يمتنع منه لأنفة و استغناء بالغير، و لا شيء من الموجودات يمتنع من سلطانه و نفعه باستغناء عنه و أنفة و نحوها.
الخامس و السبعون: كونه لا كفء له يكافيه
أى ليس له مثل فيقابله و يفعل بإزاء فعله، و قد علمت تنزيهه تعالى عن المثل، و كذلك لا نظير له فيساويه.
السادس و السبعون: هو المفنى لها. إلى قوله: كمفقودها
عرّف هويّته باعتبار كونه معدما للأشياء بعد وجودها، و قد ورد في القرآن الكريم إشارات
شرحنهجالبلاغة(ابنميثم)، ج 4 ، صفحهى 177
إلى ذلك كقوله تعالى يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ«» و معلوم أنّ الإعادة إنّما تكون بعد العدم، و قوله إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ«» و أمثالها. و قد أجمعت الأنبياء على ذلك، و علم التصريح من دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بانّه سيكون، و هو الّذي عليه جمهور المتكلّمين و الخلاف في جواز خراب العالم مع الحكماء فإنّهم اتّفقوا على أنّ الأجرام العلويّة و العقول و النفوس الملكيّة، و كذلك هيولى العالم العنصرىّ و أجرام العناصر، و ما ثبت قدمه امتنع عدمه لا لذاته بل لدوام علّة وجوده، و ما عدا ذلك فهو حادث و ليس كلّه ممّا يعاد بالاتّفاق، بل الخلاف في المعاد الإنساني البدنى فأنكره بعضهم. و الإسلاميّون منهم قالوا: ليس للعقل في الحكم بوجوده أولا وجوده محال، بل إنّما يعلم بالسمع. هذا مع اتّفاقهم على القول بامتناع إعادة المعدوم. فإن أمكن الجمع بين القول بجواز المعاد الجسمانىّ مع القول بامتناع إعادة المعدوم فليكن على ما ذهب إليه أبو الحسين البصرىّ من المعتزلة و هو قوله: إنّ الأجزاء يتشذّب و يتفرّق بحيث يخرج عن حدّ الانتفاع بها و لا تدخل في العدم الصرف. لكن في ذلك نظر لأنّ بدن زيد مثلا ليس عبارة عن تلك الأجزاء المتشذّبة و المتفرّقة فقط فإنّ القول بذلك مكابرة للعقل بل عنها مع سائر الأعراض و التأليفات المخصوصة و الأوضاع فإذا شذب البدن و تفرّق فلا بدّ أن يعدم تلك الأعراض و تفنى و حينئذ يلزم فناء البدن من حيث هو ذلك البدن فعند الإعادة إن اعيد بعينه وجب إعادة تلك الأعراض بعينها فلزمت إعادة المعدوم، و إن لم يعد بعينه عاد غيره فيكون الثواب و العقاب على غيره و ذلك مكذّب للقرآن الكريم في قوله قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا«» اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ الإنسان المثاب و المعاقب إنّما هو النفس الناطقة و هذا البدن كالآلة فإذا عدم لم يلزم عوده بعينه بل جاز عود مثله. لكن هذا إنّما يستقيم على مذهب الحكماء القائلين بالنفس الناطقة، و أمّا على رأى أبى الحسين البصرىّ
شرحنهجالبلاغة(ابنميثم)، ج 4 ، صفحهى 178
فلا، و مذهب أكثر المحقّقين من علماء الإسلام يؤول إلى هذا القول.
و قوله: و ليس فناء الدنيا. إلى قوله: اختراعها.
و قوله: و ليس فناء الدنيا. إلى قوله: اختراعها. رفع لما يعرض لبعض الأذهان من التعجّب بفناء هذا العالم بعد ابتداعه و خلقه بالتنبيه على حال إنشائه و اختراعه: أى ليس صيرورة ما خلق إلى العدم بقدرته بعد الوجود بأعجب من صيرورته إلى الوجود بعد العدم عنها. إذ كانت كلّها ممكنة قابلة للوجود و العدم لذواتها، بل صيرورتها إلى الوجود المشتمل على أعاجيب الخلقة و أسرار الحكمة الّتي لا يهتدي لها و لا يقدر على شيء منها أعجب و أغرب من عدمها الّذي لا كلفة فيه.
