203 و من كلام له ع- و قد سأله سائل عن أحاديث البدع- و عما في أيدي الناس من اختلاف الخبر
– فقال ع- : إِنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَ بَاطِلًا- وَ صِدْقاً وَ كَذِباً وَ نَاسِخاً وَ مَنْسُوخاً- وَ عَامّاً وَ خَاصّاً- وَ مُحْكَماً وَ مُتَشَابِهاً وَ حِفْظاً وَ وَهَماً- وَ قَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص عَلَى عَهْدِهِ- حَتَّى قَامَ خَطِيباً فَقَالَ- مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ- وَ إِنَّمَا أَتَاكَ بِالْحَدِيثِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ- رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِيمَانِ مُتَصَنِّعٌ بِالْإِسْلَامِ- لَا يَتَأَثَّمُ وَ لَا يَتَحَرَّجُ- يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص مُتَعَمِّداً- فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ- وَ لَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ- وَ لَكِنَّهُمْ قَالُوا صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ص- رَآهُ وَ سَمِعَ مِنْهُ وَ لَقِفَ عَنْهُ فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ- وَ قَدْ أَخْبَرَكَ اللَّهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ- وَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ- فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ- وَ الدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ وَ الْبُهْتَانِ- فَوَلَّوْهُمُ الْأَعْمَالَ وَ جَعَلُوهُمْ حُكَّاماً عَلَى رِقَابِ النَّاسِ- فَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا وَ إِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَ الدُّنْيَا- إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ فَهَذَا أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ- وَ رَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئاً لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ- فَوَهِمَ فِيهِ وَ لَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِباً فَهُوَ فِي يَدَيْهِ- وَ يَرْوِيهِ وَ يَعْمَلُ بِهِ-
وَ يَقُولُ أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص- فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ- وَ لَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَرَفَضَهُ- وَ رَجُلٌ ثَالِثٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص شَيْئاً- يَأْمُرُ بِهِ ثُمَّ إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ- أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ- فَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ وَ لَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ- فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ- وَ لَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ- وَ آخَرُ رَابِعٌ- لَمْ يَكْذِبْ عَلَى اللَّهِ وَ لَا عَلَى رَسُولِهِ- مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ خَوْفاً مِنَ اللَّهِ وَ تَعْظِيماً لِرَسُولِ اللَّهِ ص- وَ لَمْ يَهِمْ بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ- فَجَاءَ بِهِ عَلَى سَمْعِهِ- لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ- فَهُوَ حَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ- وَ حَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ- وَ عَرَفَ الْخَاصَّ وَ الْعَامَّ وَ الْمُحْكَمَ وَ الْمُتَشَابِهَ- فَوَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ- وَ قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص الْكَلَامُ- لَهُ وَجْهَانِ فَكَلَامٌ خَاصٌّ وَ كَلَامٌ عَامٌّ- فَيَسْمَعُهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَا عَنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ- وَ لَا مَا عَنَى رَسُولُ اللَّهِ ص- فَيَحْمِلُهُ السَّامِعُ وَ يُوَجِّهُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِمَعْنَاهُ- وَ مَا قَصَدَ بِهِ وَ مَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ- وَ لَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ص مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ وَ يَسْتَفْهِمُهُ- حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِيءَ الْأَعْرَابِيُّ وَ الطَّارِئُ- فَيَسْأَلَهُ ع حَتَّى يَسْمَعُوا- وَ كَانَ لَا يَمُرُّ بِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَ حَفِظْتُهُ- فَهَذِهِ وُجُوهُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي اخْتِلَافِهِمْ وَ عِلَلِهِمْ فِي رِوَايَاتِهِمْ
الكلام في تفسير الألفاظ الأصولية- و هي العام و الخاص و الناسخ و المنسوخ- و الصدق و الكذب و المحكم و المتشابه- موكول إلى فن أصول الفقه- و قد ذكرناه فيما أمليناه من الكتب الأصولية- و الإطالة بشرح ذلك في هذا الموضع مستهجنة- . قوله ع و حفظا و وهما الهاء مفتوحة- و هي مصدر وهمت بالكسر- أوهم أي غلطت و سهوت- و قد روي وهما بالتسكين و هو مصدر وهمت بالفتح- أوهم إذا ذهب وهمك إلى شيء- و أنت تريد غيره و المعنى متقارب- .
