214 و من كلام له ع
قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ وَ أَمَاتَ نَفْسَهُ حَتَّى دَقَّ جَلِيلُهُ- وَ لَطُفَ غَلِيظُهُ وَ بَرَقَ لَهُ لَامِعٌ كَثِيرُ الْبَرْقِ- فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ وَ سَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ- وَ تَدَافَعَتْهُ الْأَبْوَابُ إِلَى بَابِ السَّلَامَةِ وَ دَارِ الْإِقَامَةِ- وَ ثَبَتَتْ رِجْلَاهُ بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِ الْأَمْنِ وَ الرَّاحَةِ- بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ وَ أَرْضَى رَبَّهُ يصف العارف- يقول قد أحيا قلبه بمعرفة الحق سبحانه- و أمات نفسه بالمجاهدة و رياضة القوة البدنية بالجوع و العطش- و السهر و الصبر على مشاق السفر و السياحة- . حتى دق جليله أي حتى نحل بدنه الكثيف- . و لطف غليظه تلطفت أخلاقه و صفت نفسه- فإن كدر النفس في الأكثر إنما يكون من كدر الجسد- و البطنة كما قيل تذهب الفطنة
فصل في مجاهدة النفوس و ما ورد في ذلك من الآثار
و تقول أرباب هذه الطريقة- من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة- لم يجد من هذه الطريقة شمة- .و قال عثمان المغربي الصوفي- من ظن أنه يفتح عليه شيء من هذه الطريقة- أو يكشف له عن سر من أسرارها من غير لزوم المجاهدة- فهو غالط- . و قال أبو علي الدقاق- من لم يكن في بدايته قومة لم يكن في نهايته جلسة- . و من كلامهم الحركة بركة- حركات الظواهر توجب بركات السرائر- . و من كلامهم- من زين ظاهره بالمجاهدة حسن الله سرائره بالمشاهدة- . و قال الحسن الفرازيني هذا الأمر على ثلاثة أشياء- ألا تأكل إلا عند الفاقة- و لا تنام إلا عند الغلبة و لا تتكلم إلا عند الضرورة- .
و قال إبراهيم بن أدهم- لن ينال الرجل درجة الصالحين- حتى يغلق عن نفسه باب النعمة- و يفتح عليها باب الشدة- . و من كلامهم من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه- . و قال أبو علي الروذباري- إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام أنا جائع- فألزموه السوق و مروه بالكسب- . و قال حبيب بن أوس أبو تمام و هو يقصد غير ما نحن فيه- و لكنه يصلح أن يستعمل فيما نحن فيه-
خذي عبرات عينك عن زماعي
و صوني ما أزلت من القناع
أقلي قد أضاق بكاك ذرعي
و ما ضاقت بنازله ذراعي
أ آلفة النحيب كم افتراق
أظل فكان داعية اجتماع
فليست فرحة الأوبات
إلا لموقوف على ترح الوداع
تعجب أن رأت جسمي نحيلا
كان المجد يدرك بالصراع
أخو النكبات من يأوي
إذا ما أطفن به إلى خلق وساع
يثير عجاجة في كل فج
يهيم به عدي بن الرقاع
أبن مع السباع الماء
حتى لخالته السباع من السباع
و قال أيضا-
فاطلب هدوءا بالتقلقل و استثر
بالعيس من تحت السهاد هجودا
ما أن ترى الأحساب بيضا وضحا
إلا بحيث ترى المنايا سودا
وجاء في الحديث أن فاطمة جاءت إلى رسول الله ص بكسرة خبز- فقال ما هذه قالت قرص خبزته- فلم تطب نفسي حتى أتيتك منه بهذه الكسرة- فأكلها- و قال أما إنها لأول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث- . و كان يقال ينابيع الحكمة من الجوع- و كسر عادية النفس بالمجاهدة- .
و قال يحيى بن معاذ- لو أن الجوع يباع في السوق- لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره- . و قال سهل بن عبد الله- لما خلق الله الدنيا جعل في الشبع المعصية و الجهل- و جعل في الجوع الطاعة و الحكمة- . و قال يحيى بن معاذ- الجوع للمريدين رياضة و للتائبين تجربة- و للزهاد سياسة و للعارفين تكرمة- . و قال أبو سلمان الداراني- مفتاح الدنيا الشبع و مفتاح الآخرة الجوع- . و قال بعضهم- أدب الجوع ألا ينقص من عادتك إلا مثل أذن السنور- هكذا على التدريج حتى تصل إلى ما تريد- .
