195 و من كلام له ع
روي عنه: أَنَّهُ قَالَهُ عِنْدَ دَفْنِ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ فَاطِمَةَ ع- كَالْمُنَاجِي بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ص عِنْدَ قَبْرِهِ- السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي- وَ عَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ- وَ السَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ- قَلَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي وَ رَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي- إِلَّا أَنَّ فِي التَّأَسِّي لِي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ- وَ فَادِحِ مُصِيبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ- فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ- وَ فَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَ صَدْرِي نَفْسُكَ- فَإِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ- فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ وَ أُخِذَتِ الرَّهِينَةُ- أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ وَ أَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ- إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اللَّهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ- وَ سَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا- فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ وَ اسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ- هَذَا وَ لَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ وَ لَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ- وَ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا سَلَامَ مُوَدِّعٍ لَا قَالٍ وَ لَا سَئِمٍ- فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ- وَ إِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الصَّابِرِينَ أما قول الرضي رحمه الله عند دفن سيدة النساء- فلأنه قد تواتر الخبر عنه ص أنه قال فاطمة سيدة نساء العالمينإما هذا اللفظ بعينه أو لفظ يؤدي هذاالمعنى-روي أنه قال و قد رآها تبكي عند موته- أ لا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمةوروي أنه قال سادات نساء العالمين أربع- خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد- و آسية بنت مزاحم و مريم بنت عمران- .
قوله ع و سريعة اللحاق بك-جاء في الحديث أنه رآها تبكي عند موته فأسر إليها- أنت أسرع أهلي لحوقا بي فضحكت- . قوله عن صفيتك أجله ص عن أن يقول عن ابنتك- فقال صفيتك و هذا من لطيف عبارته و محاسن كنايته- يقول ع ضعف جلدي و صبري عن فراقها- لكني أتأسى بفراقي لك فأقول- كل عظيم بعد فراقك جلل- و كل خطب بعد موتك يسير- . ثم ذكر حاله معه وقت انتقاله ص إلى جوار ربه- فقال لقد وسدتك في ملحودة قبرك- أي في الجهة المشقوقة من قبرك- و اللحد الشق في جانب القبر- و جاء بضم اللام في لغة غير مشهورة- .
قال و فاضت بين نحري و صدري نفسك- يروى أنه ص قذف دما يسيرا وقت موته- و من قال بهذا القول زعم أن مرضه كان ذات الجنب- و أن القرحة التي كانت في الغشاء المستبطن للأضلاع- انفجرت في تلك الحال- و كانت فيها نفسه ص- و ذهب قوم إلى أن مرضه إنما كان الحمى و السرسام الحار- و أن أهل داره ظنوا أن به ذات الجنب- فلدوه و هو مغمى عليه- و كانت العرب تداوي باللدود من به ذات الجنب- فلما أفاق علم أنهم قد لدوه فقال- لم يكن الله ليسلطها علي لدوا كل من في الدار- فجعل بعضهم يلد بعضا- .
و احتج الذاهبون إلى أن مرضه كان ذات الجنب- بما روي من انتصابه و تعذر الاضطجاع و النوم عليه-قال سلمان الفارسي دخلت عليه صبيحة يوم قبل اليوم الذي مات فيه- فقال لي يا سلمان- أ لا تسأل عما كابدته الليلة من الألم و السهر أنا و علي- فقلت يا رسول الله أ لا أسهر الليلة معك بدله- فقال لا هو أحق بذلك منك- . و زعم آخرون- أن مرضه كان أثرا لأكلة السم التي أكلها ع- و احتجوابقوله ص ما زالت أكلة خيبر تعاودني- فهذا أوان قطعت أبهري- . و من لم يذهب إلى ذات الجنب فأولوا قول علي ع- فاضت بين نحري و صدري نفسك- فقالوا أراد بذلك آخر الأنفاس التي يخرجها الميت- و لا يستطيع إدخال الهواء إلى الرئة عوضا عنها- و لا بد لكل ميت من نفخة تكون آخر حركاته- . و يقول قوم إنها الروح و عبر علي ع عنها بالنفس- لما كانت العرب لا ترى بين الروح و النفس فرقا- . و اعلم أن الأخبار مختلفة في هذا المعنى- فقدروى كثير من المحدثين عن عائشة أنها قالت توفي رسول الله ص بين سحري و نحري- .
و روى كثير منهم هذا اللفظ عن علي ع أنه قال عن نفسه- وقال في رواية أخرى ففاضت نفسه في يدي فأمررتها على وجهي- .و الله أعلم بحقيقة هذه الحال- و لا يبعد عندي أن يصدق الخبران معا- بأن يكون رسول الله ص وقت الوفاة- مستندا إلى علي و عائشة جميعا- فقد وقع الاتفاق على أنه مات و هو حاضر لموته- و هو الذي كان يقلبه بعد موته- و هو الذي كان يعلله ليالي مرضه- فيجوز أن يكون مستندا إلى زوجته و ابن عمه- و مثل هذا لا يبعد وقوعه في زماننا هذا- فكيف في ذلك الزمان- الذي كان النساء فيه و الرجال مختلطين- لا يستتر البعض عن البعض- . فإن قلت فكيف تعمل بآية الحجاب- و ما صح من استتار أزواج رسول الله ص عن الناس بعد نزولها- .
