180 و من كلام له ع
وَ قَدْ سَأَلَهُ ذِعْلِبُ الْيَمَانِيُّ فَقَالَ- هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ ع- أَ فَأَعْبُدُ مَا لَا أَرَى فَقَالَ وَ كَيْفَ تَرَاهُ قَالَ- لَا تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ- وَ لَكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ- قَرِيبٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ غَيْرَ مُلَامِسٍ بَعِيدٌ مِنْهَا غَيْرَ مُبَايِنٍ- مُتَكَلِّمٌ بِلَا رَوِيَّةٍ مَرِيدٌ لَا بِهِمَّةٍ صَانِعٌ لَا بِجَارِحَةٍ- لَطِيفٌ لَا يُوصَفُ بِالْخَفَاءِ كَبِيرٌ لَا يُوصَفُ بِالْجَفَاءِ- بَصِيرٌ لَا يُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ رَحِيمٌ لَا يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ- تَعْنُو الْوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ وَ تَجِبُ الْقُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِهِ الذعلب في الأصل الناقة السريعة- و كذلك الذعلبة ثم نقل فسمي به إنسان و صار علما- كما نقلوا بكرا عن فتى الإبل إلى بكر بن وائل- . و اليماني مخفف الياء و لا يجوز تشديدها- جعلوا الألف عوضا عن الياء الثانية- و كذلك فعلوا في الشامي و الأصل يمني و شامي- . و قوله ع أ فأعبد ما لا أرى- مقام رفيع جدا لا يصلح أن يقوله غيره ع- .
ثم ذكر ماهية هذه الرؤية- قال إنها رؤية البصيرة لا رؤية البصر- . ثم شرح ذلك فقال إنه تعالى قريب من الأشياء- غير ملامس لها لأنه ليس بجسم- و إنما قربه منها علمه بها كما قال تعالى- ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ- . قوله بعيد منها غير مباين- لأنه أيضا ليس بجسم فلا يطلق عليه البينونة- و بعده منها هو عبارة عن انتفاء اجتماعه معها- و ذلك كما يصدق على البعيد بالوضع- يصدق أفضل الصدق على البعيد بالذات- الذي لا يصح الوضع و الأين أصلا عليه- .
قوله متكلم بلا روية- الروية الفكرة يرتئي الإنسان بها- ليصدر عنه ألفاظ سديدة دالة على مقصده- و البارئ تعالى متكلم لا بهذا الاعتبار- بل لأنه إذا أراد تعريف خلقه من جهة الحروف و الأصوات- و كان في ذلك مصلحة و لطف لهم- خلق الأصوات و الحروف في جسم جمادي- فيسمعها من يسمعها و يكون ذلك كلامه- لأن المتكلم في اللغة العربية فاعل الكلام- لا من حله الكلام- و قد شرحنا هذا في كتبنا الكلامية- .
قوله مريد بلا همة أي بلا عزم- فالعزم عبارة عن إرادة متقدمة للفعل- تفعل توطينا للنفس على الفعل- و تمهيدا للإرادة المقارنة له- و إنما يصح ذلك على الجسم الذي يتردد فيها- تدعوه إليه الدواعي- فأما العالم لذاته فلا يصح ذلك فيه- . قوله صانع لا بجارحة أي لا بعضو لأنه ليس بجسم- . قوله لطيف لا يوصف بالخفاء- لأن العرب إذا قالوا لشيء إنه لطيف- أرادوا أنه صغير الحجم- و البارئ تعالى لطيف لا بهذا الاعتبار- بل يطلق باعتبارين-أحدهما أنه لا يرى لعدم صحة رؤية ذاته- فلما شابه اللطيف من الأجسام في استحالة رؤيته- أطلق عليه لفظ اللطيف- إطلاقا للفظ السبب على المسبب- .
و ثانيهما أنه لطيف بعباده كما قال في الكتاب العزيز- أي يفعل الألطاف المقربة لهم من الطاعة- المبعدة لهم من القبيح- أو لطيف بهم بمعنى أنه يرحمهم و يرفق بهم- . قوله كبير لا يوصف بالجفاء- لما كان لفظ كبير إذا استعمل في الجسم- أفاد تباعد أقطاره- ثم لما وصف البارئ بأنه كبير- أراد أن ينزهه عما يدل لفظ كبير عليه- إذا استعمل في الأجسام- و المراد من وصفه تعالى بأنه كبير- عظمة شأنه و جلالة سلطانه- . قوله بصير لا يوصف بالحاسة- لأنه تعالى يدرك إما لأنه حي لذاته- أو أن يكون إدراكه هو علمه- و لا جارحة له و لا حاسة على كل واحد من القولين- . قوله رحيم لا يوصف بالرقة- لأن لفظة الرحمة في صفاته تعالى- تطلق مجازا على إنعامه على عباده- لأن الملك إذا رق على رعيته و عطف- أصابهم بإنعامه و معروفه- .
قوله تعنو الوجوه أي تخضع- قال تعالى وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ- .قوله و تجب القلوب أي تخفق- و أصله من وجب الحائط سقط- و يروى توجل القلوب أي تخاف وجل خاف- . و روي صانع لا بحاسة- و روي لا تراه العيون بمشاهدة العيان عوضا عن لا تدركه
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 10