221 و من خطبة له ع
دَارٌ بِالْبَلَاءِ مَحْفُوفَةٌ وَ بِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ- لَا تَدُومُ أَحْوَالُهَا وَ لَا يَسْلَمُ نُزَّالُهَا- أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ وَ تَارَاتٌ مُتَصَرِّفَةٌ- الْعَيْشُ فِيهَا مَذْمُومٌ وَ الْأَمَانُ مِنْهَا مَعْدُومٌ- وَ إِنَّمَا أَهْلُهَا فِيهَا أَغْرَاضٌ مُسْتَهْدِفَةٌ- تَرْمِيهِمْ بِسِهَامِهَا وَ تُفْنِيهِمْ بِحِمَامِهَا- وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّكُمْ وَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا- عَلَى سَبِيلِ مَنْ قَدْ مَضَى قَبْلَكُمْ- مِمَّنْ كَانَ أَطْوَلَ مِنْكُمْ أَعْمَاراً وَ أَعْمَرَ دِيَاراً وَ أَبْعَدَ آثَاراً- أَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُمْ هَامِدَةً وَ رِيَاحُهُمْ رَاكِدَةً- وَ أَجْسَادُهُمْ بَالِيَةً وَ دِيَارُهُمْ خَالِيَةً وَ آثَارُهُمْ عَافِيَةً- فَاسْتَبْدَلُوا بِالْقُصُورِ الْمَشَيَّدَةِ وَ النَّمَارِقِ الْمُمَهَّدَةِ- الصُّخُورَ وَ الْأَحْجَارَ الْمُسْنَدَةَ وَ الْقُبُورَ اللَّاطِئَةَ الْمُلْحَدَةَ- الَّتِي قَدْ بُنِيَ عَلَى الْخَرَابِ فِنَاؤُهَا- وَ شُيِّدَ بِالتُّرَابِ بِنَاؤُهَا فَمَحَلُّهَا مُقْتَرِبٌ وَ سَاكِنُهَا مُغْتَرِبٌ- بَيْنَ أَهْلِ مَحَلَّةٍ مُوحِشِينَ وَ أَهْلِ فَرَاغٍ مُتَشَاغِلِينَ- لَا يَسْتَأْنِسُونَ بِالْأَوْطَانِ وَ لَا يَتَوَاصَلُونَ تَوَاصُلَ الْجِيرَانِ- عَلَى مَا بَيْنَهُمْ مِنْ قُرْبِ الْجِوَارِ وَ دُنُوِّ الدَّارِ- وَ كَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَزَاوُرٌ وَ قَدْ طَحَنَهُمْ بِكَلْكَلِهِ الْبِلَى- وَ أَكَلَتْهُمُ الْجَنَادِلُ وَ الثَّرَى- وَ كَأَنْ قَدْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ- وَ ارْتَهَنَكُمْ ذَلِكَ الْمَضْجَعُ وَ ضَمَّكُمْ ذَلِكَ الْمُسْتَوْدَعُ- فَكَيْفَ بِكُمْ لَوْ تَنَاهَتْ بِكُمُ الْأَمُورُ- وَ بُعْثِرَتِ الْقُبُورُ هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُنَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ- وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ- وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ بالبلاء محفوفة قد أحاط بها من كل جانب- . و تارات جمع تارة و هي المرة الواحدة- و متصرفة منتقلة متحولة- . و مستهدفة بكسر الدال منتصبة مهيأة للرمي- و روي مستهدفة بفتح الدال على المفعولية- كأنها قد استهدفها غيرها أي جعلها أهدافا- . و رياحهم راكدة ساكنة و آثارهم عافية مندرسة- . و القصور المشيدة العالية- و من روى المشيدة بالتخفيف و كسر الشين- فمعناه المعمولة بالشيد و هو الجص- .