قلت قد وقع اتفاق المحدثين كلهم- على أن العباس كان ملازما للرسول ص- أيام مرضه في بيت عائشة و هذا لا ينكره أحد- فعلى القاعدة التي كان العباس ملازمه ص- كان علي ع ملازمه- و ذلك يكون بأحد الأمرين- إما بأن نساءه لا يستترن من العباس و علي- لكونهما أهل الرجل و جزءا منه- أو لعل النساء كن يختمرن بأخمرتهن- و يخالطن الرجال فلا يرون وجوههن- و ما كانت عائشة وحدها في البيت عند موته- بل كان نساؤه كلهن في البيت- و كانت ابنته فاطمة عند رأسه ص- .
فأما حديث مرضه ص و وفاته فقد ذكرناه فيما تقدم- . قوله إنا لله إلى آخره أي عبيده- كما تقول هذا الشيء لزيد أي يملكه- . ثم عقب الاعتراف بالملكية بالإقرار بالرجعة و البعث- و هذه الكلمة تقال عند المصيبة- كما أدب الله تعالى خلقه و عباده- . و الوديعة و الرهينة عبارة عن فاطمة- و من هذا الموضع أخذ ابن ثوابة الكاتب قوله- عن قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون- لما حملت من مصر إلى المعتضد أحمد بنطلحة بن المتوكل- و قد وصلت الوديعة سالمة و الله المحمود- و كيف يوصي الناظر بنوره- أم كيف يحض القلب على حفظ سروره- . و أخذ الصابي هذه اللفظة أيضا- فكتب عن عز الدولة بختيار بن بويه- إلى عدة الدولة أبي تغلب بن حمدان- و قد نقل إليه ابنته قد وجهت الوديعة يا سيدي- و إنما تقلب من وطن إلى سكن و من مغرس إلى مغرس- و من مأوى بر و انعطاف إلى مثوى كرامة و ألطاف- .
فأما الرهينة فهي المرتهنة- يقال للمذكر هذا رهين عندي على كذا- و للأنثى هذه رهينة عندي على كذا- كأنها ع كانت عنده عوضا من رؤية رسول الله ص- كما تكون الرهينة عوضا عن الأمر الذي أخذت رهينة عليه- . ثم ذكر ع أن حزنه دائم- و أنه يسهر ليله و لا ينام إلى أن يلتحق برسول الله ص- و يجاوره في الدار الآخرة- و هذا من باب المبالغة- كما يبالغ الخطباء و الكتاب و الشعراء في المعاني- لأنه ع ما سهر منذ ماتت فاطمة- و دام سهره إلى أن قتل ع- و إنما سهر ليلة أو شهرا أو سنة- ثم استمر مريره و ارعوى رسنه- فأما الحزن فإنه لم يزل حزينا إذا ذكرت فاطمة- هكذا وردت الرواية عنه- . قوله ع و ستنبئك ابنتك أي ستعلمك- . فأحفها السؤال أي استقص في مسألتها- و استخبرها الحال أحفيت إحفاء في السؤال استقصيت- و كذلك في الحجاج و المنازعة قال الحارث بن حلزة-
إن إخواننا الأراقم يغلون
علينا في قيلهم إحفاء
و رجل حفي أي مستقص في السؤال- .و استخبرها الحال أي عن الحال فحذف الجار- كقولك اخترت الرجال زيدا أي من الرجال- أي سلها عما جرى بعدك من الاستبداد- بعقد الأمر دون مشاورتنا- و لا يدل هذا على وجود النص- لأنه يجوز أن تكون الشكوى و التألم من إطراح هم- و ترك إدخالهم في المشاورة- فإن ذلك مما تكرهه النفوس و تتألم منه- و هجا الشاعر قوما فقال-
و يقضى الأمر حين تغيب تيم
و لا يستأذنون و هم شهود
قوله هذا و لم يطل العهد و لم يخلق الذكر- أي لم ينس- . فإن قلت فما هذا الأمر الذي لم ينس و لم يخلق- إن لم يكن هناك نص- . قلت
قوله ص إني مخلف فيكم الثقلينوقوله اللهم أدر الحق معه حيث دار- و أمثال ذلك من النصوص الدالة- على تعظيمه و تبجيله و منزلته في الإسلام- فهو ع كان يريد أن يؤخر عقد البيعة- إلى أن يحضر و يستشار- و يقع الوفاق بينه و بينهم- على أن يكون العقد لواحد من المسلمين بموجبه- إما له أو لأبي بكر أو لغيرهما- و لم يكن ليليق أن يبرم الأمر و هو غير حاضر له- مع جلالته في الإسلام و عظيم أثره- و ما ورد في حقه من وجوب موالاته- و الرجوع إلى قوله و فعله- فهذا هو الذي كان ينقم ع- و منه كان يتألم و يطيل الشكوى و كان ذلك في موضعه- و ما أنكر إلا منكرا- فأما النص فإنه لم يذكره ع و لا احتج به- و لما طال الزمان صفح عن ذلك الاستبداد الذي وقع منهم- و حضر عندهم فبايعهم و زال ما كان في نفسه- .