و قوله: و كيف لو اجتمع. إلى قوله: إفنائها.
و قوله: و كيف لو اجتمع. إلى قوله: إفنائها. تأكيد لنفى كون عدمها بعد وجودها أعجب من إيجادها بالتنبيه على عظم مخلوقاته تعالى و مكوّناته و ما اشتملت عليه من أسرار الحكمة المنسوبة إلى قدرته.
و المعنى و كيف يكون عدمها أعجب و في إيجاده أضعف حيوان و أصغره ممّا خلق كالبعوضة من العجائب و الغرائب و الإعجاز ما يعجز عن تكوينه و إحداثه قدرة كلّ من تنسب إليه القدرة، و تقصر عن معرفة الطريق إلى إيجادها ألباب الألبّاء، و يتحيّر في كيفيّة خلقها حكمة الحكماء، و يقف دون علم ذلك و يتناهى عقول العقلاء، و ترجع خاسئة حسيرة مقهورة معترفة بالعجز عن الاطّلاع على كنه صنعه في إنشائها مقرّة بالضعف عن إفنائها. فإن قلت: كيف تقرّ العقول بالضعف عن إفناء البعوضة مع إمكان ذلك و سهولته.
قلت: إنّ العبد إذا نظر إلى نفسه بالنسبة إلى قدرة الصانع الأوّل- جلّت عظمته- وجد نفسه عاجزة عن كلّ شيء إلّا بإذن إلهىّ، و أنّه ليس له إلّا الإعداد لحدوث ما ينسب إليه من الآثار. فأمّا نفس وجود الأثر فمن واهب العقل- عزّ سلطانه- فالعبد العاقل لما قلناه يعترف بالضعف عن إيجاد البعوضة و إعدامها، و ما هو أيسر من ذلك عند مقايسة نفسه إلى موجده و واهب كماله كما عرفت ذلك في
شرحنهجالبلاغة(ابنميثم)، ج 4 ، صفحهى 179
موضعه، و أيضا فإنّ اللّه سبحانه كما خلق للعبد قدرة على الفعل و الترك و الإيذاء و الإضرار بغيره كذلك خلق للبعوضة قدرة على الامتناع و الهرب من ضرره بالطيران و غيره بل أن تؤذيه و لا يتمكّن من دفعها عن نفسه فكيف يستسهل العاقل إفناها من غير معونة صانعها له عليه.
و قوله: و إنّه سبحانه يعود. إلى قوله: الامور.
و قوله: و إنّه سبحانه يعود. إلى قوله: الامور. إشارة إلى كونه تعالى باقيا أبدا فيبقى بعد فناء الأشياء وحده لا شيء معه منها كما كان قبل وجوده كذلك بريئا عن لحوق الوقت و المكان و الحيّز و الزمان.
و قوله: يعود بعد.
و قوله: يعود بعد. إشعار بتغيّر من حالة سبقت إلى حالة لحقت، و هما يعودان إلى ما يعتبره أذهاننا له من حالة تقدّمه على وجودها و حالة تأخّره عنها بعد عدمها، و هما اعتباران ذهنيّان يلحقانه بالقياس إلى مخلوقاته.
و قوله: عدمت عند ذلك. إلى قوله: الساعات.
و قوله: عدمت عند ذلك. إلى قوله: الساعات. ظاهر لأنّ كلّ ذلك أجزاء للزمان الّذي هو من لواحق الحركة الّتي هى من لواحق الجسم فيلزم من عدم الأجسام عدم عوارضه.
و قوله: فلا شيء. إلى قوله: الامور.
