184 من خطبة له ع
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ- الْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ مَنْصَبَةٍ خَلَقَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ- وَ اسْتَعْبَدَ الْأَرْبَابَ بِعِزَّتِهِ وَ سَادَ الْعُظَمَاءَ بِجُودِهِ- وَ هُوَ الَّذِي أَسْكَنَ الدُّنْيَا خَلْقَهُ- وَ بَعَثَ إِلَى الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ رُسُلَهُ- لِيَكْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا وَ لِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا- وَ لْيَضْرِبُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا وَ لِيُبَصِّرُوهُمْ عُيُوبَهَا- وَ لِيَهْجُمُوا عَلَيْهِمْ بِمُعْتَبَرٍ مِنْ تَصَرُّفِ مَصَاحِّهَا وَ أَسْقَامِهَا- وَ حَلَالِهَا وَ حَرَامِهَا- وَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ وَ الْعُصَاةِ- مِنْ جَنَّةٍ وَ نَارٍ وَ كَرَامَةٍ وَ هَوَانٍ- أَحْمَدُهُ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا اسْتَحْمَدَ إِلَى خَلْقِهِ- جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً- وَ لِكُلِّ قَدْرٍ أَجَلًا وَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاباً المنصبة بالفتح و النصب التعب- و الماضي نصب بالكسرة و هم ناصب في قول النابغة-كليني لهم يا أميمة ناصب- . ذو نصب مثل رجل تامر و لابن- و يقال هو فاعل بمعنى مفعول فيه- لأنه ينصب فيه و يتعب- كقولهم ليل نائم أي ينام فيه- و يوم عاصف أي تعصف فيه الريح- و استعبدت فلانا اتخذته عبدا و الضراء الشدة- .
و معتبر مصدر بمعنى الاعتبار- و مصاحها جمع مصحة مفعلة من الصحة- كمضار جمع مضرة- وصفه سبحانه بأنه معروف بالأدلة- لا من طريق الرؤية كما تعرف المرئيات- و بأنه يخلق الأشياء و لا يتعب كما يتعب الواحد منا- فيما يزاوله و يباشر من أفعاله- خلق الخلائق بقدرته على خلقهم لا بحركة و اعتماد- و أسبغ النعمة عليهم أوسعها- و استعبد الذين يدعون في الدنيا أربابا بعزه و قهره- . و ساد كل عظيم بسعة جوده و أسكن الدنيا خلقه- كما ورد في الكتاب العزيز- إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً- .
و بعث رسله إلى الجن و الإنس- كما ورد في الكتاب العزيز- يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ- أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي- وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا- . قال ليكشفوا لهم عن غطاء الدنيا- أي عن عوراتها و عيوبها المستورة- و ليخوفوهم من مضرتها- و غرورها المفضي إلى عذاب الأبد- . و ليضربوا لهم أمثالها- كالأمثال الواردة في الكتاب العزيز- نحو قوله تعالى إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ- فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ… الآية- . قوله و ليهجموا عليهم- هجمت على الرجل دخلت عليه بغتة- يقول ليدخلوا عليهم بما في تصاريف الدنيا- من الصحة و السقم- و ما أحل و ما حرم على طريق الابتلاء- .
ثم قال و ما أعد الله سبحانه للمطيعين منهم و العصاة- يجوز أن تكون ما معطوفة على عيوبها- فيكون موضعها نصبا و يجوز أن يكون موضعها جرا- و يكون من تتمة أقسام ما يعتبر به و الأول أحسن- . ثم قال ع إني أحمد الله كما استحمد إلى خلقه- استحمد إليهم فعل ما يوجب عليهم حمده- . ثم قال إنه سبحانه جعل لكل شيء من أفعاله قدرا- أي فعله مقدرا محدود الغرض- اقتضى ذلك القدر و تلك الكيفية- كما قال سبحانه وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ- .
و جعل لكل شيء مقدر وقتا ينتهي إليه و ينقطع عنده- و هو الأجل- . و لكل أجل كتابا أي رقوما تعرفها الملائكة- فتعلم انقضاء عمر من ينقضي عمره- و عدم ما ألطافهم في معرفة عدمه: مِنْهَا فِي ذِكْرِ الْقُرْآنِ فَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ وَ صَامِتٌ نَاطِقٌ- حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ أَخَذَ عَلَيْهِ مِيثَاقَهُمْ- وَ ارْتَهَنَ عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ أَتَمَّ نُورَهُ- وَ أَكْرَمَ بِهِ دِينَهُ وَ قَبَضَ نَبِيَّهُ ص- وَ قَدْ فَرَغَ إِلَى الْخَلْقِ مِنْ أَحْكَامِ الْهُدَى بِهِ- فَعَظِّمُوا مِنْهُ سُبْحَانَهُ مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِهِ- فَإِنَّهُ لَمْ يُخْفِ عَنْكُمْ شَيْئاً مِنْ دِينِهِ- وَ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً رَضِيَهُ أَوْ كَرِهَهُ إِلَّا وَ جَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً- وَ آيَةً مُحْكَمَةً تَزْجُرُ عَنْهُ أَوْ تَدْعُو إِلَيْهِ- فَرِضَاهُ فِيمَا بَقِيَ وَاحِدٌ وَ سَخَطُهُ فِيمَا بَقِيَ وَاحِدٌ-وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرْضَى عَنْكُمْ بِشَيْءٍ سَخِطَهُ- عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ- وَ لَنْ يَسْخَطَ عَلَيْكُمْ بِشَيْءٍ رَضِيَهُ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ- وَ إِنَّمَا تَسِيرُونَ فِي أَثَرٍ بَيِّنٍ- وَ تَتَكَلِّمُونَ بِرَجْعِ قَوْلٍ قَدْ قَالَهُ الرِّجَالُ مِنْ قَبْلِكُمْ- قَدْ كَفَاكُمْ مَئُونَةَ دُنْيَاكُمْ وَ حَثَّكُمْ عَلَى الشُّكْرِ- وَ افْتَرَضَ مِنْ أَلْسِنَتِكُمُ الذِّكْرَ وَ أَوْصَاكُمْ بِالتَّقْوَى- وَ جَعَلَهَا مُنْتَهَى رِضَاهُ وَ حَاجَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ- فَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِعَيْنِهِ وَ نَوَاصِيكُمْ بِيَدِهِ- وَ تَقَلُّبُكُمْ فِي قَبْضَتِهِ- إِنْ أَسْرَرْتُمْ عَلِمَهُ وَ إِنْ أَعْلَنْتُمْ كَتَبَهُ- قَدْ وَكَّلَ بِذَلِكَ حَفَظَةً كِرَاماً لَا يُسْقِطُونَ حَقّاً وَ لَا يُثْبِتُونَ بَاطِلًا- وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنَ الْفِتَنِ- وَ نُوراً مِنَ الظُّلَمِ وَ يُخَلِّدْهُ فِيمَا اشْتَهَتْ نَفْسُهُ- وَ يُنْزِلْهُ مَنْزِلَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ فِي دَارٍ اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ- ظِلُّهَا عَرْشُهُ وَ نُورُهَا بَهْجَتُهُ- وَ زُوَّارُهَا مَلَائِكَتُهُ وَ رُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ- فَبَادِرُوا الْمَعَادَ وَ سَابِقُوا الآْجَالَ- فَإِنَّ النَّاسَ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِمُ الْأَمَلُ وَ يَرْهَقَهُمُ الْأَجَلُ- وَ يُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ التَّوْبَةِ- فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي مِثْلِ مَا سَأَلَ إِلَيْهِ الرَّجْعَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ- وَ أَنْتُمْ بَنُو سَبِيلٍ عَلَى سَفَرٍ مِنْ دَارٍ لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ- وَ قَدْ أُوذِنْتُمْ مِنْهَا بِالِارْتِحَالِ وَ أُمِرْتُمْ فِيهَا بِالزَّادِ جعل القرآن آمرا و زاجر- لما كان خالقه و هو الله سبحانه آمرا زاجرا به- فأسند الأمر و الزجر إليه كما تقول سيف قاتل- و إنما القاتل الضارب به و جعله صامتا ناطقا- لأنه من حيث هو حروف و أصوات صامت- إذ كان العرض يستحيل أن يكون ناطقا-لأن النطق حركة الأداة بالكلام- و الكلام يستحيل أن يكون ذا أداة ينطق بالكلام بها- و هو من حيث يتضمن الإخبار و الأمر و النهي و النداء- و غير ذلك من أقسام الكلام كالناطق- لأن الفهم يقع عنده- و هذا من باب المجاز كما تقول هذه الربوع الناطقة- و أخبرتني الديار بعد رحيلهم بكذا- .