فإن قلت فهل كان يسوغ لأبي بكر- و قد رأى وثوب الأنصار على الأمر- أن يؤخره إلى أن يخرج ع و يحضر المشورة- . قلت إنه لم يلم أبا بكر بعينه- و إنما تألم من استبداد الصحابة بالأمر- دون حضوره و مشاورته- و يجوز أن يكون أكثر تألمه و عتابه- مصروفا إلى الأنصار الذين فتحوا باب الاستبداد و التغلب
ما رواه أبو حيان في حديث السقيفة
و روى القاضي أبو حامد أحمد- بن بشير المروروذي العامري- فيما حكاه عنه أبو حيان التوحيدي- قال أبو حيان سمرنا عند القاضي أبي حامد ليلة ببغداد- بدار ابن جيشان في شارع الماذيان- فتصرف الحديث بنا كل متصرف- و كان و الله معنا مزيلا مخلطا عزيز الرواية- لطيف الدراية له في كل جو متنفس- و في كل نار مقتبس فجرى حديث السقيفة- و تنازع القوم الخلافة فركب كل منا فنا- و قال قولا و عرض بشيء و نزع إلى مذهب- فقال أبو حامد هل فيكم من يحفظ رسالة أبي بكر إلى علي- و جواب علي له و مبايعته إياه عقيب تلك الرسالة- فقالت الجماعة لا و الله- فقال هي و الله من درر الحقاق المصونة- و مخبئات الصناديق في الخزائن المحوطة- و منذ حفظتها ما رويتها إلا للمهلبي في وزارته- فكتبها عني في خلوة بيده- و قال لا أعرف في الأرض رسالةأعقل منها و لا أبين- و إنها لتدل على علم و حكم و فصاحة و فقاهة- في دين و دهاء و بعد غور و شدة غوص- .
فقال له واحد من القوم أيها القاضي- فلو أتممت المنة علينا بروايتها سمعناها و رويناه عنك- فنحن أوعى لها من المهلبي و أوجب ذماما عليك- . فقال هذه الرسالة رواها عيسى بن دأب- عن صالح بن كيسان عن هشام بن عروة- عن أبيه عروة بن الزبير عن أبي عبيدة بن الجراح- . قال أبو عبيدة- لما استقامت الخلافة لأبي بكر بين المهاجرين و الأنصار- و لحظ بعين الوقار و الهيبة بعد هنة- كاد الشيطان بها يسر فدفع الله شرها و أدحض عسرها- فركد كيدها و تيسر خيرها- و قصم ظهر النفاق و الفسق بين أهلها- بلغ أبا بكر عن علي ع تلكؤ و شماس و تهمهم و نفاس- فكره أن يتمادى الحال و تبدو له العورة- و تنفرج ذات البين- و يصير ذلك دريئة لجاهل مغرور أو عاقل ذي دهاء- أو صاحب سلامة ضعيف القلب خوار العنان- دعاني في خلوة فحضرته و عنده عمر وحده- و كان عمر قبسا له و ظهيرا معه- يستضيء بناره و يستملي من لسانه- فقال لي يا أبا عبيدة ما أيمن ناصيتك- و أبين الخير بين عارضيك- لقد كنت مع رسول الله ص بالمكان المحوط و المحل المغبوط- ولقد قال فيك في يوم مشهود أبو عبيدة أمين هذه الأمة- و طالما أعز الله الإسلام بك- و أصلح ثلمة على يديك- و لم تزل للدين ناصرا و للمؤمنين روحا و لأهلك ركنا- و لإخوانك مردا قد أردتكلأمر له ما بعده- خطره مخوف و صلاحه معروف- و لئن لم يندمل جرحه بمسبارك و رفقك- و لم تجب حيته برقيتك- لقد وقع اليأس و أعضل البأس- و احتيج بعدك إلى ما هو أمر من ذلك و أعلق- و أعسر منه و أغلق و الله أسأل تمامه بك- و نظامه على يدك فتأت له يا أبا عبيدة- و تلطف فيه و انصح لله و لرسوله- و لهذه العصابة غير آل جهدا و لا قال حمدا- و الله كالئك و ناصرك و هاديك و مبصرك- .
امض إلى علي و اخفض جناحك له- و اغضض من صوتك عنده- و اعلم أنه سلالة أبي طالب- و مكانه ممن فقدناه بالأمس مكانه- و قل له البحر مغرقة و البر مفرقة- و الجو أكلف و الليل أغلف و السماء جلواء- و الأرض صلعاء و الصعود متعذر و الهبوط متعسر- و الحق عطوف رءوف و الباطل نسوف عصوف- و العجب مقدحة الشر و الضغن رائد البوار- و التعريض شجار الفتنة و القحة مفتاح العداوة- و الشيطان متكئ على شماله باسط ليمينه- نافج حضنيه لأهله ينتظر الشتات و الفرقة- و يدب بين الأمة بالشحناء و العداوة- عنادا لله و لرسوله و لدينه- يوسوس بالفجور و يدلي بالغرور- و يمني أهل الشرور و يوحي إلى أوليائه بالباطل- دأبا له منذ كان على عهد أبيناآدم- و عادة منه منذ أهانه الله في سالف الدهر- لا ينجى منه إلا بعض الناجذ على الحق- و غض الطرف عن الباطل- و وطء هامة عدو الله و الدين- بالأشد فالأشد و الأجد فالأجد- و إسلام النفس لله فيما حاز رضاه و جنب سخطه- .
