216 و من كلام له ع قاله بعد تلاوته
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ- يَا لَهُ مَرَاماً مَا أَبْعَدَهُ وَ زَوْراً مَا أَغْفَلَهُ- وَ خَطَراً مَا أَفْظَعَهُ- لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَيَّ مُدَّكِرٍ وَ تَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ- أَ فَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ- أَمْ بِعَدِيدِ الْهَلْكَى يَتَكَاثَرُونَ قد اختلف المفسرون في تأويل هاتين الآيتين- فقال قوم المعنى أنكم قطعتم أيام عمركم- في التكاثر بالأموال و الأولاد حتى أتاكم الموت- فكني عن حلول الموت بهم بزيارة المقابر- . و قال قوم بل كانوا يتفاخرون بأنفسهم- و تعدى ذلك إلى أن تفاخروا بأسلافهم الأموات- فقالوا منا فلان و فلان لقوم كانوا و انقرضوا- . و هذا هو التفسير الذي يدل عليه كلام أمير المؤمنين ع- قال يا له مراما منصوب على التمييز- . ما أبعده أي لا فخر في ذلك- و طلب الفخر من هذا الباب بعيد- و إنما الفخر بتقوى الله و طاعته- .
و زورا ما أغفله إشارة إلى القوم الذين افتخروا- جعلهم بتذكر الأموات السالفين كالزائرين لقبورهم- و الزور اسم للواحد و الجمع كالخصم و الضيف- قال ما أغفلهم عما يراد منهم- لأنهم تركوا العبادة و الطاعة- و صرموا الأوقات بالمفاخرة بالموتى- . ثم قال و خطرا ما أفظعه- إشارة إلى الموت أي ما أشده- فظع الشيء بالضم فهو فظيع- أي شديد شنيع مجاوز للمقدار- .
قوله لقد استخلوا منهم أي مدكر- قال الراوندي- أي وجدوا موضع التذكر خاليا من الفائدة- و هذا غير صحيح- و كيف يقول ذلك و قد قال و خطرا ما أفظعه- و هل يكون أمر أعظم تذكيرا من الاعتبار بالموتى- و الصحيح أنه أراد باستخلوا- ذكر من خلا من آبائهم أي من مضى- يقال هذا الأمر من الأمور الخالية- و هذا القرن من القرون الخالية أي الماضية- . و استخلى فلان في حديثه أي حدث عن أمور خالية- و المعنى أنه استعظم ما يوجبه حديثهم- عما خلا و عمن خلا من أسلافهم- و آثار أسلافهم من التذكير- فقال أي مدكر و واعظ في ذلك-
و روي أي مذكر بمعنى المصدر- كالمعتقد بمعنى الاعتقاد و المعتبر بمعنى الاعتبار- . و تناوشوهم من مكان بعيد أي تناولوهم- و المراد ذكروهم و تحدثوا عنهم- فكأنهم تناولوهم- و هذه اللفظة من ألفاظ القرآن العزيز- وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ- و أنى لهم تناول الإيمان حينئذ بعد فوات الأمر:
يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ وَ حَرَكَاتٍ سَكَنَتْ- وَ لَأَنْ يَكُونُوا عِبَراً أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً- وَ لَأَنْ يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ- أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ- لَقَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَةِ- وَ ضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي غَمْرَةِ جَهَالَةٍ- وَ لَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْكَ الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ- وَ الرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ لَقَالَتْ- ذَهَبُوا فِي الْأَرْضِ ضُلَّالًا وَ ذَهَبْتُمْ فِي أَعْقَابِهِمْ جُهَّالًا- تَطَئُونَ فِي هَامِهِمْ وَ تَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ- وَ تَرْتَعُونَ فِيمَا لَفَظُوا وَ تَسْكُنُونَ فِيمَا خَرَّبُوا- وَ إِنَّمَا الْأَيَّامُ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ بَوَاكٍ وَ نَوَائِحُ عَلَيْكُمْ- أُولَئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ وَ فُرَّاطُ مَنَاهِلِكُمْ- الَّذِينَ كَانَتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ الْعِزِّ- وَ حَلَبَاتُ الْفَخْرِ مُلُوكاً وَ سُوَقاً يرتجعون منهم أجسادا أي يذكرون آباءهم- فكأنهم ردوهم إلى الدنيا و ارتجعوهم من القبور- و خوت خلت- . قال و هؤلاء الموتى أحق بأن يكونوا عبرة و عظة- من أن يكونوا فخرا و شرفا- و المفتخرون بهم أولى بالهبوط- إلى جانب الذلة منهم بالقيام مقام العز- . و تقول هذا أحجى من فلان- أي أولى و أجدر و الجناب الفناء- .
ثم قال لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة- أي لم ينظروا النظر المفضي إلى الرؤية- لأن أبصارهم ذات عشوة- و هو مرض في العين ينقص به الأبصار- و في عين فلان عشاء و عشوة بمعنى- و منه قيل لكل أمر ملتبس- يركبه الراكب على غير بيان أمر عشوة- و منه أوطأتني عشوة و يجوز بالضم و الفتح- .
قال و ضربوا بهم في غمرة جهالة- أي و ضربوا من ذكر هؤلاء الموتى في بحر جهل- و الضرب ها هنا استعارة- أو يكون من الضرب بمعنى السير- كقوله تعالى وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ- أي خاضوا و سبحوا من ذكرهم في غمرة جهالة- و كل هذا يرجع إلى معنى واحد- و هو تسفيه رأي المفتخرين بالموتى- و القاطعين الوقت بالتكاثر بهم- إعراضا عما يجب إنفاقه من العمر في الطاعة و العبادة- . ثم قال لو سألوا عنهم ديارهم التي خلت منهم- و يمكن أن يريد بالديار و الربوع القبور- لقالت ذهبوا في الأرض ضلالا أي هالكين- و منه قوله تعالى- وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ- . و ذهبتم في أعقابهم أي بعدهم جهالا لغفلتكم و غروركم- . قوله ع تطئون في هامهم- أخذ هذا المعنى أبو العلاء المعري فقال-
خفف الوطء ما أظن أديم
الأرض إلا من هذه الأجساد
رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحك من تزاحم الأضداد
و دفين على بقايا دفين
من عهود الآباء و الأجداد
صاح هذي قبورنا تملأ الأرض
فأين القبور من عهد عاد
سر إن اسطعت في الهواء ر
ويدا لا اختيالا على رفات العباد
قوله و تستنبتون في أجسادهم- أي تزرعون النبات في أجسادهم- و ذلك لأن أديم الأرض الظاهر- إذا كان من أبدان الموتى- فالزرع لا محالة يكون نابتا في الأجزاء الترابية- التي هي أبدان الحيوانات- و روي و تستثبتون بالثاء- أي و تنصبون الأشياء الثابتة كالعمد و الأساطين- للأوطان في أجساد الموتى- .
