218 و من كلام له ع قاله عند تلاوته
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ- أَدْحَضُ مَسْئُولٍ حُجَّةً وَ أَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَةً- لَقَدْ أَبْرَحَ جَهَالَةً بِنَفْسِهِ- يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا جَرَّأَكَ عَلَى ذَنْبِكَ- وَ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ وَ مَا أَنَّسَكَ بِهَلَكَةِ نَفْسِكَ- أَ مَا مِنْ دَائِكَ بُلُولٌ أَمْ لَيْسَ مِنْ نَوْمِكَ يَقَظَةٌ- أَ مَا تَرْحَمُ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَرْحَمُ مِنْ غَيْرِكَ- فَلَرُبَّمَا تَرَى الضَّاحِيَ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فَتُظِلُّهُ- أَوْ تَرَى الْمُبْتَلَى بِأَلَمٍ يُمِضُّ جَسَدَهُ فَتَبْكِي رَحْمَةً لَهُ- فَمَا صَبَّرَكَ عَلَى دَائِكَ وَ جَلَّدَكَ عَلَى مُصَابِكَ- وَ عَزَّاكَ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِكَ- وَ هِيَ أَعَزُّ الْأَنْفُسِ عَلَيْكَ- وَ كَيْفَ لَا يُوقِظُكَ خَوْفُ بَيَاتِ نِقْمَةٍ- وَ قَدْ تَوَرَّطْتَ بِمَعَاصِيهِ مَدَارِجَ سَطَوَاتِهِ- فَتَدَاوَ مِنْ دَاءِ الْفَتْرَةِ فِي قَلْبِكَ بِعَزِيمَةٍ- وَ مِنْ كَرَى الْغَفْلَةِ فِي نَاظِرِكَ بِيَقَظَةٍ- وَ كُنْ لِلَّهِ مُطِيعاً وَ بِذِكْرِهِ آنِساً- وَ تَمَثَّلْ فِي حَالِ تَوَلِّيكَ عَنْهُ- إِقْبَالَهُ عَلَيْكَ يَدْعُوكَ إِلَى عَفْوِهِ- وَ يَتَغَمَّدُكَ بِفَضْلِهِ وَ أَنْتَ مُتَوَلٍّ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ-فَتَعَالَى مِنْ قَوِيٍّ مَا أَكْرَمَهُ- وَ تَوَاضَعْتَ مِنْ ضَعِيفٍ مَا أَجْرَأَكَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ- وَ أَنْتَ فِي كَنَفِ سِتْرِهِ مُقِيمٌ- وَ فِي سَعَةِ فَضْلِهِ مُتَقَلِّبٌ- فَلَمْ يَمْنَعْكَ فَضْلَهُ وَ لَمْ يَهْتِكْ عَنْكَ سِتْرَهُ- بَلْ لَمْ تَخْلُ مِنْ لُطْفِهِ مَطْرَفَ عَيْنٍ- فِي نِعْمَةٍ يُحْدِثُهَا لَكَ أَوْ سَيِّئَةٍ يَسْتُرُهَا عَلَيْكَ- أَوْ بَلِيَّةٍ يَصْرِفُهَا عَنْكَ فَمَا ظَنُّكَ بِهِ لَوْ أَطَعْتَهُ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ كَانَتْ فِي مُتَّفِقَيْنِ فِي الْقُوَّةِ- مُتَوَازِيَيْنِ فِي الْقُدْرَةِ- لَكُنْتَ أَوَّلَ حَاكِمٍ عَلَى نَفْسِكَ بِذَمِيمِ الْأَخْلَاقِ- وَ مَسَاوِئِ الْأَعْمَالِ- وَ حَقّاً أَقُولُ مَا الدُّنْيَا غَرَّتْكَ وَ لَكِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ- وَ لَقَدْ كَاشَفَتْكَ الْعِظَاتِ وَ آذَنَتْكَ عَلَى سَوَاءٍ- وَ لَهِيَ بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِجِسْمِكَ- وَ النَّقْضِ فِي قُوَّتِكَ أَصْدَقُ وَ أَوْفَى مِنْ أَنْ تَكْذِبَكَ أَوْ تَغُرَّكَ- وَ لَرُبَّ نَاصِحٍ لَهَا عِنْدَكَ مُتَّهَمٌ- وَ صَادِقٍ مِنْ خَبَرِهَا مُكَذَّبٌ- وَ لَئِنْ تَعَرَّفْتَهَا فِي الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ وَ الرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ- لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْكِيرِكَ- وَ بَلَاغِ مَوْعِظَتِكَ- بِمَحَلَّةِ الشَّفِيقِ عَلَيْكَ وَ الشَّحِيحِ بِكَ- وَ لَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَاراً- وَ مَحَلُّ مَنْ لَمْ يُوَطِّنْهَا مَحَلًّا- وَ إِنَّ السُّعَدَاءَ بِالدُّنْيَا غَداً هُمُ الْهَارِبُونَ مِنْهَا الْيَوْمَ- إِذَا رَجَفَتِ الرَّاجِفَةُ وَ حَقَّتْ بِجَلَائِلِهَا الْقِيَامَةُ- وَ لَحِقَ بِكُلِّ مَنْسَكٍ أَهْلُهُ وَ بِكُلِّ مَعْبُودٍ عَبَدَتُهُ- وَ بِكُلِّ مُطَاعٍ أَهْلُ طَاعَتِهِ- فَلَمْ يَجْرِ فِي عَدْلِهِ وَ قِسْطِهِ يَوْمَئِذٍ خَرْقُ بَصَرٍ فِي الْهَوَاءِ- وَ لَا هَمْسُ قَدَمٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا بِحَقِّهِ- فَكَمْ حُجَّةٍ يَوْمَ ذَاكَ دَاحِضَةٌ- وَ عَلَائِقِ عُذْرٍ مُنْقَطِعَةٌ- فَتَحَرَّ مِنْ أَمْرِكَ مَا يَقُومُ بِهِ عُذْرُكَ وَ تَثْبُتُ بِهِ حُجَّتُكَ- وَ خُذْ مَا يَبْقَى لَكَ مِمَّا لَا تَبْقَى لَهُ- وَ تَيَسَّرْ لِسَفَرِكَ وَ شِمْ بَرْقَ النَّجَاةِ وَ ارْحَلْ مَطَايَا التَّشْمِيرِ
لقائل أن يقول- لو قال ما غرك بربك العزيز أو المنتقم أو نحو ذلك- لكان أولى لأن للإنسان المعاتب أن يقول- غرني كرمك الذي وصفت به نفسك- . و جواب هذا أن يقال- إن مجموع الصفات صار كشيء واحد- و هو الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك- في أي صوره ما شاء ركبك- و المعنى ما غرك برب هذه صفته- و هذا شأنه و هو قادر على أن يجعلك في أي صوره شاء- فما الذي يؤمنك من أن يمسخك- في صورة القردة و الخنازير- و نحوها من الحيوانات العجم- و معنى الكريم هاهنا الفياض على المواد بالصور- و من هذه صفته ينبغي أن يخاف منه تبديل الصورة- .
قال ع أدحض مسئول حجة- المبتدأ محذوف و الحجة الداحضة الباطلة- . و المعذرة بكسر الذال العذر- . و يقال لقد أبرح فلان جهالة- و أبرح لؤما و أبرح شجاعة- و أتى بالبرح من ذلك أي بالشديد العظيم- و يقال هذا الأمر أبرح من هذا أي أشد- و قتلوه أبرح قتل و جهالة منصوب على التمييز- . و قال القطب الراوندي مفعول به- قال معناه جلب جهالة إلى نفسه و ليس بصحيح- و أبرح لا يتعدى هاهنا و إنما يتعدى أبرح في موضعين- أحدهما أبرحه الأمر أي أعجبه- و الآخر أبرح زيد عمرا أي أكرمه و عظمه- . قوله ما جرأك بالهمزة- و فلان جريء القوم أي مقدمهم- .
و ما أنسك بالتشديد و روي ما آنسك بالمد- و كلاهما من أصل واحد- و تأنستبفلان و استأنست بمعنى- و فلان أنيسي و مؤانسي و قد أنسني كله بمعنى- أي كيف لم تستوحش من الأمور التي تؤدي إلى هلكة نفسك- . و البلول مصدر بل الرجل من مرضه إذا برئ- و يجوز أبل- قال الشاعر-
إذا بل من داء به ظن أنه نجا
و به الداء الذي هو قاتله
و الضاحي لحر الشمس البارز- و هذا داء ممض أي مؤلم أمضني الجرح إمضاضا- و يجوز مضني- . و روي و جلدك على مصائبك بصيغة الجمع- . و بيات نقمة بفتح الباء طروقها ليلا- و هي من ألفاظ القرآن العزيز- . و تورط وقع في الورطة بتسكين الراء و هي الهلاك- و أصل الورطة أرض مطمئنة لا طريق فيها- و قد أورطه و ورطه توريطا أي أوقعه فيها- . و المدارج الطرق و المسالك- و يجوز انتصاب مدارج هاهنا- لأنها مفعول به صريح- و يجوز أن ينتصب على تقدير حرف الخفض و حذفه- أي في مدارج سطواته- . قوله و تمثل أي و تصور- . و يتغمدك بفضله أي يسترك بعفوه- و سمى العفو و الصفح فضلا تسمية للنوع بالجنس- .