و النمارق الوسائد- . و القبور الملحدة ذوات اللحود- . و روي و الأحجار المسندة بالتشديد- . قوله ع قد بني على الخراب فناؤها- أي بنيت لا لتسكن الأحياء فيها- كما تبنى منازل أهل الدنيا- . و الكلكل الصدر و هو هاهنا استعارة- . و الجنادل الحجارة و بعثرت القبور أثيرت- . و تبلو كل نفس ما أسلفت تخبر و تعلم جزاء أعمالها- و فيه حذف مضاف- و من قرأ تتلو بالتاء بنقطتين أي تقرأ كل نفس كتابها- و ضل عنهم ما كانوا يفترون- بطل عنهم ما كانوا يدعونه- و يكذبون فيه من القول بالشركاء و أنهم شفعاء
ذكر بعض الآثار و الأشعار الواردة في ذم الدنيا
و من كلام بعض البلغاء في ذم الدنيا- أما بعد فإن الدنيا قد عاتبت نفسها بما أبدت من تصرفها- و إنبات عن مساوئها بما أظهرت عن مصارع أهلها- و دلت على عوراتها بتغير حالاتها- و نطقت ألسنة العبر فيها بزوالها- و شهد اختلاف شئونها على فنائها و لم يبق لمرتاب فيها ريب- و لا ناظر في عواقبها شك- بل عرفها جل من عرفها معرفة يقين- و كشفوها أوضح تكشيف- ثم اختلجتهم الأهواء عن منافع العلم- و دلتهم الآمال بغرور- فلججت بهم في غمرات العجز- فسبحوا في بحورها موقنين بالهلكة- و رتعوا في عراصها عارفين بالخدعة- فكان يقينهم شكا و علمهم جهلا- لا بالعلم انتفعوا و لا بما عاينوا اعتبروا- قلوبهم عالمة جاهلة و أبدانهم شاهدة غائبة- حتى طرقتهم المنية فأعجلتهم عن الأمنية- فبغتتهم القيامة و أورثتهم الندامة و كذلك الهوى حلت مذاقته- و سمت عاقبته و الأمل ينسى طويلا- و يأخذ وشيكا فانتفع امرؤ بعلمه- و جاهد هواه أن يضله- و جانب أمله أن يغره و قوي يقينه على العمل- و نفى عنه الشك بقطع الأمل- فإن الهوى و الأمل إذا استضعفا اليقين صرعاه- و إذا تعاونا على ذي غفلة خدعاه- فصريعهما لا ينهض سالما و خديعهما لا يزال نادما- و القوي من قوي عليهما و الحازم من احترس منهما- ألبسنا الله و إياكم جنة السلامة- و وقانا و إياكم سوء العذاب- .
كان عمر بن عبد العزيز إذا جلس للقضاء قرأ- أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ- ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ- ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ- . قال منصور بن عمار لأهل مجلسه- ما أرى إساءة تكبر على عفو الله فلا تيأس- و ربما آخذ الله على الصغير فلا تأمن- و قد علمت أنك بطول عفو الله عنك- عمرت مجالس الاغترار به و رضيت لنفسك المقام على سخطه- و لو كنت تعاقب نفسك بقدر تجاوزه عن سيئاتك- ما استمر بك لجاج فيما نهيت عنه- و لا قصرت دون المبالغة فيه- و لكنك رهين غفلتك و أسير حيرتك- .
قال إسماعيل بن زياد أبو يعقوب- قدم علينا بعبادان راهب من الشام- و نزل دير ابن أبي كبشة فذكروا حكمة كلامه- فحملني ذلك على لقائه فأتيته و هو يقول- إن لله عبادا سمت بهم هممهم فهووا عظيم الذخائر- فالتمسوا من فضل سيدهم توفيقا يبلغهم سمو الهمم- فإن استطعتم أيها المرتحلون عن قريب- أن تأخذوا ببعض أمرهم- فإنهم قوم قد ملكت الآخرة قلوبهم- فلم تجد الدنيا فيها ملبسا- فالحزن بثهم و الدمع راحتهم و الدءوب وسيلتهم- و حسن الظن قربانهم- يحزنون بطول المكث في الدنيا إذا فرح أهلها- فهم فيها مسجونون و إلى الآخرة منطلقون- . فما سمعت موعظة كانت أنفع لي منها- . و من جيد شعر أبي نواس في الزهد-
و الشكول التي تباين
في الطول و القصر
أين من كان قبلكم
من ذوي البأس و الخطر
سائلوا عنهم المدائن
و استبحثوا الخبر
سبقونا إلى الرحيل
و إنا لبالأثر
من مضى عبرة لنا
و غدا نحن معتبر
أن للموت أخذة
تسبق اللمح بالبصر
فكأني بكم غدا
في ثياب من المدر
قد نقلتم من القصور
إلى ظلمة الحفر
حيث لا تضرب القباب
عليكم و لا الحجر
حيث لا تطربون منه
للهو و لا سمر
رحم الله مسلما
ذكر الموت فازدجر
رحم الله مؤمنا
خاف فاستشعر الحذر
و هل نحن إلا مرامي السهام
يحفزها نابل دائب
نسر إذا جازنا طائش
و نجزع إن مسنا صائب
ففي يومنا قدر لا بد
و عند غد قدر واثب
طرائد تطردها النائبات
و لا بد أن يدرك الطالب
أرى المرء يفعل فعل الحديد
و هو غدا حمأ لازب
