209 و من خطبة له ع خطبها بصفين
أَمَّا بَعْدُ- فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلَايَةِ أَمْرِكُمْ- وَ لَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ- وَ الْحَقُّ أَوْسَعُ الْأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ- وَ أَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ- لَا يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ- وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ- وَ لَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ- لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ- لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ- وَ لِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ- وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ- وَ جَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ- تَفَضُّلًا مِنْهُ وَ تَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ الذي له عليهم من الحق هو وجوب طاعته- و الذي لهم عليه من الحق هو وجوب معدلته فيهم- و الحق أوسع الأشياء في التواصف و أضيقها في التناصف- معناه أن كل أحد يصف الحق و العدل- و يذكر حسنه و وجوبه- و يقول لو وليت لعدلت- فهو بالوصف باللسان وسيع و بالفعل ضيق- لأن ذلك العالم العظيم الذين كانوا يتواصفون حسنه- و يعدون أن لو ولوا باعتماده و فعله- لا تجد في الألف منهم واحدا لو ولي لعدل- و لكنه قول بغير عمل- .
ثم عاد إلى تقرير الكلام الأول- و هو وجوب الحق له و عليه- فقال إنه لا يجري لأحد إلا و جرى عليه- و كذلك لا يجري عليه إلا و جرى له- أي ليس و لا واحد من الموجودين- بمرتفع عن أن يجري الحق عليه- و لو كان أحد من الموجودين كذلك- لكان أحقهم بذلك البارئ سبحانه- لأنه غاية الشرف- بل هو فوق الشرف و فوق الكمال و التمام- و هو مالك الكل و سيد الكل- فلو كان لجواز هذه القضية وجه- و لصحتها مساغ لكان البارئ تعالى أولى بها- و هي ألا يستحق عليه شيء- و تقدير الكلام لكنه يستحق عليه أمور- فهو في هذا الباب كالواحد منا يستحق و يستحق عليه- و لكنه ع حذف هذا الكلام المقدر- أدبا و إجلالا لله تعالى أن يقول إنه يستحق عليه شيء- .
فإن قلت فما بال المتكلمين لا يتأدبون بأدبه ع- و كيف يطلقون عليه تعالى الوجوب و الاستحقاق- . قلت ليست وظيفة المتكلمين- وظيفة أمير المؤمنين ع في عباراتهم- هؤلاء أرباب صناعة- و علم يحتاج إلى ألفاظ و اصطلاح لا بد لهم من استعماله- للإفهام و الجدل بينهم- و أمير المؤمنين إمام يخطب على منبره- يخاطب عربا و رعية ليسوا من أهل النظر- و لا مخاطبته لهم لتعليم هذا العلم- بل لاستنفارهم إلى حرب عدوه- فوجب عليه بمقتضى الأدب- أن يتوقى كل لفظة توهم ما يستهجنه السامع- في الأمور الإلهية و في غيرها- . فإن قلت فما هذه الأمور التي زعمت- أنها تستحق على البارئ سبحانه- و أن أمير المؤمنين ع حذفها من اللفظ و اللفظ يقتضيها- . قلت الثواب و العوض و قبول التوبة- و اللطف و الوفاء بالوعد و الوعيد- و غير ذلك مما يذكره أهل العدل- .
فإن قلت فما معنى قوله- لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه- لقدرته على عباده- و لعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه- و هب أن تعليل عدم استحقاق شيء- على الله تعالى بقدرته على عباده صحيح- كيف يصح تعليل ذلك بعدله- في كل ما جرت عليه صروف قضائه- أ لا ترى أنه ليس بمستقيم- أن تقول لا يستحق على البارئ شيء لأنه عادل- و إنما المستقيم أن تقول لا يستحق عليه شيء لأنه مالك- و لذلك عللت الأشعرية هذا الحكم بأنه مالك الكل- و الاستحقاق إنما يكون على من دونه- .
قلت التعليل صحيح- و هو أيضا مما عللت به الأشعرية مذهبها- و ذلك لأنه إنما يتصور الاستحقاق على الفاعل المختار- إذا كان ممن يتوقع منه أو يصح منه أن يظلم- فيمكن حينئذ أن يقال قد وجب عليه كذا- و استحق عليه كذا- فأما من لا يمكن أن يظلم و لا يتصور وقوع الظلم منه- و لا الكذب و لا خلف الوعد و الوعيد- فلا معنى لإطلاق الوجوب و الاستحقاق عليه- كما لا يقال كذا الداعي الخالص- يستحق عليه أن يفعل ما دعاه إليه الداعي- و يجب عليه أن يفعل ما دعاه إليه الداعي- مثل الهارب من الأسد- و الشديد العطش إذا وجد الماء و نحو ذلك- .