و قوله: فلا شيء. إلى قوله: الامور. أى لا شيء يبقى بعد فناء العالم إلّا هو، و ذكر الواحد لبقائه كذلك، و القهّار باعتبار كونه قاهرا لها بالعدم و الفناء، و كونه إليه مصير جميع الامور فمعنى مصيرها إليه أخذه لها بعد هبته لوجودها.
و قوله: بلا قدرة. إلى قوله: فناؤها.
و قوله: بلا قدرة. إلى قوله: فناؤها. إشارة إلى أنّه لا قدرة لشيء منها على إيجاده نفسه، و لا على الامتناع من لحوق الفناء له.
و قوله: و لو قدرت. إلى قوله: بقائها.
و قوله: و لو قدرت. إلى قوله: بقائها. استدلال بقياس شرطىّ متّصل على عدم قدرة شيء منها على الامتناع من الفناء، و إنّما خصّ الحكم بالاستدلال دون الأوّل لكون الأوّل ضروريّا. و بيان الملازمة أنّ الفناء مهروب منه لكلّ موجود فإمكان الامتناع منه مستلزم للداعى إلى الامتناع المستلزم للامتناع منه المستلزم للبقاء، و أمّا بطلان التالى فلمّا ثبت أنّه تعالى يفنيها فلزم أن لا يكون لها قدرة على الامتناع.
و قوله: لم يتكاءده. إلى قوله: خلفه.
و قوله: لم يتكاءده. إلى قوله: خلفه. ظاهر لأنّ المشقّة في الفعل و ثقله إنّما يعرض لذى القدرة الضعيفة من الحيوان لنقصانها. و قدرته تعالى بريّة عن أنحاء النقصان لاستلزامه الإمكان و الحاجة إلى الغير.
و قوله: و لم يكوّنها. إلى آخره.
و قوله: و لم يكوّنها. إلى آخره. إشارة إلى تعديد وجوه الأعراض المتعارفة للفاعلين في إيجاد ما يوجدونه و إعدامه. و نفى تلك الأعراض عن فعله في إيجاده ما أوجده و إعدامه ما أعدمه من الأشياء: أمّا الأعراض المتعلّقة بالإيجاد فهو إمّا جلب منفعة كتشديد السلطان و جمع الأموال و القينات و تكثير الجند و العدّة و الازدياد في الملك بأخذ الحصون و القلاع و مكابرة الشريك في الملك كما يكابر الإنسان غيره ممّن يشاركه في الأموال و الأولاد أو رفع مضرّة كالتخوّف من العدم و الزوال فخلقها ليتحصّن بها من ذلك أو خوف النقصان فخلقها ليستكمل بها أو خوف الضعف عن مثل تكاثره فخلقها ليستعين بهما عليه أو خوف ضدّ يقاومه فأوجدها ليختزل منه و يدفع مضرّته أو لوحشة كانت له قبل إيجادها فأوجد ليدفع ضرر استيحاشه بالانس بها، و كذلك الأغراض المتعلّقة بعدمها: إمّا إلى دفع المضرّة كرفع السأم اللاحق له من تصريفها و تدبيرها و الثقل في شيء منها عليه و الملال من طول بقائها فيدعوه ذلك إلى إفنائها، أو جلب المنفعة كالراحة الواصلة إليه. فإنّ جلب المنفعة و دفع المضرّة من لواحق الإمكان الّذي تنزّه قدسه عنه.
و قوله: لكنّه سبحانه. إلى قوله: لقدرته.
و قوله: لكنّه سبحانه. إلى قوله: لقدرته. فتدبيرها بلطفه إشارة إلى إيجاده لها على وجه الحكمه و النظام الأتمّ الأكمل الّذي ليس في الإمكان أن يكون جملتها على أتمّ منه و لا ألطف، و إمساكه لها بأمره قيامها في الوجود بحكم سلطانه، و إتقانها بقدرته إحكامها على وفق منفعتها و إن كان عن قدرته فعلى وفق علمه بوجوه الحكمة. كلّ ذلك بمحض الجود من غير غرض من الأغراض المذكورة تعود إليه.
و قوله: ثمّ يعيدها بعد الفناء.