و يقال إن أبا تراب النخشبي خرج من البصرة إلى مكة- فوصل إليها على أكلتين أكلة بالنباج و أكلة بذات عرق- . قالوا و كان سهل بن عبد الله التستري إذا جاع قوي- و إذا أكل ضعف- . و كان منهم من يأكل كل أربعين يوما أكلة واحدة- و منهم من يأكل كل ثمانين يوما أكلة واحدة- . قالوا و اشتهى أبو الخير العسقلاني السمك سنين كثيرة- ثم تهيأ له أكله من وجه حلال- فلما مد يده ليأكل- أصابت إصبعه شوكة من شوك السمك- فقام و ترك الأكل- و قال يا رب هذا لمن مد يده بشهوة إلى الحلال- فكيف بمن مد يده بشهوة إلى الحرام- . و في الكتاب العزيز- وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى- فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى- فالجملة الأولى هي التقوى و الثانية هي المجاهدة- .
وقال النبي ص أخوف ما أخاف على أمتي اتباع الهوى و طول الأمل- أما اتباع الهوى فيصد عن الحق- و أما طول الأمل فينسي الآخرة
– . و سئل بعض الصوفية عن المجاهدة- فقال ذبح النفس بسيوف المخالفة- . و قال من نجمت طوارق نفسه أفلت شوارق أنسه- . و قال إبراهيم بن شيبان- ما بت تحت سقف و لا في موضع عليه غلق أربعين سنة- و كنت أشتهي في أوقات أن أتناول شبعة عدس فلم يتفق- ثم جملت إلي و أنا بالشام غضارة فيها عدسية- فتناولت منها و خرجت- فرأيت قوارير معلقة فيها شبه أنموذجات فظننتها خلا- فقال بعض الناس- أ تنظر إلى هذه و تظنها خلا و إنما هي خمر- و هي أنموذجات هذه الدنان لدنان هناك- فقلت قد لزمني فرض الإنكار- فدخلت حانوت ذلك الخمار لأكسر الدنان و الجرار- فحملت إلى ابن طولون فأمر بضربي مائتي خشبة- و طرحي في السجن فبقيت مدة- حتى دخل أبو عبد الله الوباني المغربي أستاذ ذلك البلد- فعلم أني محبوس فشفع في فأخرجت إليه- فلما وقع بصره علي قال أي شيء فعلت- فقلت شبعة عدس و مائتي خشبة- فقال لقد نجوت مجانا- .
و قال إبراهيم الخواص- كنت في جبل فرأيت رمانا فاشتهيته- فدنوت فأخذت منه واحدة فشققتها فوجدتها حامضة- فمضيت و تركت الرمان- فرأيت رجلا مطروحا قد اجتمع عليه الزنابير- فسلمت عليه فرد علي باسمي- فقلت كيف عرفتني قال من عرف الله لم يخف عليه شيء- فقلت له أرى لك حالا مع الله- فلو سألته أن يحميك و يقيك من أذى هذه الزنابير- فقال و أرى لك حالا مع الله- فلو سألته أن يقيك من شهوة الرمان- فإن لذع الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة- و لذع الزنابيريجد الإنسان ألمه في الدنيا- فتركته و مضيت على وجهي- .