فإن قلت أ ليس يشعر قوله ع- و جعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه- بمذهب البغداديين من أصحابكم- و هو قولهم إن الثواب تفضل من الله سبحانه- و ليس بواجب- . قلت لا و ذلك لأنه جعل المتفضل به- هو مضاعفة الثواب لا أصل الثواب- و ليس ذلك بمستنكر عندنا- . فإن قلت- أ يجوز عندكم أن يستحق المكلف عشرة أجزاء من الثواب- فيعطى عشرين جزءا منه- أ ليس من مذهبكم أن التعظيم و التبجيل- لا يجوز من البارئ سبحانه أن يفعلهمافي الجنة- إلا على قدر الاستحقاق- و الثواب عندكم هو النفع المقارن للتعظيم و التبجيل- فيكف قلت إن مضاعفة الثواب عندنا جائزة- .
قلت مراده ع بمضاعفة الثواب هنا- زيادة غير مستحقة من النعيم و اللذة الجسمانية- خاصة في الجنة- فسمى تلك اللذة الجسمانية ثوابا لأنها جزء من الثواب- فأما اللذة العقلية فلا يجوز مضاعفتها- . قوله ع بما هو من المزيد أهله- أي بما هو أهله من المزيد- فقدم الجار و المجرور و موضعه نصب على الحال- و فيه دلالة على أن حال المجرور تتقدم عليه- كما قال الشاعر-
لئن كان برد الماء حران صاديا
إلي حبيبا إنها لحبيب
ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً- افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ- فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا- وَ يُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً- وَ لَا يُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ- . وَ أَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ- حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ وَ حَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْوَالِي- فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ- فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَ عِزّاً لِدِينِهِمْ- فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ- وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ- فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ- وَ أَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا- عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وَ قَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ- وَ اعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَ جَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ- فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ- وَ طُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ وَ يَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ- .
وَ إِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا- أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ- اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ- وَ ظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ وَ كَثُرَ الْإِدْغَالُ فِي الدِّينِ- وَ تَرَكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ فَعُمِلَ بِالْهَوَى- وَ عُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ وَ كَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ- فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ- وَ لَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ- فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ وَ تَعِزُّ الْأَشْرَارُ- وَ تَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ- . فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ وَ حُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ- فَلَيْسَ أَحَدٌ وَ إِنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَا اللَّهِ حِرْصُهُ- وَ طَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ- بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ- وَ لَكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ- النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ- وَ التَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ- وَ لَيْسَ امْرُؤٌ وَ إِنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ- وَ تَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ- بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ مِنْ حَقِّهِ- وَ لَا امْرُؤٌ وَ إِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ- وَ اقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ- بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ تتكافأ في وجوهها تتساوى- و هي حق الوالي على الرعية و حق الرعية على الوالي- . و فريضة قد روي بالنصب و بالرفع- فمن رفع فخبر مبتدإ محذوف- و من نصب فبإضمار فعل أو على الحال- . و جرت على أذلالها السنن- بفتح الهمزة أي على مجاريها و طرقها- . و أجحف الوالي برعيته ظلمهم- . و الإدغال في الدين الفساد- .
و محاج السنن جمع محجة و هي جادة الطريق- . قوله و كثرت علل النفوس أي تعللها بالباطل- و من كلام الحجاج إياكم و علل النفوس- فإنها أدوى لكم من علل الأجساد- . و اقتحمته العيون احتقرته و ازدرته- قال ابن دريد-و منه ما تقتحم العين فإن ذقت جناه ساغ عذبا في اللها- . و مثل قوله ع- و ليس امرؤ و إن عظمت في الحق منزلته- قول زيد بن علي ع لهشام بن عبد الملك- إنه ليس أحد و إن عظمت منزلته بفوق أن يذكر بالله- و يحذر من سطوته- و ليس أحد و إن صغر بدون أن يذكر بالله- و يخوف من نقمته- . و مثل قوله ع و إذا غلبت الرعية واليها- قول الحكماء إذا علا صوت بعض الرعية على الملك- فالملك مخلوع- فإن قال نعم فقال أحد من الرعية لا- فالملك مقتول
فصل فيما ورد من الآثار فيما يصلح الملك
و قد جاء في وجوب الطاعة لأولي الأمر الكثير الواسع- قال الله سبحانه- أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وروى عبد الله بن عمر عن رسول الله ص السمع و الطاعة على المرءالمسلم فيما أحب و كره- ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بها فلا سمع و لا طاعة
وعنه ص إن أمر عليكم عبد أسود مجدع فاسمعوا له و أطيعواومن كلام علي ع إن الله جعل الطاعة غنيمة الأكياس عند تفريط الفجرة
– .