وقول النبي ص فليتبوأ مقعده من النار- كلام صيغته الأمر و معناه الخبر- كقوله تعالى- قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا- و تبوأت المنزل نزلته و بوأته منزلا أنزلته فيه- . و التأثم الكف عن موجب الإثم- و التحرج مثله و أصله الضيق كأنه يضيق على نفسه- . و لقف عنه تناول عنه- . و جنب عنه أخذ عنه جانبا- . و إن في قوله حتى إن كانوا ليحبون- مخففة من الثقيلة و لذلك جاءت اللام في الخبر- . و الطارئ بالهمز الطالع عليهم طرأ أي طلع- و قد روي عللهم بالرفع عطفا على وجوه- و روي بالجر عطفا على اختلافهم
ذكر بعض أحوال المنافقين بعد وفاة محمد ع
و اعلم أن هذا التقسيم صحيح- و قد كان في أيام الرسول ص منافقون- و بقوا بعده- و ليس يمكن أن يقال إن النفاق مات بموته- و السبب في استتار حالهم بعده- أنه ص كان لا يزال بذكرهم بما ينزل عليه من القرآن- فإنه مشحون بذكرهم- أ لا ترى أن أكثر ما نزل بالمدينة من القرآن- مملوء بذكر المنافقين- فكان السبب في انتشار ذكرهم- و أحوالهم و حركاتهم هو القرآن- فلما انقطع الوحي بموته ص- لم يبق من ينعى عليهم سقطاتهم و يوبخهم على أعمالهم- و يأمر بالحذر منهم و يجاهرهم تارة و يجاملهم تارة- و صار المتولي للأمر بعده- يحمل الناس كلهم على كاهل المجاملة- و يعاملهم بالظاهر- و هو الواجب في حكم الشرع و السياسة الدنيوية- بخلاف حال الرسول ص- فإنه كان تكليفه معهم غير هذا التكليف- أ لا ترى أنه قيل له- وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً- فهذا يدل على أنه كان يعرفهم بأعيانهم- و إلا كان النهي له عن الصلاة عليهم تكليف ما لا يطاق- و الوالي بعده لا يعرفهم بأعيانهم- فليس مخاطبا بما خوطب به ص في أمرهم- و لسكوت الخلفاء عنهم بعده خمل ذكرهم- فكان قصارى أمر المنافق أن يسر ما في قلبه- و يعامل المسلمين بظاهره و يعاملونه بحسب ذلك- ثم فتحت عليهم البلاد و كثرت الغنائم- فاشتغلوا بها عن الحركات- التي كانوا يعتمدونها أيام رسول الله- و بعثهم الخلفاء مع الأمراء إلى بلاد فارس و الروم- فألهتهم الدنيا عن الأمور- التي كانت تنقم منهم في حياة رسول الله ص- و منهم من استقام اعتقاده و خلصت نيته- لما رأوا الفتوح و إلقاء الدنيا- أفلاذ كبدها من الأموال العظيمة- و الكنوز الجليلة إليهم- فقالوا لو لم يكن هذا الدين حقا- لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه- و بالجملة لما تركوا تركوا- و حيث سكت عنهم سكتوا عن الإسلام و أهله- إلا في دسيسة خفية يعملونها نحو الكذب- الذي أشار إليه أمير المؤمنين ع- فإنه خالط الحديث كذب كثير- صدر عن قوم غير صحيحي العقيدة- قصدوا به الإضلال و تخبيط القلوب و العقائد- و قصد به بعضهم التنويه بذكر قوم- كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنيوي- و قد قيل إنه افتعل في أيام معاوية خاصة- حديث كثير على هذا الوجه- و لم يسكت المحدثون الراسخون في علم الحديث عن هذا- بل ذكروا كثيرا من هذه الأحاديث الموضوعة- و بينوا وضعها و أن رواتها غير موثوق بهم- إلا أن المحدثين إنما يطعنون فيما دون طبقة الصحابة- و لا يتجاسرون في الطعن على أحد من الصحابة- لأن عليه لفظ الصحبة- على أنهم قد طعنوا في قوم لهم صحبة كبسر بن أرطاة و غيره- .