و قال يوسف بن أسباط- لا يمحو الشهوات من القلب إلا خوف مزعج- أو شوق مقلق- . و قال الخواص- من ترك شهوة فلم يجد عوضها في قلبه فهو كاذب في تركها- . و قال أبو علي الرباطي صحت عبد الله المروزي- و كان يدخل البادية قبل أن أصحبه بلا زاد- فلما صحبته قال لي أيما أحب إليك- تكون أنت الأمير أم أنا قلت بل أنت- فقال و عليك الطاعة قلت نعم- فأخذ مخلاة و وضع فيها زادا و حملها على ظهره- فكنت إذا قلت له أعطني حتى أحملها- قال الأمير أنا و عليك الطاعة- قال فأخذنا المطر ليلة- فوقف إلى الصباح على رأسي و عليه كساء يمنع عني المطر- فكنت أقول في نفسي يا ليتني مت و لم أقل له أنت الأمير- ثم قال لي إذا صحبت إنسانا فاصحبه كما رأيتني صحبتك- . أبو الطيب المتنبي-
ذريني أنل ما لا ينال من العلا فصعب
العلا في الصعب و السهل في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة
و لا بد دون الشهد من إبر النحل
و له أيضا-
و إذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
و من أمثال العامة- من لم يغل دماغه في الصيف لم تغل قدره في الشتاء- . من لم يركب الأخطار لم ينل الأوطار- .إدراك السول و بلوغ المأمول بالصبر على الجوع- و فقد الهجوع و سيلان الدموع و اعلم أن تقليل المأكول لا ريب في أنه نافع- للنفس و الأخلاق- و التجربة قد دلت عليه- لأنا نرى المكثر من الأكل- يغلبه النوم و الكسل و بلادة الحواس- و تتبخر المأكولات الكثيرة أبخرة كثيرة- فتتصاعد إلى الدماغ فتفسد القوى النفسانية- و أيضا فإن كثرة المأكل تزيل الرقة- و تورث القساوة و السبعية و القياس أيضا يقتضي ذلك- و لأن كثرة المزاولات سبب لحصول الملكات- فالنفس إذا توفرت على تدبير الغذاء و تصريفه- كان ذلك شغلا شاغلا لها- و عائقا عظيما عن انصبابها إلى الجهة الروحانية العالية- و لكن ينبغي أن يكون تقليل الغذاء إلى حد- يوجب جوعا قليلا- فإن الجوع المفرط- يورث ضعف الأعضاء الرئيسة و اضطرابها- و اختلال قواها- و ذلك يقتضي تشويش النفس و اضطراب الفكر- و اختلال العقل- و لذلك تعرض الأخلاط السوداوية- لمن أفرط عليه الجوع- فإذن لا بد من إصلاح أمر الغذاء- بأن يكون قليل الكمية كثير الكيفية- فتؤثر قلة كميته في أنه لا يشغل النفس بتدبير الهضم- عن التوجه إلى الجهة العالية الروحانية- و تؤثر كثرة كيفيته- في تدارك الخلل الحاصل له من قلة الكمية- و يجب أن يكون الغذاء شديد الإمداد للأعضاء الرئيسة- لأنها هي المهمة من أعضاء البدن- و ما دامت باقية على كمال حالها- لا يظهر كثير خلل من ضعف غيرها من الأعضاء
فصل في الرياضة النفسية و أقسامها
و اعلم أن الرياضة و الجوع هي أمر يحتاج إليه المريد- الذي هو بعد في طريق السلوك إلى الله- . و ينقسم طالبوا هذا الأمر الجليل الشاق إلى أقسام أربعة-
أحدها الذين مارسوا العلوم الإلهية- و أجهدوا أنفسهم في طلبها و الوصول إلى كنهها- بالنظر الدقيق في الزمان الطويل- فهو لا يحصل لهم شوق شديد- و ميل عظيم إلى الجهة العالية الشريفة- فيحملهم حب الكمال على الرياضة- .
و ثانيها الأنفس التي هي بأصل الفطرة و الجوهر- مائلة إلى الروحانية من غير ممارسة علم- و لا دربة بنظر و بحث- و قد رأينا مثلهم كثيرا- و شاهدنا قوما من العامة متى سنح لهم سانح مشوق- مثل صوت مطرب أو إنشاد بيت يقع في النفس- أو سماع كلمة توافق أمرا في بواطنهم- فإنه يستولي عليهم الوجد و يشتد الحنين- و تغشاهم غواش لطيفة روحانية- يغيبون بها عن المحسوسات و الجسمانيات- .
و ثالثها نفوس حصل لها الأمران معا- الاستعداد الأصلي و الاشتغال بالعلوم النظرية الإلهية- .
و رابعها النفوس التي لا استعداد لها في الأصل- و لا ارتاضت بالعلوم الإلهية- و لكنهم قوم سمعوا كمال هذه الطريقة- و أن السعادة الإنسانية ليست إلا بالوصول إليها- فمالت نحوها و حصل لها اعتقاد فيها- . فهذه أقسام المريدين- و الرياضة التي تليق بكل واحد من هذه الأقسام- غير الرياضة اللائقة بالقسم الآخر- .