قوله مطرف عين بفتح الراء- أي زمان طرف العين- و طرفها إطباق أحدجفنيها على الآخر- و انتصاب مطرف هاهنا على الظرفية- كقولك وردت مقدم الحاج أي وقت قدومهم- . قوله متوازيين في القدرة أي متساويين- و روي متوازنين بالنون- . و العظات جمع عظة- و هو منصوب على نزع الخافض- أي كاشفتك بالعظات- و روي العظات بالرفع على أنه فاعل- و روي كاشفتك الغطاء- . و آذنتك أي أعلمتك- . و على سواء أي على عدل و إنصاف- و هذا من الألفاظ القرآنية- . و الراجفة الصيحة الأولى- و حقت بجلائلها القيامة أي بأمورها العظام- و المنسك الموضع الذي تذبح فيه النسائك- و هي ذبائح القربان و يجوز فتح السين- و قد قرئ بهما في قوله تعالى- لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً- . فإن قلت إذا كان يلحق بكل معبود عبدته- فالنصارى إذن تلحق بعيسى- و الغلاة من المسلمين بعلي- و كذلك الملائكة فما القول في ذلك- .
قلت لا ضرر في التحاق هؤلاء بمعبوديهم- و معنى الالتحاق أن يؤمر الأتباع في الموقف- بالتحيز إلى الجهة التي فيها الرؤساء- ثم يقال للرؤساء أ هؤلاء أتباعكم و عبدتكم- فحينئذ يتبرءون منهم- فينجو الرؤساء و تهلك الأتباع- كما قال سبحانه أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ- قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ- بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ- أي إنما كانوا يطيعون الشياطين المضلة لهم- فعبادتهم فيالحقيقة للشياطين لا لنا- و إنهم ما أطاعونا و لو أطاعونا لكانوا مهتدين- و إنما أطاعوا شياطينهم- . و لا حاجة في هذا الجواب إلى أن يقال ما قيل في قوله تعالى- إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ- من تخصيص العموم بالآية الأخرى- و هي قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى- أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ- .
فإن قلت فما قولك في اعتراض ابن الزبعري على الآية- هل هو وارد- . قلت لا لأنه قال تعالى إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ- و ما لما لا يعقل- فلا يرد عليه الاعتراض بالمسيح و الملائكة- و الذي قاله المفسرون من تخصيص العموم بالآية الثانية- تكلف غير محتاج إليه- . فإن قلت فما الفائدة في أن قرن القوم بأصنامهم في النار- و أي معنى لذلك في زيادة التعذيب و السخط- . قلت لأن النظر إلى وجه العدو باب من أبواب العذاب- و إنما أصاب هؤلاء ما أصابهم- بسبب الأصنام التي ضلوا بها- فكلما رأوها معهم زاد غمهم و حسرتهم- .
و أيضا فإنهم قدروا أن يستشفعوا بها في الآخرة- فإذا صادفوا الأمر على عكس ذلك- لم يكن شيء أبغض إليهم منها- . قوله فلم يجر قد اختلف الرواة في هذه اللفظة- فرواها قوم فلم يجر و هو مضارع جرى يجري- تقول ما الذي جرى للقوم- فيقول من سألته قدم الأمير من السفر- فيكون المعنى على هذا- فلم يكن و لم يتجدد في ديوان حسابه ذلك اليوم- صغير و لا حقير إلا بالحق و الإنصاف- و هذا مثل قوله تعالى- لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُالْحِسابِ- و رواها قوم فلم يجز مضارع جاز يجوز- أي لم يسغ و لم يرخص ذلك اليوم لأحد من المكلفين- في حركة من الحركات المحقرات المستصغرات- إلا إذا كانت قد فعلها بحق- و على هذا يجوز فعل مثلها- و رواها قوم فلم يجر من جار أي عدل عن الطريق- أي لم يذهب عنه سبحانه- و لم يضل و لم يشذ عن حسابه شيء- من أمر محقرات الأمور إلا بحقه- أي إلا ما لا فائدة في إثباته و المحاسبة عليه- نحو الحركات المباحة و العبثية- التي لا تدخل تحت التكليف- .
و قال الراوندي خرق بصر مرفوع لأنه اسم ما لم يسم فاعله- و لا أعرف لهذا الكلام معنى- . و الهمس الصوت الخفي- . قوله فتحر من أمرك- تحريت كذا أي توخيته و قصدته و اعتمدته- . قوله و تيسر لسفرك أي هيئ أسباب السفر- و لا تترك لذاك عائقا- . و الشيم النظر إلى البرق- . و رحلت مطيتي إذا شددت على ظهرها الرحل- قال الأعشى-
رحلت سمية غدوة أجمالها غضبى عليك فما تقول بدا لها- . و التشمير الجد و الانكماش في الأمر- . و معاني الفصل ظاهرة- و ألفاظه الفصيحة تعطيها و تدل عليها- بما لو أراد المفسر أن يعبر عنه بعبارة غير عبارته ع- لكان لفظه ع أولى أن يكون تفسيرا لكلام ذلك المفسر
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 11