ثم قال و ترتعون فيما لفظوا- لفظت الشيء بالفتح رميته من فمي ألفظه بالكسر- و يجوز أن يريد بذلك أنكم تأكلون ما خلفوه و تركوه- و يجوز أن يريد أنكم تأكلون الفواكه- التي تنبت في أجزاء ترابية- خالطها الصديد الجاري من أفواههم ثم قال و تسكنون فيما خربوا- أي تسكنون في المساكن التي لم يعمروها- بالذكر و العبادة- فكأنهم أخربوها في المعنى- ثم سكنتم أنتم فيها بعدهم- و يجوز أن يريد أن كل دار عامرة- قد كانت من قبل خربة- و إنما أخربها قوم بادوا و ماتوا- فإذن لا ساكن منا في عمارة- إلا و يصدق عليه أنه ساكن فيما قد كان خرابا من قبل- و الذين أخربوه الآن موتى- و يجوز أن يريد بقوله و تسكنون فيما خربوا- و تسكنون في دور فارقوها و أخلوها- فأطلق على الخلو و الفراغ لفظ الخراب مجازا- . قوله و إنما الأيام بينكم و بينهم- بواك و نوائح عليكم- يريد أن الأيام و الليالي تشيع رائحا إلى المقابر و تبكي- و تنوح على الباقين الذين سيلتحقون به عن قريب- .
قوله أولئكم سلف غايتكم- السلف المتقدمون و الغاية الحد الذي ينتهي إليه- إما حسيا أو معنويا و المراد هاهنا الموت- . و الفرط القوم يسبقون الحي إلى المنهل- . و مقاوم العز دعائمه جمع مقوم- و أصلها الخشبة التي يمسكها الحراث- و حلبات الفخر جمع حلبة و هي الخيل تجمع للسباق- . و السوق بفتح الواو جمع سوقة و هو من دون الملك: سَلَكُوا فِي بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِيلًا سُلِّطَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ- فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ وَ شَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ- فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لَا يَنْمُونَ- وَ ضِمَاراً لَا يُوجَدُونَ- لَا يُفْزِعُهُمْ وُرُودُ الْأَهْوَالِ- وَ لَا يَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ الْأَحْوَالِ- وَ لَا يَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ وَ لَا يَأْذَنُونَ لِلْقَوَاصِفِ- غُيَّباً لَا يُنْتَظَرُونَ وَ شُهُوداً لَا يَحْضُرُونَ- وَ إِنَّمَا كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا وَ أُلَّافاً فَافْتَرَقُوا- وَ مَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ وَ لَا بُعْدِ مَحَلِّهِمْ- عَمِيَتْ أَخْبَارُهُمْ وَ صَمَّتْ دِيَارُهُمْ- وَ لَكِنَّهُمْ سُقُوا كَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً- وَ بِالسَّمْعِ صَمَماً وَ بِالْحَرَكَاتِ سُكُوناً- فَكَأَنَّهُمْ فِي ارْتِجَالِ الصِّفَةِ صَرْعَى سُبَاتٍ- جِيرَانٌ لَا يَتَأَنَّسُونَ وَ أَحِبَّاءُ لَا يَتَزَاوَرُونَ- بَلِيَتْ بَيْنَهُمْ عُرَا التَّعَارُفِ-
وَ انْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الْإِخَاءِ- فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وَ هُمْ جَمِيعٌ- وَ بِجَانِبِ الْهَجْرِ وَ هُمْ أَخِلَّاءُ- لَا يَتَعَارَفُونَ لِلَيْلٍ صَبَاحاً وَ لَا لِنَهَارٍ مَسَاءً- أَيُّ الْجَدِيدَيْنِ ظَعَنُوا فِيهِ كَانَعَلَيْهِمْ سَرْمَداً- شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا- وَ رَأَوْا مِنْ آيَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا- فَكِلَا الْغَايَتَيْنِ مُدَّتْ لَهُمْ- إِلَى مَبَاءَةٍ فَاتَتْ مَبَالِغَ الْخَوْفِ وَ الرَّجَاءِ- فَلَوْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا- لَعَيُّوا بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا وَ مَا عَايَنُوا- وَ لَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ وَ انْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ- لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ- وَ سَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ- وَ تَكَلَّمُوا مِنْ غَيْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ- فَقَالُوا كَلَحَتِ الْوُجُوهُ النَّوَاضِرُ وَ خَوَتِ الْأَجْسَامُ النَّوَاعِمُ- وَ لَبِسْنَا أَهْدَامَ الْبِلَى وَ تَكَاءَدَنَا ضِيقُ الْمَضْجَعِ- وَ تَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ وَ تَهَدَّمَتْ عَلَيْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ- فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا وَ تَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا- وَ طَالَتْ فِي مَسَاكِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا- وَ لَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْبٍ فَرَجاً وَ لَا مِنْ ضِيقٍ مُتَّسَعاً- فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ- أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ- وَ قَدِ ارْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَكَّتْ- وَ اكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَابِ فَخَسَفَتْ- وَ تَقَطَّعَتِ الْأَلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلَاقَتِهَا-