و قوله: ثمّ يعيدها بعد الفناء. تصريح بإعادة الأشياء بعد فنائها. و فناؤها إمّا عدمها كما هو مذهب من جوّز إعادة المعدوم، أو تشذّبها و تفرّقها و خروجها عن حدّ الانتفاع بها كما هو مذهب أبي الحسين البصرىّ من المعتزلة.
و قوله: من غير حاجة. إلى آخره.
و قوله: من غير حاجة. إلى آخره. ذكر وجوه الأغراض الصالحة في الإعادة، و الإشارة إلى نفيها عنه تعالى، و هو أيضا كالحاجة إليها و الاستعانة ببعضها على بعض، أو لانصراف من حال وحشة إلى حال استيناس، أو انصراف من حال جهل و عمى فيه إلى حال علم و بصيرة، و كذلك من فقر و حاجة إلى غنى و كثرة و من ذلّ وضعة إلى عزّ و قدرة. و قد عرفت أنّ كلّ هذه الأغراض من باب دفع المضرّة المنزّه قدسه تعالى عنها، و قد بيّنا فيما سلف البرهان الإجمالىّ على تنزيهه تعالى في أفعاله من الأغراض بل إيجاده لما يوجد لمحض الجود الإلهىّ الّذي لا بخل فيه و لا منع من جهته. فهو الجواد المطلق و الملك المطلق الّذي يفيد ما ينبغي لا لغرض و يوجد ما يوجد لا لفائدة تعود إليه و لا غرض. و هو مذهب جمهور أهل السنّة و الفلاسفة، و الخلاف فيه مع المعتزلة.
فإن قلت: ظاهر كلامه عليه السّلام مشعر بأنّ الدنيا كما تفنى تعاد، و الّذي وردت به الشريعة، و فيه الخلاف بين جمهور المتكلّمين و الحكماء هو إعادة الأبدان البشريّة.
قلت: الضمير في قوله: تعيدها. سواء كان راجعا إلى الدنيا أو إلى الامور في قوله: مصير جميع الامور. فإنّه مهمل كما يرجع إلى الكلّ جاز أن يرجع إلى البعض و هى الأبدان البشريّة. قال بعضهم: إنّ للسالكين في هذا الكلام تأويلا عقليّا و إن جزموا بكون مراده عليه السّلام هو ما ذكرناه من الظاهر فإنّهم قالوا يحتمل أن يشار بقوله: و إنّه يعود سبحانه. إلى قوله: الامور. إلى حال العارف إذا حقّ له الوصول التامّ حتّى غاب عن نفسه فلحظ جناب الحقّ سبحانه بعد حذف كلّ قيد دنياوىّ أو اخروىّ عن درجة الاعتبار فإنّه صحّ كما يفنى هو عن كلّ شيء كذلك يفنى عنه كلّ شيء حتّى نفسه فلا يبقى بعد فنائها عنه إلّا وجه اللّه ذو الجلال و الإكرام فكما كانت الأشياء عند اعتبار ذواتها غير مستحقّة للوجود و لواحقه كذلك يكون عند حذفها عن درجة الاعتبار و ملاحظة جلال الواحد القهّار ليس إلّا هو.
و قوله: ثمّ يعيدها بعد الفناء.
و قوله: ثمّ يعيدها بعد الفناء. فدلّ عودها إلى اعتبار أذهان العارفين لها عند عوجهم من الجناب المقدّس إلى الجنبة السافلة و اشتغالهم بمصالح أبدانهم. و الكلّ منسوب إلى تصريف قدرته تعالى بحسب استعداد الأذهان لقبولها و حذفها. و قد علمت من بيانها لهذه الخطبة صدق كلام السيّد الرضى- رضى اللّه عنه- في مدحها حيث قال: و تجمع هذه الخطبة من اصول العلم ما لا تجمعه غيرها. فإنّها بالغة في علم التوحيد كاملة في علم التنزيه و التقديس لجلال الواحد الحقّ- جلّت عظمته- و باللّه التوفيق و العصمة.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحهى 146