بعث سعد بن أبي وقاص جرير بن عبد الله البجلي- من العراق إلى عمر بن الخطاب بالمدينة- فقال له عمر كيف تركت الناس- قال تركتهم كقداح الجعبة منها الأعصل الطائش- و منها القائم الرائش قال فكيف سعد لهم- قال هو ثقافها الذي يقيم أودها و يغمز عصلها- قال فكيف طاعتهم قال يصلون الصلاة لأوقاتها- و يؤدون الطاعة إلى ولاتها- قال الله أكبر إذا أقيمت الصلاة أديت الزكاة- و إذا كانت الطاعة كانت الجماعة- . و من كلام أبرويز الملك- أطع من فوقك يطعك من دونك- .
و من كلام الحكماء قلوب الرعية خزائن واليها- فما أودعه فيها وجده- . و كان يقال صنفان متباغضان متنافيان- السلطان و الرعية و هما مع ذلك متلازمان- إن أصلح أحدهما صلح الآخر و إن فسد فسد الآخر- . و كان يقال- محل الملك من رعيته محل الروح من الجسد- و محل الرعية منه محل الجسد من الروح- فالروح تألم بألم كل عضو من أعضاء البدن- و ليس كل واحد من الأعضاء يألم بألم غيره- و فساد الروح فساد جميع البدن- و قد يفسد بعض البدن و غيره من سائر البدن صحيح- .
و كان يقال ظلم الرعية استجلاب البلية- . و كان يقال العجب ممن استفسد رعيته- و هو يعلم أن عزه بطاعتهم- . و كان يقال موت الملك الجائر خصب شامل- . و كان يقال لا قحط أشد من جور السلطان- . و كان يقال قد تعامل الرعية المشمئزة بالرفق- فتزول أحقادها و يذل قيادها- و قد تعامل بالخرق فتكاشف بما غيبت- و تقدم على ما عيبت حتى يعود نفاقها شقاقا- و رذاذها سيلا بعاقا- ثم إن غلبت و قهرت فهو الدمار- و إن غلبت و قهرت لم يكن يغلبها افتخار- و لم يدرك بقهرها ثأر و كان يقال الرعية و إن كانت ثمارا مجتناه- و ذخائر مقتناه و سيوفا منتضاه- و أحراسا مرتضاه- فإن لها نفارا كنفار الوحوش- و طغيانا كطغيان السيول- و متى قدرت أن تقول قدرت على أن تصول- .
و كان يقال أيدي الرعية تبع ألسنتها- فلن يملك الملك ألسنتها حتى يملك جسومها- و لن يملك جسومها حتى يملك قلوبها فتحبه- و لن تحبه حتى يعدل عليها في أحكامه عدلا- يتساوى فيه الخاصة و العامة- و حتى يخفف عنها المؤن و الكلف- و حتى يعفيها من رفع أوضاعها و أراذلها- عليها- و هذه الثالثة تحقد على الملك العلية من الرعية- و تطمع السفلة في الرتب السنية- .
و كان يقال الرعية ثلاثة أصناف- صنف فضلاء مرتاضون بحكم الرئاسة و السياسة- يعلمون فضيلة الملك و عظيم غنائه- و يرثون له من ثقل أعبائه- فهؤلاء يحصل الملك موداتهم بالبشر عند اللقاء- و يلقى أحاديثهم بحسن الإصغاء- و صنف فيهم خير و شر ظاهران- فصلاحهم يكتسب من معاملتهم بالترغيب و الترهيب- و صنف من السفلة الرعاع أتباعلكل داع- لا يمتحنون في أقوالهم و أعمالهم بنقد- و لا يرجعون في الموالاة إلى عقد- .