وَ هَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا- وَ عَاثَ فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِيدُ بِلًى سَمَّجَهَا- وَ سَهَّلَ طُرُقَ الآْفَةِ إِلَيْهَا- مُسْتَسْلِمَاتٍ فَلَا أَيْدٍ تَدْفَعُ وَ لَا قُلُوبٌ تَجْزَعُ- لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ وَ أَقْذَاءَ عُيُونٍ- لَهُمْ فِي كُلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لَا تَنْتَقِلُ- وَ غَمْرَةٌ لَا تَنْجَلِي- فَكَمْ أَكَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ عَزِيزِ جَسَدٍ وَ أَنِيقِ لَوْنٍ- كَانَ فِي الدُّنْيَا غَذِيَّ تَرَفٍ وَ رَبِيبَ شَرَفٍ- يَتَعَلَّلُ بِالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِهِ- وَ يَفْزَعُ إِلَى السَّلْوَةِ إِنْ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ- ضَنّاً بِغَضَارَةِ عَيْشِهِ وَ شَحَاحَةً بِلَهْوِهِ وَ لَعِبِهِ فَبَيْنَا هُوَ يَضْحَكُ إِلَى الدُّنْيَا وَ تَضْحَكُ إِلَيْهِ- فِي ظِلِّ عَيْشٍ غَفُولٍ إِذْ وَطِئَ الدَّهْرُ بِهِ حَسَكَهُ- وَ نَقَضَتِ الْأَيَّامُ قُوَاهُ- وَ نَظَرَتْ إِلَيْهِ الْحُتُوفُ مِنْ كَثَبٍ- فَخَالَطَهُ بَثٌّ لَا يَعْرِفُهُ وَ نَجِيُّ هَمٍمَا كَانَ يَجِدُهُ- وَ تَوَلَّدَتْ فِيهِ فَتَرَاتُ عِلَلٍ آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِهِ- فَفَزِعَ إِلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ الْأَطِبَّاءُ- مِنْ تَسْكِينِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ وَ تَحْرِيكِ الْبَارِدِ بِالْحَارِّ- فَلَمْ يُطْفِئُ بِبَارِدٍ إِلَّا ثَوَّرَ حَرَارَةً- وَ لَا حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلَّا هَيَّجَ بُرُودَةً- وَ لَا اعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ- إِلَّا أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاءٍ- حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ وَ ذَهَلَ مُمَرِّضُهُ- وَ تَعَايَا أَهْلُهُ بِصِفَةِ دَائِهِ- وَ خَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّاِئِلينَ عَنْهُ- وَ تَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِيَّ خَبَرٍ يَكْتُمُونَهُ- فَقَائِلٌ هُوَ لِمَا بِهِ وَ مُمَنٍّ لَهُمْ إِيَابَ عَافِيَتِهِ- وَ مُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِهِ- يُذَكِّرُهُمْ أَسَى الْمَاضِينَ مِنْ قَبْلِهِ- فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ عَلَى جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا- وَ تَرْكِ الْأَحِبَّةِ- إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ- فَتَحَيَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ وَ يَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ- فَكَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَيَّ عَنْ رَدِّهِ- وَ دُعَاءٍ مُؤْلِمٍ بِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عَنْهُ- مِنْ كَبِيرٍ كَانَ يُعَظِّمُهُ أَوْ صَغِيرٍ كَانَ يَرْحَمُهُ- وَ إِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ- أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْيَا هذا موضع المثل ملعا يا ظليم و إلا فالتخوية- من أراد أن يعظ و يخوف و يقرع صفاة القلب- و يعرف الناس قدر الدنيا و تصرفها بأهلها- فليأت بمثل هذه الموعظة في مثل هذا الكلام الفصيح- و إلا فليمسك فإن السكوت أستر و العي خير من منطق يفضح صاحبه- و من تأمل هذا الفصل علم صدق معاوية في قوله فيه- و الله ما سنالفصاحة لقريش غيره- و ينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس- و تلى عليهم أن يسجدوا له- كما سجد الشعراء لقول عدي بن الرقاع-قلم أصاب من الدواة مدادها- . فلما قيل لهم في ذلك- قالوا إنا نعرف مواضع السجود في الشعر- كما تعرفون مواضع السجود في القرآن- .
و إني لأطيل التعجب من رجل يخطب في الحرب بكلام- يدل على أن طبعه مناسب لطباع الأسود- و النمور و أمثالهما من السباع الضارية- ثم يخطب في ذلك الموقف بعينه إذا أراد الموعظة- بكلام يدل على أن طبعه مشاكل لطباع الرهبان- لابسي المسوح الذين لم يأكلوا لحما و لم يريقوا دما- فتارة يكون في صورة بسطام بن قيس الشيباني- و عتيبة بن الحارث اليربوعي- و عامر بن الطفيل العامري- و تارة يكون في صورة سقراط الحبر اليوناني- و يوحنا المعمدان الإسرائيلي- و المسيح ابن مريم الإلهي- .
و أقسم بمن تقسم الأمم كلها به- لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة و إلى الآن- أكثر من ألف مرة- ما قرأتها قط إلا و أحدثت عندي روعة و خوفا و عظة- و أثرت في قلبي وجيبا و في أعضائي رعدة- و لا تأملتها إلا و ذكرت الموتى من أهلي و أقاربي- و أرباب ودي- و خيلت في نفسي أني أنا ذلك الشخص الذي وصف ع حاله- و كم قد قال الواعظون و الخطباء و الفصحاء في هذا المعنى- و كم وقفت على ما قالوه و تكرر وقوفي عليه- فلم أجد لشيء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي- فإما أن يكون ذلك لعقيدتي في قائله- أو كانت نية القائل صالحة و يقينه كان ثابتا- و إخلاصه كان محضاخالصا- فكان تأثير قوله في النفوس أعظم- و سريان موعظته في القلوب أبلغ ثم نعود إلى تفسير الفصل- فالبرزخ الحاجز بين الشيئين- و البرزخ ما بين الدنيا و الآخرة من وقت الموت إلى البعث- فيجوز أن يكون البرزخ في هذا الموضع القبر- لأنه حاجز بين الميت و بين أهل الدنيا- كالحائط المبني بين اثنين فإنه برزخ بينهما- و يجوز أن يريد به- الوقت الذي بين حال الموت إلى حال النشور- و الأول أقرب إلى مراده ع- لأنه قال في بطون البرزخ- و لفظة البطون تدل على التفسير الأول- و لفظتا أكلت الأرض من لحومهم- و شربت من دمائهم مستعارتان- .
و الفجوات جمع فجوة و هي الفرجة المتسعة بين الشيئين- قال سبحانه وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ- و قد تفاجى الشيء إذا صارت له فجوة- .
و جمادا لا ينمون- أي خرجوا عن صورة الحيوانية إلى صورة الجماد- الذي لا ينمي و لا يزيد- و يروى لا ينمون بتشديد الميم- من النميمة و هي الهمس و الحركة- و منه قولهم أسكت الله نامته- في قول من شدد و لم يهمز- . و ضمارا يقال لكل ما لا يرجى من الدين و الوعد- و كل ما لا تكون منه على ثقة ضمار- . ثم ذكر أن الأهوال الحادثة في الدنيا لا تفزعهم- و أن تنكر الأحوال بهم و بأهل الدنيا لا يحزنهم- و يروى تحزنهم على أن الماضي رباعي- . و مثله قوله لا يحفلون بالرواجف- أي لا يكترثون بالزلازل- .