و لا بد من قول ينفع- إذ قد أضر السكوت و خيف غبه- و لقد أرشدك من أفاء ضالتك- و صافاك من أحيا مودته لك بعتابك- و أراد الخير بك من آثر البقيا معك- . ما هذا الذي تسول لك نفسك و يدوى به قلبك- و يلتوي عليه رأيك و يتخاوص دونه طرفك- و يستشري به ضغنك و يتراد معه نفسك- و تكثر لأجله صعداؤك- و لا يفيض به لسانك أ عجمة بعد إفصاح- أ لبسا بعد إيضاح أ دينا غير دين الله- أ خلقا غير خلق القرآن أ هديا غير هدي محمد- أ مثلي يمشى له الضراء و يدب له الخمر- أم مثلك يغص عليه الفضاء و يكسف في عينه القمر-
ما هذه القعقعة بالشنان و الوعوعة باللسان- إنك لجد عارف باستجابتنا لله و لرسوله- و خروجنا من أوطاننا و أولادنا و أحبتنا- هجرة إلى الله و نصرة لدينه- في زمان أنت منه في كن الصبا و خدر الغرارة غافل- تشبب و تربب لا تعي ما يشاد و يراد- و لا تحصل ما يساق و يقاد- سوى ما أنت جار عليه من أخلاق الصبيان أمثالك- و سجايا الفتيان أشكالك- حتى بلغت إلى غايتك هذه التي إليها أجريت- و عندها حط رحلك غير مجهول القدرو لا مجحود الفضل-
و نحن في أثناء ذلك نعاني أحوالا تزيل الرواسي- و نقاسي أهوالا تشيب النواصي خائضين غمارها- راكبين تيارها نتجرع صلبها- و نشرج عيابها و نحكم آساسها و نبرم أمراسها- و العيون تحدج بالحسد و الأنوف تعطس بالكبر- و الصدور تستعر بالغيظ- و الأعناق تتطاول بالفخر و الأسنة تشحذ بالمكر- و الأرض تميد بالخوف- لا ننتظر عند المساء صباحا و لا عند الصباح مساء- و لا ندفع في نحر أمر إلا بعد أن نحسو الموت دونه- و لا نبلغ إلى شيء إلا بعد تجرع العذاب قبله- و لا نقوم منآدا إلا بعد اليأس من الحياة عنده- فأدين في كل ذلك رسول الله ص بالأب و الأم- و الخال و العم و المال و النشب و السبد و اللبد- و الهلة و البلة بطيب أنفس و قرة أعين- و رحب أعطان و ثبات عزائم و صحة عقول- و طلاقة أوجه و ذلاقة ألسن-
هذا إلى خبيئات أسرار و مكنونات أخبار- كنت عنها غافلا- و لو لا سنك لم تك عن شيء منها ناكلا- كيف و فؤادك مشهوم- و عودك معجوم و غيبك مخبور- و الخير منك كثير فالآن قد بلغ الله بك- و أرهص الخير لك و جعل مرادك بين يديك- فاسمع ما أقول لك و اقبل ما يعود قبوله عليك- و دع التحبس و التعبسلمن لا يضلع لك إذا خطا- و لا يتزحزح عنك إذا عطا فالأمر غض و في النفوس مض- و أنت أديم هذه الأمة فلا تحلم لجاجا- و سيفها العضب فلا تنب اعوجاجا- و ماؤها العذب فلا تحل أجاجا- و الله لقد سألت رسول الله ص عن هذا لمن هو- فقال هو لمن يرغب عنه لا لمن يجاحش عليه- و لمن يتضاءل له لا لمن يشمخ إليه- و هو لمن يقال له هو لك لا لمن يقول هو لي- .
و لقد شاورني رسول الله ص في الصهر- فذكر فتيانا من قريش- فقلت له أين أنت من علي فقال إني لأكره لفاطمة ميعة شبابه و حدة سنه- فقلت متى كنفته يدك و رعته عينك- حفت بهما البركة و أسبغت عليهما النعمة- مع كلام كثير خطبت به رغبته فيك- و ما كنت عرفت منك في ذلك حوجاء و لا لوجاء- و لكني قلت ما قلت و أنا أرى مكان غيرك- و أجد رائحة سواك و كنت لك إذ ذاك خيرا منك الآن لي- و لئن كان عرض بك رسول الله ص في هذا الأمر- فقد كنى عن غيرك و إن قال فيك- فما سكت عن سواك و إن اختلج في نفسك شيء- فهلم فالحكم مرضي و الصواب مسموع و الحق مطاع- .
و لقد نقل رسول الله ص إلى ما عند الله- و هو عن هذه العصابة راض و عليها حدب يسره ما سرها- و يكيده ما كادها و يرضيه ما أرضاها- و يسخطهما أسخطها- أ لم تعلم أنه لم يدع أحدا من أصحابه و خلطائه- و أقاربه و سجرائه- إلا أبانه بفضيلة و خصه بمزية و أفرده بحالة- لو أصفقت الأمة عليه لأجلها- لكان عنده إيالتها و كفالتها- .
أ تظن أنه ع ترك الأمة سدى- بددا عدا مباهل عباهل طلاحى مفتونة بالباطل- ملوية عن الحق لا ذائد و لا رائد- و لا ضابط و لا خابط و لا رابط- و لا سافي و لا واقي و لا حادي و لا هادي- كلا و الله ما اشتاق إلى ربه- و لا سأله المصير إلى رضوانه إلا بعد أن أقام الصوى- و أوضح الهدى و أمن المهالك- و حمى المطارح و المبارك- و إلا بعد أن شدخ يافوخ الشرك بإذن الله- و شرم وجه النفاق لوجه الله- و جدع أنف الفتنة في دين الله- و تفل في عين الشيطان بعون الله- و صدع بملء فيه و يده بأمر الله- .
