و من خطبة له عليه السّلام
روى عن نوف البكالى قال: خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السلام و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومى، و عليه مدرعة من صوف، و حمائل سيفه ليف، و في رجليه نعلان من ليف، و كأن جبينه ثفنة بعير. فقال عليه السلام:
القسم الأول
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي إِلَيْهِ مَصَائِرُ الْخَلْقِ- وَ عَوَاقِبُ الْأَمْرِ نَحْمَدُهُ عَلَى عَظِيمِ إِحْسَانِهِ- وَ نَيِّرِ بُرْهَانِهِ وَ نَوَامِي فَضْلِهِ وَ امْتِنَانِهِ- حَمْداً يَكُونُ لِحَقِّهِ قَضَاءً وَ لِشُكْرِهِ أَدَاءً- وَ إِلَى ثَوَابِهِ مُقَرِّباً وَ لِحُسْنِ مَزِيدِهِ مُوجِباً- وَ نَسْتَعِينُ بِهِ اسْتِعَانَةَ رَاجٍ لِفَضْلِهِ مُؤَمِّلٍ لِنَفْعِهِ وَاثِقٍ بِدَفْعِهِ- مُعْتَرِفٍ لَهُ بِالطَّوْلِ مُذْعِنٍ لَهُ بِالْعَمَلِ وَ الْقَوْلِ- وَ نُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ رَجَاهُ مُوقِناً- وَ أَنَابَ إِلَيْهِ مُؤْمِناً وَ خَنَعَ لَهُ مُذْعِناً- وَ أَخْلَصَ لَهُ مُوَحِّداً وَ عَظَّمَهُ مُمَجِّداً وَ لَاذَ بِهِ رَاغِباً مُجْتَهِداً لَمْ يُولَدْ سُبْحَانَهُ فَيَكُونَ فِي الْعِزِّ مُشَارَكاً- وَ لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْرُوثاً هَالِكاً- وَ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ وَقْتٌ وَ لَا زَمَانٌ- وَ لَمْ يَتَعَاوَرْهُ زِيَادَةٌ وَ لَا نُقْصَانٌ- بَلْ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا مِنْ عَلَامَاتِ التَّدْبِيرِ الْمُتْقَنِ- وَ الْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ- فَمِنْ شَوَاهِدِ خَلْقِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ مُوَطَّدَاتٍ بِلَا عَمَدٍ- قَائِمَاتٍ بِلَا سَنَدٍ دَعَاهُنَّ فَأَجَبْنَ طَائِعَاتٍ مُذْعِنَاتٍ- غَيْرَ مُتَلَكِّئَاتٍ وَ لَا مُبْطِئَاتٍ- وَ لَوْ لَا إِقْرَارُهُنَّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ- وَ إِذْعَانُهُنَّ بِالطَّوَاعِيَةِ- لَمَا جَعَلَهُنَّ مَوْضِعاً لِعَرْشِهِ وَ لَا مَسْكَناً لِمَلَائِكَتِهِ- وَ لَا مَصْعَداً لِلْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ جَعَلَ نُجُومَهَا أَعْلَاماً يَسْتَدِلُّ بِهَا الْحَيْرَانُ- فِي مُخْتَلِفِ فِجَاجِ الْأَقْطَارِ- لَمْ يَمْنَعْ ضَوْءَ نُورِهَا ادْلِهْمَامُ سُجُفِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ- وَ لَا اسْتَطَاعَتْ جَلَابِيبُ سَوَادِ الْحَنَادِسِ- أَنْ تَرُدَّ مَا شَاعَ فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ تَلَأْلُؤِ نُورِ الْقَمَرِ- فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سَوَادُ غَسَقٍ دَاجٍ- وَ لَا لَيْلٍ سَاجٍ فِي بِقَاعِ الْأَرَضِينَ الْمُتَطَأْطِئَاتِ- وَ لَا فِي يَفَاعِ السُّفْعِ الْمُتَجَاوِرَاتِ- وَ مَا يَتَجَلْجَلُ بِهِ الرَّعْدُ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ- وَ مَا تَلَاشَتْ عَنْهُ بُرُوقُ الْغَمَامِ- وَ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ تُزِيلُهَا عَنْ مَسْقَطِهَا عَوَاصِفُ الْأَنْوَاءِ- وَ انْهِطَالُ السَّمَاءِ- وَ يَعْلَمُ مَسْقَطَ الْقَطْرَةِ وَ مَقَرَّهَا وَ مَسْحَبَ الذَّرَّةِ وَ مَجَرَّهَا- وَ مَا يَكْفِي الْبَعُوضَةَ مِنْ قُوتِهَا وَ مَا تَحْمِلُ الْأُنْثَى فِي بَطْنِهَا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْكَائِنِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كُرْسِيٌّ أَوْ عَرْشٌ- أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ أَوْ جَانٌّ أَوْ إِنْسٌ- لَا يُدْرَكُ بِوَهْمٍ وَ لَا يُقَدَّرُ بِفَهْمٍ- وَ لَا يَشْغَلُهُ سَائِلٌ وَ لَا يَنْقُصُهُ نَائِلٌ- وَ لَا يَنْظُرُ بِعَيْنٍ وَ لَا يُحَدُّ بِأَيْنٍ وَ لَا يُوصَفُ بِالْأَزْوَاجِ- وَ لَا يُخْلَقُ بِعِلَاجٍ وَ لَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ وَ لَا يُقَاسُ بِالنَّاسِ- الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيماً وَ أَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ عَظِيماً- بِلَا جَوَارِحَ وَ لَا أَدَوَاتٍ وَ لَا نُطْقٍ وَ لَا لَهَوَاتٍ- بَلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً أَيُّهَا الْمُتَكَلِّفُ لِوَصْفِ رَبِّكَ- فَصِفْ جِبْرِيلَ وَ مِيكَائِيلَ وَ جُنُودَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي حُجُرَاتِ الْقُدُسِ مُرْجَحِنِّينَ- مُتَوَلِّهَةً عُقُولُهُمْ أَنْ يَحُدُّوا أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ- فَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالصِّفَاتِ ذَوُو الْهَيْئَاتِ وَ الْأَدَوَاتِ- وَ مَنْ يَنْقَضِي إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ- فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَضَاءَ بِنُورِهِ كُلَّ ظَلَامٍ-وَ أَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ نُورٍ أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ- الَّذِي أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمُ الْمَعَاشَ- فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إِلَى الْبَقَاءِ سُلَّماً أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلًا- لَكَانَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ ع الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ- مَعَ النُّبُوَّةِ وَ عَظِيمِ الزُّلْفَةِ- فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ وَ اسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ- رَمَتْهُ قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْمَوْتِ- وَ أَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهُ خَالِيَةً- وَ الْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً وَ وَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ- وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً- أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَ أَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ- أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَ أَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ- أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ- وَ أَطْفَئُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ وَ أَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ- أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ وَ هَزَمُوا بِالْأُلُوفِ- وَ عَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ وَ مَدَّنُوا الْمَدَائِنَ
اللغة
أقول: نقل الجوهرىّ في الصحاح أنّ نوفا البكالى بفتح الباء و تخفيف الكاف كان صاحب علىّ عليه السّلام، و نقل عن ثعلب أنّه منسوب إلى بكالة قبيلة. و قال القطب الراوندىّ: و هو منسوب إلى بكال، و بكيل و بكال شيء واحد و هو اسم حىّ من همدان. قال: و بكيل أكثر، و قال الشارح عبد الحميد بن أبى الحديد: و الصواب غير ما قالاه، و إنّما هو بكال بكسر الباء من حمير فمنهم هذا الشخص و هو نوف بن فضالة صاحب عليّ عليه السّلام. و الأقوال محتملة. و أمّا جعدة بن هبيرة فهو ابن اخت أمير المؤمنين عليه السّلام امّ هانى بنت أبى طالب بن عبد المطّلب بن هاشم، و أبوه هبيرة بن أبى وهب بن عمرو بن عامد بن عمران بن مخزوم و هو صحابىّ. و ثفنة البعير: واحدة الثفنات و هي ما يقع على الأرض من أعضائه.
و الخنوع: الخضوع.
و يتعاوره.
يختلف عليه.
و موطّدات. ممهّدات.
و التلكّؤ: التوقّف.
و الطواعية: الطاعة.
و الفجاج: الطريق بين الجبال.
و الادلهمام: شدّة الظلمة.
و السجف: الستور.
و الحندس بكسر الحاء: الليل شديد الظلمة.
و السفع: الجبال.
و السفعة: سواد مشرب بحمرة و لون الجبال في الأكثر.
و اليفاع: المرتفع من الأرض.
و الجلجلة: صوت الرعد.
و تلاشى: اضمحلّ: و الأنواء: جمع نوء، و هو سقوط نجم من منازل القمر الثمانية و العشرين في المغرب مع الفجر، و طلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كلّ ليلة إلى ثلاثة عشر يوما، و هكذا كلّ نجم منها إلى انقضاء السنة ما خلا الجبهة فإنّ لها أربعة عشر يوما.
و مرجحنّين: مائلين إلى جهة تحت.
و الرياش: اللباس.
و الطعمة. المأكلة.