قوله و لا يأذنون للقواصف- أي لا يسمعون الأصوات الشديدة أذنت لكذا أي سمعته- . و جمع الغائب غيب و غيب و كلاهما مروي هاهنا- و أراد أنهم شهود في الصورة و غير حاضرين في المعنى- . و ألاف على فعال جمع آلف كالطراق جمع طارق- و السمار جمع سامر و الكفار جمع كافر- . ثم ذكر أنه لم تعم أخبارهم- أي لم تستبهم أخبارهم و تنقطع عن بعد عهد بهم- و لا عن بعد منزل لهم- و إنما سقوا كأس المنون التي أخرستهم بعد النطق- و أصمتهم بعد السمع و أسكنتهم بعد الحركة- .
و قوله و بالسمع صمما أي لم يسمعوا فيها نداء المنادي- و لا نوح النائح أو لم يسمع في قبورهم صوت منهم- . قوله فكأنهم في ارتجال الصفة- أي إذا وصفهم الواصف مرتجلا غير مترو في الصفة- و لا متهيئ للقول- . قال كأنهم صرعى سبات و هو نوم- لأنه لا فرق في الصورة بين الميت حال موته و النائم المسبوت- . ثم وصفهم بأنهم جيران- إلا أنهم لا مؤانسة بينهم كجيران الدنيا- و أنهم أحباء إلا أنهم لا يتزاورون كالأحباب من أهل الدنيا- . و قوله أحباء جمع حبيب- كخليل و أخلاء و صديق و أصدقاء- . ثم ذكر أن عرا التعارف قد بليت منهم- و انقطعت بينهم أسباب الإخاء- و هذه كلها استعارات لطيفة مستحسنة- .
ثم وصفهم بصفة أخرى- فقال كل واحد منهم موصوف بالوحدة- و هم مع ذلك مجتمعون- بخلاف الأحياء الذين إذا انضم بعضهم إلى بعض- انتفى عنه وصف الوحدة- . ثم قال و بجانب الهجر و هم أخلاء- أي و كل منهم في جانب الهجر- و هم مع ذلك أهل خلة و مودة أي كانوا كذلك- و هذا كله من باب الصناعة المعنوية و المجاز الرشيق- . ثم قال إنهم لا يعرفون للنهار ليلا و لا لليل نهارا- و ذلك لأن الواحد من البشر- إذا مات نهارا لم يعرف لذلك النهار ليلا أبدا- و إن مات ليلا لم يعرف لذلك الليل صباحا أبدا- و قال الشاعر-
لا بد من يوم بلا ليلة
أو ليلة تأتي بلا يوم
و ليس المراد بقوله- أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا- أنهم و هم موتى يشعرون بالوقت الذي ماتوا فيه- و لا يشعرون بما يتعقبه من الأوقات- بل المراد أن صورة ذلك الوقت لو بقيت عندهم لبقيت أبدا- من غير أن يزيلها وقت آخر يطرأ عليها- و يجوز أن يفسر على مذهب من قال ببقاء الأنفس- فيقال إن النفس التي تفارق ليلا- تبقى الصورة الليلية و الظلمة حاصلة عندها أبدا- لا تزول بطرآن نهار عليها لأنها قد فارقت الحواس- فلا سبيل لها- إلى أن يرتسم فيها شيء من المحسوسات بعد المفارقة- و إنما حصل ما حصل من غير زيادة عليه- و كذلك الأنفس التي تفارق نهارا
بعض الأشعار و الحكايات في وصف القبور و الموتىو اعلم أن الناس قد قالوا في حال الموتى فأكثروا- فمن ذلك قول الرضي أبي الحسن رحمه الله تعالى-
أعزز علي بأن نزلت بمنزل
متشابه الأمجاد بالأوغاد
في عصبة جنبوا إلى آجالهم
و الدهر يعجلهم عن الإرواد
ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم
من غير أطناب و لا أعماد
ركب أناخوا لا يرجى منهم
قصد لإتهام و لا إنجاد
كرهوا النزول فأنزلتهم وقعة
للدهر باركة بكل مفاد
فتهافتوا عن رحل كل مذلل
و تطاوحوا عن سرج كل جواد
بادون في صور الجميع
و إنهم متفردون تفرد الآحاد
قوله بادون في صور الجميع- مأخوذ من قول أمير المؤمنين ع- فكلهم وحيد و هم جميع- . و قال أيضا-
و لقد حفظت له فأين حفاظه
و لقد وفيت له فأين وفاؤه
أوعى الدعاء فلم يجبه قطيعة
أم ضل عنه من البعاد دعاؤه
هيهات أصبح سمعه و عيانه
في الترب قد حجبتها أقذاؤه
يمسي و لين مهاده حصباؤه
فيه و مؤنس ليله ظلماؤه
قد قلبت أعيانه و تنكرت
أعلامه و تكسفت أضواؤه
مغف و ليس للذة إغفاؤه
مغض و ليس لفكرة إغضاؤه
وجه كلمع البرق غاض و ميضه
قلب كصدر العضب فل مضاؤه
حكم البلى فيه فلو تلقى
به أعداءه لرتى له أعداؤه
و قال أبو العلاء-
أستغفر الله ما عندي لكم
خبر و ما خطابي إلا معشرا قبروا
أصبحتم في البلى غبرا ملابسكم
من الهباء فأين البرد و القطر
كنتم على كل خطب فادح صبرا
فهل شعرتم و قد جادتكم الصبر
و ما درى يوم أحد بالذين ثووا
فيه و لا يوم بدر أنهم نصروا
و قال أبو عارم الكلابي-
أ جازعة ردينة أن أتاها
نعيي أم يكون لها اصطبار
إذا ما أهل قبري و دعوني
و راحوا و الأكف بها غبار
و غودر أعظمي في لحد
قبر تراوحه الجنائب و القطار
تهب الريح فوق محط قبري
و يرعى حوله اللهق النوار
مقيم لا يكلمه صديق
بقبر لا أزور و لا أزار
فذاك النأي لا الهجران حولا
و حولا ثم تجتمع الديار
مر الإسكندر بمدينة- قد ملكها سبعة أملاك من بيت واحد و بادوا- فسأل هل بقي من نسلهم أحد- قالوا بقي واحد و هو يلزم المقابر- فدعا به فسأله لم تلزم المقابر- قال أردت أن أميز عظام الملوك من عظام عبيدهم- فوجدتها سواء- قال هل لك أن تلزمني حتى أنيلك بغيتك- قال لو علمت أنك تقدر على ذلك للزمتك- قال و ما بغيتكقال حياة لا موت معها- قال لن أقدر على ذلك- قال فدعني أطلبه ممن يقدر عليه- .قال النبي ص ما رأيت منظرا إلا و القبر أفظع منه
وقال ص القبر أول منزل من منازل الآخرة- فمن نجا منه فما بعده أيسر و من لم ينج فما بعده شر له- .