و بعد فهؤلاء المهاجرون و الأنصار عندك- و معك في بقعة جامعة و دار واحدة- إن استقادوا لك و أشاروا بك- فأنا واضع يدي في يدك و صائر إلى رأيهم فيك- و إن تكن الأخرى فادخل في صالح ما دخل فيه المسلمون- و كن العون على مصالحهم و الفاتح لمغالقهم- و المرشد لضالهم و الرادع لغاويهم- فقد أمر الله بالتعاون على البر- و أهاب إلى التناصر على الحق- و دعنا نقض هذه الحياة الدنيا بصدور بريئة من الغل- و نلقى الله بقلوب سليمة من الضغن- .
و إنما الناس ثمامة فارفق بهم- و احن عليهم و لن لهم- و لا تسول لك نفسك فرقتهم و اختلاف كلمتهم- و اترك ناجم الشر حصيدا و طائر الحقد واقعا- و باب الفتنة مغلقا لا قال و لا قيل- و لا لوم و لا تعنيف و لا عتاب و لا تثريب- و الله على ما أقول وكيل و بما نحن عليه بصير- . قال أبو عبيدة فلما تهيأت للنهوض- قال لي عمر كن على الباب هنيهة فلي معك ذرو من الكلام- فوقفت و ما أدري ما كان بعدي- إلا أنه لحقني بوجه يندى تهللا- و قال لي قل لعلي الرقاد محلمة- و اللجاج ملحمة و الهوى مقحمة- و ما منا أحد إلا له مقام معلوم- و حق مشاع أو مقسوم و بناء ظاهر أو مكتوم- و إن أكيس الكيسى من منح الشارد تألفا- و قارب البعيد تلطفا و وزن كل أمر بميزانه- و لم يجعل خبره كعيانه و لا قاس فتره بشبره- دينا كان أو دنيا و ضلالا كان أو هدى- و لا خير في علم معتمل في جهل- و لا في معرفة مشوبة بنكر-
و لسنا كجلدة رفغ البعير
بين العجان و بين الذنب
و كل صال فبناره يصلى و كل سيل فإلى قراره يجرى- و ما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعي و حصر- و لا كلامها اليوم لفرق أو حذر- فقد جدع الله بمحمد ع أنف كل متكبر- و قصم به ظهر كل جبار و سل لسان كل كذوب- فما ذا بعد الحق إلا الضلال- . ما هذه الخنزوانة التي في فراش رأسك- و ما هذا الشجا المعترض في مدارج أنفاسك- و ما هذه الوحرة التي أكلت شراسيفك- و القذاة التي أعشت ناظرك- و ما هذا الدحسو الدس- اللذان يدلان على ضيق الباع و خور الطباع- و ما هذا الذي لبست بسببه جلد النمر- و اشتملت عليه بالشحناء و النكر- لشد ما استسعيت لها و سريت سرى ابن أنقد إليها- إن العوان لا تعلم الخمرة- ما أحوج الفرعاء إلى فالية- و ما أفقر الصلعاء إلى حالية- و لقد قبض رسول الله ص و الأمر معبد مخيس- ليس لأحد فيه ملمس لم يسير فيك قولا- و لم يستنزل لك قرآنا و لم يجزم في شأنك حكما- لسنا في كسروية كسرى و لا قيصرية قيصر- تأمل إخوان فارس و أبناء الأصفر- قد جعلهم الله جزرا لسيوفنا و دريئة لرماحنا- و مرمى لطعاننا بل نحن في نور نبوة- و ضياء رسالة و ثمرة حكمة و أثر رحمة- و عنوان نعمة و ظل عصمة- بين أمة مهدية بالحق و الصدق- مأمونة على الرتق و الفتق- لها من الله تعالى قلب أبي و ساعد قوي- و يد ناصرة و عين ناظرة- .
أ تظن ظنا أن أبا بكر وثب على هذا الأمر- مفتاتا على الأمة خادعا لها و متسلطا عليها- أ تراه امتلخ أحلامها و أزاغ أبصارها- و حل عقودها و أحال عقولها- و استل من صدورها حميتها و انتكث رشاءها- و انتضب ماءها و أضلها عن هداها و ساقها إلى رداها- و جعل نهارها ليلا و وزنها كيلا- و يقظتها رقادا و صلاحها فسادا- إن كان هكذا إن سحره لمبين و إن كيده لمتين- كلا و الله بأي خيل و رجل و بأي سنان و نصل- و بأي منة و قوة و بأي مال و عدة- و بأي أيد و شدة و بأي عشيرة و أسرة- و بأي قدرة و مكنة و بأي تدرع و بسطة- لقد أصبح بما وسمته منيع الرقبة رفيع العتبة- لا و الله لكن سلا عنها فولهت نحوه- و تطامن لها فالتفت به و مال عنها فمالت إليه- و اشمأز دونها فاشتملت عليه- حبوة حباه الله بها و غاية بلغه الله إليها- و نعمة سربله جمالها و يد لله أوجب عليه شكرها- و أمة نظر الله بهلها- و طالما حلقت فوقه في أيام النبي ص- و هو لا يلتفت لفتها و لا يرتصد وقتها-
و الله أعلم بخلقه و أرأف بعباده- يختار ما كان لهم الخيرة- و إنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوة- و معدن الرسالة و كهف الحكمة- و لا يجحد حقك فيما آتاك ربك من العلم- و منحك من الفقه في الدين هذا إلى مزايا خصصت بها- و فضائل اشتملت عليها- و لكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك- و قربى أمس من قرباك و سن أعلى من سنك- و شيبة أروع من شيبتك- و سيادة معروفة في الإسلام و الجاهلية- و مواقف ليس لك فيها جمل و لا ناقة- و لا تذكر فيها في مقدمة و لا ساقة- و لا تضرب فيها بذراع و لا إصبع- و لا تعد منها ببازل و لا هبع- .