فإن قلت من هم أئمة الضلالة- الذين يتقرب إليهم المنافقون- الذين رأوا رسول الله ص و صحبوه للزور و البهتان- و هل هذا إلا تصريح بما تذكره الإمامية و تعتقده- . قلت ليس الأمر كما ظننت و ظنوا- و إنما يعني معاوية و عمرو بن العاص- و من شايعهما على الضلال- كالخبر الذي رواه من في حق معاوية- اللهم قه العذاب و الحساب و علمه الكتاب- و كرواية عمرو بن العاص تقربا إلى قلب معاوية- إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء- إنما وليي الله و صالح المؤمنين- و كرواية قوم في أيام معاوية- أخبارا كثيرة من فضائل عثمان- تقربا إلى معاوية بها- و لسنا نجحد فضل عثمان و سابقته- و لكنا نعلم أن بعض الأخبار الواردة فيه موضوع- كخبر عمرو بن مرة فيه و هو مشهور- و عمر بن مرة ممن له صحبة و هو شامي
ذكر بعض ما مني به آل البيت من الأذى و الاضطهاد
و ليس يجب من قولنا- إن بعض الأخبار الواردة في حق شخص فاضل مفتعلة- أن تكون قادحة في فضل ذلك الفاضل- فإنا مع اعتقادنا أن عليا أفضل الناس- نعتقد أن بعض الأخبار الواردة في فضائله مفتعل و مختلق- . و قد رويأن أبا جعفر محمد بن علي الباقر ع قال لبعض أصحابه يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيانا و تظاهرهم علينا- و ما لقي شيعتنا و محبونا من الناس- إن رسول الله ص قبض- و قد أخبر أنا أولى الناس بالناس- فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه- و احتجت على الأنصار بحقنا و حجتنا- ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا- فنكثت بيعتنا و نصبت الحرب لنا- و لم يزل صاحب الأمر في صعود كئود حتى قتل- فبويع الحسن ابنه و عوهد ثم غدر به و أسلم- و وثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه- و نهبت عسكره و عولجت خلاليل أمهات أولاده- فوادع معاوية و حقن دمه و دماء أهل بيته- و هم قليل حق قليل-
ثم بايع الحسين ع من أهل العراق عشرون ألفا ثم غدروا به- و خرجوا عليه و بيعته في أعناقهم و قتلوه- ثم لم نزل أهل البيت نستذل و نستضام و نقصى و نمتهن- و نحرم و نقتل و نخاف- و لا نأمن على دمائنا و دماء أوليائنا- و وجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم و جحودهم موضعا- يتقربون به إلى أوليائهم- و قضاة السوء و عمال السوء في كل بلدة- فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة- و رووا عنا ما لم نقله و ما لم نفعله- ليبغضونا إلى الناس- و كان عظم ذلك و كبره زمن معاوية بعد موت الحسن ع- فقتلت شيعتنا بكل بلدة- و قطعت الأيدي و الأرجل على الظنة- و كان من يذكر بحبنا و الانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله- أو هدمت داره- ثم لم يزل البلاء يشتد و يزداد-إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين ع- ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة- و أخذهم بكل ظنة و تهمة- حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر- أحب إليه من أن يقال شيعة علي- و حتى صار الرجل الذي يذكر بالخير- و لعله يكون ورعا صدوقا- يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة- من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة- و لم يخلق الله تعالى شيئا منها- و لا كانت و لا وقعت و هو يحسب أنها حق- لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب و لا بقلة ورع- .
و روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني- في كتاب الأحداث- قال كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة- أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب و أهل بيته- فقامت الخطباء في كل كورة و على كل منبر- يلعنون عليا و يبرءون منه و يقعون فيه و في أهل بيته- و كان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة- لكثرة من بها من شيعة علي ع- فاستعمل عليهم زياد بن سمية و ضم إليه البصرة- فكان يتتبع الشيعة و هو بهم عارف- لأنه كان منهم أيام علي ع- فقتلهم تحت كل حجر و مدر و أخافهم- و قطع الأيدي و الأرجل و سمل العيون- و صلبهم على جذوع النخل- و طرفهم و شردهم عن العراق- فلم يبق بها معروف منهم- و كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق- ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي و أهل بيته شهادة- و كتب إليهم- أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان و محبيه و أهل ولايته- و الذين يروون فضائله و مناقبه- فادنوا مجالسهم و قربوهم و أكرموهم- و اكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم- و اسمه و اسم أبيه و عشيرته- .
ففعلوا ذلك- حتى أكثروا في فضائل عثمان و مناقبه- لما كان يبعثه إليهم معاوية- من الصلات و الكساء و الحباء و القطائع- و يفيضه في العرب منهم و الموالي- فكثر ذلك في كل مصر- و تنافسوا في المنازل و الدنيا- فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملا منعمال معاوية- فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة- إلا كتب اسمه و قربه و شفعه فلبثوا بذلك حينا- .
ثم كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر- و فشا في كل مصر و في كل وجه و ناحية- فإذا جاءكم كتابي هذا- فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة- و الخلفاء الأولين- و لا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب- إلا و تأتوني بمناقض له في الصحابة- فإن هذا أحب إلى و أقر لعيني- و أدحض لحجة أبي تراب و شيعته- و أشد عليهم من مناقب عثمان و فضله- . فقرئت كتبه على الناس- فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة- لا حقيقة لها- وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى- حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر- و ألقي إلى معلمي الكتاتيب- فعلموا صبيانهم و غلمانهم من ذلك الكثير الواسع- حتى رووه و تعلموه كما يتعلمون القرآن- و حتى علموه بناتهم و نساءهم و خدمهم و حشمهم- فلبثوا بذلك ما شاء الله- .
ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان- انظروا من قامت عليه البينة- أنه يحب عليا و أهل بيته فامحوه من الديوان- و أسقطوا عطاءه و رزقه- و شفع ذلك بنسخة أخرى- من اتهمتموه بمولاه هؤلاء القوم- فنكلوا به و أهدموا داره- فلم يكن البلاء أشد و لا أكثر منه بالعراق- و لا سيما بالكوفة- حتى أن الرجل من شيعة علي ع ليأتيه من يثق به- فيدخل بيته فيلقي إليه سره- و يخاف من خادمه و مملوكه- و لا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه- فظهر حديث كثير موضوع و بهتان منتشر- و مضى على ذلك الفقهاء و القضاة و الولاة- و كان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون- و المستضعفون الذين يظهرون الخشوع و النسك- فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم- و يقربوا مجالسهم- و يصيبوا به الأموال و الضياعو المنازل- حتى انتقلت تلك الأخبار و الأحاديث- إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب و البهتان- فقبلوها و رووها و هم يظنون أنها حق- و لو علموا أنها باطلة لما رووها و لا تدينوا بها- . فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي ع- فازداد البلاء و الفتنة- فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا و هو خائف على دمه- أو طريد في الأرض- .
ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين ع- و ولي عبد الملك بن مروان فاشتد على الشيعة- و ولى عليهم الحجاج بن يوسف- فتقرب إليه أهل النسك و الصلاح و الدين- ببغض علي و موالاة أعدائه- و موالاة من يدعي من الناس أنهم أيضا أعداؤه- فأكثروا في الرواية في فضلهم و سوابقهم و مناقبهم- و أكثروا من الغض من علي ع و عيبه- و الطعن فيه و الشنئان له- حتى أن إنسانا وقف للحجاج- و يقال إنه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب فصاح به- أيها الأمير إن أهلي عقوني فسموني عليا و إني فقير بائس- و أنا إلى صلة الأمير محتاج- فتضاحك له الحجاج- و قال للطف ما توسلت به قد وليتك موضع كذا- . و قد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه- و هو من أكابر المحدثين و أعلامهم في تاريخه- ما يناسب هذا الخبر- و قال إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة- افتعلت في أيام بني أمية- تقربا إليهم بما يظنون- أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم- .
قلت- و لا يلزم من هذا أن يكون علي ع يسوءه أن يذكر الصحابة- و المتقدمون عليه بالخير و الفضل- إلا أن معاوية و بني أمية- كانوا يبنون الأمر من هذا- على ما يظنونه في علي ع من أنه عدو من تقدم عليه- و لم يكن الأمر في الحقيقة كمايظنونه- و لكنه كان يرى أنه أفضل منهم- و أنهم استأثروا عليه بالخلافة من غير تفسيق منه لهم- و لا براءة منهم- .
فأما قوله ع و رجل سمع من رسول الله شيئا- و لم يحفظه على وجهه فوهم فيه فقد وقع ذلك- و قال أصحابنا في الخبر الذي رواه عبد الله بن عمر- أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه- إن ابن عباس لما روي له هذا الخبر- قال ذهل ابن عمر- إنما مر رسول الله ص على قبر يهودي- فقال إن أهله ليبكون عليه و إنه ليعذب- . و قالوا أيضا إن عائشة أنكرت ذلك- و قالت ذهل أبو عبد الرحمن كما ذهل في خبر قليب بدر-إنما قال ع إنهم ليبكون عليه- و إنه ليعذب بجرمه- .
قالوا و موضع غلطه في خبر القليب- أنهروى أن النبي ص وقف على قليب بدر- فقال هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا- ثم قال إنهم يسمعون ما أقول لهم- فأنكرت عائشة ذلك- و قالت إنما-قال إنهم يعلمون أن الذي كنت أقوله لهم هو الحق- و استشهد بقوله تعالى- إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى- . فأما الرجل الثالث- و هو الذي يسمع المنسوخ و لم يسمع الناسخ فقد وقع كثيرا- و كتب الحديث و الفقه مشحونة بذلك- كالذين أباحوا لحوم الحمر الأهلية لخبر رووه في ذلك- و لم يرووا الخبر الناسخ- .
