188 و من خطبة له ع
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ سُلْطَانِهِ وَ جَلَالِ كِبْرِيَائِهِ- مَا حَيَّرَ مُقَلَ الْعُقُولِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ- وَ رَدَعَ خَطَرَاتِ هَمَاهِمِ النُّفُوسِ عَنْ عِرْفَانَ كُنْهِ صِفَتِهِ- وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ- شَهَادَةَ إِيمَانٍ وَ إِيقَانٍ وَ إِخْلَاصٍ وَ إِذْعَانٍ- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- أَرْسَلَهُ وَ أَعْلَامُ الْهُدَى دَارِسَةٌ- وَ مَنَاهِجُ الدِّينِ طَامِسَةٌ فَصَدَعَ بِالْحَقِّ- وَ نَصَحَ لِلْخَلْقِ وَ هَدَى إِلَى الرُّشْدِ وَ أَمَرَ بِالْقَصْدِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ- وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يُرْسِلْكُمْ هَمَلًا- عَلِمَ مَبْلَغَ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ وَ أَحْصَى إِحْسَانَهُ إِلَيْكُمْ- فَاسْتَفْتِحُوهُ وَ اسْتَنْجِحُوهُ وَ اطْلُبُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَمْنِحُوهُ- فَمَا قَطَعَكُمْ عَنْهُ حِجَابٌ وَ لَا أُغْلِقَ عَنْكُمْ دُونَهُ بَابٌ- وَ إِنَّهُ لَبِكُلِّ مَكَانٍ وَ فِي كُلِّ حِينٍ وَ أَوَانٍ- وَ مَعَ كُلِّ إِنْسٍ وَ جَانٍّ- لَا يَثْلِمُهُ الْعَطَاءُ وَ لَا يَنْقُصُهُ الْحِبَاءُ- وَ لَا يَسْتَنْفِدُهُ سَائِلٌ وَ لَا يَسْتَقْصِيهِ نَائِلٌ- وَ لَا يَلْوِيهِ شَخْصٌ عَنْ شَخْصٍ وَ لَا يُلْهِيهِ صَوْتٌ عَنْ صَوْتٍ- وَ لَا تَحْجُزُهُ هِبَةٌ عَنْ سَلْبٍ وَ لَا يَشْغَلُهُ غَضَبٌ عَنْ رَحْمَةٍ- وَ لَا تُولِهُهُ رَحْمَةٌ عَنْ عِقَابٍ وَ لَا يُجِنُّهُ الْبُطُونُ عَنِ الظُّهُورِ- وَ لَا يَقْطَعُهُ الظُّهُورُ عَنِ الْبُطُونِ- قَرُبَ فَنَأَى وَ عَلَا فَدَنَا وَ ظَهَرَ فَبَطَنَ- وَ بَطَنَ فَعَلَنَ وَ دَانَ وَ لَمْ يُدَنْ- لَمْ يَذْرَإِ الْخَلْقَ بِاحْتِيَالٍ وَ لَا اسْتَعَانَ بِهِمْ لِكَلَالٍ-أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ- فَإِنَّهَا الزِّمَامُ وَ الْقِوَامُ فَتَمَسَّكُوا بِوَثَائِقِهَا- وَ اعْتَصِمُوا بِحَقَائِقِهَا تَؤُلْ بِكُمْ إِلَى أَكْنَانِ الدَّعَةِ- وَ أَوْطَانِ السَّعَةِ وَ مَعَاقِلِ الْحِرْزِ وَ مَنَازِلِ الْعِزِّ- فِي يَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ وَ تُظْلِمُ لَهُ الْأَقْطَارُ- وَ تُعَطَّلُ فِيهِ صُرُومُ الْعِشَارِ وَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ- فَتَزْهَقُ كُلُّ مُهْجَةٍ وَ تَبْكُمُ كُلُّ لَهْجَةٍ- وَ تَذِلُّ الشُّمُّ الشَّوَامِخُ وَ الصُّمُّ الرَّوَاسِخُ- فَيَصِيرُ صَلْدُهَا سَرَاباً رَقْرَاقاً وَ مَعْهَدُهَا قَاعاً سَمْلَقاً- فَلَا شَفِيعٌ يَشْفَعُ وَ لَا حَمِيمٌ يَنْفَعُ وَ لَا مَعْذِرَةٌ تَدْفَعُ أظهر سبحانه من آثار سلطانه- نحو خلق الأفلاك و دخول بعضها في بعض- كالمميل الذي يشتمل على المائل و فلك التدوير و غيرهما- و نحو خلق الإنسان- و ما تدل كتب التشريح من عجيب الحكمة فيه- و نحو خلق النبات و المعادن- و ترتيب العناصر و علاماتها و الآثار العلوية المتجددة- حسب تجدد أسبابها ما حير عقول هؤلاء- و أشعر بأنها إذا لم يحط بتفاصيل تلك الحكم- مع أنها مصنوعة- فالأولى ألا تحيط بالصانع- الذي هو بريء عن المادة و علائق الحس- .
و المقل جمع مقلة- و هي شحمة العين التي تجمع السواد و البياض- و مقلت الشيء نظرت إليه بمقلتي- و أضاف المقل إلى العقول مجازا و مراده البصائر- . و ردع زجر و دفع- و هماهم النفوس- أفكارها و ما يهمهم به عند التمثيل و الروية في الأمر- و أصل الهمهمة صويت يسمع لا يفهم محصوله- .
و العرفان المعرفة و كنه الشيء نهايته و أقصاه- و الإيقان العلم القطعي- و الإذعان الانقياد- و الأعلام المنار و الجبال يستدل بها في الطرقات- . و المناهج السبل الواضحة و الطامسة كالدارسة- و صدع بالحق بين و أصله الشق يظهر ما تحته- و يقال نصحت لزيد و هو أفصح من قولك نصحت زيدا- . و القصد العدل- . و العبث ما لا غرض فيه أو ما ليس فيه غرض مثله- و الهمل الإبل بلا راع- و قد أهملت الإبل أرسلتها سدى- . قوله علم مبلغ نعمه عليكم و أحصى إحسانه إليكم- أي هو عالم بكمية إنعامه عليكم علما مفصلا- و كل من علم قدر نعمته على غيره- كان أحرى أن تشتد نقمته عليه عند عصيانه له و جرأته عليه- بخلاف من يجهل قدر نعمته على الغير- فإنه لا يشد غضبه لأنه لا يعلم قدر نعمته المكفورة- .
قوله فاستفتحوه- أي اطلبوا منه الفتح عليكم و النصر لكم- . و استنجحوه اطلبوا منه النجاح و الظفر- . و اطلبوا إليه أي اسألوه- يقال طلبت إلى زيد كذا و في كذا- . و استمنحوه بكسر النون اطلبوا منه المنحة و هي العطية- و يروى و استميحوه بالياء- استمحت الرجل طلبت عطاءه- و محت بالرجل أعطيته- . ثم ذكر ع أنه لا حجاب يمنع عنه و لا دونه باب يغلق- و أنه بكل مكان موجود و في كل حين و أوان- و المراد بوجوده في كل مكان إحاطة علمه- و هو معنى قوله تعالى- ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ- و قوله سبحانه وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ- .
قوله لا يثلمه العطاء بالكسر لا ينقص قدرته- . و الحباء النوال و لا يستنفده أي لا يفنيه- . و لا يستقصيه- لا يبلغ الجود أقصى مقدوره و إن عظم الجود- لأنه قادر على ما لا نهاية له- . و لا يلويه شخص عن شخص- لا يوجب ما يفعله لشخص أو مع شخص إعراضا- و ذهولا عن شخص آخر بل هو عالم بالجميع- لا يشغله شأن عن شأن لوى الرجل وجهه- أي أعرض و انحرف و مثل هذا أراد بقوله- و لا يلهيه صوت عن صوت ألهاه كذا أي شغله- . و لا تحجزه بالضم هبة عن سلب أي لا تمنعه- أي ليس كالقادرين بالقدرة مثلنا- فإن الواحد منا يصرفه اهتمامه- بعطية زيد عن سلب مال عمرو- حالما يكون مهتما بتلك العطية- لأن اشتغال القلب بأحد الأمرين يشغله عن الآخر- .