إن أبا بكر كان حبة قلب رسول الله ص و علاقة همه- و عيبة سره و مثوى حزنه و راحة باله و مرمق طرفه- شهرته مغنية عن الدلالة عليه- . و لعمري إنك لأقرب منه إلى رسول الله ص قرابة- و لكنه أقرب منك قربة و القرابة لحم و دم- و القربة روح و نفس و هذا فرق يعرفه المؤمنون- و لذلك صاروا إليه أجمعون- . و مهما شككت فلا تشك في أن يد الله مع الجماعة- و رضوانه لأهل الطاعة- فادخل فيما هو خير لك اليوم و أنفع غدا- و الفظ من فيك ما هو متعلق بلهاتك- و انفثسخيمة صدرك- فإن يكن في الأمد طول و في الأجل فسحة- فستأكله مريئا أو غير مريء- و ستشربه هنيئا أو غير هنيء- حين لا راد لقولك إلا من كان آيسا منك- و لا تابع لك إلا من كان طامعا فيك- حين يمض إهابك و يفري أديمك و يزري على هديك- هناك تقرع السن من ندم- و تشرب الماء ممزوجا بدم- حين تأسى على ما مضى من عمرك- و انقضى و انقرض من دارج قومك- و تود أن لو سقيت بالكأس التي سقيتها غيرك- و رددت إلى الحال التي كنت تكرهها في أمسك- و لله فينا و فيك أمر هو بالغه- و عاقبة هو المرجو لسرائها و ضرائها- و هو الولي الحميد الغفور الودود- .
قال أبو عبيدة فمشيت إلى علي مثبطا متباطئا- كأنما أخطو على أم رأسي فرقا من الفتنة- و إشفاقا على الأمة و حذرا من الفرقة- حتى وصلت إليه في خلاء فأبثثته بثي كله- و برئت إليه منه و دفعته له فلما سمعها و وعاها- و سرت في أوصاله حمياها- قال حلت معلوطة و ولت مخروطة ثم قال- .
إحدى لياليك فهيسي هيسي
لا تنعمي الليلة بالتعريس
يا أبا عبيدة أ هذا كله في أنفس القوم يستنبطونه- و يضطغنون عليه- فقلت لا جواب عندي إنما جئتك قاضيا حق الدين- و راتقا فتق الإسلام و سادا ثلمة الأمة- يعلم الله ذلك من جلجلان قلبي و قرارة نفسي- .
فقال ما كان قعودي في كسر هذا البيت قصدا لخلاف- و لا إنكارا لمعروف و لا زراية على مسلم- بل لما وقذني به رسول الله ص من فراقه- و أودعني من الحزن لفقده- فإني لم أشهد بعده مشهدا إلا جدد علي حزنا- و ذكرني شجنا- و إن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره- و قد عكفت على عهد الله أنظر فيه- و أجمع ما تفرق منه- رجاء ثواب معد لمن أخلص لله عمله- و سلم لعلمه و مشيئته أمره- على أني أعلم أن التظاهر علي واقع- و لي عن الحق الذي سيق إلي دافع- و إذ قد أفعم الوادي لي و حشد النادي علي- فلا مرحبا بما ساء أحدا من المسلمين- و في النفس كلام لو لا سابق قول و سالف عهد- لشفيت غيظي بخنصري و بنصري- و خضت لجته بأخمصي و مفرقي- و لكني ملجم إلى أن ألقى الله تعالى- عنده أحتسب ما نزل بي و أنا غاد إن شاء الله إلى جماعتكم- و مبايع لصاحبكم و صابر على ما ساءني و سركم- ليقضي الله أمرا كان مفعولا- و كان الله على كل شيء شهيدا- .
قال أبو عبيدة فعدت إلى أبي بكر و عمر- فقصصت القول على غره- و لم أترك شيئا من حلوه و مره- ذكرت غدوة إلى المسجد- فلما كان صباح يومئذ وافى علي- فخرق الجماعة إلى أبي بكر و بايعه- و قال خيرا و وصف جميلا و جلس زمينا- و استأذن للقيام و نهض فتبعه عمر إكراما له- و إجلالا لموضعه و استنباطا لما في نفسه- و قام أبو بكر إليه فأخذ بيده- و قال إن عصابة أنت منها يا أبا الحسن لمعصومة- و إن أمة أنت فيها لمرحومة- و لقد أصبحت عزيزا علينا كريما لدينا- نخاف الله إن سخطت و نرجوه إذا رضيت- و لو لا أني شدهت لما أجبت إلى ما دعيت إليه- و لكني خفتالفرقة و استئثار الأنصار بالأمر على قريش- و أعجلت عن حضورك و مشاورتك- و لو كنت حاضرا لبايعتك و لم أعدل بك- و لقد حط الله عن ظهرك ما أثقل كاهلي به- و ما أسعد من ينظر الله إليه بالكفاية- و إنا إليك لمحتاجون و بفضلك عالمون- و إلى رأيك و هديك في جميع الأحوال راغبون- و على حمايتك و حفيظتك معولون- ثم انصرف و تركه مع عمر- .