مر عبد الله بن عمر رضي الله عنه بمقبرة فصلى فيها ركعتين- و قال ذكرت أهل القبور و أنه حيل بينهم و بين هذا- فأحببت أن أتقرب بهما إلى اللهفإن قلت ما معنى قوله ع و بجانب الهجر- و أي فائدة في لفظة جانب في هذا الموضع- . قلت لأنهم يقولون فلان في جانب الهجر و في جانب القطيعة- و لا يقولون في جانب الوصل و في جانب المصافاة- و ذلك أن لفظة جنب في الأصل موضوعة للمباعدة- و منه قولهم الجار الجنب و هو جارك من قوم غرباء- يقال جنبت الرجل و أجنبته و تجنبته و تجانبته- كله بمعنى- و رجل أجنبي و أجنب و جنب و جانب كله بمعنى- .
قوله ع شاهدوا من أخطار دارهم- المعنى أنه شاهد المتقون من آثار الرحمة و أماراتها- و شاهد المجرمون من آثار النقمة و أماراتها عند الموت- و الحصول في القبر أعظم مما كانوا يسمعون و يظنون- أيام كونهم في الدنيا- . ثم قال فكلا الغايتين مدت لهم- المعنى مدت الغايتان غاية الشقي منهم و غاية السعيد- .إلى مباءة أي إلى منزل يعظم حاله عن أن يبلغه خوف خائف- أو رجاء راج- و تلك المباءة هي النار أو الجنة- و تقول قد استباء الرجل أي اتخذ مباءة- و أبأت الإبل رددتها إلى مباءتها و هي معاطنها- . ثم قال فلو كانوا ينطقون بها لعيوا بتشديد الياء- قال الشاعر-
عيوا بأمرهم كما عيت
ببيضتها الحمامة
جعلت لها عودين من
نشم و آخر من ثمامة
و روي لعيوا بالتخفيف كما تقول حيوا- قالوا ذهبت الياء الثانية لالتقاء الساكنين- لأن الواو ساكنة و ضمت الياء الأولى لأجل الواو- قال الشاعر-
و كنا حسبناهم فوارس كهمس
حيوا بعد ما ماتوا من الدهر أعصرا
قوله لقد رجعت فيهم يقال رجع البصر نفسه- و رجع زيد بصره يتعدى و لا يتعدى- يقول تكلموا معنى لا صورة- فأدركت حالهم بالأبصار و الأسماع العقلية لا الحسية- و كلحت الوجوه كلوحا و كلاحا- و هو تكشر في عبوس- . و النواضر النواعم و النضرة الحسن و الرونق- . و خوت الأجساد النواعم- خلت من دمها و رطوبتها و حشوتها- و يجوز أن يكون خوت أي سقطت- قال تعالى فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها- و الأهدام جمع هدم و هو الثوب البالي- قال أوس-
و ذات هدم عار نواشرها تصمت بالماء تولبا جذعا- .
و تكاءدنا شق علينا و منه عقبة كئود- و يجوز تكأدنا- جاءت هذه الكلمة في أخوات لها تفعل و تفاعل بمعنى- و مثله تعهد الضيعة و تعاهدها- . و يقال قوله و توارثنا الوحشة- كأنه لما مات الأب فاستوحش أهله منه- ثم مات الابن فاستوحش منه أهله أيضا- صار كان الابن ورث تلك الوحشة من أبيه كما تورث الأموال- و هذا من باب الاستعارة- . قوله و تهدمت علينا الربوع- يقال تهدم فلان على فلان غضبا إذا اشتد غضبه- و يجوز أن يكون تهدمت أي تساقطت-
و روي و تهكمت بالكاف- و هو كقولك تهدمت بالتفسيرين جميعا- و يعني بالربوع الصموت القبور- و جعلها صموتا لأنه لا نطق فيها- كما تقول ليل قائم و نهار صائم أي يقام و يصام فيهما- و هذا كله على طريق الهز و التحريك- و إخراج الكلام في معرض غير المعرض المعهود- جعلهم لو كانوا ناطقين مخبرين عن أنفسهم- لأتوا بما وصفه من أحوالهم- و ورد في الحديث أن عمر حضر جنازة رجل- فلما دفن قال لأصحابه قفوا- ثم ضرب فأمعن في القبور- و استبطأه الناس جدا- ثم رجع و قد احمرت عيناه و انتفخت أوداجه- فقيل أبطأت يا أمير المؤمنين فما الذي حبسك-
قال أتيت قبور الأحبة فسلمت فلم يردوا علي السلام- فلما ذهبت أقفي ناداني التراب- فقال أ لا تسألني يا عمر ما فعلت باليدين- قلت ما فعلت بهما- قال قطعت الكفين من الرسغين- و قطعت الرسغين من الذراعين- و قطعت الذراعين من المرفقين- و قطعت المرفقين من العضدين- و قطعت العضدين من المنكبين- و قطعت المنكبين من الكتفين- فلما ذهبت أقفي ناداني التراب- فقال أ لا تسألني يا عمر ما فعلت بالأبدان و الرجلين- قلت ما فعلت قال قطعت الكتفين من الجنبين- و قطعت الجنبين من الصلب- و قطعت الصلب من الوركين- و قطعت الوركين من الفخذين- و قطعت الفخذين من الركبتين-و قطعت الركبتين من الساقين- و قطعت الساقين من القدمين- فلما ذهبت أقفي ناداني التراب- فقال يا عمر عليك بأكفان لا تبلى- فقلت و ما أكفان لا تبلى-
قال تقوى الله و العمل بطاعته- و هذا من الباب الذي نحن بصدده- نسب الأقوال المذكورة إلى التراب و هو جماد- و لم يكن ذلك- و لكنه اعتبر فانقدحت في نفسه هذه المواعظ الحكمية- فأفرغها في قالب الحكاية- و رتبها على قانون المسألة و الإجابة- و أضافها إلى جماد موات- لأنه أهز لسامعها إلى تدبرها- و لو قال نظرت فاعتبرت في حال الموتى- فوجدت التراب قد قطع كذا من كذا- لم تبلغ عظته المبلغ الذي بلغته- حيث أودعها في الصورة التي اخترعها- . قوله ع- فلو مثلتهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك- إلى آخر جواب لو- هذا الكلام أخذه ابن نباته بعينه- فقال فلو كشفتم عنهم أغطية الأجداث- بعد ليلتين أو ثلاث- لوجدتم الأحداق على الخدود سائلة- و الألوان من ضيق اللحود حائلة- و هوام الأرض في نواعم الأبدان جائلة- و الرءوس الموسدة على الأيمان زائلة- ينكرها من كان لها عارفا- و يفر عنها من لم يزل لها آنفا- .