عواري من سلب الهالكين
يمد يدا نحوها السالب
لنا بالردى موعد صادق
و نيل المنى موعد كاذب
حبائل للدهر مبثوثه
يرد إلى جذبها الهارب
و كيف نجاوز غاياتنا
و قد بلغ المورد القارب
نصبح بالكأس مجدحة
ذعافا و لا يعلم الشارب
و قال أيضا و هي من محاسن شعره-
ما أقل اعتبارنا بالزمان
و أشد اغترارنا بالأماني
وقفات على غرور و إقدام
على مزلق من الحدثان
في حروب مع الردى فكانا اليوم
في هدنة مع الأزمان
و كفانا مذكرا بالمنايا
علمنا أننا من الحيوان
كل يوم رزية بفلان
و وقوع من الردى بفلان
كم تراني أضل نفسا و ألهو
فكأني وثقت بالوجدان
قل لهذي الهوامل استوقفي السير
أو استنشدي عن الأعطان
و استقيمي قد ضمك اللقم النهج
و غني وراءك الحاديان
كم محيدا عن الطريق وقد ضرح
خلج البرى و جذب العران
ننثني جازعين من عدوة الدهر
و نرتاع للمنايا الرواني
جفلة السرب في الظلام و قد ذعذع
روعا من عدوة الذؤبان
ثم ننسى جرح الحمام و إن كان
رغيبا يا قرب ذا النسيان
كل يوم تزايل من خليط
بالردى أو تباعد من دان
و سواء مضى بنا القدر الجد
عجولا أو ماطل العصران
و أيضا من هذه القصيدة-
قد مررنا على الديار خشوعا
و رأينا البنا فأين الباني
و جهلنا الرسوم ثم علمنا
فذكرنا الأوطار بالأوطان
التفاتا إلى القرون الخوالي
هل ترى اليوم غير قرن فان
أين رب السدير فالحيرة البيضاء
أم أين صاحب الإيوان
و السيوف الحداد من آل بدر
و القنا الصم من بني الريان
طردتهم وقائع الدهر عن لعلع
طرد السفاف عن نجران
و المواضي من آل جفنة أرسى
طنبا ملكهم على الجولان
يكرعون العقار في فلق الإبريز
كرع الظماء في الغدران
من أباة اللعن الذين يحيون
بها في معاقد التيجان
تتراءاهم الوفود بعيدا
ضاربين الصدور بالأذقان
في رياض من السماح حوال
و جبال من الحلوم رزان
و هم الماء لذ للناهل الظمآن
بردا و النار للحيران
كل مستيقظ الجنان إذا أظلم
ليل النوامة المبطان
يغتدي في السباب غير شجاع
و يرى في النزال غير جبان
ما ثنت عنهم المنون يدا شوكاء
أطرافها من المران
عطف الدهر فرعهم فرءاه
بعد بعد الذرى قريب المجاني
وثنتهم بعد الجماح المنايا
في عنان التسليم و الإذعان
عطلت منهم المقاري و باخت
في حماهم مواقد النيران
ليس يبقى على الزمان جريء
في إباء أو عاجز في هوان
لا شبوب من الصوار و لا أعنق
يرعى منابت العلجان
لا و لا خاضب من الربد يختال
بريط أحم غير يمان
يرتمي وجهة الرئال إذا آنس
لون الإظلام و الإدجان
و عقاب الملاع تلحم فرخيها
بإزليقة زلول القنان
نائلا في مطامح الجو هاتيك
و ذا في مهابط الغيطان
و هذا شعر فصيح نادر معرق في العربية- .
و من شعره الجيد أيضا في ذكر الدنيا و مصائبها-
أ و ما رأيت وقائع الدهر
أ فلا تسيء الظن بالعمر
بينا الفتى كالطود تكنفه
هضباته و العضب ذي الأثر
يأبى الدنية في عشيرته
و يجاذب الأيدي على الفخر
و إذا أشار إلى قبائله
حشدت عليه بأوجه غر
يترادفون على الرماح فهم
سيل يعب و عارض يسري
إن نهنهوا زادوا مقاربة
فكأنما يدعون بالزجر
عدد النجوم إذا دعي بهم
يتزاحمون تزاحم الشعر
عقدوا على الجلى مآزرهم
سبطي الأنامل طيبي النشر
زل الزمان بوطء أخمصه
و مواطئ الأقدام للعثر
نزع الإباء و كان شملته
و أقر إقرارا على صغر
صدع الردى أعيا تلاحمه
من ألحم الصدفين بالقطر
جر الجياد على الوجى و مضى
أمما يدق السهل بالوعر
حتى التقى بالشمس مغمدة
في قعر منقطع من البحر
ثم انثنت كف المنون به
كالضغث بين الناب و الظفر
لم تشتجر عنه الرماح و لا
رد القضاء بماله الدثر
جمع الجنود وراءه فكأنما
لاقته و هو مضيع الظهر
و بنى الحصون تمنعا فكأنما
أمسى بمضيعة و ما يدري
و بري المعابل للعدا فكأنما
لحمامه كان الذي يبري
إن التوقي فرط معجزة
فدع القضاء يقد أو يفري
و حمى المطاعم للبقا و ذي الآجال
ملء فروجها تجري
لو كان حفظ النفس ينفعنا
كان الطبيب أحق بالعمر
الموت داء لا دواء له
سيان ما يوبي و ما يمري
و هذا من حر الكلام و فصيحه و نادره- و لا عجب فهذه الورقة من تلك الشجرة- و هذا القبس من تلك النار
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 11