فالتفت علي إلى عمر فقال يا أبا حفص- و الله ما قعدت عن صاحبك جزعا على ما صار إليه- و لا أتيته خائفا منه و لا أقول ما أقول بعلة- و إني لأعرف مسمى طرفي و مخطي قدمي- و منزع قوسي و موقع سهمي- و لكني تخلفت إعذارا إلى الله- و إلى من يعلم الأمر الذي جعله لي رسول الله- و أتيت فبايعت حفظا للدين- و خوفا من انتشار أمر الله- .
فقال له عمر يا أبا الحسن كفكف من غربك- و نهنه من شرتك و دع العصا بلحائها و الدلو برشائها- فإنا من خلفها و ورائها إن قدحنا أورينا- و إن متحنا أروينا و إن قرحنا أدمينا- و قد سمعت أمثالك التي ألغزت بها صادرة عن صدر دو- و قلب جو- زعمت أنك قعدت في كسر بيتك- لما وقذك به فراق رسول الله- أ فراق رسول الله ص وقذك وحدك و لم يقذ سواك- إن مصابه لأعز و أعظم من ذاك- و إن من حق مصابه ألا تصدع شمل الجماعة- بكلمة لا عصام لها- فإنك لترى الأعراب حول المدينة- لو تداعت علينا في صبح يوم لم نلتق في ممساه- و زعمت أن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره- فمن الشوق إليه نصرة دينه- و موازرة المسلمين عليه و معاونتهم فيه- .
و زعمت أنك مكب على عهد الله تجمع ما تفرق منه- فمن العكوف على عهده النصيحة لعباده- و الرأفة على خلقه- و أن تبذل من نفسك ما يصلحون به و يجتمعون عليه- و زعمت أن التظاهر عليك واقع- أي تظاهر وقع عليك- و أي حق استؤثر به دونك- لقد علمت ما قالت الأنصار أمس سرا و جهرا- و ما تقلبت عليه ظهرا و بطنا فهل ذكرتك أو أشارت بك- أو طلبت رضاها من عندك و هؤلاء المهاجرون- من الذي قال منهم إنك صاحب هذا الأمر- أو أومأ إليك أو همهم بك في نفسه- أ تظن أن الناس ضنوا من أجلك- أو عادوا كفارا زهدا فيك- أو باعوا الله تعالى بهواهم بغضا لك- و لقد جاءني قوم من الأنصار- فقالوا إن عليا ينتظر الإمامة- و يزعم أنه أولى بها من أبي بكر- فأنكرت عليهم و رددت القول في نحورهم- حتى قالوا إنه ينتظر الوحي و يتوكف مناجاة الملك- فقلت ذاك أمر طواه الله بعد محمد ع- . و من أعجب شأنك قولك- لو لا سابق قول لشفيت غيظي بخنصري و بنصري- و هل ترك الدين لأحد أن يشفي غيظه بيده أو لسانه- تلك جاهلية استأصل الله شأفتها- و اقتلع جرثومتها و نور ليلها و غور سيلها- و أبدل منها الروح و الريحان و الهدى و البرهان- .
و زعمت أنك ملجم- فلعمري إن من اتقى الله و آثر رضاه و طلب ما عنده- أمسك لسانه و أطبق فاه و غلب عقله و دينه على هواه- . و أما قولك إني لأعرف منزع قوسي- فإذا عرفت منزع قوسك عرفك غيرك مضرب سيفه و مطعن رمحه- و أما ما تزعمه من الأمر الذي جعله رسول الله ص لك- فتخلفت إعذارا إلى الله و إلى العارفة به من المسلمين- فلو عرفه المسلمونلجنحوا إليه و أصفقوا عليه- و ما كان الله ليجمعهم على العمى- و لا ليضربهم بالصبا بعد الهدى- و لو كان لرسول الله ص فيك رأي و عليك عزم- ثم بعثه الله- فرأى اجتماع أمته على أبي بكر لما سفه آراءهم- و لا ضلل أحلامهم و لا آثرك عليهم- و لا أرضاك بسخطهم و لأمرك باتباعهم- و الدخول معهم فيما ارتضوه لدينهم- .
فقال علي مهلا أبا حفص أرشدك الله خفض عليك- ما بذلت ما بذلت و أنا أريد عنه حولا- و إن أخسر الناس صفقة عند الله من استبطن النفاق- و احتضن الشقاق و في الله خلف عن كل فائت- و عوض من كل ذاهب و سلوة عن كل حادث- و عليه التوكل في جميع الحوادث- ارجع أبا حفص إلى مجلسك ناقع القلب مبرود الغليل- فصيح اللسان رحب الصدر متهلل الوجه- فليس وراء ما سمعته مني إلا ما يشد الأزر- و يحبط الوزر و يضع الإصر و يجمع الألفة- و يرفع الكلفة إن شاء الله- فانصرف عمر إلى مجلسه- .