و كان يقال ترك المعاقبة للسفلة على صغار الجرائم- تدعوهم إلى ارتكاب الكبائر العظائم- أ لا ترى أول نشور المرأة كلمة سومحت بها- و أول حران الدابة حيدة سوعدت عليها- . و يقال إن عثمان قال يوما لجلسائه- و هو محصور في الفتنة- وددت أن رجلا صدوقا أخبرني عن نفسي و عن هؤلاء- فقام إليه فتى فقال إني أخبرك- تطأطأت لهم فركبوك- و ما جراهم على ظلمك إلا إفراط حلمك- قال صدقت فهل تعلم ما يشب نيران الفتن- قال نعم سألت عن ذلك شيخا من تنوخ كان باقعة- قد نقب في الأرض و علم علما جما- فقال الفتنة يثيرها أمران- أثرة تضغن على الملك الخاصة- و حلم يجزئ عليه العامة- قال فهل سألته عما يخمدها- قال نعم زعم أن الذي يخمدها في ابتدائها- استقالة العثرة و تعميم الخاصة بالأثرة- فإذا استحكمت الفتنة أخمدها الصبر- قال عثمان صدقت- و إني لصابر حتى يحكم الله بيننا و هو خير الحاكمين- و يقال إن يزدجرد بن بهرام سأل حكيما- ما صلاح الملك قال الرفق بالرعية- و أخذ الحق منها بغير عنف- و التودد إليها بالعدل- و أمن السبل و إنصاف المظلوم- قال فما صلاح الملك قال وزراؤه إذا صلحوا صلح- قال فما الذي يثير الفتن قال ضغائن يظهرها جرأة عامه- و استخفاف خاصة و انبساط الألسن بضمائر القلوب- و إشفاق موسر و أمن معسر- و غفلة مرزوق و يقظة محروم- قال و ما يسكنها قال أخذ العدة لما يخاف- و إيثار الجد حين يلتذ الهزل- و العمل بالحزم و ادراع الصبر و الرضا بالقضاء- . و كان يقال خير الملوك من أشرب قلوب رعيته محبته- كما أشعرها هيبته- و لن ينال ذلك منها حتى تظفر منه بخمسه أشياء- إكرام شريفها و رحمة ضعيفها- و إغاثة لهيفهاو كف عدوان عدوها- و تأمين سبل رواحها و غدوها- فمتى أعدمها شيئا من ذلك- فقد أحقدها بقدر ما أفقدها- . و كان يقال الأسباب التي تجر الهلك إلى الملك ثلاثة- أحدها من جهة الملك- و هو أن تتأمر شهواته على عقله- فتستهويه نشوات الشهوات- فلا تسنح له لذة إلا اقتنصها- و لا راحة إلا افترصها- . و الثاني من جهة الوزراء- و هو تحاسدهم المقتضي تعارض الآراء- فلا يسبق أحدهم إلى حق- إلا كويد و عورض و عوند- . و الثالث من جهة الجند المؤهلين لحراسة الملك و الدين- و توهين المعاندين و هو نكولهم عن الجلاد- و تضجيعهم في المناصحة و الجهاد- و هم صنفان صنف وسع الملك عليهم فأبطرهم الإتراف- و ضنوا بنفوسهم عن التعريض للإتلاف- و صنف قدر عليهم الأرزاق- فاضطغنوا الأحقاد و استشعروا النفاق
الآثار الواردة في العدل و الإنصاف
قوله ع أو أجحف الوالي برعيته- قد جاء من نظائره الكثير جدا- و قد ذكرنا فيما تقدم نكتا حسنة في مدح العدل و الإنصاف- و ذم الظلم و الإجحاف- وقال النبي ص زين الله السماء بثلاثة الشمس و القمر و الكواكب- و زين الأرض بثلاثة العلماء و المطر و السلطان العادل
– . و كان يقال إذا لم يعمر الملك ملكه بإنصاف الرعية- خرب ملكه بعصيان الرعية- . و قيل لأنوشروان أي الجنن أوقى- قال الدين قيل فأي العدد أقوى قال العدل- .
وقع جعفر بن يحيى إلى عامل من عماله- كثر شاكوك و قل حامدوك- فإما عدلت و إما اعتزلت- . وجد في خزانة بعض الأكاسرة سفط- ففتح فوجد فيه حب الرمان- كل حبة كالنواة الكبيرة من نوى المشمش- و في السفط رقعة فيها- هذا حب رمان عملنا في خراجه بالعدل- . جاء رجل من مصر إلى عمر بن الخطاب متظلما- فقال يا أمير المؤمنين هذا مكان العائذ بك- قال له عذت بمعاذ ما شأنك- قال سابقت ولد عمرو بن العاص بمصر فسبقته- فجعل يعنفني بسوطه و يقول أنا ابن الأكرمين- و بلغ أباه ذلك فحبسني خشية أن أقدم عليك- فكتب إلى عمرو- إذا أتاك كتابي هذا فاشهد الموسم أنت و ابنك- فلما قدم عمرو و ابنه دفع الدرة إلى المصري- و قال اضربه كما ضربك فجعل يضربه و عمر يقول- اضرب ابن الأمير اضرب ابن الأمير يرددها- حتى قال يا أمير المؤمنين قد استقدت منه- فقال و أشار إلى عمرو ضعها على صلعته- فقال المصري يا أمير المؤمنين إنما أضرب من ضربني- فقال إنما ضربك بقوة أبيه و سلطانه- فاضربه إن شئت فو الله لو فعلت لما منعك أحد منه- حتى تكون أنت الذي تتبرع بالكف عنه- ثم قال يا ابن العاص- متى تعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرار- .