المعنى
فقوله: الحمد للّه. إلى قوله: الأمر. حمد له باعتبار كونه منتهى جميع آثاره في عالمى الخلق و الأمر انتهاءاً في أوّليّتها بالصنع و الإبداع و انتهاء في آخريّتها لأنّه غاية مطلوب السالكين، و هو الباقى بعد كلّ شيء منها باعتبار وجوب وجوده فهو مستحقّ البقاء لذاته، و هى الممكنة و المستحقّة للفناء باعتبار كونه ممكنا لها، و لمّا كان الحمد قد يكون لأداء حقّ ما سبق من النعمة، و قد يكون للاستزادة منها كان قوله: نحمده. إلى قوله: أداء. نظرا إلى ما سبق من أنواع نعم اللّه و هي عظيم إحسانه بالخلق و الايجاد على وفق الحكمة و المنفعة. ثمّ بإنارة برهانه في متقن صنعه و محكمه و على ألسنة رسله لسوقنا في صراطه المستقيم إلى جنّات النعيم و هدايتنا إليها. ثمّ بإفاضة نوامى فضله و امتنانه بكفايتنا في حياتنا الدنيا. ثمّ بإفاضة أسباب معاشنا و معادنا، و كان قوله: و إلى ثوابه. إلى قوله: موجبا إشارة إلى ما يستزاد منها و هو القرب من ثوابه الاخروى لاستكمال النفس بذلك و حسن مزيده من نعمه الحاضرة كما قال تعالى «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ»«» ثمّ أردف ذلك الشكر بطلب المعونة منه استعانة بالصفات المعدودة. إلى قوله: و القول. فإنّ استعانة من هذه صفته تكون أقرب الاستعانات إلى إجابة المستعان بالعون لقوّتها باستجماعها قوّة الرجاء، و الأمل له تعالى، و حسن اليقين في قدرته على بذل النفع و دفع الضرّ، و الشكر و الإذعان بالطاعة العمليّة و القوليّة. ثمّ أردف ذلك بالإقرار بالإيمان الكامل، و هو إيمان من استكمل الأوصاف المعدودة آنفا و هي رجاء المطالب العالية منه حال اليقين التامّ بأنّه أهلها، و الرجوع إليه عن جميع الفرطات و في سائر المهمّات حال الإيمان به، و الخضوع حال انقياده لعزّته، ثمّ الإخلاص له حال توحيده، ثمّ تعظيمه حال تمجيده، و اللوذ به حال الرغبة إليه و الاجتهاد فيها.
و ظاهر أنّ ذلك الإيمان كامل. ثمّ أخذ في تنزيهه تعالى باعتبارات سلبيّة و إضافيّة هي غاية الواصفين: منها أنّه لم يكن له والد فيكون له شريك في العزّ. إذ العادة أن يكون والد العزيز عزيزا. و منها أنّه لم يلد فيكون موروثا هالكا. و هو تنزيه له عن صفات البشر. إذ العادة أنّ الإنسان يهلك فيرثه ولده، و برهانهما أنّهما من لواحق الحيوانيّة المستلزمة للجسميّة المنزّه قدسه عنها. و منها أنّه لم يتقدّمه وقت و لا زمان و الوقت جزء الزمان و إذا كان خالق الوقت و الزمان فبالحرىّ أن يتقدّمها. و منها أنّه لم يختلف عليه الزيادة و النقصان لأنّ الزيادة و النقصان من لواحق الممكنات لاستلزامهما التغيّر المستلزمة للإمكان المنزّه قدسه عنه. و منها أنّه ظاهر للعقول في علامات التدبير، و هى الإحكام و الإتقان في مصنوعاته الموجودة على وفق القضاء المحكم فمن جملتها خلق السماوات كقوله تعالى «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» الآية، و قوله «أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» و قد مرّ بيان كونهما بلا عمد و قيامهما بلا سند في الخطبة الاولى، و دعاؤهنّ حكم سلطان القدرة الإلهيّة عليهنّ، و إجابتهنّ دخولهنّ في الوجود عن ذلك الحكم و طوعهنّ و إذعانهنّ من غير تلكّؤ و لا تباطىء في إجابتهنّ و خضوعهنّ في رقّ الحاجة و الإمكان لواجب وجوده و سلطانه. و قوله: و لو لا إقرارهنّ. إلى قوله: و العمل الصالح من خلقه. كلام حقّ فإنّ الإقرار بالربوبيّة له راجع إلى شهادة لسان حال الممكن بالحاجة إلى الربّ و الانقياد لحكم قدرته، و ظاهر أنّه لو لا إمكانها و انفعالها عن قدرته و تدبيره لم يكن فيها عرش و لم يكن أهلا لقبول تدبير أحوال الملائكة و سكناها، و لم تكن قابلة لصعود الملائكة بالكلم الطيّب و الأعمال الصالحة للخلق، و قد سبقت الإشارة إلى بيان الصعود بالأعمال و غيرها في الخطبة الاولى بحسب الإمكان، و لفظ الدعاء و الإقرار و الإذعان مستعارة و يحتمل أن يكون حقائق نظرا إلى أنّ لها أرواحا مدبّرة عاقلة.
