187 و من خطبة له ع يصف فيها المنافقين
نَحْمَدُهُ عَلَى مَا وَفَّقَ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ- وَ ذَادَ عَنْهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَ نَسْأَلُهُ لِمِنَّتِهِ تَمَاماً- وَ لِحَبْلِهِ اعْتِصَاماً- وَ نَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- خَاضَ إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ كُلَّ غَمْرَةٍ وَ تَجَرَّعَ فِيهِ كُلَّ غُصَّةٍ- وَ قَدْ تَلَوَّنَ لَهُ الْأَدْنَوْنَ وَ تَأَلَّبَ عَلَيْهِ الْأَقْصَوْنَ- وَ خَلَعَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا- وَ ضَرَبَتْ إِلَى مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا- حَتَّى أَنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عَدَاوَتَهَا مِنْ أَبْعَدِ الدَّارِ وَ أَسْحَقِ الْمَزَارِ- أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ أُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ- فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ وَ الزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ- يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً وَ يَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً- وَ يَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ وَ يَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَادٍ- قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ وَ صِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ- يَمْشُونَ الْخَفَاءَ وَ يَدِبُّونَ الضَّراءَ- وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ وَ قَوْلُهُمْ شِفَاءٌ وَ فِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ- حَسَدَةُ الرَّخَاءِ وَ مُؤَكِّدُو الْبَلَاءِ وَ مُقْنِطُو الرَّجَاءِ- لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ صَرِيعٌ- وَ إِلَى كُلِّ قَلْبٍ شَفِيعٌ وَ لِكُلِّ شَجْوٍ دُمُوعٌ- يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ وَ يَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ- إِنْ سَأَلُوا أَلْحَفُوا وَ إِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا وَ إِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا-قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلًا وَ لِكُلِّ قَائِمٍ مَائِلًا- وَ لِكُلِّ حَيٍّ قَاتِلًا وَ لِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحاً- وَ لِكُلِّ لَيْلٍ مِصْبَاحاً- يَتَوَصَّلُونَ إِلَى الطَّمَعِ بِالْيَأْسِ لِيُقِيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ- وَ يُنْفِقُوا بِهِ أَعْلَاقَهُمْ يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ- وَ يَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ قَدْ هَوَّنُوا الطَّرِيقَ- وَ أَضْلَعُوا الْمَضِيقَ فَهُمْ لُمَةُ الشَّيْطَانِ وَ حُمَةُ النِّيرَانِ- أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ- أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ الضمير في له و هو الهاء راجع إلى ما التي بمعنى الذي- و قيل بل هو راجع إلى الله سبحانه- كأنه قال نحمده على ما وفق من طاعته- و الصحيح هو الأول- لأن له في الفقرة الأولى بإزاء عنه في الفقرة الثانية- و الهاء في عنه ليست عائدة إلى الله- و ذاد طرد و المصدر الذياد- .
و خاض كل غمرة- مثل قولك ارتكب كل مهلكة و تقحم كل هول- و الغمرة ما ازدحم و كثر من الماء- و كذلك من الناس و الجمع غمار- . و الغصة الشجا و الجمع غصص- . و تلون له الأدنون تغير عليه أقاربه ألوانا- . و تألب عليه الأقصون- تجمع عليه الأبعدون عنه نسبا- . و خلعت إليه العرب أعنتها مثل- معناه أوجفوا إليه مسرعين لمحاربته- لأن الخيل إذا خلعت أعنتها كان أسرع لجريها- . و ضربت إلى محاربته بطون رواحلها- كناية عن إسراع العرب نحوه للحرب-لأن الرواحل إذا ضربت بطونها لتساق كان أوحى لها- و مراده أنهم كانوا فرسانا و ركبانا- . قوله حتى أنزلت بساحته عداوتها أي حربها- فعبر عنها بالعداوة لأن العداوة سبب الحرب- فعبر بالسبب عن المسبب- ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناك يعنون الماء- لما كان اعتقادهم أن السماء سبب الماء- .
