179 و من خطبة له ع
لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ وَ لَا يُغَيِّرُهُ زَمَانٌ- وَ لَا يَحْوِيهِ مَكَانٌ وَ لَا يَصِفُهُ لِسَانٌ- لَا يَعْزُبُ عَنْهُ عَدَدُ قَطْرِ الْمَاءِ وَ لَا نُجُومِ السَّمَاءِ- وَ لَا سَوَافِي الرِّيحِ فِي الْهَوَاءِ- وَ لَا دَبِيبُ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا- وَ لَا مَقِيلُ الذَّرِّ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ- يَعْلَمُ مَسَاقِطَ الْأَوْرَاقِ وَ خَفِيِّ طَرْفِ الْأَحْدَاقِ- وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ غَيْرَ مَعْدُولٍ بِهِ- وَ لَا مَشْكُوكٍ فِيهِ وَ لَا مَكْفُورٍ دِينُهُ- وَ لَا مَجْحُودٍ تَكْوِينُهُ شَهَادَةَ مَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ- وَ صَفَتْ دِخْلَتُهُ وَ خَلَصَ يَقِينُهُ وَ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ الَمْجُتْبَىَ مِنْ خَلَائِقِهِ- وَ الْمُعْتَامُ لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ وَ الْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ كَرَامَاتِهِ- وَ الْمُصْطَفَى لِكَرَائِمِ رِسَالَاتِهِ- وَ الْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ الْهُدَى وَ الْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِيبُ الْعَمَى لا يشغله أمر- لأن الحي الذي تشغله الأشياء- هو الحي العالم بالبعض دون البعض- و القادر على البعض دون البعض- فأما من لا يغيب عنه شيء أصلا- و لا يعجز عن شيء أصلا- و لا يمنعه من إيجاد مقدوره إذا أراد مانع أصلا- فكيف يشغله شأن- .
و كذلك لا يغيره زمان لأنه واجب الوجود- و لا يحويه مكان لأنه ليس بجسم-و لا يصفه لسان لأن كنه ذاته غير معلوم- و إنما المعلوم منه إضافات أو سلوب- . و لا يعزب عنه أمر من الأمور أي لا يفوته علم شيء أصلا- . و السوافي التي تسفي التراب أي تذروه- . و الصفا مقصور الصخر الأملس- و لا وقف عليها هاهنا لأن المقصور لا يكون في مقابلة الممدود- و إنما الفقرة المقابلة للهواء هي الظلماء- و يكون الصفا في أدراج الكلام أسوة بكلمة من الكلمات- و الذر صغار النمل- . و يعلم مساقط الأوراق من قوله تعالى- وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها- . و طرف الأحداق مصدر طرف البصر يطرف طرفا- إذا انطبق أحد الجفنين على الآخر- و لكونه مصدرا وقع على الجماعة كما وقع على الواحد- فقال ع طرف الأحداق- كما قال سبحانه لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ- . و غير معدول به غير مسوى بينه و بين أحد- . و الدخلة بكسر الدال باطن الأمر و يجوز الدخلة بالضم- .
و المعتام المختار و العيمة بالكسر خيار المال- اعتام الرجل إذا أخذ العيمة- . فإن قلت لفظة معتام و مختار تصلح للفاعل و المفعول- فما ذا يفصل بينهما- . قلت بما يقترن باللفظ من الكلام قبله و بعده- . فإن قلت فهل يختلفان في التقدير في صناعة النحو- و إن اتفقا في اللفظ- . قلت نعم فإن عين الكلمة ياء مفتوح ما قبلها- فإن أردت الفاعل فهي مكسورة- و تقديره مختير مثل مخترع- و إن كان مفعولا فهي مفتوحة-و تقديره مختير مثل مخترع- و على كلا التقديرين لا بد من انقلاب الياء ألفا- و اللفظ واحد- و لكن يقدر على الألف كسرة للفاعل و فتحة للمفعول- و كذلك القول في معتام و مضطر و نحوهما- .
و حكي أن بعض المتكلمين من المجبرة قال- أسمي العبد مضطرا إلى الفعل إذا فعله- و لا أسمي الله تعالى مضطرا إليه- . قيل فكيف تقول قال مضطر بكسر الطاء- فضحك أهل المجلس منه- . و العقائل جمع عقيلة- و هي كريمة كل شيء من الناس و الإبل و غير ذلك- و يقال للذرة عقيلة البحر- . و أشراط الهدى علاماته و منه أشراط الساعة- قال تعالى فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها- . و الغربيب الأسود الشديد السواد- و يجلى به غربيب العمى- تكشف به ظلم الضلال و تستنير بهدايته- و قوله تعالى وَ غَرابِيبُ سُودٌ- ليس على أن الصفة قد تقدمت على الموصوف- بل يجعل السود بدلا من الغرابيب- .