و قوله: و جعل نجومها. إلى قوله: الأقطار. إشارة إلى بعض غايات وجود النجوم، و قد سبق بيان ذلك. و قوله: لم يمنع. إلى قوله: القمر. استعار لفظ السجف و الجلابيب للساتر من سواد الليل، و وجه الاستعارة ظاهر، و خصّ القمر بالذكر لكونه من الآيات العظيمة، و المقابلة بين الضياء و الظلم مقابلة العدم و الملكة، و كلّ منهما يوجد بوجود سببه و يعدم بعدم سببه فلا يكون رفع أحدهما بالآخر، و ظاهر إذن أنّ نور القمر و النجوم لا يمنعه من الوجود و التحقّق ظلمة ليل بل يتعاقبان بحسب تعاقب أسبابهما المنتهية إلى قدرة الصانع الحكيم- جلّت قدرته-
. و قوله: فسبحان. إلى قوله: في بطنها. تنزيه له بحسب إحاطة علمه بحسب كلّيّات الأشياء و جزئيّاتها. و المطأطئات: مهابط الأرض، و ما يتجلجل به الرعد إشارة إلى تسبيحه في قوله تعالى «وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ»«» و ذلك التسبيح يعود إلى شهادته بلسان حاله في ذلك الصوت على كمال قدرة مسخّر السحاب و مؤلّفه و المقدّر لتصويته، و قد عرفت سببه، و ما تلاشت عنه بروق الغمام إشارة إلى ما ينكشف للأبصار بإضائتها، و إنّما خصّ ذلك دون ما أضاءته لأنّ العلم هناك أشرف لتعلّقه بما لا يدركه أبصار المخلوقين دون ما تضيئه لإدراك الكلّ له، و إنّما أضاف العواصف إلى الأنواء لأنّ العرب تضيف الآثار العلويّة من الرياح و الأمطار و الحرّ و البرد إليها. ثمّ عاد إلى حمده تعالى باعتبار تقدّمه في الوجود على سائر مخلوقاته، و قد عرفت ما يقال في الكرسىّ و العرش.
ثمّ نزّهه تعالى باعتبارات سلبيّة:
الأوّل: أنّه لا يدرك بوهم. الثاني: أنّه لا يقدّر بفهم: أى لا يحدّ بفهم، و الفهم من صفات العقل و قد مرّت الإشارة إلى عجز العقول و الأوهام عن وصفه تعالى. الثالث: و لا يشغله سائل لإحاطة علمه و قدرته. و قد سبق بيانه أيضا. الرابع: و لا ينقصه نائل لأنّ النقصان يتوجّه نحو ذى الحاجة، و قد تنزّه قدسه تعالى عنها. الخامس: كونه لا يبصر بعين: أى أنّ إدراكه ليس بحاسّة البصر و إن كان بصيرا و ذلك لتنزّه قدسه عن الحواسّ. السادس: و لا يحدّ بأين: أى لا تحدّه العقول بالأمكنة و لا تحيط به باعتبارها لبراءته عن التحيّز و هو نفى الكميّة المتّصلة عنه. السابع: و لا يوصف بالأزواج و هو نفى الكمّ المنفصل عنه: أى ليس فيه اثنينية و تعدد. و الثامن: و لا يخلق بعلاج تنزيه لصنعه عن وساطة الآلة و الحيلة كما تزاوله أصحاب الصنائع. التاسع: و لا يدرك بالحواسّ لتخصيص إدراكها بالأجسام و كيفيّاتها و تنزّهه تعالى عن الجسميّة و لواحقها. العاشر: و لا يقاس بالناس تنزيه له عن التشبّه بخلقه في كمالاتهم كما يتوهّمه أهل التجسيم.
الحادى عشر: كونه متكلّما بلا جارحة نطق و لا لهوات، و هو تنزيه له عن حال البشريّة. و علمت في المقدّمات كيفيّة سماع الأنبياء عليهم السلام للوحى. فأمّا قوله: و أراه من آياته عظيما. فقيل: أراد آياته في كلامه لئلّا يصير بين قوله: تكليما. و قوله: بلا جوارح. اعتراض غير مناسب، و الّذي رآه من تلك الآيات ما روى أنّه كان يسمع الصوت من جهاته الستّ ليس على حدّ سماع البشر من جهة مخصوصة و له دوىّ كوقع السلاسل العظيمة على الحصا الأصمّ، و في هذه الكيفيّة سرّ لطيف، و كونه يسمع من الجهات الستّ إشارة إلى أنّ الكلام كان يأتيه فينتقش في لوح خياله لا من جهة بل نسبة الجهات الستّ إليه على سواء في عدم سماعه منها فلا جرم قيل: يسمع من الجهات الستّ و هو أولى من أن يقال: يسمع لا من جهة لبعد ذلك عن أوهام الخلق. فأمّا كونه كوقع السلاسل في القوّة فأشار إلى عظمته بالنسبة إليه فشبّهه بأشدّ الأصوات جرسا.
