و من دعاء له عليه السّلام
اللَّهُمَّ إِنَّكَ آنَسُ الْآنِسِينَ لِأَوْلِيَائِكَ- وَ أَحْضَرُهُمْ بِالْكِفَايَةِ لِلْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْكَ- تُشَاهِدُهُمْ فِي سَرَائِرِهِمْ وَ تَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فِي ضَمَائِرِهِمْ- وَ تَعْلَمُ مَبْلَغَ بَصَائِرِهِمْ- فَأَسْرَارُهُمْ لَكَ مَكْشُوفَةٌ وَ قُلُوبُهُمْ إِلَيْكَ مَلْهُوفَةٌ- إِنْ أَوْحَشَتْهُمُ الْغُرْبَةُ آنَسَهُمْ ذِكْرُكَ- وَ إِنْ صُبَّتْ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ لَجَئُوا إِلَى الِاسْتِجَارَةِ بِكَ- عِلْماً بِأَنَّ أَزِمَّةَ الْأُمُورِ بِيَدِكَ- وَ مَصَادِرَهَا عَنْ قَضَائِكَ اللَّهُمَّ إِنْ فَهِهْتُ عَنْ مَسْأَلَتِي أَوْ عَمِيتُ عَنْ طِلْبَتِي- فَدُلَّنِي عَلَى مَصَالِحِي- وَ خُذْ بِقَلْبِي إِلَى مَرَاشِدِي- فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنُكْرٍ مِنْ هِدَايَاتِكَ- وَ لَا بِبِدْعٍ مِنْ كِفَايَاتِكَ- اللَّهُمَّ احْمِلْنِي عَلَى عَفْوِكَ وَ لَا تَحْمِلْنِي عَلَى عَدْلِكَ
اللغة
أقول:
الفهاهة: العىّ.
و العمه: التحيّر.
المعنى
و قد ضرع إلى اللّه تعالى باعتبارات من الصفات الإضافيّة و الحقيقيّة:
الأوّل: كونه آنس الآنسين لأوليائه. و قد علمت أنّ أوليائه هم السالكون لطريقة عن المحبّة الصادقة له و الرغبة التامّة عمّا عداه، و لمّا كان الأنيس هو الّذي يرفع الوحشة و تسكن إليه النفس في الوحدة و الغربة و كانت أولياء اللّه في الحياة الدنيا غريبا في أبنائها منفردين عنهم في سلوك سبيل اللّه مولّين وجوههم شطر كعبة وجوب وجوده مبتهجين بمطالعة أنوار كبريائه لا جرم كان أشدّ الآنسين لهم انسا. إذ ما من عبد تعبّد لغير اللّه و استأنس به كالولد بوالده و بالعكس إلّا كان لكلّ واحد منهما مع صاحبه نفرة من وجه و استيحاش باعتبار. فلم يكن لهم أنيس في الحقيقة إلّا هو إن كانوا في الالتفات إليه منقطعين عمّا عداه مستوحشين من غيره.
الثاني: كونه تعالى أحضرهم بالكفاية للمتوكّلين عليه. إذ كان تعالى هو الغنىّ المطلق و الجواد الّذي لا بخل من جهته و لا منع، و العالم المطلق بحاجّة المتوكّلين و حسن استعدادهم فإذا استعدّ المتوكّلون عليه لحسن توكّلهم لقبول رحمته أفاض على كلّ منهم قدر كفايته من الكمالات النفسانيّة و البدنيّة بلا تعويق عائق أو تردّد في استحقاق مستحقّ أو مقدار كفايته أو حاجة إلى تحصيل ذلك المقدار. إلى غير ذلك ممّا هو منسوب إلى غيره تعالى من سلوك الدنيا. فلا جرم أقوم من توكّل عليه بكفاية المتوكّلين و أسرعهم إحضارا لما استعدّ كلّ منهم له من الكمال.
الثالث: كونه تعالى يشاهدهم. إلى قوله: مكشوفة. إشاره إلى علمه تعالى بأحوالهم الباطنة الّذي هو من لوازم كونه أحضر لكفايتهم كما بيّناه. و اطّلاعه عليهم في ضمائرهم اعتبار لكمال علمه تعالى و براءته عن النقصان، و كذلك علمه بمبلغ بصائرهم: أى بمقادير عقولهم و تفاوت استعداد نفوسهم لدرك الكمالات، و أكّد بقوله: فأسرارهم لك مكشوفة. ما سبق من الإشارة إلى إحاطة علمه تعالى بأحوالهم الباطنة في معرض الإقرار بكمال العبوديّة و الخضوع له و الاعتراف بأنّه لا يخفى عليه منهم شيء، و لهف قلوبهم إليه تحسّرها على الوصول إليه و الحضور بين يديه، و هو اعتبار لكمال محبّتهم له و رغبتهم فيما عنده. و قوله: إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك. أى الغربة في هذه الدار كما هنا، و هو اعتبار لحصول الاستيناس من جهتهم به، و الأوّل اعتبار لكونه تعالى أنيسا لهم. و قوله: و إن صبّت. إلى قوله: بك. اعتبار لتحقّق توكّلهم عليه تعالى في دفع ما يكرهون من مصائب الدنيا عند نزولها بهم. إذ سبق اعتبار كونه تعالى أحضر من توكّل عليه لكفاية المتوكّلين. و لجئوهم إلى الاستجارة به يعود إلى توجيه وجوه نفوسهم إليه تعالى في دفع ذلك المكروه دون غيره و هو التوكّل الخالص.
و قوله: علما. إلى قوله: قضائك. فعلما مفعول له: أى لأجل علمهم بأنّ الامور كلّها مربوطة بأسبابها تحت تصريف قدرتك، و أنّ مصادرها و هى أسبابها القريبة منتهية إلى قضائك، و هو حكم علمك. إذ به و منه كانت أسبابا و مصادر لتلك المصايب كان لجئوهم في الاستجارة بك. و يحتمل أن يكون علما مصدرا سدّ مسدّ الحال، و هو يستلزم كونهم في عباداتهم و أحوالهم مقطوعى النظر عن غيره تعالى، و لفظ الأزمّة مستعارلأسباب الأمور، و وجه المشابهة كونها ضابطة لها و بها يحرز نظام وجودها كالأزمّة، و لفظ اليد مجاز في القدرة.
و قوله. الّلهمّ. إلى آخره. شروع في المطلب على وجه كلّىّ، و هو طلب دلالته على مصالحه في أىّ أمر كان و جذب قلبه بالهداية إلى مواضع رشده من العقائد و الآراء الصحيحة التامّة على تقدير إن عىّ عن مسئلته أو تحيّر في وجه معرفة مصالحه. و قوله: فليس ذلك. إلى قوله: كفاياتك. استعطاف بما في العادة أن يستعطف به أهل العواطف و الرحمة من الكلام: أى أنّ هداياتك لخلقك إلى وجوه مصالحهم و كفاياتك لهم ما يحتاجون إليه امور متعارفة جرت عادتك بها، و ألفها منك عبادك. و قوله: الّلهمّ احملنى. إلى آخره. سؤال أن تحمله تعالى على عفوه عمّا عساه صدر عنه من ذنب، و لا يحمله على عدله فيحرمه بما فعل حرمانا أو عقوبة، و هو من لطيف ما تستعدّ به النفس لاستنزال الرحمة الإلهيّة، و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحهى93