189 و من خطبة له ع
بَعَثَهُ حِينَ لَا عَلَمٌ قَائِمٌ- وَ لَا مَنَارٌ سَاطِعٌ وَ لَا مَنْهَجٌ وَاضِحٌ- أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ- وَ أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا دَارُ شُخُوصٍ- وَ مَحَلَّةُ تَنْغِيصٍ سَاكِنُهَا ظَاعِنٌ وَ قَاطِنُهَا بَائِنٌ- تَمِيدُ بِأَهْلِهَا مَيَدَانَ السَّفِينَةِ- تَقْصِفُهَا الْعَوَاصِفُ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ- فَمِنْهُمُ الْغَرِقُ الْوَبِقُ وَ مِنْهُمُ النَّاجِي عَلَى بُطُونِ الْأَمْوَاجِ- تَحْفِزُهُ الرِّيَاحُ بِأَذْيَالِهَا وَ تَحْمِلُهُ عَلَى أَهْوَالِهَا- فَمَا غَرِقَ مِنْهَا فَلَيْسَ بِمُسْتَدْرَكٍ وَ مَا نَجَا مِنْهَا فَإِلَى مَهْلَكٍ- عِبَادَ اللَّهِ الآْنَ فَاعْلَمُوا وَ الْأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ- وَ الْأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ وَ الْأَعْضَاءُ لَدْنَةٌ- وَ الْمُنْقَلَبُ فَسِيحٌ وَ الْمَجَالُ عَرِيضٌ- قَبْلَ إِرْهَاقِ الْفَوْتِ وَ حُلُولِ الْمَوْتِ- فَحَقِّقُوا عَلَيْكُمْ نُزُولَهُ وَ لَا تَنْتَظِرُوا قُدُومَهُ يقول بعث الله سبحانه محمدا ص لما لم يبق علم- يهتدي به المكلفون- لأنه كان زمان الفترة و تبدل المصلحة- و اقتضاء وجوب اللطف عليه سبحانه تجديدا لبعثته- ليعرف المبعوث المكلفين الأفعال- التي تقربهم من فعل الواجبات العقلية- و تبعدهم عن المقبحات الفعلية- .
و المنار الساطع المرتفع سطع الصبح سطوعا ارتفع- . و دار شخوص دار رحلة شخص عن البلد رحل عنه- . و الظاعن المسافر و القاطن المقيم و البائن البعيد- يقول ساكن الدنيا ليس بساكن على الحقيقة- بل هو ظاعن في المعنى و إن كان في الصورة ساكنا- و المقيم بها مفارق و إن ظن أنه مقيم- . و تميد بأهلها تتحرك و تميل- و الميدان حركة و اضطراب- . و تصفقها العواصف- تضربها بشدة ضربا بعد ضرب- و العواصف الرياح القوية- اللجج جمع لجة و هي معظم البحر- . الوبق الهالك وبق الرجل بالفتح يبق وبوقا هلك- و الموبق منه كالموعد مفعل من وعد يعد- و منه قوله تعالى وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً- و فيه لغة أخرى وبق الرجل يوبق وبقا- و فيه لغة ثالثة وبق الرجل بالكسر يبق بالكسر أيضا- و أوبقه الله أي أهلكه- .
و تحفزه الرياح تدفعه- ضرب ع لأهل الدنيا مثلا براكبي السفينة في البحر- و قد مادت بهم فمنهم الهالك على الفور- و منهم من لا يتعجل هلاكه- و تحمله الرياح ساعة أو ساعات- ثم مآله إلى الهلاك أيضا- . ثم أمر ع بالعمل وقت الإمكان قبل ألا يمكن العمل- فكنى عن ذلك بقوله و الألسن منطلقة- لأن المحتضر يعتقل لسانه و الأبدان صحيحة- لأن المحتضر سقيم البدن و الأعضاء لدنة أي لينة- أي قبل الشيخوخة و الهرم و يبسالأعضاء و الأعصاب- و المنقلب فسيح و المجال عريض أي أيام الشبيبة- و في الوقت و الأجل مهلة قبل أن يضيق الوقت عليكم- . قبل إرهاق الفوت- أي قبل أن يجعلكم الفوت- و هو فوات الأمر و تعذر استدراكه عليكم- مرهقين و المرهق الذي أدرك ليقتل- قال الكميت-
تندى أكفهم و في أبياتهم
ثقة المجاور و المضاف المرهق
قوله فحققوا عليكم نزوله و لا تنتظروا قدومه- أي اعملوا عمل من يشاهد الموت حقيقة- لا عمل من ينتظره انتظارا و يطاول الأوقات مطاولة- فإن التسويف داعية التقصير
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 10