ثم وصفه بأنه حجة الله على خلقه- لأنه المعجزة الأصلية- . أخذ سبحانه على الخلائق ميثاقه- و ارتهن عليه أنفسهم- لما كان سبحانه قد قرر في عقول المكلفين أدلة التوحيد و العدل- و من جملة مسائل العدل النبوة و يثبت نبوة محمد ص عقلا- كان سبحانه بذلك كالآخذ ميثاق المكلفين بتصديق دعوته- و قبول القرآن الذي جاء- و جعل به نفسهم رهنا على الوفاء بذلك- فمن خالف خسر نفسه و هلك هلاك الأبد- . هذا تفسير المحققين و من الناس من يقول- المراد بذلك قصة الذرية قبل خلق آدم ع- كما ورد في الأخبار و كما فسر قوم عليه الآية- . ثم ذكر ع أن الله تعالى قبض رسوله ص- و قد فرغ إلى الخلق بالقرآن من الإكمال و الإتمام- كقوله تعالى- الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي- و إذا كان قد أكمله لم يبق فيه نقص ينتظر إتمامه- . قال فعظموا من الله ما عظم من نفسه- لأنه سبحانه وصف نفسه بالعظمة و الجلال في أكثر القرآن- فالواجب علينا أن نعظمه على حسب ما عظم نفسه سبحانه- .
ثم علل وجوب تعظيمه- و حسن أمره لنا بتعظيمه سبحانه- بكونه لم يخف عنا شيئا من أمر ديننا- و ذلك لأن الشرعيات مصالح المكلفين- و إذا فعل الحكيم سبحانه بناما فيه صلاحنا- فقد أحسن إلينا- و من جملة صلاحنا تعريفنا من الشرعيات ما فعله لطف- و مفض بنا إلى الثواب- و هذا أبلغ ما يكون من الإحسان- و المحسن يجب تعظيمه و شكره- . قال لم يترك شيئا إلا و جعل له نصا ظاهرا يدل عليه- أو علما يستدل به عليه أي إما منصوص عليه صريحا- أو يمكن أن يستنبط حكمه من القرآن إما بذكره أو بتركه- فيبقى على البراءة الأصلية و حكم العقل- .
قوله فرضاه فيما بقي واحد- معناه أن ما لم ينص عليه صريحا بل هو في محل النظر- ليس يجوز للعلماء أن يجتهدوا فيه- فيحله بعضهم و يحرمه بعضهم- بل رضا الله سبحانه أمر واحد و كذلك سخطه- فليس يجوز أن يكون شيء من الأشياء- يفتي فيه قوم بالحل و قوم بالحرمة- و هذا قول منه ع بتحريم الاجتهاد- و قد سبق منه ع مثل هذا الكلام مرارا- . قوله و اعلموا أنه ليس يرضى عنكم- الكلام إلى منتهاه- معناه أنه ليس يرضى عنكم بالاختلاف في الفتاوي و الأحكام- كما اختلف الأمم من قبلكم فسخط اختلافهم- قال سبحانه- إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ- . و كذلك ليس يسخط عليكم بالاتفاق- و الاجتماع الذي رضيه ممن كان قبلكم من القرون- . و يجوز أن يفسر هذا الكلام- بأنه لا يرضى عنكم بما سخطه على الذين من قبلكم- من الاعتقادات الفاسدة في التوحيد و العدل- و لا يسخط عليكم بما تعتقدونه من الاعتقادات الصحيحة- التي رضيها ممن كان قبلكم في التوحيد و العدل- فيكون الكلام مصروفا إلى الأصول لا إلى الفروع- .
قال و إنما تسيرون في أثر بين- أي إن الأدلة واضحة و ليس مراده الأمر بالتقليد- و كذلك قوله و تتكلمون برجع قول قد قاله الرجال من قبلكم- يعني كلمة التوحيد لا إله إلا الله- قد قالها الموحدون من قبل هذه الملة لا تقليدا- بل بالنظر و الدليل فقولوها أنتم كذلك- .
ثم ذكر أنه سبحانه قد كفى الخلق مئونة دنياهم- قال الحسن البصري إن الله تعالى كفانا مئونة دنيانا- و حثنا على القيام بوظائف ديننا- فليته كفانا مئونة ديننا- و حثنا على القيام بوظائف دنيانا- .
قوله و افترض من ألسنتكم الذكر- افترض عليكم أن تذكروه و تشكروه بألسنتكم- و من متعلقة بمحذوف دل عليه المصدر المتأخر- تقديره و افترض عليكم الذكر من ألسنتكم الذكر- . ثم ذكر أن التقوى المفترضة هي رضا الله و حاجته من خلقه- لفظة حاجته مجاز لأن الله تعالى غني غير محتاج- و لكنه لما بالغ في الحث و الحض عليها- و توعد على تركها جعله كالمحتاج إلى الشيء- و وجه المشاركة أن المحتاج يحث و يحض على حاجته- و كذلك الآمر المكلف إذا أكد الأمر- .
قوله أنتم بعينه أي يعلم أحوالكم و نواصيكم بيده- الناصية مقدم شعر الرأس أي هو قادر عليكم قاهر لكم- متمكن من التصرف فيكم- كالإنسان القابض على ناصية غيره- . و تقلبكم في قبضته أي تصرفكم تحت حكمه- لو شاء أن يمنعكم منعكم فهو كالشيء في قبضة الإنسان- إن شاء استدام القبض عليه و إن شاء تركه- . ثم قال إن أسررتم أمرا علمه- و إن أظهرتموه كتبه- ليس على أن الكتابة غير العلم بل هما شيء واحد- و لكن اللفظ مختلف- .
ثم ذكر أن الملائكة موكلة بالمكلف- و هذا هو نص الكتاب العزيز و قد تقدم القول في ذلك- . ثم انتقل إلى ذكر الجنة- و الكلام يدل على أنها في السماء و أن العرش فوقها- . و معنى قوله اصطنعها لنفسه إعظامها و إجلالها- كما قال لموسى وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي- و لأنه لما تعارف الناس في تعظيم ما يصنعونه- أن يقول الواحد منهم لصاحبه- قد وهبتك هذه الدار التي اصطنعتها لنفسي أي أحكمتها- و لم أكن في بنائها متكلفا بأن أبنيها لغيري- صح و حسن من البليغ الفصيح أن يستعير مثل ذلك- فيما لم يصطنعه في الحقيقة لنفسه- و إنما هو عظيم جليل عنده- .
قوله و نورها بهجته هذا أيضا مستعار- كأنه لما كان إشراق نورها عظيما جدا نسبه إلى بهجة البارئ- و ليس هناك بهجة على الحقيقة لأن البهجة حسن الخلقة- قال تعالى وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي من كل صنف حسن- . قوله و زوارها ملائكته- قد ورد في هذا من الأخبار كثير جدا- و رفقاؤها رسله- من قوله تعالى وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً- . و يوشك بكسر الشين فعل مستقبل ماضيه أوشك أي أسرع- . و رهقه الأمر بالكسر فاجأه- . و يسد عنهم باب التوبة- لأنه لا تقبل عند نزول الموت بالإنسان- من حيث كان يفعلها خوفا فقط- لا لقبح القبيح- قال تعالى وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ- حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ- .
و إنما قال في مثل ما سأل إليه الرجعة من كان قبلكم- كقوله سبحانه حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ- لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ- كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها- وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ- . و بنو سبيل أرباب طريق مسافرون- . و أوذن فلان بكذا أعلم و آذنته أعلمته- . و قد تقدم لنا كلام بالغ في التقوى- و ماهيتها و تأكيد وصاة الخالق سبحانه- و الرسول ع بهانبذ و أقاويل في التقوىروى المبرد في الكامل أن رجلا قال لعمر بن الخطاب- اتق الله يا أمير المؤمنين- فقال له رجل أ تألت على أمير المؤمنين أي أ تنتقصه- فقال عمر دعه فلا خير فيهم إذا لم يقولوها- و لا خير فينا إذا لم تقل لنا- .
و كتب أبو العتاهية إلى سهل بن صالح و كان مقيما بمكة- أما بعد فأنا أوصيك بتقوى الله الذي لا غناء بك عن تقاته- و أتقدم إليك عن الله- و نذكرك مكر الله فيما دبت به إليك ساعات الليل و النهار- فلا تخدعن عن دينك- فإن ساعاتك أوقاتك إن ظفرت بذلك منك- وجدت الله فيك أسرع مكرا و أنفذ فيك أمرا- و وجدت ما مكرت به في غير ذات الله- غير راد عنك يد الله و لا مانع لك من أمر الله- و لعمري لقد ملأت عينك الفكر- و اضطربت في سمعك أصوات العبر- و رأيت آثار نعم الله- نسختها آثار نقمه حين استهزئ بأمره و جوهر بمعاندته- ألا إن في حكم الله أنه من أكرمه الله- فاستهان بأمره أهانه الله- السعيد من وعظ بغيره لا وعظك الله في نفسك- و جعل عظتك في غيرك- و لا جعل الدنيا عليك حسرة و ندامة برحمته- .
ومن كلام رسول الله ص لا كرم كالتقوى- و لا مال أعود من العقل و لا وحدة أوحش من العجب- و لا عقل كالتدبير و لا قرين كحسن الخلق- و لا ميراث كالأدب و لا فائدة كالتوفيق- و لا تجارة كالعمل الصالح و لا ربح كثواب الله- و لا ورع كالوقوف عند الشبهة- و لا زهد كالزهد في الحرام و لا علم كالتفكر- و لا عبادة كأداء الفرائض و لا إيمان كالحياء و الصبر- و لا حسب كالتواضع و لا شرف كالعلم- و لا مظاهرة أوفق من المشورة- فاحفظ الرأس و ما حوى و البطن و ما وعى- و اذكر الموت و طول البلى
وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ- فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ- فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا- فَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ- وَ الْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ وَ الرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ- فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ- ضَجِيعَ حَجَرٍ وَ قَرِينَ شَيْطَانٍ- أَ عَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ- حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِهِ- وَ إِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ- أَيُّهَا الْيَفَنُ الْكَبِيرُ الَّذِي قَدْ لَهَزَهُ الْقَتِيرُ- كَيْفَ أَنْتَ إِذَا الْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ النَّارِ بِعِظَامِ الْأَعْنَاقِ- وَ نَشِبَتِ الْجَوَامِعُ حَتَّى أَكَلَتْ لُحُومَ السَّوَاعِدِ- فَاللَّهَ اللَّهَ مَعْشَرَ الْعِبَادِ- وَ أَنْتُمْ سَالِمُونَ فِي الصِّحَّةِ قَبْلَ السُّقْمِ- وَ فِي الْفُسْحَةِ قَبْلَ الضِّيقِ- فَاسْعَوْا فِي فَكَاكِ رِقَابِكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِنُهَا-أَسْهِرُوا عُيُونَكُمْ وَ أَضْمِرُوا بُطُونَكُمْ- وَ اسْتَعْمِلُوا أَقْدَامَكُمْ وَ أَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ- وَ خُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ- وَ لَا تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ- إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ- وَ قَالَ تَعَالَى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً- فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ- فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ مِنْ ذُلٍّ- وَ لَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ- اسْتَنْصَرَكُمْ وَ لَهُ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ- وَ اسْتَقْرَضَكُمْ وَ لَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ- وَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ- وَ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا- فَبَادِرُوا بِأَعْمَالِكُمْ تَكُونُوا مَعَ جِيرَانِ اللَّهِ فِي دَارِهِ- رَافَقَ بِهِمْ رُسُلَهُ وَ أَزَارَهُمْ مَلَائِكَتَهُ- وَ أَكْرَمَ أَسْمَاعَهُمْ أَنْ تَسْمَعَ حَسِيسَ نَارٍ أَبَداً- وَ صَانَ أَجْسَادَهُمْ أَنْ تَلْقَى لُغُوباً وَ نَصَباً- ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ- أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِي وَ أَنْفُسِكُمْ- وَ هُوَ سْبُنَا وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ الرمضاء الأرض الشديدة الحرارة- و الرمض بالتحريك شدة وقع الشمس على الرمل و غيره- و قد رمض يومنا بالكسر يرمض رمضا- اشتد حره و أرض رمضة الحجارة- و رمضت قدمه من الرمضاء احترقت- .