قوله ع ارتسخت أسماعهم- ليس معناه ثبتت كما زعمه الراوندي- لأنها لم تثبت و إنما ثبتت الهوام فيها- بل الصحيح أنه من رسخ الغدير إذا نش ماؤه و نضب- و يقال قد ارتسخت الأرض بالمطر- إذا ابتلعته حتى يلتقي الثريان- . و استكت أي ضاقت و انسدت- قال النابغة-و نبئت خير الناس أنك لمتني و تلك التي تستك منها المسامع- .
قوله و اكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت- أي غارت و ذهبت في الرأس- و أخذ المتنبي قوله و اكتحلت أبصارهم بالتراب فقال-
يدفن بعضنا بعضا و يمشي
أواخرنا على هام الأوالي
و كم عين مقبلة النواحي
كحيل بالجنادل و الرمال
و مغض كان لا يغضي لخطب
و بال كان يفكر في الهزال
و ذلاقة الألسن حدتها- ذلق اللسان و السنان يذلق ذلقا- أي ذرب فهو ذلق و أذلق- . و همدت بالفتح سكنت و خمدت و عاث أفسد- و قوله جديد بلى من فن البديع- لأن الجدة ضد البلى- و قد أخذ الشاعر هذه اللفظة فقال-يا دار غادرني جديد بلاك رث الجديد فهل رثيث لذاك و سمجها قبح صورتها- و قد سمج الشيء بالضم فهو سمج بالسكون- ثم ضخم فهو ضخم- و يجوز فهو سمج بالكسر مثل خشن فهو خشن- .
قوله و سهل طرق الآفة إليها- و ذلك أنه إذا استولى العنصر الترابي على الأعضاء- قوي استعدادها للاستحالة من صورتها الأولى إلى غيرها- . و مستسلمات أي منقادة طائعة غير عاصية- فليس لها أيد تدفع عنها- و لا لها قلوب تجزع و تحزن لما نزل بها- . و الأشجان جمع شجن و هو الحزن- . و الأقذاء جمع قذى و هو ما يسقط في العين فيؤذيها- .
قوله صفة حال لا تنتقل- أي لا تنتقل إلى حسن و صلاح- و ليس يريد لا تنتقل مطلقا- لأنها تنتقل إلى فساد و اضمحلال- . و رجل عزيز أي حدث- و عزيز الجسد أي طري- و أنيق اللون معجب اللون- و غذي ترف قذ غذي بالترف و هو التنعم المطغي- . و ربيب شرف أي قد ربي في الشرف و العز- و يقال رب فلان ولده يربه ربا- و رباه يربيه تربية- . و يتعلل بالسرور يتلهى به عن غيره- و يفزع إلى السلوة يلتجئ إليها- و ضنا أي بخلا و غضارة العيش نعيمه و لينه- . و شحاحة أي بخلا شححت بالكسر أشح- و شححت أيضا بالفتح- أشح و أشح بالضم و الكسر شحا و شحاحة- و رجل شحيح و شحاح بالفتح- و قوم شحاح و أشحة- .
و يضحك إلى الدنيا و تضحك إليه- كناية عن الفرح بالعمر و العيشة- و كذا كل واحد منهما يضحك إلى صاحبه لشدة الصفاء- كأن الدنيا تحبه و هو يحبها- . و عيش غفول قد غفل عن صاحبه- فهو مستغرق في العيش لم ينتبه له الدهر- فيكدر عليه وقته- قال الشاعر-
و كان المرء في غفلات عيش
كأن الدهر عنها في وثاق
و قال الآخر-
ألا إن أحلى العيش ما سمحت
به صروف الليالي و الحوادث نوم
قوله إذ وطئ الدهر به حسكة- أي إذ أوطأه الدهر حسكة- و الهاء في حسكة ترجع إلى الدهر- عدي الفعل بحرف الجر- كما تقول قام زيد بعمرو أي أقامه- .و قواه جمع قوة و هي المرة من مرائر الحبل- و هذا الكلام استعارة- . و من كثب من قرب و البث الحزن- و البث أيضا الأمر الباطن الدخيل- . و نجي الهم ما يناجيك و يسارك- و الفترات أوائل المرض- .
و آنس ما كان بصحته منصوب على الحال- و قال الراوندي في الشرح- هذا من باب أخطب ما يكون الأمير قائما- ثم ذكر أن العامل في الحال فترات- قال تقديره فترات آنس ما كان- و ما ذكره الراوندي فاسد- فإنه ليس هذا من باب أخطب ما يكون الأمير قائما- لأن ذلك حال سد مسد خبر المبتدإ- و ليس هاهنا مبتدأ- و أيضا فليس العامل في الحال فترات و لا فتر- بل العامل تولدت- و القار البارد- .
فإن قلت لم قال تسكين الحار بالقار- و تحريك البارد بالحار- و لأي معنى جعل الأول التسكين و الثاني التحريك- قلت لأن من شأن الحرارة التهييج و التثوير- فاستعمل في قهرها بالبارد لفظة التسكين- و من شأن البرودة التخدير و التجميد- فاستعمل في قهرها بالحار لفظة التحريك- . قوله و لا اعتدل بممازج لتلك الطبائع- إلا أمد منها كل ذات داء- أي و لا استعمل دواء مفردا معتدل المزاج- أو مركبا كذلك- إلا و أمد كل طبيعة منها ذات مرض بمرض زائد على الأول- . و ينبغي أن يكون قوله و لا اعتدل بممازج- أي و لا رام الاعتدال لممتزج- لأنه لو حصل له الاعتدال لكان قد برئ من مرضه- فسمي محاولة الاعتدال اعتدالا- لأنه بالاستدلال المعتدلات قد تهيأ للاعتدال- فكان قد اعتدل بالقوة- . و ينبغي أيضا أن يكون قد حذف مفعول أمد- و تقديره بمرض كما قدرناه نحن- و حذف المفعولات كثير واسع- .
