201 و من كلام له ع- قاله لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ أَمْرِي مَعَكُمْ عَلَى مَا أُحِبُّ- حَتَّى نَهِكَتْكُمُ الْحَرْبُ- وَ قَدْ وَ اللَّهِ أَخَذَتْ مِنْكُمْ وَ تَرَكَتْ- وَ هِيَ لِعَدُوِّكُمْ أَنْهَكُ- . لَقَدْ كُنْتُ أَمْسِ أَمِيراً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَأْمُوراً- وَ كُنْتُ أَمْسِ نَاهِياً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَنْهِيّاً- وَ قَدْ أَحْبَبْتُمُ الْبَقَاءَ وَ لَيْسَ لِي أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ نهكتكم بكسر الهاء أدنفتكم و أذابتكم- و يجوز فتح الهاء و قد نهك الرجل أي دنف و ضني فهو منهوك- و عليه نهكه المرض أي أثرة الحرب مؤنثة- . و قد أخذت منكم و تركت أي لم تستأصلكم- بل فيكم بعد بقية و هي لعدوكم أنهك- لأن القتل في أهل الشام كان أشد استحرارا- و الوهن فيهم أظهر- و لو لا فساد أهل العراق برفع المصاحف لاستؤصل الشام- و خلص الأشتر إلى معاوية فأخذه بعنقه- و لم يكن قد بقي من قوة الشام- إلا كحركة ذنب الوزغة عند قتلها يضطرب يمينا و شمالا- و لكن الأمور السماوية لا تغالب- .
فأما قوله كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا- فقد قدمنا شرح حالهم من قبل- و أن أهل العراق لما رفع عمرو بن العاص و من معه المصاحف- على وجه المكيدةحين أحس بالعطب- و علو كلمة أهل الحق- ألزموا أمير المؤمنين ع بوضع أوزار الحرب- و كف الأيدي عن القتال و كانوا في ذلك على أقسام- فمنهم من دخلت عليه الشبهة برفع المصاحف- و غلب على ظنه أن أهل الشام لم يفعلوا ذلك خدعة و حيلة- بل حقا و دعاء إلى الدين و موجب الكتاب- فرأى أن الاستسلام للحجة أولى من الإصرار على الحرب- .
و منهم من كان قد مل الحرب و آثر السلم- فلما رأى شبهة ما يسوغ التعلق بها- في رفض المحاربة و حب العافية أخلد إليهم- . و منهم من كان يبغض عليا ع بباطنه- و يطيعه بظاهره- كما يطيع كثير من الناس السلطان- في الظاهر و يبغضه بقلبه- فلما وجدوا طريقا إلى خذلانه و ترك نصرته- أسرعوا نحوها- فاجتمع جمهور عسكره عليه- و طالبوه بالكف و ترك القتال- فامتنع امتناع عالم بالمكيدة- و قال لهم إنها حيلة و خديعة- و إني أعرف بالقوم منكم- إنهم ليسوا بأصحاب قرآن و لا دين- قد صحبتهم و عرفتهم صغيرا و كبيرا- فعرفت منهم الإعراض عن الدين و الركون إلى الدنيا- فلا تراعوا برفع المصاحف و صمموا على الحرب- و قد ملكتموهم فلم يبق منهم إلا حشاشة ضعيفة- و ذماء قليل- فأبوا عليه و ألحوا و أصروا على القعود و الخذلان- و أمروه بالإنفاذ إلى المحاربين من أصحابه- و عليهم الأشتر أن يأمرهم بالرجوع- و تهددوه إن لم يفعل بإسلامه إلى معاوية- فأرسل إلى الأشتر يأمره بالرجوع و ترك الحرب- فأبى عليه فقال كيف أرجع و قد لاحت أمارات الظفر- فقولوا له ليمهلني ساعة واحدة- و لم يكن علم صورة الحال كيف قد وقعت- فلما عاد إليه الرسول بذلك- غضبوا و نفروا و شغبوا- و قالوا أنفذت إلى الأشتر سرا و باطنا- تأمره بالتصميم و تنهاه عن الكف- و إن لم تعده الساعة و إلا قتلناك كما قتلنا عثمان- فرجعت الرسل إلى الأشتر فقالوا له- أ تحب أن تظفر بمكانك و أمير المؤمنين قد سل عليهخمسون ألف سيف- فقال ما الخبر قال إن الجيش بأسره قد أحدق به- و هو قاعد بينهم على الأرض- تحته نطع و هو مطرق و البارقة تلمع على رأسه- يقولون لئن لم تعد الأشتر قتلناك- قال ويحكم فما سبب ذلك قالوا رفع المصاحف- قال و الله لقد ظننت حين رأيتها رفعت- أنها ستوقع فرقة و فتنة- .
ثم كر راجعا على عقبيه- فوجد أمير المؤمنين ع تحت الخطر- قد ردده أصحابه بين أمرين- إما أن يسلموه إلى معاوية أو يقتلوه- و لا ناصر له منهم إلا ولداه و ابن عمه- و نفر قليل لا يبلغون عشرة- فلما رآهم الأشتر سبهم و شتمهم- و قال ويحكم أ بعد الظفر و النصر- صب عليكم الخذلان و الفرقة- يا ضعاف الأحلام يا أشباه النساء- يا سفهاء العقول فشتموه و سبوه و قهروه- و قالوا المصاحف المصاحف و الرجوع إليها- لا نرى غير ذلك- فأجاب أمير المؤمنين ع إلى التحكيم- دفعا للمحذور الأعظم بارتكاب المحظور الأضعف- فلذلك قال كنت أميرا فأصبحت مأمورا- و كنت ناهيا فصرت منهيا- و قد سبق من شرح حال التحكيم- و ما جرى فيه ما يغني عن إعادته
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 11