181 و من كلام له ع في ذم أصحابه
أَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى مَا قَضَى مِنْ أَمْرٍ وَ قَدَّرَ مِنْ فِعْلٍ- وَ عَلَى ابْتِلَائِي بِكُمْ أَيَّتُهَا الْفِرْقَةُ الَّتِي إِذَا أَمَرْتُ لَمْ تُطِعْ- وَ إِذَا دَعَوْتُ لَمْ تُجِبْ- إِنْ أُهْمِلْتُمْ خُضْتُمْ وَ إِنْ حُورِبْتُمْ خُرْتُمْ- وَ إِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ طَعَنْتُمْ- وَ إِنْ أُجِئْتُمْ إِلَى مُشَاقَّةٍ نَكَصْتُمْ- . لَا أَبَا لِغَيْرِكُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ- وَ الْجِهَادِ عَلَى حَقِّكُمْ- الْمَوْتَ أَوِ الذُّلَّ لَكُمْ- فَوَاللَّهِ لَئِنْ جَاءَ يَومِي وَ لَيَأْتِيَنِّي لَيُفَرِّقَنَّ بَيْنِي وَ بَيْنِكُمْ- وَ أَنَا لِصُحْبَتِكُمْ قَالٍ وَ بِكُمْ غَيْرُ كَثِيرٍ- لِلَّهِ أَنْتُمْ أَ مَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ وَ لَا حَمِيَّةٌ تَشْحَذُكُمْ- أَ وَ لَيْسَ عَجَباً أَنَّ مُعَاوِيَةَ يَدْعُو الْجُفَاةَ الطَّغَامَ- فَيَتَّبِعُونَهُ عَلَى غَيْرِ مَعُونَةٍ وَ لَا عَطَاءٍ- وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ وَ أَنْتُمْ تَرِيكَةُ الْإِسْلَامِ- وَ بَقِيَّةُ النَّاسِ إِلَى الْمَعُونَةِ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَطَاءِ- فَتَتَفَرَّقُونَ عَنِّي وَ تَخْتَلِفُونَ عَلَيَّ- إِنَّهُ لَا يَخْرُجُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِي رِضًا فَتَرْضَوْنَهُ- وَ لَا سُخْطٌ فَتَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ- وَ إِنَّ أَحَبَّ مَا أَنَا لَاقٍ إِلَيَّ الْمَوْتُ- قَدْ دَارَسْتُكُمُ الْكِتَابَ وَ فَاتَحْتُكُمُ الْحِجَاجَ- وَ عَرَّفْتُكُمْ مَا أَنْكَرْتُمْ وَ سَوَّغْتُكُمْ مَا مَجَجْتُمْ- لَوْ كَانَ الْأَعْمَى يَلْحَظُ أَوِ النَّائِمُ يَسْتَيْقِظُ-وَ أَقْرِبْ بِقَوْمٍ مِنَ الْجَهْلِ بِاللَّهِ قَائِدُهُمْ مُعَاوِيَةُ- وَ مُؤَدِّبُهُمُ ابْنُ النَّابِغَةِ قضى و قدر في هذا الموضع واحد- . و يروى على ما ابتلاني- .
و أهملتم خليتم و تركتم- و يروى أمهلتم أي أخرتم- . و خرتم ضعفتم و الخور الضعف- رجل خوار و رمح خوار و أرض خوارة و الجمع خور- و يجوز أن يكون خرتم أي صحتم كما يخور الثور- و منه قوله تعالى عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ- و يروى جرتم أي عدلتم عن الحرب فرارا- . و أجئتم ألجئتم- قال تعالى فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ- . و المشاقة المقاطعة و المصارمة- . و نكصتم أحجمتم- قال تعالى فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ أي رجع محجما- أي دعيتم إلى كشف القناع مع العدو و جبنتم و هبتموه- . قوله لا أبا لغيركم- الأفصح لا أب بحذف الألف كما قال الشاعر-
أبي الإسلام لا أب لي سواه
إذا افتخروا بقيس أو تميم
و أما قولهم لا أبا لك بإثباته فدون الأول في الفصاحة- كأنهم قصدوا الإضافة و أقحموا اللام مزيدة مؤكدة- كما قالوا يا تيم تيم عدي و هو غريب- لأن حكم لا أن تعمل في النكرة فقط- و حكم الألف أن تثبت مع الإضافة و الإضافة تعرف- فاجتمع فيها حكمان متنافيان- فصار من الشواذ كالملامح و المذاكير و لدن غدوة- . و قال الشيخ أبو البقاء رحمه الله- يجوز فيها وجهان آخران- . أحدهما أنه أشبع فتحة الباء- فنشأت الألف و الاسم باق على تنكيره- و الثاني أن يكون استعمل أبا- على لغة من قالها أبا في جميع أحوالها مثل عصا- و منهإن أباها و أبا أباها- .