خطب الإسكندر جنده- فقال لهم بالرومية كلاما تفسيره- يا عباد الله إنما إلهكم الله الذي في السماء- الذي نصرنا بعد حين- الذي يسقيكم الغيث عند الحاجة- و إليه مفزعكم عند الكرب- و الله لا يبلغني إن الله أحب شيئا إلا أحببته- و عملت به إلى يوم أجلي- و لا يبلغني أنه أبغض شيئا إلا أبغضته- و هجرته إلى يوم أجلي- و قد أنبئت أن الله يحب العدل في عباده- و يبغض الجور- فويل للظالم من سوطي و سيفي- و من ظهر منهالعدل من عمالي فليتكئ في مجلسي كيف شاء- و ليتمن على ما شاء- فلن تخطئه أمنيته و الله المجازي كلا بعمله- . قال رجل لسليمان بن عبد الملك و هو جالس للمظالم- يا أمير المؤمنين أ لم تسمع قول الله تعالى- فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ- قال ما خطبك قال وكيلك اغتصبني ضيعتي- و ضمها إلى ضيعتك الفلانية- قال فإن ضيعتي لك و ضيعتك مردودة إليك- ثم كتب إلى الوكيل بذلك و بصرفه عن عمله- .
و رقى إلى كسرى قباذ- أن في بطانة الملك قوما قد فسدت نياتهم- و خبثت ضمائرهم- لأن أحكام الملك جرت على بعضهم لبعضهم- فوقع في الجواب أنا أملك الأجساد لا النيات- و أحكم بالعدل لا بالهوى- و أفحص عن الأعمال لا عن السرائر- . و تظلم أهل الكوفة إلى المأمون من واليهم- فقال ما علمت في عمالي أعدل و لا أقوم بأمر الرعية- و لا أعود بالرفق منه- فقال له منهم واحد- فلا أحد أولى منك يا أمير المؤمنين بالعدل و الإنصاف- و إذا كان بهذه الصفة- فمن عدل أمير المؤمنين أن يوليه بلدا بلدا- حتى يلحق أهل كل بلد من عدله- مثل ما لحقنا منه- و يأخذوا بقسطهم منه كما أخذ منه سواهم- و إذا فعل أمير المؤمنين ذلك- لم يصب الكوفة منه أكثر من ثلاث سنين- فضحك و عزله- . كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز- أما بعد فإن قبلنا قوما لا يؤدون الخراج- إلا أن يمسهم نصب من العذاب- فاكتب إلى أمير المؤمنين برأيك- فكتب أما بعد فالعجب لك كل العجب- تكتب إلي تستأذنني في عذاب البشر- كأن إذني لك جنة من عذاب الله- أو كان رضاي ينجيك من سخط الله- فمن أعطاك ما عليه عفوافخذ منه- و من أبى فاستحلفه و كله إلى الله- فلأن يلقوا الله بجرائمهم- أحب إلي من أن ألقاه بعذابهم- .
فضيل بن عياض- ما ينبغي أن تتكلم بفيك كله- أ تدري من كان يتكلم بفيه كله- عمر بن الخطاب كان يعدل في رعيته و يجور على نفسه- و يطعمهم الطيب و يأكل الغليظ- و يكسوهم اللين و يلبس الخشن- و يعطيهم الحق و يزيدهم و يمنع ولده و أهله- أعطى رجلا عطاءه أربعة آلاف درهم ثم زاده ألفا- فقيل له أ لا تزيد ابنك عبد الله كما تزيد هذا- فقال إن هذا ثبت أبوه يوم أحد- و إن عبد الله فر أبوه و لم يثبت- . و كان يقال لا يكون العمران- إلا حيث يعدل السلطان- . و كان يقال العدل حصن وثيق في رأس نيق- لا يحطمه سيل و لا يهدمه منجنيق- . وقع المأمون إلى عامل كثر التظلم منه- أنصف من وليت أمرهم- و إلا أنصفهم منك من ولي أمرك- . بعض السلف العدل ميزان الله و الجور مكيال الشيطان
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 11