و الطابق بالفتح الآجرة الكبيرة و هو فارسي معرب- . و ضجيع حجر يومئ فيه إلى قوله تعالى- وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ قيل إنها حجارة الكبريت- . و قرين شيطان يومئ فيه إلى قوله تعالى- قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ- . و حطم بعضها بعضا كسره أو أكله- و الحطمة من أسماء النار لأنها تحطم ما تلقى- و منه سمي الرجل الكثير الأكل حطمة- . و اليفن الشيخ الكبير و لهزه خالطه- و يقال له حينئذ ملهوز ثم أشمط ثم أشيب- و لهزت القوم خالطتهم و دخلت بينهم- . و القتير الشيب و أصله رءوس المسامير في الدروع تسمى قتيرا- . و التحمت أطواق النار بالعظام التفت عليها- و انضمت إليها و التصقت بها- . و الجوامع جمع جامعة- و هي الغل لأنها تجمع اليدين إلى العنق- . و نشبت علقت و السواعد جمع ساعد و هو الذراع- . و في من قوله في الصحة قبل السقم- متعلقة بالمحذوف الناصب لله و هو اتقوا- أي اتقوه سبحانه في زمان صحتكم- قبل أن ينزل بكم السقم- و في فسحة أعماركم قبل أن تبدل بالضيق- . و فكاك الرقاب بفتح الفاء عتقها قبل أن تغلق رهائنها- يقال غلق الرهن بالكسر- إذا استحقه المرتهن بألا يفكه الراهن في الوقت المشروط- و كان ذلك من شرع الجاهلية- فنهى عنه النبي ص و قال لا يغلق الرهن- .
و خذوا من أجسادكم أي أتعبوها بالعبادة حتى تنحل- . و القل القلة و الذل الذلة- . و حسيس النار صوتها و اللغوب النصبطرف و أخبار
و نظير قوله ع- استقرضكم و له خزائن السماوات و الأرض- ما رواه المبرد في الكامل عن أبي عثمان المازني- عن أبي زيد الأنصاري- قال وقف علينا أعرابي في حلقة يونس النحوي- فقال الحمد لله كما هو أهله- و أعوذ بالله أن أذكر به و أنساه- خرجنا من المدينة مدينة الرسول ص- ثلاثين رجلا ممن أخرجته الحاجة و حمل على المكروه- و لا يمرضون مرضاهم و لا يدفنون ميتهم- و لا ينتقلون من منزل إلى منزل و إن كرهوه- و الله يا قوم لقد جعت حتى أكلت النوى المحرق- و لقد مشيت حتى انتعلت الدم- و حتى خرج من قدمي بخص و لحم كثير- أ فلا رجل يرحم ابن سبيل و فل طريق و نضو سفر- فإنه لا قليل من الأجر- و لا غنى عن ثواب الله و لا عمل بعد الموت- و هو سبحانه يقول مَنْ ذَا الَّذِييُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً- ملي وفي ماجد واجد جواد لا يستقرض من عوز- و لكنه يبلو الأخيار- . قال المازني- فبلغني أنه لم يبرح حتى أخذ ستين دينارا- .
و من كلام علي بن عبيدة الريحاني- الأيام مستودعات الأعمال- و نعم الأرضون هي لمن بذر فيها الخير و العمل الصالح- . و خطب الحجاج فقال أيها الناس- إنكم أغراض حمام و فرص هلكة قد أنذركم القرآن و نادى برحيلكم الجديدان- ها إن لكم موعدا لا تؤخر ساعته و لا تدفع هجمته- و كان قد دلفت إليكم نازلته- فتعلق بكم ريب المنون و علقت بكم أم اللهيم الحيزبون- فما ذا هيأتم للرحيل و ما ذا أعددتم للنزيل- من لم يأخذ أهبة الحذر نزل به مرهوب القدر
خطبة لأبي الشخباء العسقلاني
قلت و قد شغف الناس في المواعظ بكلام كاتب محدث- يعرف بابن أبي الشخباءالعسقلاني و أنا أورد هاهنا خطبة من مواعظه- هي أحسن ما وجدته له ليعلم الفرق بين الكلام الأصيل و المولد- . أيها الناس- فكوا أنفسكم من حلقات الآمال المتعبة- و خففوا ظهوركم من الآصار المستحقبة- و لا تسيموا أطماعكم في رياض الأماني المتشعبة- و لا تميلوا صغواكم إلى زبارج الدنيا المحببة- فتظل أجسامكم في هشائمها عاملة نصبة- أ ما علمتم أن طباعها على الغدر مركبة- و أنها لأعمار أهلها منتهبة- و لما ساءهم منتظرة مرتقبة- في هبتها راجعة متعقبة- فانضوا رحمكم الله ركائب الاعتبار مشرقة و مغربة- و أجروا خيول التفكر مصعدة و مصوبة- هل تجدون إلا قصورا على عروشها خربة- و ديارا معطشة من أهلها مجدبة- أين الأمم السالفة المتشعبة- و الجبابرة الماضية المتغلبة- و الملوك المعظمة المرجبة- أولو الحفدة و الحجبة و الزخارف المعجبة- و الجيوش الحرارة اللجبة و الخيام