و نحتاج قبل الخوض في ذلك إلى تقديم أمرين- أحدهما أن النفحات الإلهية دائمة مستمرة- و أنه كل من توصل إليها وصل- قال سبحانه و تعالى- وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وقال النبي ص إن لربكم في أيام عصركم نفحات- ألا فتعرضوا لنفحاته- . و ثانيهما أن النفوس البشرية في الأكثر مختلفة بالنوع- فقد تكون بعض النفوس مستعدة- غاية الاستعداد لهذا المطلب- و ربما لم تكن البتة مستعدة له- و بين هذين الطرفين أوساط مختلفة بالضعف و القوة- . و إذا تقرر ذلك فاعلم أن القسمين الأولين- لما اختلفا فيما ذكرناه لا جرم- اختلفا في الكسب و المكتسب- .
أما الكسب فإن صاحب العلم الأولى به في الأكثر- العزلة و الانقطاع عن الخلق- لأنه قد حصلت له الهداية و الرشاد- فلا حاجة له إلى مخالطة أحد- يستعين به على حصول ما هو حاصل- و أما صاحب الفطرة الأصلية من غير علم- فإنه لا يليق به العزلة لأنه يحتاج إلى المعلم و المرشد- فإنه ليس يكفي الفطرة الأصلية- في الوصول إلى المعالم الإلهية و الحقائق الربانية- و لا بد من موقف و مرشد في مبدإ الحال- هذا هو القول في الكسب بالنظر إليها- .
و أما المكتسب فإن صاحب العلم إذا اشتغل بالرياضة- كانت مشاهداته و مكاشفاته أكثر كمية- و أقل كيفية مما لصاحب الفطرة المجردة- أما كثرة الكمية فلأن قوته النظرية تعينه على ذلك- و أما قلة الكيفية- فلأن القوة النفسانية تتوزع على تلك الكثرة- و كلما كانت الكثرة أكثر- كان توزع القوة إلى أقسام أكثر- و كان كل واحد منهاأضعف مما لو كانت الأقسام أقل عددا- و إذا عرفت ذلك- عرفت أن الأمر في جانب صاحب الفطرة الأصلية- بالعكس من ذلك- و هو أن مشاهداته و مكاشفاته- تكون أقل كمية و أكثر كيفية- .
و أما الاستعداد الثالث- و هو النفس التي قد جمعت الفطرة الأصلية- و العلوم الإلهية النظرية بالنظر- فهي النفس الشريفة الجليلة الكاملة- . و هذه الأقسام الثلاثة مشتركة- في أن رياضتها القلبية يجب أن تكون زائدة- في الكم و الكيف على رياضتها البدنية- لأن الغرض الأصلي هو رياضة القلب و طهارة النفس- و إنما شرعت الرياضات البدنية و العبادات الجسمانية- لتكون طريقا إلى تلك الرياضة الباطنة- فإذا حصلت كان الاشتغال بالرياضة البدنية عبثا- لأن الوسيلة بعد حصول المتوسل إليه فضلة- مستغنى عنها- بل ربما كانت عائقة عن المقصود- نعم لا بد من المحافظة على الفرائض خاصة- لئلا تعتاد النفس الكسل- و ربما أفضى ذلك إلى خلل في الرياضة النفسانية- و لهذا حكي عن كثير من كبراء القوم- قلة الاشتغال بنوافل العبادات- .