قوله حتى فتر معلله- لأن معللي المرض في أوائل المرض يكون عندهم نشاط- لأنهم يرجون البرء- فإذا رأوا أمارات الهلاك فترت همتهم- . قوله و ذهل ممرضه ذهل بالفتح و هذا كالأول- لأن الممرض إذا أعيا عليه المرض- و انسدت عليه أبواب التدبير يذهل- . قوله و تعايا أهله بصفة دائه- أي تعاطوا العي و تساكتوا إذا سئلوا عنه- و هذه عادة أهل المريض المثقل يجمجمون إذا سئلوا عن حاله- .
قوله و تنازعوا دونه شجى خبر يكتمونه- أي تخاصموا في خبر ذي شجى- أي خبر ذي غصة يتنازعونه و هم حول المريض سترا دونه- و هو لا يعلم بنجواهم و بما يفيضون فيه من أمره- . فقائل منهم هو لمآبه أي قد أشفى على الموت- و آخر يمنيهم إياب عافيته أي عودها- آب فلان إلى أهله أي عاد- . و آخر يقول قد رأينا مثل هذا- و من بلغ إلى أعظم من هذا ثم عوفي- فيمني أهله عود عافيته- . و آخر يصبر أهله على فقده- و يذكر فضيلة الصبر و ينهاهم عن الجزع- و يروي لهم أخبار الماضين- . و أسى أهليهم و الأسى جمع أسوة- و هو ما يتأسى به الإنسان- قالت الخنساء-
و ما يبكون مثل أخي و لكن أسلي النفس عنه بالتأسي- . قوله على جناح من فراق الدنيا أي سرعان ما يفارقها- لأن من كان على جناح طائر فأوشك به أن يسقط- .
قوله إذ عرض له عارض يعني الموت- و من غصصه جمع غصة- و هو ما يعترض مجرى الأنفاس- و يقال إن كل ميت من الحيوان لا يموت إلا خنقا- و ذلك لأنه من النفس يدخل- فلا يخرج عوضه أو يخرج فلا يدخل عوضه- و يلزم من ذلك الاختناق- لأن الرئة لا تبقى حينئذ مروحة للقلب- و إذا لم تروحه اختنق- . قوله فتحيرت نوافذ فطنته- أي تلك الفطنة النافذة الثاقبة تحيرت عند الموت و تبلدت- .
قوله و يبست رطوبة لسانه- لأن الرطوبة اللعابية التي بها يكون الذوق تنشف حينئذ- و يبطل الإحساس باللسان تبعا لسقوط القوة- . قوله فكم من مهم من جوابه عرفه فعي عن رده- نحو أن يكون له مال مدفون- يسأل عنه حال ما يكون محتضرا- فيحاول أن يعرف أهله به فلا يستطيع- و يعجز عن رد جوابهم- و قد رأينا من عجز عن الكلام فأشار إشارة فهموا معناها- و هي الدواة و الكاغذ- فلما حضر ذلك أخذ القلم و كتب في الكاغذ ما لم يفهم- و يده ترعد ثم مات قوله و دعاء مؤلم لقلبه سمعه فتصام عنه- أظهر الصمم لأنه لا حيلة له- . ثم وصف ذلك الدعاء فقال من كبير كان يعظمه- نحو صراخ الوالد على الولد- و الولد يسمع و لا يستطيع الكلام- و صغير كان يرحمه نحو صراخ الولد على الوالد- و هو يسمع و لا قدرة له على جوابه- .
ثم ذكر غمرات الدنيا فقال- إنها أفظع من أن تحيط الصفات بها و تستغرقها- أي تأتي على كنهها و تعبر عن حقائقها- . قوله أو تعتدل على عقول أهل الدنيا- هذا كلام لطيف فصيح غامض- و معناهأن غمرات الموت و أهواله عظيمة جدا- لا تستقيم على العقول و لا تقبلها- إذا شرحت لها و وصفت كما هي على الحقيقة- بل تنبو عنها و لا نصدق بما يقال فيها- فعبر عن عدم استقامتها على العقول بقوله أو يعتدل- كأنه جعلها كالشيء المعوج عند العقل- فهو غير مصدق به
إيراد أشعار و حكايات في وصف الموت و أحوال الموتى و مما يناسب ما ذكر من حال الإنسان قول الشاعر-
بينا الفتى مرح الخطا فرحا
بما يسعى له إذ قيل قد مرض الفتى
إذ قيل بات بليلة ما نامها
إذ قيل أصبح مثقلا ما يرتجى
إذ قيل أمسى شاخصا و موجها
إذ قيل فارقهم و حل به الردى
و قال أبو النجم العجلي-
و المرء كالحالم في المنام
يقول إني مدرك أمامي
في قابل ما فاتني في العام
و المرء يدنيه إلى الحمام
مر الليالي السود و الأيام
إن الفتى يصبح للأسقام
كالغرض المنصوب للسهام
أخطأ رام و أصاب رام
و قال عمران بن حطان-
أ في كل عام مرضة ثم نقهة
و ينعى و لا ينعى متى ذا إلى متى
و لا بد من يوم يجيء و ليلة
يسوقان حتفا راح نحوك أو غدا
وجاء في الحديث أن رسول الله ص مر بمقبرة فنادى- يا أهل القبور الموحشة و الربوع المعطلة- أ لا أخبركم بما حدث بعدكم- تزوج نساؤكم و تبوئت مساكنكم- و قسمت أموالكم- هل أنتم مخبرون بما عاينتم- ثم قال ألا إنهم لو أذن لهم في الجواب- لقالوا وجدنا خير الزاد التقوى- . و نظر الحسن إلى رجل يجود بنفسه- فقال إن أمرا هذا آخره- لجدير أن يزهد في أوله- و إن أمرا هذا أوله لجدير أن يخاف آخره- . و قال عبده بن الطبيب- و يعجبني قوله على الحال التي كان عليها- فإنه كان أسود لصا من لصوص بني سعد بن زيد مناه بن تميم- .
