و من دعاء له عليه السّلام
اللَّهُمَّ صُنْ وَجْهِي بِالْيَسَارِ وَ لَا تَبْذُلْ جَاهِيَ بِالْإِقْتَارِ- فَأَسْتَرْزِقَ طَالِبِي رِزْقِكَ وَ أَسْتَعْطِفَ شِرَارَ خَلْقِكَ- وَ أُبْتَلَى بِحَمْدِ مَنْ أَعْطَانِي وَ أُفْتَتَنَ بِذَمِّ مَنْ مَنَعَنِي- وَ أَنْتَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلِيُّ الْإِعْطَاءِ وَ الْمَنْعِ- إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
اللغة
أقول:
اليسار بالفتح: الغنى.
و الإقتار: ضيق الرزق و الفقر.
و حاصل الفصل التجاء إلى اللّه في طلب الغنى و عدم الابتلاء بالفقر و لوازمه.
و اعلم أنّ الغنى المطلوب لمثله عليه السّلام هو ما دفع ضرورة حاجته بحسب الاقتصاد و القناعة لا المفهوم المتعارف بين أرباب الدنيا من جمع المال و ادّخاره و الاتّساع به فوق الحاجة، و طلب الغنى على ذلك الوجه محمود، و على الوجه الثاني هو المذموم، و الفقر هو ما احتاج الإنسان معه إلى سؤال الناس و يلزمه بذلك الاعتبار لوازم صارفة عن وجه اللّه و عبادته: أوّلها: ابتذال الجاه و نقصان الحرمة، و لمّا كان الجاه و الغنى كالمتلازمين لا يليق أحدهما إلّا بالآخر جعل مزيل الجاه الفقر لأنّه مزيل الغنى، و إلى وجوب تلازمهما أشار ابو الطيّب بقوله:
فلا مجد في الدنيا لمن قلّ ماله و لا مال في الدنيا لمن قلّ مجده
و الجاه أيضا له اعتبارات فما اريد للّه منه كان شرفا به و اعتزازا بدينه، و ما اريد الاستعانة به على أداء حقوق اللّه و طاعته فهو الوجه المحمود الّذي سأل اللّه حفظه عليه بالغنا عن الناس، و هو الّذي امتنّ اللّه تعالى به على الأنبياء في قوله يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ«» و ما اريد به الفخر و الترؤّس في الدنيا فهو المذموم.
الثاني: من لوازمه استرزاق الخلق الّذين من شأنهم أن يسألوا الرزق لا أن يطلب منهم و في ذلك من الذلّ و الخضوع للمطلوب منه و مهانة النفس و اشتغالها عن التوجّه إلى المعبود ما يجب أن يستعاذ باللّه منه، و من أدعية زين العابدين عليه السّلام: تمدّحت بالغنى عن خلقك و أنت أهل الغنى عنهم، و نسبتهم إلى الفقر و هم أهل الفقر إليك فمن حاول سدّ خلّته من عندك ورام صرف الفقر عن نفسه بك فقد طلب حاجته من مظانّها و أتى طلبته من وجهها، و من توجّه بحاجته إلى أحد من خلقك أو جعله سبب نجحها دونك فقد تعرّض للحذمان و استحقّ من عندك فوت الإحسان. و إنّما حكم عليه باستحقاق فوت الإحسان لعدم استعداده لنفحات اللّه بالتوجّه إلى غيره و اشتغال نفسه بذلك الغير، و نبّه بقوله: طالبى رزقك على عدم أهليّتهم لأن يطلب منهم. الثالث: استعطاف شرار خلقه، و ظاهر أنّ الحاجة قد تدعو إلى ذلك، و التجربة تقضى بأنّ طلب العاطفة من الأشرار و الحاجة إليهم يستلذّ معه ذو المروّة طعم العلقم و يستحلى مذاق الصبر. الرابع: الابتلاء بحمد المعطى و الافتنان بذمّ المانع، و ذلك مستلزم للصرف عن اللّه و التوجّه إلى القبلة الحقيقيّة، و الواو في قوله: و أنت. للحال: أى لا تبذل جاهى بالإقتار فيلحقنى بسببه ما يلحقني من المكاره المعدودات و أنت من وراء ذلك كلّه أولى من أعطى و منع بأن تعطى و تمنع لقدرتك على كلّ شيء، و مفهوم كونه وراء ذلك كلّه إحاطته و كونه مستند الغنى و أهله المحتاج إليهم من الخلق و أولى بإزالة الفقر و لوازمه لقدرتك على صرفه و الأغنياء عن الخلق لأنّ كونه محيطا و كونه مستندا مستلزمان للورائيّة فالمستند الوراء المعقول للمعقول و المحسوس للمحسوس، و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحهى 88