و أما الرجل الرابع فهم العلماء الراسخون في العلم- . و أما قوله ع- و قد كان يكون من رسول الله ص الكلام له وجهان- فهذا داخل في القسم الثاني و غير خارج عنه- و لكنه كالنوع من الجنس- لأن الوهم و الغلط جنس تحته أنواع- . و اعلم- أن أمير المؤمنين ع كان مخصوصا من دون الصحابة- رضوان الله عليهم- بخلوات كان يخلو بها مع رسول الله ص- لا يطلع أحد من الناس على ما يدور بينهما- و كان كثير السؤال للنبي ص عن معاني القرآن- و عن معاني كلامه ص- و إذا لم يسأل ابتدأه النبي ص بالتعليم و التثقيف- و لم يكن أحد من أصحاب النبي ص كذلك بل كانوا أقساما- فمنهم من يهابه أن يسأله- و هم الذين يحبون أن يجيء الأعرابي أو الطارئ- فيسأله و هم يسمعون- و منهم من كان بليدا بعيد الفهم- قليل الهمة في النظر و البحث- و منهم من كان مشغولا عن طلب العلم و فهم المعاني- إما بعبادة أو دنيا- و منهم المقلد يرى أن فرضه السكوت و ترك السؤال- و منهم المبغض الشانئ- الذي ليس للدين عنده من الموقع- ما يضيع وقته و زمانه بالسؤال عن دقائقه و غوامضه- و انضاف إلى الأمر الخاص بعلي ع ذكاؤه و فطنته- و طهارة طينته و إشراق نفسه و ضوءها- و إذا كان المحل قابلا متهيئا- كان الفاعل المؤثر موجودا و الموانع مرتفعة- حصل الأثر على أتم ما يمكن- فلذلك كان علي ع- كما قال الحسن البصري رباني هذه الأمة و ذا فضلها- و لذا تسميه الفلاسفة إمام الأئمة و حكيم العرب
فصل فيما وضع الشيعة و البكرية من الأحاديث
و اعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل- كان من جهة الشيعة- فإنهم وضعوافي مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم- حملهم على وضعها عداوة خصومهم- نحو حديث السطل و حديث الرمانة- و حديث غزوة البئر التي كان فيها الشياطين- و تعرف كما زعموا بذات العلم- و حديث غسل سلمان الفارسي و طي الأرض- و حديث الجمجمة و نحو ذلك- فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة- وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث- نحو لو كنت متخذا خليلا- فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء و نحو سد الأبواب- فإنه كان لعلي ع فقلبته البكرية إلى أبي بكر- و نحو ايتوني بدواة و بياض- أكتب فيه لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه اثنان- ثم قال يأبى الله تعالى و المسلمون إلا أبا بكر- فإنهم وضعوه في مقابلةالحديث المروي عنه في مرضه ايتوني بدواة و بياض أكتب لكم ما لا تضلون بعده أبدا- فاختلفوا عنده-
و قال قوم منهم لقد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله- و نحو حديث أنا راض عنك فهل أنت عني راض و نحو ذلك- فلما رأت الشيعة ما قد وضعت البكرية- أوسعوا في وضع الأحاديث- فوضعوا حديث الطوق الحديد الذي زعموا- أنه فتله في عنق خالد- و حديث اللوح الذي زعموا- أنه كان في غدائر الحنفية أم محمد- و حديث لا يفعلن خالد ما آمر به- و حديث الصحيفة التي علقت عام الفتح بالكعبة- و حديث الشيخ الذي صعد المنبر يوم بويع أبو بكر- فسبق الناس إلى بيعته- و أحاديث مكذوبة كثيرة- تقتضي نفاق قوم من أكابر الصحابة- و التابعين الأولين و كفرهم- و علي أدون الطبقات فيهم- فقابلتهم البكرية بمطاعن كثيرة في علي و في ولديه- و نسبوه تارة إلى ضعف العقل- و تارة إلى ضعف السياسة- و تارة إلى حب الدنيا و الحرص عليها- و لقد كان الفريقان في غنية عما اكتسباه و اجترحاه- و لقد كان في فضائل علي ع الثابتة الصحيحة- و فضائل أبي بكر المحققةالمعلومة- ما يغني عن تكلف العصبية لهما- فإن العصبية لهما- أخرجت الفريقين من ذكر الفضائل إلى ذكر الرذائل- و من تعديد المحاسن إلى تعديد المساوئ و المقابح- و نسأل الله تعالى- أن يعصمنا من الميل إلى الهوى و حب العصبية- و أن يجرينا على ما عودنا من حب الحق أين وجد و حيث كان- سخط ذلك من سخط و رضي به من رضي بمنه و لطفه
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 11