و مثل هذا قوله و لا يشغله غضب عن رحمة- و لا تولهه رحمة عن عقاب- أي لا تحدث الرحمة لمستحقها عنده ولها- و هو التحير و التردد و تصرفه عن عقاب المستحق- و ذلك لأن الواحد منا إذا رحم إنسانا حدث عنده رقة- خصوصا إذا توالت منه الرحمة لقوم متعددين- فإنه تصير الرحمة كالملكة عنده- فلا يطيق مع تلك الحال أن ينتقم- و البارئ تعالى بخلاف ذلك لأنه ليس بذي مزاج سبحانه- . و لا يجنه البطون عن الظهور- و لا يقطعه الظهور عن البطون هذه كلها مصادر- بطن بطونا أي خفي و ظهر ظهورا أي تجلى- يقول لا يمنعه خفاؤه عن العقول أن تدركه عند ظهوره بأفعاله- و إن لم يكن ظاهرا بذاته- و كذلك لا يقطعه ظهوره بأفعاله عن أن يخفى كنهه- عن إبصار العقول و إدراكها له- و يقال اجتننت كذا أي سترته و منه الجنين و الجنة للترس- و سمي الجن جنا لاستتارهم- . ثم زاد المعنى تأكيدا فقال قرب فنأى- أي قرب فعلا فنأى ذاتا أي أفعاله قد تعلم- و لكن ذاته لا تعلم- .
ثم قال و علا فدنا- أي لما علا عن أن تحيط به العقول عرفته العقول- لا أنها عرفت ذاته- لكن عرفت أنه شيء لا يصح أن يعرف- و ذلك خاصته سبحانه- فإن ماهيته يستحيل أن تتصور للعقل- لا في الدنيا و لا في الآخرة- بخلاف غيره من الممكنات- . ثم أكد المعنى بعبارة أخرى قال- و ظهر فبطن و بطن فعلن و هذا مثل الأول- و دان غلب و قهر و لم يدن لم يقهر و لم يغلب- . ثم قال لم يذرأ الخلق باحتيال- أي لم يخلقهم بحيلة توصل بها إلى إيجادهم- بل أوجدهم على حسب علمه بالمصلحة- خلقا مخترعا من غير سبب و لا واسطة- . قال و لا استعان بهم لكلال أي لإعياء- أي لم يأمر المكلفين بالجهاد لحاجته في قهر أعدائه- و جاحدي نعمته إليهم- و ليس بكال و لا عاجز عن إهلاكهم- و لكن الحكمة اقتضت ذلك- قال سبحانه- وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ- أي لبطل التكليف- .
ثم ذكر أن التقوى قوام الطاعات التي تقوم بها- و زمام العبادات لأنها تمسك و تحصن- كزمام الناقة المانع لها من الخبط- .و الوثائق جمع وثيقة و هي ما يوثق به- و حقائقها جمع حقيقة و هي الراية- يقال فلان حامي الحقيقة- . قوله تؤل بالجزم لأنه جواب الأمر أي ترجع- . و الأكنان جمع كن و هو الستر- و الدعة الراحة السعة الجدة- و المعاقل جمع معقل و هو الملجأ- و الحرز الحفظ- و تشخص الأبصار تبقى مفتوحة لا تطرف- .
و الأقطار الجوانب- و الصروم جمع صرم و صرمة- و هي القطعة من الإبل نحو الثلاثين- . و العشار- النوق أتى عليها من يوم أرسل الفحل فيها عشرة أشهر- فزال عنها اسم المخاض و لا يزال ذلك اسمها حتى تضع- و الواحدة عشراء- و هذا من قوله تعالى وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ- أي تركت مسيبة مهملة لا يلتفت إليها أربابها- و لا يحلبونها لاشتغالهم بأنفسهم- . و تزهق كل مهجة تهلك- و تبكم كل لهجة أي تخرس رجل أبكم و بكيم- و الماضي بكم بالكسر- . و الشم الشوامخ الجبال العالية- و ذلها تدكدكها و هي أيضا الصم الرواسخ- . فيصير صلدها و هو الصلب الشديد انصلابه سرابا- و هو ما يتراءى في النهار فيظن ماء- . و الرقراق الخفيف- و معهدها ما جعل منها منزلا للناس- قاعا أرضا خالية- و السملق الصفصف المستوي- ليس بعضه أرفع و بعضه أخفض
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 10