و أما القسم الرابع- و هو النفس التي خلت عن الوصفين معا- فهذه النفس يجب ألا تكون رياضتها في مبدإ الحال- إلا بتهذيب الأخلاق بما هو مذكور في كتب الحكمة الخلقية- فإذا لانت و مرنت و استعدت للنفحات الإلهية- حصل لها ذوق ما- فأوجب ذلك الذوق شوقا فأقبلت بكليتها على مطلوبها
فصل في أن الجوع يؤثر في صفاء النفس
و اعلم أن السبب الطبيعي- في كون الجوع مؤثرا في صفاء النفس- أن البلغم الغالب على مزاج البدن- يوجب بطبعه البلادة- و إبطاء الفهم لكثرة الأرضية فيه- و ثقل جوهرة- و كثرة ما يتولد عنه من البخارات التي تسد المجاري- و تمنع نفوذ الأرواح- و لا ريب أن الجوع يقتضي تقليل البلغم- لأن القوة الهاضمة إذا لم تجد غذاء تهضمه- عملت في الرطوبة الغريبة الكائنة في الجسد- فكلما انقطع الغذاء- استمر عملها في البلغم الموجود في البدن- فلا تزال تعمل فيه و تذيبه الحرارة الكائنة في البدن- حتى يفنى كل ما في البدن من الرطوبات الغريبة- و لا يبقى إلا الرطوبات الأصلية- فإن استمر انقطاع الغذاء- أخذت الحرارة و القوة الهاضمة- في تنقيص الرطوبات الأصلية من جوهر البدن- فإن كان ذلك يسيرا و إلى حد ليس بمفرط- لم يضر ذلك بالبدن كل الإضرار- و كان ذلك هو غاية الرياضة- التي أشار أمير المؤمنين ع إليها- بقوله حتى دق جليله و لطف غليظه- و إن أفرط وقع الحيف و الإجحاف على الرطوبة الأصلية- و عطب البدن و وقع صاحبه في الدق و الذبول- و ذلك منهي عنه لأنه قتل للنفس- فهو كمن يقتل نفسه بالسيف أو بالسكين
كلام للفلاسفة و الحكماء في المكاشفات الناشئة عن الرياضة
و اعلم أن قوله ع و برق له لامع كثير البرق- هو حقيقة مذهب الحكماء- و حقيقة قول الصوفية أصحاب الطريقة و الحقيقة- و قد صرح به الرئيس أبو علي بن سينا في كتاب الإشارات- فقال في ذكر السالك إلى مرتبة العرفان- ثم إنهإذا بلغت به الإرادة و الرياضة حدا ما- عنت له خلسات من اطلاع نور الحق إليه- لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد عنه- و هي التي تسمى عندهم أوقاتا- و كل وقت يكتنفه وجد إليه و وجد عليه- ثم إنه لتكثر عليه هذه الغواشي إذا أمعن في الارتياض- ثم إنه ليتوغل في ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض- فكلما لمح شيئا عاج منه إلى جانب القدس- فتذكر من أمره أمرا فغشيه غاش- فيكاد يرى الحق في كل شيء- و لعله إلى هذا الحد تستولي عليه غواشيه- و يزول هو عن سكينته- و يتنبه جليسه لاستنفاره عن قراره- فإذا طالت عليه الرياضة لم تستنفره غاشية- و هدي للتأنس بما هو فيه- ثم إنه لتبلغ به الرياضة مبلغا- ينقلب له وقته سكينة فيصير المخطوب مألوفا- و الوميض شهابا بينا- و يحصل له معارف مستقرة كأنها صحبة مستمرة- و يستمتع فيها ببهجته فإذا انقلب عنها انقلب حيران آسفا- . فهذه ألفاظ الحكيم أبي علي بن سينا في الإشارات- و هي كما نراها مصرح فيها بذكر البروق اللامعة للعارف- .
و قال القشيري في الرسالة- لما ذكر الحال و الأمور الواردة على العارفين- قال هي بروق تلمع ثم تخمد- و أنوار تبدو ثم تخفى- ما أحلاها لو بقيت مع صاحبها- ثم تمثل بقول البحتري-خطرت في النوم منها خطرة خطرة البرق بدا ثم اضمحلأي زور لك لو قصدا سرىو ملم بك لو حقا فعل- . فهو كما تراه- يذكر البروق اللامعة حسبما ذكره الحكيم- و كلاهما يتبع ألفاظ أمير المؤمنين ع لأنه حكيم الحكماء- و عارف العارفين و معلم الصوفية- و لو لا أخلاقه و كلامه و تعليمه للناس هذا الفن- تارة بقوله و تارة بفعله- لما اهتدى أحد من هذه الطائفة- و لا علم كيف يورد و لا كيف يصدر- .