قوله الموت أو الذل لكم- دعاء عليهم بأن يصيبهم أحد الأمرين- كأنه شرع داعيا عليهم بالفناء الكلي و هو الموت- ثم استدرك فقال أو الذل لأنه نظير الموت في المعنى- و لكنه في الصورة دونه- و لقد أجيب دعاؤه ع بالدعوة الثانية- فإن شيعته ذلوا بعد في الأيام الأموية- حتى كانوا كفقع قرقر- . ثم أقسم أنه إذا جاء يومه لتكونن مفارقته لهم عن قلى- و هو البغض- و أدخل حشوة بين أثناء الكلام- و هي ليأتيني و هي حشوة لطيفة- لأن لفظة إن أكثر ما تستعمل لما لا يعلم حصوله- و لفظة إذا لما يعلم أو يغلب على الظن حصوله- تقول إذا طلعت الشمس جئت إليك- و لا تقول إن طلعت الشمس جئت إليك- و تقول إذا احمر البسر جئتك- و لا تقول إن احمر البسر جئتك- فلما قال لئن جاء يومي- أتى بلفظة دالة على أن الموضع موضع إذا لا موضع إن- فقال و ليأتيني- .و الواو في قوله و أنا لصحبتكم واو الحال- و كذلك الواو في قوله و بكم غير كثير- و قوله غير كثير لفظ فصيح و قال الشاعر-
لي خمسون صديقا
بين قاض و أمير
لبسوا الوفر فلم
أخلع بهم ثوب النفير
لكثير هم و لكني
بهم غير كثير
قوله لله أنتم لله في موضع رفع- لأنه خبر عن المبتدإ الذي هو أنتم- و مثله لله در فلان و لله بلاد فلان و لله أبوك- و اللام هاهنا فيها معنى التعجب- و المراد بقوله لله أنتم لله سعيكم أو لله عملكم- كما قالوا لله درك أي عملك- فحذف المضاف و أقيم الضمير المنفصل المضاف إليه مقامه- . فإن قلت- أ فجاءت هذه اللام بمعنى التعجب في غير لفظ لله- قلت لا كما أن تاء القسم لم تأت إلا في اسم الله تعالى- . قوله ع أ ما دين يجمعكم- ارتفاع دين على أنه فاعل فعل مقدر له- أي أ ما يجمعكم دين يجمعكم- اللفظ الثاني مفسر للأول كما قدرناه بعد إذا- في قوله سبحانه إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ- و يجوز أن يكون حمية مبتدأ و الخبر محذوف- تقديره أ ما لكم حمية و الحمية الأنفة- . و شحذت النصل أحددته- .
فإن قلت كيف قال- إن معاوية لم يكن يعطي جنده و إنه هو ع كان يعطيهم- و المشهور أن معاوية كان يمد أصحابه بالأموال و الرغائب- قلت إن معاوية لم يكن يعطي جنده على وجه المعونة و العطاء- و إنما كان يعطي رؤساء القبائل من اليمن- و ساكني الشام الأموال الجليلة يستعبدهم بها- و يدعو أولئك الرؤساء أتباعهم من العرب فيطيعونهم- فمنهم من يطيعهم حمية- و منهم من يطيعهم لأياد و عوارف من أولئك الرؤساء عندهم- و منهم من يطيعهم دينا زعموا للطلب بدم عثمان- و لم يكن يصل إلى هؤلاء الأتباع- من أموال معاوية قليل و لا كثير- .