و أسحق المزار أبعده مكان سحيق أي بعيد- و السحق بضم السين البعد يقال سحقا له- و يجوز ضم الحاء كما قالوا عسر و عسر- و سحق الشيء بالضم أي بعد و أسحقه الله أبعده- و المزار المكان الذي يزار منه- أو المكان الذي يزار فيه و المراد هاهنا هو الأول- و من قرأ كتب السيرة- علم ما لاقى رسول الله ص في ذات الله سبحانه من المشقة- و استهزاء قريش به في أول الدعوة- و رميهم إياه بالحجارة حتى أدموا عقبيه- و صياح الصبيان به و فرث الكرش على رأسه- و فتل الثوب في عنقه و حصره- و حصر أهله في شعب بني هاشم سنين عدة- محرمة معاملتهم و مبايعتهم و مناكحتهم و كلامهم- حتى كادوا يموتون جوعا- لو لا أن بعض من كان يحنو لرحم أو لسبب غيره- فهو يسرق الشيء القليل من الدقيق أو التمر- فيلقيه إليهم ليلا- ثم ضربهم أصحابه و تعذيبهم بالجوع و الوثاق في الشمس- و طردهم إياهم عن شعاب مكة- حتى خرج من خرج منهم إلى الحبشة- و خرج ع مستجيرا منهم تارة بثقيف و تارة ببني عامر- و تارة بربيعة الفرس و بغيرهم- ثم أجمعوا على قتله و الفتك به ليلا- حتى هرب منهم لائذا بالأوس و الخزرج- تاركا أهله و أولاده و ما حوته يده- ناجيا بحشاشة نفسه حتى وصل إلى المدينة- فناصبوه الحرب و رموه بالمناسر و الكتائب- و ضربوا إليه آباط الإبل-و لم يزل منهم في عناء شديد و حروب متصلة- حتى أكرمه الله تعالى و نصره و أيد دينه و أظهره- و من له أنس بالتواريخ- يعلم من تفاصيل هذه الأحوال ما يطول شرحه- .
سمي النفاق نفاقا من النافقاء- و هي بيت اليربوع له بابان يدخل من أحدهما- و يخرج من الآخر- و كذلك الذي يظهر دينا و يبطن غيره- . و الضالون المضلون- الذين يضلون أنفسهم و يضلون غيرهم- و كذلك الزالون المزلون- زل فلان عن الأمر أي أخطأ و أزله غيره- . قوله يفتنون يتشعبون فنونا أي ضروبا- . و يعمدونكم أي يهدونكم و يفدحونكم- يقال عمده المرض يعمده أي هده- و منه قولهم للعاشق عميد القلب- . قوله بعماد أي بأمر فادح و خطب مؤلم- و أصل العمد انشداخ سنام البعير- و ماضيه عمد السنام بالكسر عمدا فهو عمد- . و يرصدونكم يعدون المكايد لكم أرصدت أعددت- و منهفي الحديث إلا أن أرصده لدين علي- .
و قلب دو بالتخفيف أي فاسد من داء أصابه و امرأة دوية- فإذا قلت رجل دوي بالفتح- استوى فيه المذكر و المؤنث و الجماعة- لأنه مصدر في الأصل- و من روى دوية بالتشديد على بعده- فإنما شدده ليقابل نقية- . و الصفاح جمع صفحة الوجه و هي ظاهره- يقول باطنهم عليل و ظاهرهم صحيح- يمشون الخفاء أي في الخفاء ثم حذف الجار فنصب- و كذلك يدبون الضراء-و الضراء شجر الوادي الملتف- و هذا مثل يضرب لمن يختل صاحبه- يقال هو يدب له الضراء و يمشي له الخمر- و هو جرف الوادي- ثم قال وصفهم داء و قولهم شفاء- و فعلهم الداء العياء- أي أقوالهم أقوال الزاهدين العابدين- و أفعالهم أفعال الفاسقين الفاجرين- و الداء العياء الذي يعيي الأساة- .