و لقد علمت بأن قصري حفرة
غبراء يحملني إليها شرجع
فبكى بناتي شجوهن و زوجتي
و الأقربون إلي ثم تصدعوا
و تركت في غبراء يكره وردها
تسفي على الريح ثم أودع
أن الحوادث يخترمن و إنما
عمر الفتى في أهله مستودع
و نظير هذه الأبيات في رويها و عروضها- قول متمم بن نويرة اليربوعي-
و لقد علمت و لا محالة أنني
للحادثات فهل تريني أجزع
أهلكن عادا ثم آل محرق
فتركنهم بلدا و ما قد جمعوا
و لهن كان الحارثان كلاهما
و لهن كان أخو المصانع تبع
فعددت آبائي إلى عرق الثرى
فدعوتهم فعلمت أن لم يسمعوا
ذهبوا فلم أدركهم ودعتهم
غول أتوها و الطريق المهيع
لا بد من تلف مصيب فانتظر
أ بأرض قومك أم بأخرى تصرع
و ليأتين عليك يوم مرة يبكى
عليك مقنعا لا تسمع
لما فتح خالد بن الوليد عين التمر- سال عن الحرقة بنت النعمان بن المنذر- فدل عليها فأتاها و كانت عمياء- فسألها عن حالها فقالت لقد طلعت علينا الشمس- ما شيء يدب تحت الخورنق إلا تحت أيدينا- ثم غربت و قد رحمنا كل من يدور به- و ما بيت دخلته حبرة إلا دخلته عبرة- ثم قالت-
و بينا نسوس الناس و الأمر
أمرنا إذا نحن فيه سوقة نتنصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها
تقلب تارات بنا و تصرف
فقال قائل ممن كان حول خالد- قاتل الله عدي بن زيد لكأنه ينظر إليها حين يقول-
إن للدهر صرعة فاحذرنها
لا تبيتن قد أمنت الدهورا
قد يبيت الفتى معافى فيردى
و لقد كان آمنا مسرورا
دخل عبد الله بن العباس على عبد الملك بن مروان يوم قر- و هو على فرشيكاد يغيب فيها- فقال يا ابن عباس إني لأحسب اليوم باردا قال أجل- و إن ابن هند عاش في مثل ما ترى عشرين أميرا- و عشرين خليفة- ثم هو ذاك على قبره ثمامة تهتز- . فيقال إن عبد الملك أرسل إلى قبر معاوية- فوجد عليه ثمامة نابتة- . كان محمد بن عبد الله بن طاهر في قصره ببغداد على دجلة- فإذا بحشيش على وجه الماء في وسطه قصبة على رأسها رقعة- فأمر بها فوجد هذا-
تاه الأعيرج و استولى به البطر
فقل له خير ما استعملته الحذر
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت
و لم تخف سوء ما يأتي به القدر
و سالمتك الليالي فاغتررت
بها و عند صفو الليالي يحدث الكدر
فلم ينتفع بنفسه أياما- . عدي بن زيد-
أيها الشامت المعير
بالدهر أ أنت المبرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيام
بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلدن أم
من ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى الملوك أنو شروان
أم أين قبله سابور
و بنو الأصفر الكرام ملوك الروم
و لم يبق منهم مذكور
و أخو الحضر إذ بناه و إذ دجلة
تجبى إليه و الخابور
لم يهبه ريب المنون فباد
الملك عنه فبابه مهجور
شاده مرمرا و جلله كلسا
فللطير في ذراه وكور
و تبين رب الخورنق إذ أشرف
يوما و للهدى تفكير
سره حاله و كثرة ما يملك
و البحر معرضا و السدير
فارعوى قلبه و قال فما غبطة
حي إلى الممات يصير
ثم بعد الفلاح و الملك
و الأمة وارتهم هناك القبور
ثم أضحوا كأنهم ورق جف
فألوت به الصبا و الدبور
قد اتفق الناس على أن هذه الأبيات- أحسن ما قيل من القريض في هذا المعنى- و أن الشعراء كلهم أخذوا منها- و احتذوا في هذا المعنى حذوها- . و قال الرضي أبو الحسن رضي الله عنه-
انظر إلى هذا الأنام بعبرة
لا يعجنك خلقه و رواؤه
فتراه كالورق النضير تقصفت
أغصانه و تسلبت شجراؤه
أني تحاماه المنون و
إنما خلقت مراعي للردى خضراؤه
أم كيف تأمل فلتة أجساده
من ذا الزمان و حشوها أدواؤه
لا تعجبن فما العجيب فناؤه
بيد المنون بل العجيب بقاؤه
إنا لنعجب كيف حم حمامه
عن صحة و يغيب عنا داؤه
من طاح في سبل الردى آباؤه
فليسلكن طريقهم أبناؤه
و مؤمر نزلوا به في سوقة
لا شكله فيهم و لا نظراؤه
قد كان يفرق ظله أقرانه
و يغض دون جلاله أكفاؤه
و محجب ضربت عليه مهابة
يعشي العيون بهاؤه و ضياؤه
نادته من خلف الحجاب منية
أمم فكان جوابها حوباؤه
شقت إليه سيوفه و رماحه
و أميط عنه عبيده و إماؤه
لم يغنه من كان ود لو أنه
قبل المنون من المنون فداؤه
حرم عليه الذل إلا أنه
أبدا ليشهد بالجلال بناؤه
متخشع بعد الأنيس جنابه
متضائل بعد القطين فناؤه
عريان تطرد كل ريح تربه
و يطيع أول أمرها حصباؤه
و لقد مررت ببرزخ فسألته
أين الألى ضمتهم أرجاؤه
مثل المطي بواركا أجداثه
تسفي على جنباتها بوغاؤه
ناديته فخفى علي جوابه
بالقول إلا ما زقت أصداؤه
من ناظر مطروفه ألحاظه
أو خاطر مظلولة سوداؤه
أو واجد مكظومة زفراته
أو حاقد منسية شحناؤه
و مسندين على الجنوب
كأنهم شرب تخاذل بالطلا أعضاؤه
تحت الصعيد لغير إشفاق إلى
يوم المعاد يضمهم أحشاؤه
أكلتهم الأرض التي ولدتهم
أكل الضروس حلت له أكلاؤه
و قال أيضا-
و تفرق البعداء بعد تجمع
صعب فكيف تفرق القرباء
و خلائق الدنيا خلائق مومس
للمنع آونة و للإعطاء
طورا تبادلك الصفاء و تارة
تلقاك تنكرها من البغضاء
و تداول الأيام يبلينا كما
يبلي الرشاء تطاوح الأرجاء
و كان طول العمر روحة راكب
قضى اللغوب و جد في الإسراء
لهفي على القوم الأولى غادرتهم
و عليهم طبق من البيداء
متوسدين على الخدود كأنما
كرعوا على ظمإ من الصهباء
صور ضننت على العيون بلحظها
أمسيت أوقرها من البوغاء
و نواظر كحل التراب جفونها
قد كنت أحرسها من الأقذاء
قربت ضرائحهم على زوارها
و نأوا عن الطلاب أي تناء
و لبئس ما يلقى بعقر ديارهم
أذن المصيخ بها و عين الرائي
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 11