و أما أمير المؤمنين ع- فإنه كان يقسم بين الرؤساء و الأتباع على وجه العطاء و الرزق- و لا يرى لشريف على مشروف فضلا- فكان من يقعد عنه بهذا الطريق- أكثر ممن ينصره و يقوم بأمره- و ذلك لأن الرؤساء من أصحابه كانوا يجدون في أنفسهم من ذلك- أعني المساواة بينهم و بين الأتباع- فيخذلونه ع باطنا و إن أظهروا له النصر- و إذا أحس أتباعهم بتخاذلهم و تواكلهم- تخاذلوا أيضا و تواكلوا أيضا- و لم يجد عليه ص ما أعطى الأتباع من الرزق- لأن انتصار الأتباع له و قتالهم دونه لا يتصور وقوعه- و الرؤساء متخاذلون فكان يذهب ما يرزقهم ضياعا- . فإن قلت فأي فرق بين المعونة و العطاء- .
قلت المعونة إلى الجند شيء يسير من المال- برسم ترميم أسلحتهم و إصلاح دوابهم- و يكون ذلك خارجا عن العطاء المفروض شهرا فشهرا- و العطاء المفروض شهرا فشهرا- يكون شيئا له مقدار يصرف في أثمان الأقوات- و مئونة العيال و قضاء الديون- . و التريكة بيضة النعام تتركها في مجثمها- يقول أنتم خلف الإسلام و بقيته كالبيضة التي تتركها النعامة- . فإن قلت ما معنى قوله- لا يخرج إليكم من أمري رضا فترضونه- و لا سخط فتجتمعون عليه- قلت معناه أنكم لا تقبلون مما أقول لكم شيئا- سواء كان مما يرضيكم أو مما يسخطكم- بل لا بد لكم من المخالفة و الافتراق عنه-ثم ذكر أن أحب الأشياء إليه أن يلقى الموت- و هذه الحال التي ذكرها أبو الطيب فقال-
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
و حسب المنايا أن تكن أمانيا
تمنيتها لما تمنيت أن ترى
صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا
قوله قد دارستكم الكتاب أي درسته عليكم- دارست الكتب و تدارستها و أدرستها- و درستها بمعنى و هي من الألفاظ القرآنية- . و فاتحتكم الحجاج- أي حاكمتكم بالمحاجة و المجادلة- و قوله تعالى رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا أي احكم- و الفتاح الحاكم- . و عرفتكم ما أنكرتم بصرتكم ما عمي عنكم- . و سوغتكم ما مججتم- يقال مججت الشراب من فمي أي رميت به- و شيخ ماج يمج ريقه و لا يستطيع حبسه من كبره- و أحمق ماج أي يسيل لعابه- يقول ما كانت عقولكم و أذهانكم- تنفر عنه من الأمور الدينية أوضحته لكم- حتى عرفتموه و اعتقدتموه و انطوت قلوبكم عليه- و لم يجزم ع بحصول ذلك لهم- لأنه قال لو كان الأعمى يلحظ و النائم يستيقظ- أي إني قد فعلت معكم- ما يقتضي حصول الاعتقادات الحقيقية في أذهانكم- لو أزلتم عن قلوبكم ما يمنع من حصولها لكم- و المانع المشار إليه هو الهوى و العصبية- و الإصرار على اللجاج- و محبة نصرة عقيدة قد سبقت إلى القلب و زرعها التعصب-و مشقة مفارقة الأسلاف- الذين قد انغرس في النفس تعظيمهم- و مالت القلوب إلى تقليدهم لحسن الظن بهم- .
ثم قال أقرب بقوم أي ما أقربهم من الجهل- كما قال تعالى أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ أي ما أسمعهم و أبصرهم- . فإن قلت قد كان يجب أن يقول- و أقرب بقوم قائدهم معاوية- و مؤدبهم ابن النابغة من الجهل- فلا يحول بين النكرة الموصوفة- و صفتها بفاصل غريب و لم يقل ذلك- بل فصل بين الصفة و الموصوف بأجنبي منهما- . قلت قد جاء كثير من ذلك نحو قوله تعالى وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ- وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ- في قول من لم يجعل مردوا صفة أقيمت مقام الموصوف- لأنه يجعل مردوا صفة القوم- المحذوفين المقدرين بعد الأعراب- و قد حال بين ذلك و بين مردوا قوله وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ- .
و نحوه قوله أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً- . فإن قيما حال من الكتاب- و قد توسط بين الحال و ذي الحال وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً و الحال كالصفة- و لأنهم قد أجازوا مررت برجل أيها الناس طويل- و النداء أجنبي على أنا لا نسلم أن قوله من الجهل أجنبي- لأنه متعلق بأقرب و الأجنبي ما لا تعلق له بالكلام
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 10