و قال القشيري أيضا في الرسالة- المحاضرة قبل المكاشفة- فإذا حصلت المكاشفة فبعدها المشاهدة- . و قال و هي أرفع الدرجات- قال فالمحاضرة حضور القلب- و قد تكون بتواتر البرهان- و الإنسان بعد وراء الستر- و إن كان حاضرا باستيلاء سلطان الذكر- . و أما المكاشفة فهي حضور البين- غير مفتقر إلى تأمل الدليل- و تطلب السبيل ثم المشاهدة و هي وجود الحق من غير بقاء تهمة- . و أحسن ما ذكر في المشاهد قول الجنيد- هي وجود الحق مع فقدانك- . و قال عمرو بن عثمان المكي- المشاهدة أن تتوالى أنوار التجلي على القلب- من غير أن يتخللها ستر و لا انقطاع- كما لو قدر اتصال البروق في الليلة المظلمة- فكما أنها تصير من ذلك بضوء النهار- فكذلك القلب إذا دام له التجلي مع النهار فلا ليل- . و أنشدوا شعرا-
ليلي بوجهك مشرق
و ظلامه في الناس سار
فالناس في سدف الظلام
و نحن في ضوء النهار
و قال الثوري لا تصح للعبد المشاهدة و قد بقي له عرق قائم- . و قالوا إذا طلع الصباح استغني عن المصباح- . و أنشدوا أيضا-
فلما استنار الصبح طوح ضوءه
بأنواره أنوار ضوء الكواكب
فجرعهم كأسا لو ابتليت لظى
بتجريعه طارت كأسرع ذاهب
كأس و أي كأس تصطلمهم عنهم- و تفنيهم و تخطفهم منهم و لا تبقيهم- كأس لا تبقى و لا تذر تمحو بالكلية- و لا تبقى شظية من آثار البشرية- كما قال قائلهم-ساروا فلم يبق لا عين و لا أثر- . و قال القشيري أيضا هي ثلاث مراتب- اللوائح ثم اللوامع ثم الطوالع فاللوائح كالبروق- ما ظهرت حتى استترت كما قال القائل-فافترقنا حولا فلما التقينا كان تسليمه علي وداعا- . و أنشدوا-
يا ذا الذي زار و ما زارا
كأنه مقتبس نارا
مر بباب الدار مستعجلا
ما ضره لو دخل الدارا
ثم اللوامع و هي أظهر من اللوائح- و ليس زوالها بتلك السرعة- فقد تبقى وقتين و ثلاثة- و لكن كما قيل-
العين باكية لم تشبع النظرا
أو كما قالوا-
و بلائي من مشهد و مغيب
و حبيب مني بعيد قريب
لم ترد ماء وجهه العين حتى
شرقت قبل ريها برقيب
فأصحاب هذا المقام بين روح و فوح- لأنهم بين كشف و ستر يلمع ثم يقطع- لا يستقر لهم نور النهار حتى تكر عليه عساكر الليل- فهم كما قيل-و الليل يشملنا بفاضل برده و الصبح يلحفنا رداء مذهبا- . ثم الطوالع و هي أبقى وقتا و أقوى سلطانا- و أدوم مكثا و أذهب للظلمة و أنفي للمهمة- .أ فلا ترى كلام القوم كله مشحون بالبروق و اللمعان- . و كان مما نقم حامد بن العباس وزير المقتدر- و علي بن عيسى الجراح وزيره أيضا على الحلاج- أنهما وجدا في كتبه لفظ النور الشعشعاني- و ذلك لجهالتهما مراد القوم و اصطلاحهم و من جهل أمرا عاداه- .
ثم قال ع- و تدافعته الأبواب إلى باب السلامة و دار الإقامة- أي لم يزل ينتقل من مقام من مقامات القوم- إلى مقام فوقه حتى وصل- و تلك المقامات معروفة عند أهلها- و من له أنس بها و سنذكرها فيما بعد- . ثم قال و ثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه- في قرار الأمن و الراحة بما استعمل قلبه و أرضى ربه- أي كانت الراحة الكلية و السعادة الأبدية- مستثمره من ذلك التعب الذي تحمله لما استعمل قلبه- و راض جوارحه و نفسه حتى وصل- كما قيل-عند الصباح يحمد القوم السرى و تنجلي عنا غيابات الكرى
و قال الشاعر-
تقول سليمى لو أقمت بأرضنا
و لم تدر أني للمقام أطوف
و قال آخر-
ما ابيض وجه المرء في طلب
العلا حتى يسود وجهه في البيد
و قال-
فاطلب هدوءا بالتقلقل و استثر
بالعيس من تحت السهاد هجودا
ما إن ترى الأحساب بيضا وضحا
إلا بحيث ترى المنايا سودا
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 11