و من كلام له عليه السّلام و هو يلي غسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تجهيزه
بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ- لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ- مِنَ النُّبُوَّةِ وَ الْإِنْبَاءِ وَ أَخْبَارِ السَّمَاءِ- خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ- وَ عَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً- وَ لَوْ لَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ وَ نَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ- لَأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّئُونِ- وَ لَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلًا وَ الْكَمَدُ مُحَالِفاً- وَ قَلَّا لَكَ وَ لَكِنَّهُ مَا لَا يُمْلَكُ رَدُّهُ- وَ لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ- بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ وَ اجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ
اللغة
أقول:
روى عوض الأنباء الأنبياء، و هى الأخبار.
و الشئون: مواصل قطع الرأس المشعوب بعضها مع بعض، و ملتقاها.
و العرب تقول: إنّ الدموع يجيء منها.
و قال ابن السكّيت: الشأنان: عرقان ينحدران من الرأس إلى الحاجبين ثمّ إلى العينين.
و الكمد: الحزن المكتوم.
و المحالف: الملازم.
و البال. القلب.
المعنى
و قوله:
بأبي أنت و امّى يتعلّق بمحذوف تقديره أفديك. و إنّما قال له: لقد انقطع بموتك. إلى قوله: السماء لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خاتم الأنبياء، و أراد بأخبار السماء الوحى، قال أهل التأويل: و لفظ السماء مستعار لما علا في المعنى من سماء عالم الغيب و مقامات الملأ الأعلى. و قوله: خصصت. إلى قوله: سواء.
أى خصصت في مصيبتك من حيث إنّها مصيبة خاصّة عظيمة لا يصاب الناس في الحقيقة بمثلها فلذلك كانت مسلّية لهم عن المصائب بمن سواك و عمّتهم بمصيبتك حتّى استووا فيها. و أضاف الخصوص و العموم إليه و إن كانا للمصيبة لكونها بسببه. و قوله: و لولا. إلى قوله: و قلّالك. إشارة إلى العذر في ترك البكاء الكثير و مماطلة الداء و ملازمة الحزن، و هو أمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصبر في مواطن المكروه و النهى عن الجزع عند نزول الشدائد. و كنّى عن كثرة البكاء بإنفاد ماء الشئون، و بالداء عن ألم الحزن بفقده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و استعار له لفظ المماطلة كأنّ الحزن و ألمه لثباته و تمكّنه لا يكاد يفرق مع أنّ من عادته أن يفارق فهو كالمماطل بالمفارقة، و الضمير في قوله: و قلّالك يعود إلى إنفاد ماء الشئون الّذي دلّ عليه أنفدنا، و إلى الكمد المخالف. و لمّا كان هو الداء المماطل أتى بضمير الإثنين، و يحتمل أن يعود إلى الداء المماطل و الحزن الملازم ترجيحا للقرب، و الضمير في قوله: و لكنّه ما لا يملك. يعود إلى الموت في قوله: بموتك، و تقديره و لكنّ الموت الّذي لأجله البكاء و الحزن ما لا يملك ردّه و لا يستطاع دفعه فلم يكن في البكاء و الجزع فايدة و كان لزوم الصبر أولى. ثمّ عاد إلى التفدية و هى كلمة معتادة للعرب تقال لمن يعزّ عليهم.
فإن قلت: كيف تحسن التفدية هنا بعد الموت و هى غير ممكنة.
قلت: إنّه لا يشترط في إطلاقها في عرفهم إمكان الفدية. إذ ليس الغرض منها تحقيق الفدية بل تخييل الفدية و إيهامها للاسترقاق و تخييل المقول له أنّه عزيز في نفس القائل إلى غاية أنّه أرجح من أبيه و امّه بحيث يفديه بهما، و ظاهر أنّها ممّا يعقل [أنّها ممّا يفعل خ] في الطبع ميلا من المقول. ثمّ سأله أن يذكره عند ربّه و أن يجعله من باله. إذ هو السابق إليه مع كونه رئيس الخلق و مقدّمهم فكان أولى من سئل ذلك منه، و أراد: اذكرنا عنده بما نحن عليه من طاعته. فهو كأمير بعثه الملك إلى أهل مدينة ليصلح حالهم و ينظّمهم في سلك طاعة الملك بالترهيب من وعيده و الترغيب فيما عنده من الكرامة فلا بدّ أن يعلمه طاعة المطيع و عصيان العاصى إذا حان رجوعه إلى خدمة الملك، أحبّ عقلاؤهم و أهل الطاعة منهم أن يذكر طاعتهم عند الملك بين يديه فيتقرّبون إلى قلب أميرهم و يسألونه أن يجعلهم من باله: أى من مهمّاته.
يقال: هذا من بال فلان: أى مما يباليه و يهتمّ به، و يحتمل أن يريد من مهمّات بالك فحذف المضاف. و قبض صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد الهجرة بعشر سنين، و كان مولده عام الفيل، و بعث و هو ابن أربعين سنة بعد بنيان الكعبة، و هاجر إلى المدينة و هو ابن ثلاث و خمسين سنة، و كان سنّه يوم قبض ثلاث و ستّين سنة، و يقال: إنّه ولد يوم الإثنين، و دخل المدينة يوم الإثنين، و قبض يوم الإثنين، و دفن ليلة الأربعا بحجرة عايشة و فيها قبض، و تولّى تغسيله علىّ عليه السّلام و العبّاس بن عبد- المطّلب و ولده الفضل. و قد أشرنا إلى ذلك في كيفيّة دفنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قوله: و لقد علم المستحفظون، و باللّه التوفيق.
شرح نهج ا لبلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحهى 119