فإن قلت الهاء في حقائقه إلى ما ذا ترجع- . قلت إلى البارئ سبحانه- و حقائقه حقائق توحيده و عدله فالمضاف محذوف- و معنى حقائق توحيده الأمور المحققة اليقينية- التي لا تعتريها الشكوك و لا تتخالجها الشبه- و هي أدلة أصحابنا المعتزلة- التي استنبطوها بعقولهم بعد أن دلهم إليها- و نبههم على طرق استنباطها رسول الله ص- بواسطة أمير المؤمنين ع- لأنه إمام المتكلمين- الذي لم يعرف علم الكلام من أحد قبله:
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الدُّنْيَا تَغُرُّ الْمُؤَمِّلَ لَهَا وَ الْمُخْلِدَ إِلَيْهَا- وَ لَا تَنْفَسُ بِمَنْ نَافَسَ فِيهَا وَ تَغْلِبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا- وَ ايْمُ اللَّهِ مَا كَانَ قَوْمٌ قَطُّ فِي غَضِّ نِعْمَةٍ مِنْ عَيْشٍ- فَزَالَ عَنْهُمْ إِلَّا بِذُنُوبٍ اجْتَرَحُوهَا- لِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ- وَ لَوْ أَنَّ النَّاسَ حِينَ تَنْزِلُ بِهِمُ النِّقَمُ وَ تَزُولَ عَنْهُمُ النِّعَمُ- فَزِعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِصِدْقٍ مِنْ نِيَّاتِهِمْ وَ وَلَهٍ مِنْ قُلُوبِهِمْ- لَرَدَّ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَارِدٍ وَ أَصْلَحَ لَهُمْ كُلَّ فَاسِدٍ- وَ إِنِّي لَأَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا فِي فَتْرَةٍ- وَ قَدْ كَانَتْ أُمُورٌ مَضَتْ مِلْتُمْ فِيهَا مَيْلَةً- كُنْتُمْ فِيهَا عِنْدِي غَيْرَ مَحْمُودِينَ- وَ لَئِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ إِنَّكُمْ لَسُعَدَاءُ- وَ مَا عَلَيَّ إِلَّا الْجُهْدُ- وَ لَوْ أَشَاءُ أَنْ أَقُولَ لَقُلْتُ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ المخلدالمائل إليها- قال تعالى وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ- . و لا تنفس بمن نافس فيها لا تضن به- أي من نافس في الدنيا فإن الدنيا تهينه و لا تضن به- كما يضن بالعلق النفيس- . ثم قال و تغلب من غلب عليها- أي من غلب على الدنيا مقاهرة- فسوف تغلبه الدنيا و تهلكه- .
ثم أقسم أنه ما كان قوم في غض نعمة أي في نعمة غضة- أي طرية ناضرة- فزالت عنهم إلا بذنوب اجترحوها أي اكتسبوها- و هذا يكاد يشعر بمذهب أهل التناسخ- و من قال إن الألم لا يحسن أن يفعله الحكيم سبحانه و تعالى- بالحيوانات إلا مستحقا فأما مذهب أصحابنا فلا يتخرج هذا الكلام عليه- لأنه يجوز عندهم أن تزول النعم عن الناس- لضرب من اللطف مضاف إلى عوض- يعوضهم الله تعالى به في الآخرة- فيجب أن يحمل هذا الكلام لا على عمومه- بل على الأكثر و الأغلب- . ثم قال ع- لو أن الناس عند حلول النقم بهم- و زوال النعم عنهم يلتجئون إلى الله تعالى تائبين من ذنوبهم- لرفع عنهم النقمة و أعاد إليهم النعمة- . و الوله كالتحير يحدث عند الخوف أو الوجد- و الشارد الذاهب- .
قوله و إني لأخشى عليكم أن تكونوا في فترة- أي في أمر جاهلية- لغلبة الضلال و الجهل على الأكثرين منهم- . و هذه خطبة خطب بها ع بعد قتل عثمان- في أول خلافته ع- و قد تقدم ذكر بعضها و الأمور التي مالوا فيها عليه- اختيارهم عثمان و عدولهم عنه يوم الشورى- . و قال لئن رد عليكم أمركم- أي أحوالكم التي كانت أيام رسول الله ص- من صلاح القلوب و النيات إنكم سعداء- . و الجهد بالضم الطاقة- . ثم قال لو أشاء أن أقول لقلت- أي لو شئت لذكرت سبب التحامل علي و تأخري عن غيري- و لكني لا أشاء ذلك و لا أستصلح ذكره- .
ثم قال عفا الله عما سلف- لفظ مأخوذ من الكتاب العزيز- عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ- فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ- . و هذا الكلام يدل على مذهب أصحابنا- في أن ما جرى من عبد الرحمن و غيره في يوم الشورى- و إن كان لم يقع على الوجه الأفضل- فإنه معفو عنه مغفور لفاعله- لأنه لو كان فسقا غير مغفور- لم يقل أمير المؤمنين ع عفا الله عما سلف
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 10