قال أبو عبيدة فلم أسمع و لم أر كلاما- و لا مجلسا كان أصعب من ذلك الكلام و المجلس- . قلت الذي يغلب على ظني- أن هذه المراسلات و المحاورات- و الكلام كله مصنوع موضوع- و أنه من كلام أبي حيان التوحيدي- لأنه بكلامه و مذهبه في الخطابة و البلاغة أشبه- و قد حفظنا كلام عمر و رسائله- و كلام أبي بكر و خطبه- فلم نجدهما يذهبان هذا المذهب- و لا يسلكان هذا السبيل في كلامهما- و هذا كلام عليه أثر التوليد ليس يخفى- و أين أبو بكر و عمر من البديع و صناعة المحدثين- و من تأمل كلام أبي حيان- عرف أنهذا الكلام من ذلك المعدن خرج- و يدل عليه أنه أسنده إلى القاضي أبي حامد المروروذي- و هذه عادته في كتاب البصائر يسند إلى القاضي أبي حامد- كل ما يريد أن يقوله هو من تلقاء نفسه- إذا كان كارها لأن ينسب إليه- و إنما ذكرناه نحن في هذا الكتاب- لأنه و إن كان عندنا موضوعا منحولا- فإنه صورة ما جرت عليه حال القوم- فهم و إن لم ينطقوا به بلسان المقال- فقد نطقوا به بلسان الحال- .
و مما يوضح لك أنه مصنوع- أن المتكلمين على اختلاف مقالاتهم- من المعتزلة و الشيعة و الأشعرية و أصحاب الحديث- و كل من صنف في علم الكلام و الإمامة- لم يذكر أحد منهم كلمة واحدة من هذه الحكاية- و لقد كان المرتضى رحمه الله- يلتقط من كلام أمير المؤمنين ع اللفظة الشاذة- و الكلمة المفردة الصادرة عنه ع- في معرض التألم و التظلم- فيحتج بها و يعتمد عليها- نحوقوله ما زلت مظلوما مذ قبض رسول الله حتى يوم الناس هذا
وقوله لقد ظلمت عدد الحجر و المدر
وقوله إن لنا حقا إن نعطه نأخذه- و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و إن طال السرى
وقوله فصبرت و في الحلق شجا و في العين قذى
وقوله اللهم إني أستعديك على قريش- فإنهم ظلموني حقي و غصبوني إرثي- .
و كان المرتضى إذا ظفر بكلمة من هذه- فكأنما ظفر بملك الدنيا و يودعها كتبه و تصانيفه- فأين كان المرتضى عن هذا الحديث- و هلا ذكر في كتاب الشافي في الإمامة-كلام أمير المؤمنين ع هذا- و كذلك من قبله من الإمامية كابن النعمان- و بني نوبخت و بني بابويه و غيرهم- و كذلك من جاء بعده من متأخري متكلمي الشيعة- و أصحاب الأخبار و الحديث منهم إلى وقتنا هذا- و أين كان أصحابنا عن كلام أبي بكر و عمر له ع- و هلا ذكره قاضي القضاة في المغني- مع احتوائه على كل ما جرى بينهم- حتى أنه يمكن أن يجمع منه تاريخ كبير مفرد- في أخبار السقيفة- و هلا ذكره من كان قبل قاضي القضاة من مشايخنا و أصحابنا- و من جاء بعده من متكلمينا و رجالنا- و كذلك القول في متكلمي الأشعرية و أصحاب الحديث كابن الباقلاني و غيره- و كان ابن الباقلاني شديدا على الشيعة- عظيم العصبية على أمير المؤمنين ع- فلو ظفر بكلمة من كلام أبي بكر و عمر في هذا الحديث- لملأ الكتب و التصانيف بها و جعلها هجيراه و دأبه- . و الأمر فيما ذكرناه من وضع هذه القصة- ظاهر لمن عنده أدنى ذوق من علم البيان- و معرفة كلام الرجال- و لمن عنده أدنى معرفة بعلم السير و أقل أنس بالتواريخ- .
قوله ع مودع لا قال و لا مبغض و لا سئم- أي لا ملول سئمت من الشيء أسأم سأما و سآما و سآمة- سئمته إذا مللته و رجل سئوم- . ثم أكد ع هذا المعنى فقال إن انصرفت فلا عن ملالة- و إن أقمت فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين- أي ليست إقامتي على قبرك و جزعي عليك- إنكارا مني لفضيلة الصبر- و التجلد و التعزي و التأسي- و ما وعد الله به الصابرين من الثواب- بل أنا عالم بذلك و لكن يغلبني بالطبع البشري- . و روي أن فاطمة بنت الحسين ع- ضربت فسطاطا على قبر بعلها الحسن بن الحسن ع سنة- فلما انقضت السنة قوضت الفسطاط راجعة إلى بيتها- فسمعت هاتفا يقول هل بلغوا ما طلبوا- فأجابه هاتف آخر بل يئسوا فانصرفوا- . وذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتابه الكامل أنه ع تمثل عند قبر فاطمة-
ذكرت أبا أروى فبت كأنني
برد الهموم الماضيات وكيل
لكل اجتماع من خليلين فرقة
و كل الذي دون الفراق قليل
و إن افتقادي واحدا بعد واحد
دليل على ألا يدوم خليل
و الناس يرونه-
و إن افتقادي فاطما بعد أحمد
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 10