الفضفاضة المطنبة- و الجياد الأعوجية المجنبة- و المصاعب الشدقمية المصحبة- و اللدان المثقفة المدربة و الماذية الحصينة المنتخبة- طرقت و الله خيامهم غير منتهبة- و أزارتهم من الأسقام سيوفا معطبة- و سيرت إليهم الأيام من نوبها كتائب مكتبة- فأصبحت أظفار المنية من مهجهم قانية مختضبة- و غدت أصوات النادبات عليهم مجلبة- و أكلت لحومهم هوام الأرض السغبة- ثم إنهم مجموعون ليوم لا يقبل فيه عذر و لا معتبة- و تجازى كل نفس بما كانت مكتسبة- فسعيدة مقربة تجري من تحتها الأنهار مثوبة- و شقية معذبة في النار مكبكبة- . هذه أحسن خطبة خطبها هذا الكاتب- و هي كما تراها ظاهرة التكلف- بينة التوليد تخطب على نفسها- و إنما ذكرت هذا لأن كثيرا من أرباب الهوى يقولون- إن كثيرا من نهج البلاغة كلام محدث- صنعه قوم من فصحاء الشيعة- و ربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن و غيره- و هؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم- فضلوا عن النهج الواضح
و ركبوا بنيات الطريق- ضلالا و قلة معرفة بأساليب الكلام- و أنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط فأقول
رأي للمؤلف في كتاب نهج البلاغة
لا يخلو إما أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعا منحولا أو بعضه- و الأول باطل بالضرورة- لأنا نعلم بالتواتر- صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين ع- و قد نقل المحدثون كلهم أو جلهم- و المؤرخون كثيرا منه- و ليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك- و الثاني يدل على ما قلناه- لأن من قد أنس بالكلام و الخطابة- و شدا طرفا من علم البيان- و صار له ذوق في هذا الباب- لا بد أن يفرق بين الكلام الركيك و الفصيح- و بين الفصيح و الأفصح و بين الأصيل و المولد- و إذا وقف على كراس واحد يتضمن كلاما لجماعة من الخطباء- أو لاثنين منهم فقط- فلا بد أن يفرق بين الكلامين و يميز بين الطريقتين- أ لا ترى أنا مع معرفتنا بالشعر و نقده- لو تصفحنا ديوان أبي تمام- فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد- أو قصيدة واحدة لغيره- لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام و نفسه- و طريقته و مذهبه في القريض- أ لا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره- قصائد كثيرة منحولة إليه- لمباينتها لمذهبه في الشعر- و كذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئا كثيرا- لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه- و لا من شعره و كذلك غيرهما من الشعراء- و لم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة- .
و أنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماء واحدا- و نفسا واحدا و أسلوبا واحدا- كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه- مخالفا لباقي الأبعاض في الماهية- و كالقرآن العزيز أوله كأوسطه و أوسطه كآخره- و كل سورة منه- و كل آية مماثلة فيالمأخذ و المذهب و الفن و الطريق- و النظم لباقي الآيات و السور- و لو كان بعض نهج البلاغة منحولا و بعضه صحيحا- لم يكن ذلك كذلك- فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين ع- .
و اعلم أن قائل هذا القول- يطرق على نفسه ما لا قبل له به- لأنا متى فتحنا هذا الباب- و سلطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو- لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله ص أبدا- و ساغ لطاعن أن يطعن و يقول- هذا الخبر منحول و هذا الكلام مصنوع- و كذلك ما نقل عن أبي بكر و عمر- من الكلام و الخطب و المواعظ و الأدب و غير ذلك- و كل أمر جعله هذا الطاعن مستندا له- فيما يرويه عن النبي ص و الأئمة الراشدين- و الصحابة و التابعين و الشعراء و المترسلين و الخطباء- فلناصري أمير المؤمنين ع أن يستندوا إلى مثله- فيما يروونه عنه من نهج البلاغة و غيره- و هذا واضح
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 10