و قيل: أراد بها الآيات التسع كانشقاق البحر و قلب العصا ثعبانا و غيرهما. ثمّ نبّه على عجز القوّة البشريّة عن وصف كماله تعالى بقوله: بل إن كنت صادقا إلى قوله: أحسن الخالقين. و هي صورة قياس استثنائىّ متّصل نبّه به على عجز من يدّعى وصف ربّه كما هو، و تقديره إن كنت صادقا أيّها المتكلّف لوصف ربّك في وصفه فصف بعض خلقه و هو جبرئيل و ميكائيل و جنود ملائكته المقرّبين، و و ينتج باستثناء نقيض تاليه: أى لكنّك لا يمكنك وصف هؤلاء بالحقيقة فلا يمكنك وصفه تعالى. بيان الملازمة أنّ وصفه تعالى إذا كان ممكنا لك فوصف بعض آثاره أسهل عليك، و أمّا بطلان التالى فلأنّ حقيقة جبرئيل و ميكائيل و ساير الملائكة المقرّبين غير معلومة لأحد من البشر، و من عجز عن وصف بعض آثاره فهو عن وصفه أعجز، و حجرات القدس: مقارّ الطهارة عن الهيئات البدنيّة و التعلّقات الخياليّة عن شوائب النفس الأمّارة بالسوء، و استعار لفظ المرجحنّين لخضوعهم تحت سلطان هيبته و عظمته، و تولّه عقولهم: حيرتها و تشتّتها عن إدراك حقيقته بحدّ تقف عنده عظمته، ثمّ نبّه على ما يدرك من جهة الوصف و هو ذوو الهيئات و الآلات الّتي يحترف بها و يحيط بها الأفهام من جهتها، و ما يلحقه الفناء فينقضى إذا بلغ أمد حدّه، و تقف الأفهام على ذلك الحدّ و تحلّله إلى أجزائه فتطّلع على كنهه منها. ثمّ عقّب ذلك التنزيه بتوحيده و نفى الكثرة عنه.
و قوله: أضاء بنوره كلّ ظلام. فالظلام إمّا محسوس فأضاء بأنوار الكواكب، أو معقول و هو ظلام الجهل فأضاءه بأنوار العلم و الشرائع. و قوله: و أظلم بنوره كلّ نور. إذ جميع الأنوار المحسوسة أو المعقولة لغيره متلاشية مضمحلّة في نور علمه، و ظلام بالنسبة إلى ضياء براهينه في جميع مخلوقاته الكاشفة على وجوده و كمال جوده. ثمّ شرع في الموعظة فبدء بالوصيّة بتقوى اللّه باعتبار سلب أمرين هما سبب البقاء في الحياة الدنيا و هما الملبوس و المطعوم، و يحتمل أن يريد بالمعاش سائر أسباب البقاء، و ثنّى بذكر أنّه لا سبيل إلى البقاء و دفع الموت تخويفا به، و احتجّ عليه بقياس استثنائى تلخيصه: لو أنّ أحدا يجد سبيلا إلى دفع الموت لوجده سليمان عليه السّلام و تقدير الاستثناء: لكنّه لم يجده فلن يجده أحد بعده. أمّا الملازمة فلأنّ سليمان عليه السّلام كان أقوى سلطان وجد في العالم لاستيلاء حكمه على ملك الجنّ و الإنس مع النبوّة و عظيم الزلفة عند اللّه فكان أولى بدفعه لو كان يمكن دفعه، و أمّا بطلان التالى فلأنّه عليه السّلام لما استوفى طعمته و استكمل مدّته مات فلو وجد مدفعا لدفعه عن نفسه.
فقوله: فلو أنّ. إلى قوله: سبيلا. هو مقدّم الشرطيّة.
و قوله: لكان ذلك. إلى قوله: عليه السّلام. هو التالى.
و قوله: الّذي. إلى قوله: الزلفة. بيان لوجه الملازمة.
و قوله: فلمّا استوفى. إلى قوله: قوم آخرون.
هو بيان بطلان التالى، و لفظ القسىّ و النبال استعارة لمرامى الأمراض و أسبابها الّتي هي نبال الموت، و وجها ظاهر. ثمّ شرع في التنبيه على الاعتبارات بأحوال القرون السالفة و استفهم عن قرن قرن تنبيها على فنائهم استفهاما على سبيل التقرير.
و العماليق أولاد لاوذ بن إرم بن سام بن نوح و كان باليمن و الحجاز و ما تاخم ذلك من الأقاليم فمن أولاده عملاق و طسم و جديس، و كان العزّ و الملك بعد عملاق بن لاوذ في طسم فلمّا ملكهم عملاق بن طسم بغى و أكثر العبث و الفساد في الأرض حتّى كان يطأ العروس ليلة هدائها إلى بعلها و إن كانت بكرا افتضّها قبل وصولها إليه ففعل ذلك بامراة من جديس فغضب لها أخوها و تابعه قومه على الفتك بعملاق بن طسم و أهل بيته فصنع أخوها طعاما و [دخل خ] عملاق الملك إليه. ثمّ وثب به و بطسم فأتى على رؤسائهم و نجا منهم رياح بن مرّ فصار إلى ذى جيشان بن تبّع الحميرى ملك اليمن فاستغاث به و استنجده على جديس و أتى ذو جيشان في حمير بلاد جوّ و هي قصبة اليمامة فاستأصل جديسا و أخرب اليمامة. فلم يبق لجديس باقية و لا لطسم إلّا اليسير منهم. ثمّ ملك بعد طسم و جديس و باز بن أميم بن لاوذ بن إرم بولده و أهله فنزل بأرض و باز و هي المعروفة الآن برمل عالج فبغوا في الأرض حينا ثمّ أفناهم اللّه. ثمّ ملك بعد و باز عبد ضخم [صمم خ] بن آسف بن لاوذ فنزلوا بالطايف حينا.
ثمّ بادوا. و أمّا الفراعنه فهم ملوك مصر فمنهم الوليد بن ريّان فرعون يوسف، و منهم الوليد بن مصعب فرعون موسى، و منهم فرعون الأعرج الّذي غزا بنى إسرائيل و أخرب بيت المقدس. و أمّا أصحاب مداين الرسّ. فقيل: إنّهم أصحاب شعيب النبىّ عليه السّلام و كانوا عبدة أوثان و لهم مواشى و آبار يستقون منها، و الرسّ بئر عظيمة جدّا انخسفت بهم و هم حولها، و قيل: الرسّ قرية باليمامة كان يسكنها قوم من بقايا ثمود فبغوا فاهلكوا، و قيل الرس: أصحاب الاخدود و هو الرسّ الأخدود، و قيل: الرسّ نهر عظيم في إقليم الباب و الأبواب مبدئه من مدينة طرار و ينتهى إلى نهر كبير فيختلط به حتّى يصبّ في بحر الخزر، و كان هناك ملوك اولو بأس و قدرة فأهلكهم اللّه ببغيهم. و باللّه التوفيق.
القسم الثاني منها
قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا- وَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ أَدَبِهَا مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا- وَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا وَ التَّفَرُّغِ لَهَا- فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِي يَطْلُبُهَا- وَ حَاجَتُهُ الَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا- فَهُوَ مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ الْإِسْلَامُ- وَ ضَرَبَ بِعَسِيبِ ذَنَبِهِ- وَ أَلْصَقَ الْأَرْضَ بِجِرَانِهِ بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا حُجَّتِهِ- خَلِيفَةٌ مِنْ خَلَائِفِ أَنْبِيَائِهِ ثم قال عليه السلام: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ الْمَوَاعِظَ- الَّتِي وَعَظَ الْأَنْبِيَاءُ بِهَا أُمَمَهُمْ- وَ أَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ مَا أَدَّتِ الْأَوْصِيَاءُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ- وَ أَدَّبْتُكُمْ بِسَوْطِي فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا- وَ حَدَوْتُكُمْ بِالزَّوَاجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا- لِلَّهِ أَنْتُمْ- أَ تَتَوَقَّعُونَ إِمَاماً غَيْرِي يَطَأُ بِكُمُ الطَّرِيقَ- وَ يُرْشِدُكُمُ السَّبِيلَ- أَلَا إِنَّهُ قَدْ أَدْبَرَ مِنَ الدُّنْيَا مَا كَانَ مُقْبِلًا- وَ أَقْبَلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُدْبِراً- وَ أَزْمَعَ التَّرْحَالَ عِبَادُ اللَّهِ الْأَخْيَارُ- وَ بَاعُوا قَلِيلًا مِنَ الدُّنْيَا لَا يَبْقَى- بِكَثِيرٍ مِنَ الْآخِرَةِ لَا يَفْنَى- مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُم وَ هُمْ بِصِفِّينَ- أَلَّا يَكُونُوا الْيَوْمَ أَحْيَاءً يُسِيغُونَ الْغُصَصَ- وَ يَشْرَبُونَ الرَّنْقَ قَدْ وَ اللَّهِ لَقُوا اللَّهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ- وَ أَحَلَّهُمْ دَارَ الْأَمْنِ بَعْدَ خَوْفِهِمْ- أَيْنَ إِخْوَانِيَ الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ- وَ مَضَوْا عَلَى الْحَقِّ أَيْنَ عَمَّارٌ وَ أَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ- وَ أَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ- وَ أَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ- وَ أُبْرِدَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ- قَالَ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى لِحْيَتِهِ الشَّرِيفَةِ الْكَرِيمَةِ- فَأَطَالَ الْبُكَاءَ ثُمَّ قَالَ ع- أَوْهِ عَلَى إِخْوَانِيَ الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ- وَ تَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ- أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَ أَمَاتُوا الْبِدْعَةَ- دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا وَ وَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ ثُمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ الْجِهَادَ الْجِهَادَ عِبَادَ اللَّهِ- أَلَا وَ إِنِّي مُعَسْكِرٌ فِي يَومِي هَذَا- فَمَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى اللَّهِ فَلْيَخْرُجْ
قال نوف: و عقد للحسين- عليه السلام- في عشرة آلاف، و لقيس بن سعد رحمه اللّه في عشرة آلاف، و لأبى أيوب الأنصارى في عشرة آلاف، و لغيرهم على أعداد أخر، و هو يريد الرجعة إلى صفين، فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه اللّه، فتراجعت العساكر فكنا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كل مكان.
