و من كلام له عليه السّلام
روى عنه أنه قاله عند دفن سيدة النساء فاطمة عليها السلام كالمناجى به رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم عند قبره
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي- وَ عَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ- وَ السَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ- قَلَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي وَ رَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي- إِلَّا أَنَّ فِي التَّأَسِّي لِي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ- وَ فَادِحِ مُصِيبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ- فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ- وَ فَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَ صَدْرِي نَفْسُكَ- فَ إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ- فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ وَ أُخِذَتِ الرَّهِينَةُ- أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ وَ أَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ- إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اللَّهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ- وَ سَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا- فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ وَ اسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ- هَذَا وَ لَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ وَ لَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ- وَ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا سَلَامَ مُوَدِّعٍ لَا قَالٍ وَ لَا سَئِمٍ- فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ- وَ إِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الصَّابِرِينَ
اللغة
أقول: مسهّد: مورق.
و أحفها السؤال: استقص عليها فيه.
المعنى
فأمّا قول السيّد- رضى اللّه تعالى عنه- سيّدة النساء، فقد جاء في الخبر أنّه رآها تبكى عند موته فقال لها: أ ما ترضين أن تكون سيّدة نساء هذه الامّة، و روى أنّه قال: سادات نساء العالمين أربع: خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمّد، و آسية بنت مزاحم، و مريم بنت عمران. و السلام منه عليه السّلام على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كعادة الزائرين لكن الزيارة هنا قلبيّة، و عنها كالمستأذن لها في الدخول عليه، و جوارها له: أى في منازل الجنّة و أمّا سرعة لحاقها به ففائدة ذكرها التشكّى إليه من سرعة تواتر المصائب عليه بموته و لحوقها عقيبه، و المنقول أنّ مدّة حياتها بعده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أربعة أشهر، و قيل: ستّة أشهر. ثمّ أخذ في التشكّى إليه كالمخاطب له من قلّة صبره و رقّة تجلّده و تحمّله للمصيبة بها.
و في قوله: صفيّتك.
إشارة إلى ما كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من التبجيل و المحبّة و الإكرام.
و قوله: إلّا أنّ لى. إلى قوله: موضع تعزّ.
كالعذر و التسلية و إن كانت هذه المصيبة عظيمة يقلّ لها الصبر و يرقّ لها التجلّد فإنّ المصيبة بفراقك أعظم، و كما صبرت في تلك على كونها أشدّ فلإن أصبر على هذه أولى. و التأسي الاقتداء بالصبر في هذه المصيبة كالصبر في تلك.
و قوله: فلقد وسّدتك. إلى قوله: نفسك.
كالشرح للمصيبة به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مقاساتها عند تلحيده و عند فيضان نفسه و هى دمه بين صدره و نحره، و كالتذكير لنفسه بها.
و قوله: فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون.
امتثال لقوله تعالى وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا
لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ«».
و قوله: فلقد استرجعت الوديعة. إلى قوله: الرهينة.
استعار لفظ الوديعة و الرهينة لتلك النفس، و وجه الاستعارة الاولى أنّ النفوس في هذه الأبدان يشبه الودايع و الأمانات في كونها تسترجع إلى عاملها في وجوب المحافظة عليها من المهلكات، و يحتمل أن يريد ما هو المتعارف بين الناس من كون المرأة وديعة الرجل كما يقال: النساء ودايع الكرام، و وجه الثانية أنّ كلّ نفس رهينة على الوفاء بالميثاق الّذي واثقها اللّه تعالى به، و العهد الّذي أخذ عليها حين الإهباط إلى عالم الحسّ و الخيال أن ترجع إليه سالمة من سخطه، عاملة بأوامره غير منحرفة من صراطه الوضوح على لسان رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإن وفيت بعهدها خرجت من وثاق الرهن و ضوعف لها الأجر كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ«» و إن نكثت و ارتكبت بما نهيت عنه بقيت رهينة بعملها كما قال تعالى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ«» و الرهينة تصدق على الذكر و الأنثى. و قد سبقت الإشارة إلى ذلك.
و قوله: أمّا حزنى. إلى قوله: مقيم.
صورة حاله بعدهما على سبيل الشكاية، و كنّى بالدار عن الجنّة لأنّه ممّن بشّر بها.
و قوله: و ستنبّئك ابنتك. إلى قوله: الذكر.
رمز للتشكّى إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من امّته بعده فيما كان يعتقده حقّا له من الخلافة و نحلة فدك لفاطمة عليها السّلام فزحزحا عنهما مع نوع من الاهتضام له، و الغلظة عليه في القول على قرب عهدهم بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و طراوة الذكر الّذي هو القرآن الآمر بمودّة القربى.
و قوله: و السلام عليكما. إلى آخره.صورة وداع المحبّين الناصحين بجارى العادة.
و قوله: و إن اقم. إلى قوله: الصابرين.
تنزيه لنفسه عمّا عساه يعرض لبعض من يلازم القبور لشدّة الجزع و الأسف عن و هم أنّه لا عوض عن ذلك الفائت و الأجر على التعزّى و الصبر عنه، و ما وعد اللّه به الصابرين على نزول المصائب هو صلاته و رحمته في قوله تعالى الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ«» و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(اب ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحهى3