190 و من خطبة له ع
وَ لَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفِظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ص- أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللَّهِ وَ لَا عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ- وَ لَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي الْمَوَاطِنِ- الَّتِي تَنْكُصُ فِيهَا الْأَبْطَالُ- وَ تَتَأَخَّرُ الْأَقْدَامُ نَجْدَةً أَكْرَمَنِيَ اللَّهُ بِهَا- وَ لَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ص وَ إِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي- وَ لَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي- وَ لَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ ص وَ الْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِي- فَضَجَّتِ الدَّارُ وَ الْأَفْنِيَةُ- مَلٌا يَهْبِطُ وَ مَلٌا يَعْرُجُ- وَ مَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ- يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ- فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَ مَيِّتاً- فَانْفُذُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ- وَ لْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ- فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ- وَ إِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ- أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَ لَكُمْ يمكن أن يعني بالمستحفظين الخلفاء الذين تقدموا- لأنهم الذين استحفظوا الإسلام- أي جعلوا حافظين له و حارسين لشريعته و لحوزته- و يجوز أن يعني به العلماء و الفضلاء من الصحابة- لأنهم استحفظوا الكتاب- أي كلفوا حفظه و حراسته- .
و الظاهر أنه يرمز في قوله ع- لم أرد على الله و لا على رسوله ساعة قط- إلى أمور وقعت من غيره-كما جرى يوم الحديبية عند سطر كتاب الصلح- فإن بعض الصحابة أنكر ذلك- و قال يا رسول الله أ لسنا المسلمين قال بلى- قال أ و ليسوا الكافرين قال بلى- قال فكيف نعطي الدنية في ديننا- فقال ص إنما أعمل بما أومر به- فقال قوم من الصحابة أ لم يكن قد وعدنا بدخول مكة- و ها نحن قد صددنا عنها- ثم ننصرف بعد أن أعطينا الدنية في ديننا- و الله لو أجد أعوانا لم أعط الدنية أبدا- فقال أبو بكر لهذا القائل ويحك الزم غرزه- فو الله إنه لرسول الله ص و إن الله لا يضيعه- . ثم قال له أ قال لك إنه سيدخلها هذا العام قال لا- قال فسيدخلها فلما فتح النبي ص مكة- و أخذ مفاتيح الكعبة دعاه فقال هذا الذي وعدتم به- .
و اعلم أن هذا الخبر صحيح لا ريب فيه- و الناس كلهم رووه و ليس عندي بقبيح- و لا مستهجن أن يكون سؤال هذا الشخص لرسول الله ص- عما سأله عنه على سبيل الاسترشاد- و التماسا لطمأنينة النفس- فقد قال الله تعالى لخليله إبراهيم- أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي- و قد كانت الصحابة تراجع رسول الله ص في الأمور- و تسأله عما يستبهم عليها و تقول له- أ هذا منك أم من الله- و قال له السعدان رحمهما الله يوم الخندق- و قد عزم على مصالحة الأحزاب ببعض تمر المدينة- أ هذا من الله أم رأي رأيته من نفسك قال بل من نفسي- قالا لا و الله لا نعطيهم منها تمرة واحدة- و أيدينا في مقابض سيوفنا- .
و قالت الأنصار له يوم بدر- و قد نزل بمنزل لم يستصلحوه- أ نزلت هذا المنزل عن رأي رأيت أم بوحي أوحي إليك- قال بل عن رأي رأيته قالوا إنه ليس لنا بمنزل- ارحل عنه فانزل بموضع كذا- . و أما قول أبي بكر له الزم غرزه- فو الله إنه لرسول الله ص- فإنما هو تأكيد و تثبيت على عقيدته التي في قلبه- و لا يدل ذلك على الشك- فقد قال الله تعالى لنبيه- وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا- و كل أحد لا يستغني عن زيادة اليقين و الطمأنينة- و قد كانت وقعت من هذا القائل أمور دون هذه القصة- كقوله دعني أضرب عنق أبي سفيان- و قوله دعني أضرب عنق عبد الله بن أبي- و قوله دعني أضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة- و نهي النبي ص له عن التسرع إلى ذلك- و جذبه ثوب رسول الله ص- حين قام على جنازة ابن سلول يصلي- و قوله كيف تستغفر لرأس المنافقين- و ليس في ذلك جميعه ما يدل على وقوع القبيح منه- و إنما الرجل كان مطبوعا على الشدة و الشراسة و الخشونة- و كان يقول ما يقول على مقتضى السجية التي طبع عليها- و على أي حال كان- فلقد نال الإسلام بولايته و خلافته خيرا كثيرا- . قوله ع و لقد واسيته بنفسي- يقال واسيته و آسيته و بالهمزة أفصح- و هذا مما اختص ع بفضيلته غير مدافع- ثبت معه يوم أحد و فر الناس- و ثبت معه يوم حنين و فر الناس- و ثبت تحت رايته يوم خيبر حتى فتحها- و فر من كان بعث بها من قبله- .
و روى المحدثون أن رسول الله ص لما ارتث يوم أحد- قال الناس قتل محمد- رأته كتيبة من المشركين و هو صريع بين القتلى- إلا أنه حي فصمدت له- فقال لعلي ع اكفني هذه- فحمل عليها ع و قتل رئيسها- ثم صمدت له كتيبة أخرى- فقال يا علي اكفني هذه فحمل عليها فهزمها- و قتل رئيسها ثم صمدت له كتيبة ثالثة- فكذلك فكان رسول الله ص بعد ذلك يقول- قال لي جبريل يا محمد إن هذه للمواساة- فقلت و ما يمنعه و هو مني و أنا منه فقال جبريل و أنا منكماوروى المحدثون أيضا أن المسلمين سمعوا ذلك اليوم صائحا- من جهة السماء ينادي- لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي- فقال رسول الله ص لمن حضره- أ لا تسمعون هذا صوت جبريل- . و أما يوم حنين فثبت معه في نفر يسير من بني هاشم- بعد أن ولى المسلمون الأدبار و حامى عنه- و قتل قوما من هوازن بين يديه- حتى ثابت إليه الأنصار- و انهزمت هوازن و غنمت أموالها- . و أما يوم خيبر فقصته مشهورة- . قوله ع نجدة أكرمني الله سبحانه بها- النجدة الشجاعة و انتصابها هاهنا على أنها مصدر- و العامل فيه محذوف- .
ثم ذكر ع وفاة رسول الله ص فقال- لقد قبض و إن رأسه لعلى صدري- و لقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي- يقال إن رسول الله ص قاء دما يسيرا وقت موته- و إن عليا ع مسح بذلك الدم وجهه- . و قد روي أن أبا طيبة الحجام شرب دمه ع و هو حي- فقال له إذن لا يجع بطنك- . قوله ع فضجت الدار و الأفنية- أي النازلون في الدار من الملائكة- أي ارتفع ضجيجهم و لجبهم- يعني أني سمعت ذلك و لم يسمعه غيري من أهل الدار- .
و الملأ الجماعة يهبط قوم من الملائكة و يصعد قوم- و العروج الصعود و الهينمة- الصوت الخفي و الضريح الشق في القبرذكر خبر موت الرسول عو قدروي من قصة وفاة رسول الله ص أنه عرضت له الشكاة التي عرضت- في أواخر صفر من سنة إحدى عشرة للهجرة- فجهز جيش أسامة بن زيد- فأمرهم بالمسير إلى البلقاء- حيث أصيب زيد و جعفر ع من الروم- و خرج في تلك الليلة إلى البقيع- و قال إني قد أمرت بالاستغفار عليهم- فقال ع السلام عليكم يا أهل القبور- ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه- أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم- يتبع أولها آخرها ثم استغفر لأهل البقيع طويلا- ثم قال لأصحابه إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة- و قد عارضني به العام مرتين- فلا أراه إلا لحضور أجلي- ثم انصرف إلى بيته فخطب الناس في غده- فقال معاشر الناس قد حان مني خفوق من بين أظهركم- فمن كان له عندي عدة فليأتني أعطه إياها- و من كان علي دين فليأتني أقضه- أيها الناس إنه ليس بين الله و بين أحد نسب- و لا أمر يؤتيه به خيرا-أو يصرف عنه شرا إلا العمل- ألا لا يدعين مدع و لا يتمنين متمن- و الذي بعثني بالحق لا ينجي إلا عمل مع رحمة- و لو عصيت لهويت اللهم قد بلغت- .
ثم نزل فصلى بالناس صلاة خفيفة ثم دخل بيت أم سلمة- ثم انتقل إلى بيت عائشة يعلله النساء و الرجال- أما النساء فأزواجه و بنته ع- و أما الرجال فعلي ع و العباس و الحسن و الحسين ع- و كانا غلامين يومئذ- و كان الفضل بن العباس يدخل أحيانا إليهم- ثم حدث الاختلاف بين المسلمين أيام مرضه- فأول ذلك التنازع الواقع يوم- قال ص ائتوني بدواة و قرطاس- و تلا ذلك حديث التخلف عن جيش أسامة- و قول عياش بن أبي ربيعة- أ يولى هذا الغلام على جلة المهاجرين و الأنصار- .
ثم اشتد به المرض- و كان عند خفة مرضه يصلي بالناس بنفسه- فلما اشتد به المرض أمر أبا بكر أن يصلي بالناس- . و قد اختلف في صلاته بهم- فالشيعة تزعم أنه لم يصل بهم إلا صلاة واحدة- و هي الصلاة التي خرج رسول الله ص فيها- يتهادى بين علي ع و الفضل- فقام في المحراب مقامه و تأخر أبو بكر- . و الصحيح عندي و هو الأكثر الأشهر- أنها لم تكن آخر صلاة في حياته ص بالناس جماعة- و أن أبا بكر صلى بالناس بعد ذلك يومين ثم مات ص- فمن قائل يقول إنه توفي لليلتين بقيتا من صفر- و هو القول الذي تقوله الشيعة- و الأكثرون أنه توفي في شهر ربيع الأول- بعد مضي أيام منه- . و قد اختلفت الرواية في موته- فأنكر عمر ذلك و قال إنه لم يمت- و إنه غاب و سيعود فثناه أبو بكر عن هذا القول- و تلا عليه الآيات المتضمنة أنه سيموت- فرجع إلى قوله- .
ثم اختلفوا في موضع دفنه- فرأى قوم أن يدفنوه بمكة لأنها مسقط رأسه- و قال من قال بل بالمدينة ندفنه بالبقيع عند شهداء أحد- ثم اتفقوا على دفنه في البيت الذي قبض فيه- و صلوا عليه إرسالا لا يؤمهم أحد- . و قيل إن عليا ع أشار بذلك فقبلوه- . و أنا أعجب من ذلك- لأن الصلاة عليه كانت بعد بيعة أبي بكر- فما الذي منع من أن يتقدم أبو بكر فيصلي عليه إماما- . و تنازعوا في تلحيده و تضريحه- فأرسل العباس عمه إلى أبي عبيدة بن الجراح- و كان يحفر لأهل مكة و يضرح على عادتهم رجلا- و أرسل علي رجلا إلى أبي طلحة الأنصاري- و كان يلحد لأهل المدينة على عادتهم و قال- اللهم اختر لنبيك- فجاء أبو طلحة فلحد له و أدخل في اللحد- . و تنازعوا فيمن ينزل معه القبر- فمنع علي ع الناس أن ينزلوا معه- و قال لا ينزل قبره غيري و غير العباس- ثم أذن في نزول الفضل و أسامة بن زيد مولاهم- ثم ضجت الأنصار- و سألت أن ينزل منها رجل في قبره- فأنزلوا أوس بن خولي و كان بدريا- . فأما الغسل فإن عليا ع تولاه بيده- و كان الفضل بن العباس يصب عليه الماء- .
وروى المحدثون عن علي ع أنه قال ما قلبت منه عضوا إلا و انقلب لا أجد له ثقلا- كان معي من يساعدني عليه و ما ذلك إلا الملائكة
– . و أما حديث الهينمة و سماع الصوت- فقد رواه خلق كثير من المحدثين عن عليع- و تروي الشيعة أن عليا ع عصب عيني الفضل بن العباس- حين صب عليه الماء- و أن رسول الله ص أوصاه بذلك و قال- إنه لا يبصر عورتي أحد غيرك إلا عمي- .
قوله ع فمن ذا أحق به مني حيا و ميتا- انتصابهما على الحال من الضمير المجرور في به- أي أي شخص أحق برسول الله ص حال حياته و حال وفاته مني- و مراده من هذا الكلام- أنه أحق بالخلافة بعده و أحق الناس بالمنزلة منه- حيث كان بتلك المنزلة منه في الدنيا- و ليس يجوز أن يكونا حالين من الضمير المجرور في مني- لأنه لا يحسن أن يقول- أنا أحق به إذا كنت حيا من كل أحد- و أحق به إذا كنت ميتا من كل أحد- لأن الميت لا يوصف بمثل ذلك- و لأنه لا حال ثبتت له من الأحقية إذا كان حيا- إلا و هي ثابتة له إذا كان ميتا- و إن كان الميت يوصف بالأحقية- فلا فائدة في قوله و ميتا على هذا الفرض- و لا يبقى في تقسيم الكلام إلى قسمين فائدة- و أما إذا كان حالا من الضمير في به- فإنه لا يلزم من كونه أحق بالمنزلة الرفيعة من رسول الله ص- و هو حي أن يكون أحق بالخلافة بعد وفاته- أي ليس أحدهما يلزم الآخر- فاحتاج إلى أن يبين أنه أحق برسول الله ص- من كل أحد إن كان الرسول حيا و إن كان ميتا- و لم يستهجن أن يقسم الكلام إلى القسمين المذكورين- .
قوله ع فانفذوا إلى بصائركم- أي أسرعوا إلى الجهاد على عقائدكم التي أنتم عليها- و لا يدخلن الشك و الريب في قلوبكم- . قوله ع إني لعلى جادة الحق و إنهم لعلى مزلة الباطل- كلام عجيب على قاعدة الصناعة المعنوية- لأنه لا يحسن أن يقول و إنهم لعلى جادة الباطل- لأن الباطل لا يوصف بالجادة- و لهذا يقال لمن ضل وقع في بنيات الطريق- فتعوض عنها بلفظ المزلة- و هي الموضع الذي يزل فيه الإنسان- كالمزلقة موضع الزلق- و المغرقة موضع الغرق و المهلكة موضع الهلاك
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 10