اللغة
أقول: جرانه: صدره.
و عسيب ذنبه: طرفه.
و استوسق الأمر: انتظم و اجتمع.
و أزمع: صمّم عزمه.
و الرنق بالسكون: الكدر.
و أبرد: أرسل.
و أوه: ساكنة الواو مكسورة الهاء كلمة توجّع.
و الاختطاف و التخطّف: الأخذ بسرعة.
المعنى
و الإشارة إلى العارف مطلقا، و قال بعض الإماميّة: الإشارة إلى الإمام المنتظر، و ليس بواضح من هذا الكلام، و لفظ الجنّة مستعار في الاستعداد للحكمة بالزهد و العبادة الحقيقيّتين و المواظبة على العمل بأوامر اللّه، و وجه الاستعارة أنّ بذلك الاستعداد يأمن إصابة سهام الهوى و ثوران دواعى الشهوات القايدة إلى النار كما يأمن لابس الجنّة من أذى الضرب و الجرح. و أخذه لها بجميع آدابها من الإقبال عليها و المعرفة بها: أى بقدرها و التفرّغ لها عن العلايق الدنيويّة بالزهد من جملة الاستعداد لها أيضا، و استعار لها لفظ الضالّة لمكان إنشاده و طلبه كما تطلب الضالّة من الإبل، و إليه الإشارة بقوله عليه السّلام: الحكمة ضالّة المؤمن. و قوله: فهو مغترب إذا اغترب الإسلام. إشارة إلى إخفائه نفسه و إيثاره العزلة عند اغتراب الإسلام و ضعفه و ظهور البدع و المنكرات كما أشار إليه سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله و سلم بدء الإسلام غريبا و سيعود غريبا كما بدء، و استعار لفظ العسيب و الذنب و الجران ملاحظة لشبهه بالبعير البارك، و كنّى بذلك عن ضعفه و قلّة نفعه فإنّ البعير أقلّ ما يكون نفعه حال بروكه. و قوله: بقيّة من بقايا حجّته. أى على خلقه. إذا العلماء و العارفون حجج اللّه في الأرض على عباده، و ظاهر كونه خليفة من خلفاء أنبيائه لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: العلماء ورثة الأنبياء. و قوله: أيّها الناس. إلى قوله: تستوسقوا. تذكير بموعظته لهم، و إعذار إليهم بأداء ما كلّف به في حقّهم ممّا كلّفت به الأنبياء مع اممهم و الأوصياء إلى من بعدهم، و معاتبة لهم، و توبيخ على عدم استقامتهم و اجتماعهم على أوامره مع تأديبه لهم بالضرب و التحذير بالزواجر.
و قوله: للّه أنتم. إلى قوله: السبيل. استفهام لهم عن توقّعهم إماما هاديا مرشدا غيره استفهاما على سبيل الإنكار لوجود سبيل ذلك الإمام، و أكّد ذلك الإنكار المفهوم من الاستفهام بقوله: ألا إنّه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا: أى من الخير و صلاح أهلها، و أقبل منها ما كان مدبرا: أى من الشرور الّتى أدبرت بمقدم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ظهور الإسلام، و أزمع الترحال عباد اللّه الأخيار المتوقّع فيهم إمام كمثله عليه السّلام في الهداية لسبيل اللّه، و إزماعهم للترحال كناية عن اقتضاء الزمان لفنائهم من الدنيا و الرحيل عنها. ثمّ استعار لفظ البيع لتعويضهم بالقليل الفانى من متاع الدنيا و الكثير الباقى من متاع الآخرة. ثمّ أخذ في التذكير بنفى ضرر الموت و عدم الحياة عن إخوانه من الصحابة الّذين قتلوا بصفّين، و زهّد في تلك الحياة بكونها محلّ تجرّع الغصص و شرب الكدر من الآلام و الأعراض و مشاهدة المنكرات، و لمّا زهّد في تلك الحياة نبّه على مالهم في عدمها من الفائدة و هي لقاء اللّه، و توفيته لأجورهم على الأعمال الصالحة، و حلولهم في دار الأمن: أى الجنّة بعد خوفهم من فتن أهل الضلال. ثمّ أخذ في استفهام عمّن ركب طريق الحقّ و مضى عليه مستصحبا له استفهاما على سبيل التوجّع لفقدهم و التوحّش لفراقهم، ثمّ عن أعيان أكابرهم فذكر عمّار بن ياسر. و فضله في الصحابة مشهور و أبوه عربىّ قحطانىّ و امّه كانت أمة لأبى حذيفة ابن المغيرة المخزومىّ ولدت عمّارا فأعتقها أبو حذيفة فمن هناك كان عمّار مولى لبنى مخزوم، و أسلم هو و امّه سميّة فعذّبهما بنو مخزوم في اللّه فأعطاهم عمّار مولى أرادوا بلسانه مع اطمينان قلبه بالإيمان فنزلت فيه «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا»«» و هاجر إلى أرض الحبشة، و صلّى القبلتين، و هو من المهاجرين الأوّلين، و شهد بدرا و المشاهد كلّها، و ابلى بلاء حسنا، ثمّ شهد اليمامة فابلى فيها أيضا و يومئذ قطعت اذنه.