ثم قال حسدة الرخاء يحسدون على النعم- و مؤكدو البلاء إذا وقع واحد من الناس في بلاء- أكدوه عليه بالسعايات و النمائم- و إغراء السلطان به- و لقد أحسن أبو الطيب في قوله يذم البشر-
و كأنا لم يرض فينا بريب الدهر
حتى أعانه من أعانا
كلما أنبت الزمان قناة
ركب المرء في القناة سنانا
و مقنطو الرجاء أي أهل الرجاء- أي يبدلون بشرورهم و أذاهم رجاء الراجي قنوطا- . قوله و إلى كل قلب شفيع- يصف خلابة ألسنتهم و شدة ملقهم- فقد استحوذوا على قلوب الناس بالرياء و التصنع- . قوله و لكل شجو دموع- الشجو الحزن أي يبكون تباكيا و تعملا لا حقا- عند أهل كل حزن و مصاب- . يتقارضون الثناء أي يثني زيد على عمرو- ليثني عمرو عليه في ذلك المجلس- أو يبلغه فيثني عليه في مجلس آخر مأخوذ من القرض- . و يتراقبون الجزاء- يرتقب كل واحد منهم على ثنائه و مدحه- لصاحبه جزاء منهإما بالمال أو بأمر آخر- نحو ثناء يثني عليه أو شفاعة يشفع له أو نحو ذلك- . و الإلحاف في السؤال الاستقصاء فيه و هو مذموم- قال الله تعالى لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً- .
قوله و إن عذلوا كشفوا- أي إذا عذلك أحدهم- كشف عيوبك في ذلك اللوم و العذل و جبهك بها- و ربما لا يستحي أن يذكرها لك- بمحضر ممن لا تحب ذكرها بحضرته- و ليسوا كالناصحين على الحقيقة- الذين يعرضون عند العتاب بالذنب تعريضا لطيفا- ليقلع الإنسان عنه- . و إن حكموا أسرفوا- إذا سألك أحدهم ففوضته في مالك أسرف و لم يقنع بشيء- و أحب الاستئصال- .
قد أعدوا لكل حق باطلا- يقيمون الباطل في معارضة الحق- و الشبهة في مصادمة الحجة- و لكل دليل قائم و قول صحيح ثابت- احتجاجا مائلا مضادا لذلك الدليل- و كلاما مضطربا لذلك القول- . و لكل باب مفتاحا- أي ألسنتهم ذلقة قادرة على فتح المغلقات- للطف توصلهم و ظرف منطقهم- . و لكل ليل مصباحا- أي كل أمر مظلم فقد أعدوا له كلاما ينيره و يضيئه- و يجعله كالمصباح الطارد لليل- .و يتوصلون إلى مطامعهم- بإظهار اليأس عما في أيدي الناس- و بالزهد في الدنيا- و في الأثر شركم من أخذ الدنيا بالدين- . ثم قال إنما فعلوا ذلك ليقيموا به أسواقهم- أي لتنفق سلعتهم- .
و الأعلاق جمع علق و هو السلعة الثمينة- . يقولون فيشبهون يوقعون الشبه في القلوب- . و يصفون فيموهون التمويه التزيين- و أصله أن تطلي الحديدة بذهب يحسنها- . قد هيئوا الطريق- أي الطريق الباطل قد هيئوها لتسلك بتمويهاتهم- . و أضلعوا المضيق أمالوه و جعلوه ضلعا أي معوجا- أي جعلوا المسلك الضيق معوجا بكلامهم و تلبيسهم- فإذا أسلكوه إنسانا اعوج لاعوجاجه- . و اللمة بالتخفيف الجماعة- و الحمة بالتخفيف أيضا السم- و كنى عن إحراق النار بالحمة للمشابهة في المضرة
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 10