و عن ابن عبّاس في قوله تعالى «أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ»«» قال: هو عمّار بن ياسر، و عن عايشة أنّها قالت: ما من أحد من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم أشاء أن أقول فيه إلّا قلت إلّا عمّار بن ياسر فإنّى سمعته صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول: إنّه ملىء إيمانا إلى أخمص قدميه. و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: عمّار جلدة ما بين عينى تقتله الفئة الباغية لا أنالها اللّه شفاعتى. و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم من أبغض عمّاراً أبغضه اللّه. و أمّا ابن التيّهان بياء مشدّدة مفتوحة بنقطتين من تحت، و يروى مخفّفة ساكنة فهو من الأنصار كنية أبو الهيثم. و اسمه مالك بن مالك، و قيل: بل اسم أبيه عمرو بن الحرب و هو- ابن التيّهان- كان أحد النقباء ليلة العقبة، و شهد بدرا، و المشهور أنّه أدرك صفّين
مع علىّ عليه السّلام و قتل بها، و قيل: توفّى في زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم. و أمّا ذو الشهادتين فكنية أبو عماره و اسمه حزيمة بن ثابت بن الفاكة بن ثعلبة الخطمى الأنصارى من الأوس. جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم شهادته بشهادة رجلين لقصّة مشهورة، و شهد بدرا و ما بعدها من المشاهد، و كانت راية بنى خطمة من الأوس يوم الفتح بيده، و شهد صفّين مع علىّ عليه السّلام فلمّا قتل عمّار قاتل هو حتّى قتل معه. و نظراؤهم من إخوانه: أى الّذين قتلوا بصفّين معه من الصحابة كابن بديل و هاشم بن عتبة و نحوهما، و تعاقدهم على المنيّة اتّفاقهم على المقاتلة إلى غاية أن يقتلوا. و روى: تعاهدوا.
و الفجرة الّذين حملت رؤوسهم إليهم امراء الشام. ثمّ أخذ في التشكّى و التوجّع على فقدهم. ثمّ أشار إلى فضائلهم الّتي هي غاية الشريعة المطلوبة منهم و هي تلاوة القرآن و إحكامه بفهم مقاصده و معانيه، و التدبّر للفرض: أى فهم ما لأجله العبادات و إقامتها و المواظبة عليها نظرا إلى أسرارها، و إحياء السنن النبويّة، و إماتة البدع المخالفة لها، و إجابتهم للدعوة إلى الجهاد لإقامة الدين، و وثوقهم إليه في سبيل اللّه يعنى نفسه و اتّباعهم له، و الرواح إلى اللّه الخروج إلى الجهاد الّذي هو سبيله الموصلة إليه و إلى ثوابه. و قيس بن سعد الخزرجى صحابى كنيته أبو عبد الملك روى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أحاديث و أبوه سعد من رؤساء بالخزرج و هو سعد بن عبادة الّذي حاولت قومه إقامته خليفة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و كان قيس هذا من كبار شيعة علىّ و محبّيه، و شهد معه حروبه كلّها، و كان مع الحسن ابنه و نقم عليه صلحه لمعاوية.
و أمّا أبو أيّوب الأنصارىّ فهو خالد بن سعد بن كعب الخزرجى من بنى النجّار شهد العقبة و بدرا و ساير المشاهد، و عليه نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمّا خرج من بنى عمرو بن عوف حين قدم المدينة مهاجرا فلم يزل عنده حتّى بنى مسجده و مساكنه ثمّ انتقل إليها، و شهد مع علىّ مشاهده كلّها الجمل و صفّين، و كان على مقدّمته يوم النهروان. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 381